ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: جعفر حسّان... السياسة أم الاقتصاد في الأردن؟ الجمعة 27 سبتمبر 2024, 7:36 am | |
| جعفر حسّان... السياسة أم الاقتصاد في الأردن؟لو كنتَ مراقباً وصحافياً فضولياً، لرغبت في أن تكون في عمّان، في هذه الأيام، بعد الانتخابات النيابية أخيراً، ورحيل واحدة من أطول الحكومات عمراً، وأقلّها شعبية، حكومة بشر الخصاونة، ليكلّف العاهل الأردني مدير مكتبه الخمسيني، جعفر حسّان، تشكيل الحكومة. أمّا أن تكون في عمّان، فلنمائم الصالونات السياسية لذّة قلّما تشهدها في الشكل ذاته في عواصم عربية أخرى. والصالونات تلك ملتقيات سياسية موازية للعمل السياسي الرسمي في البرلمان أو الحكومة، وتضجّ اليوم بالحديث عن التشكيل الحكومي، وعن وسامة القادم الجديد إلى مقرّ رئاسة الوزراء في الدوار الرابع (في جبل عمّان)، والأصوات المعارضة، والمتحفّظة أيضاً، وعن كثيرين ممّن يدّعون معرفة الكواليس، وممّن يحذّرون من المستقبل... إلخ، لكن لرئيس الوزراء الجديد تصوّرات وشخصية سياسية مختلفة إلى حدّ ما، قد تلعب دوراً في تغييرٍ ما في قواعد اللعبة السياسة في الأردن، أو أنّه يعجز عن تجاوز تلك القواعد، فيمر كما مرّ كثيرون قبله، وهذا ما يستحقّ بعض التحليل.وجعفر حسّان من مواليد جنوب عمّان، خريبة السوق، ويُكرر محبّوه، وبعض أقاربه، أنّه أصبح أوّل رئيس للوزراء من جنوب المدينة، وفي هذا دلالات مهمّة لمدينة تقسّم نفسها دوماً على أساس طبقي بين الغرب والشرق، والشمال والجنوب، لكنّ جعفر لا يمكن أن يوصف بأنّه من هناك طبقياً، بتعليم عالٍ من أعرق الجامعات الغربية بين فرنسا والولايات المتّحدة، وخبرة عمل رسمي في السلك الدبلوماسي الخارجي، واستلام لحقيبة وزارية، والعمل بالقرب من العاهل الأردني عبد الله الثاني، وتولّى فيها إدارة مكتبه مرّتَين. وهو من النُّخَب التي أُفرزت واستَقطبها الملك حين تولّى سلطاته الدستورية، فهو من "رجال الملك" الجدد آنذاك، بامتياز، مثل عدة نخب أردنية قُرِّبت من القصر، بحكم تصوّراتها السياسية الاقتصادية التي تتطابق مع تصوّر الملك ورؤاه، وليس باعتبارهم مُجرَّد مُنفِّذين.لكن هذه السيرة بذاتها لا تكفي لمحاولة فهم السياسة التي سيتّبعها رئيس الوزراء الجديد، ولعلّ في كتابه "الاقتصاد السياسي الأردني: بناء في رحم الأزمات" (الآن ناشرون وموزّعون، عمّان، 2020)، ما يعبّر عن تصوراته السياسية، أو الاقتصادية بشكل كبير، ويساهم في رسم ملامح سياساته المتوقّعة، وما يمكن أن ينتج منها سياسياً، ولعلّها تضيء التحدّيات التي قد يواجهها.الدولة الاتكاليةيصكّ جعفر حسّان مصطلحاً لوصف الدولة الأردنية منذ تأسيسها، بديلاً من مصطلح الدولة الريعية، ويعرّفها بـ"الحالة الاتكالية" التي "تكوّنت في النموذج الاقتصادي الأردني القائم على المساعدات المُقدّمة للحكومة من ناحية، وتحويلات القطاع العام والمغتربين للقطاع الخاص من ناحية أخرى". وإذا كان هذا على مستوى البنية الاقتصادية، فإنّ تلك الحالة انتقلت، وفقاً للمؤلف، "إلى المجتمع وسوق العمل والقطاع الاقتصادية محدثةً تشوّهات هيكلية كبيرة وسادت في القطاع العام ومؤسّساته وامتدت إلى القطاع الخاص أيضاً". انعكس هذه التشوّه الهيكلي الذي يتحدّث عنه جعفر حسّان في أوجه سياسية عدّة، لا بل بات في مرحلةٍ ما من أكثر العقد السياسية - الأمنية أهمّية للدولة.كان بادياً أن جعفر حسّان، مديراً لمكتب الملك، كان لاعباً سياسياً بامتياز، بين مراكز القوى الأخرى مثل المخابرات ورئاسة الوزراءلكنّ رئيس الوزراء الأردني الجديد يتعامل مع الاقتصاد سيرورةً عملية، لها تداعياتٌ اقتصاديةٌ رقمية، ويمكن أنّ تُؤثّر السياسة فيها، لكنه، في طيّات كتابه، لا يلاحظ التداعيات السياسية للسياسات الاقتصادية، وكأنّك إن نفّذت سياسة ما لا يكون لها سوى تأثير اقتصادي بحت، وهذا مأخذ كبير على تحليله، فهو حين يصف تطوّر "الحالة الاتكالية"، في إنتاج "الشخصية الريعيّة" (مع تزايد التوقّعات الاقتصادية والمتطلّبات للسكّان)، فذلك يرتبط بـ"الدولة والمجتمع، ومن خلال الكسب دون عمل أو إنتاج حقيقي، بالفرصة السانحة أو الصدفة الجيولوجية، [وبالتالي] تستغل الدولة مواردها لتعزيز الولاءات والسيطرة على المجتمع بأقلّ مستويات المشاركة السياسية أو الضريبية".وليحسب المرء أن هذا الكلام لشخص في المعارضة أو من الناقدين للسياسات الحكومية، لا من شخص قريب من أعلى الهرم السياسي في البلاد، لكن كتاب جعفر حسّان، وبتحليله الكرونولوجي، يقدّم مادّةً بحثية موضوعيةً عميقةً، وإن كان الكتاب يشهد تراجعاً في لغته حين وصوله إلى سياسات الملك عبد الله الثاني، أو بالأحرى تقلّ اللغة التحليلية، إلى حدٍّ ما، لكن تأثير الاقتصاد في السياسة يبقى غائباً، بينما التأثير المعكوس حاضرٌ بقوّة.كان للتحول في الاقتصاد الأردني "الاتكالي" هذا تداعياته السياسية، بدءاً من احتجاجات معان عام 1989، وصولاً إلى الحراكات مع بدء "الربيع العربي"، وحتّى عام 2019 تقريباً، التي كانت تُعبّر عن شعور فقدان الريعية من الدولة لدى الأردنيين ممن يُعرفون بالشرق أردنيين، وهم نواة الدولة أمنياً وعسكرياً في مجتمع قُسّم وظيفياً بعد أحداث 1970 بين شرق أردنيين وغرب أردنيين (من أصول فلسطينية)، وبين القطاع الأمني - العسكري (لا العام إذ تدخل فيه قطاعات التعليم والصحّة وهذه قطاعات يشغلها كثيرون من الأردنيين من أصول فلسطينية) للأول، والقطاع الخاص للثاني. تقسيم مبسّط نعم، لكنّ حركات الاحتجاج الأردنية كانت مدفوعةً بتغير دور الدولة الاقتصادي، أو محاولة سحب تدخّل الدولة فيه، وهو ما يدافع عن ضرورته جعفر حسّان، ويقدم الأدلة على ذلك اقتصادياً، وبالتالي، ما زال هذا تحدّياً حقيقياً ستواجهه حكومته.الحلول الاقتصاديةسيسعى جعفر حسّان، رئيساً للوزراء، إلى أن تتطابق سياساتُه مع تصوّراته التي طرحها في كتابه، فهو يؤمن بشكل واضح بديناميات الاقتصاد الحرّ، الذي يُقلّل من تدخّل الدولة فيه، ويزيد من دور القطاع الخاص، طبعاً بالتعاون مع القطاع العام، وهو ما يُكرّره في صفحات كتابه، وبالتالي يدعو إلى جذب الاستثمارات، عوضاً عن المساعدات، ويرى أن لجذب الاستثمار دوراً مهمّاً في تقليص المديونية من خلال أمثلة يستدل عليها إحصائياً. ورغم دعوته إلى جذب الاستثمار على حساب المنح الخارجية، فإنّه يرى، في المدى القريب، ضرورة التفاوض مع المؤسّسات المالية الدولية لاستيعاب "الاحتياجات التمويلية الإضافية وتخفيض كلف خدمة المديونية وشروطها"، لكنّه يرى أيضاً أنّ إشكالية المنح الخارجية أنّها استُخدمت في الإنفاق الرأسمالي للتشغيل، وكذلك الحال مع إيرادات الضرائب، التي تذهب إلى الإنفاق الحكومي على الرواتب بسبب تضخّم القطاع العام.إن لجأ حسّان إلى تحويل تصوراته الاقتصادية سياساتٍ، فهذا سيثير سخطَ قطاعاتٍ واسعةٍ رأت في الخصخصة ضربة لأقوات يومهميمدح جعفر حسّان سياسات الخصخصة التي اتبعها الأردن منذ عام 1992، ويشير أيضاً إلى أنّ "القطاع الخاص في الأردن يوظف نحو 60% من إجمالي القوة العاملة والقطاع العام حوالى 39%"، وهي "نسبة مرتفعة عالمياً لا تتجاوز نسبة العاملين بالقطاع العام في الدول الصناعية 10% من إجمالي القوة العاملة، و26% في معظم دول المنطقة". وبالتالي، يرى أنّ تحوّل الاقتصاد من شكله الاتكالي إلى "الابتكاري" يُشكّل قوةً إنتاجيةً حقيقيةً للاقتصاد.بالإضافة إلى تخفيف عبء القطاع العام، وتخفيض الإنفاق الحكومي، ووجود نظام ضريبي مسيّر ومفيد للقطاع الحكومي، يدعو جعفر حسّان إلى فكرة التشغيل بدل التوظيف، باعتبار أنّ عدد الخرّيجين لا يستوعبه الاقتصاد الأردني، وهذا يدفع إلى أن يكون هناك تشغيل عبر تطوير القدرات والتدريب والتأهيل بشكل متواصل، والتركيز على التكنولوجيا. وبالتالي، إذا لجأ جعفر حسّان رئيساً للوزراء إلى المضي في تحويل تصوراته الاقتصادية سياساتٍ، فسيثير هذا سخطَ قطاعات واسعة داخل المجتمع، خصوصاً في الأطراف، تحديداً ممّا تبقى من الطبقة المستندة إلى القطاع العام في عيشها، فقد كان هؤلاء جماهير الحراكات التي اعتبرت سياسات الخصخصة، ورفع ريعية الدولة، ضربة لأقوات يومهم، وأيضاً إذا ما عمد رئيس الوزراء الجديد إلى التخفيف من سياسات الترضية التي ينتقدها لدورها السلبي في الاقتصاد، واتّجه نحو تخفيض الإنفاق الحكومي، عموماً، قد يحتاج إلى خلق توازنات، وحملات تشرح سياساته، وإيجاد نوع من التواصل مع تلك الفئات التي ستشعر بأنّها الأقلّ حظاً.العامل الشخصيرغم أن الديوان الملكي، وليس الملك الذي يرأس السلطات كلّها، يُعَدّ واحداً من مراكز القوى السياسية الأساسية في الأردن، وله دور سياسي مُؤثّر، ودرجة تأثيره ترتبط في معظم الأحيان بشخصية من يتقلّد المنصب داخل الديوان، فبالإضافة إلى الدور السياسي المتوقّع، فإنّ هذه المناصب مصادر لتدوير النخب السياسية، ولذا تلعب الصفات الشخصية الدور الأكبر في قوة الدور السياسي وتأثيره، وبهذا يراوح الدور من شخص إلى آخر ومن منصب إلى آخر داخل الديوان الملكي، مثل منصب مدير مكتب الملك، وقد استُحدث هذا المنصب في عام 2005، وتقلّده أشخاصٌ راوحت أدوارهم السياسية حسب كاريزما الشخص، وإدارته الدور السياسي، وكذلك، وسابق على هذا المنصب، هناك منصب رئيس الديوان الملكي، وقد تقلّده سياسيون كُثر كانت لهم آثار واضحة في السياسة الأردنية، أو حتّى بعض المناصب الاستشارية، ورئيس الوزراء السابق بشر الخصاونة أحد الأمثلة على هذا القسم.إمّا أن يخضع حسّان لإكراهات الواقع السياس الأردني أو أن يقامر بتجاوزها لصنع التغيير الاقتصادي، ولكليهما أثمان لا محالةإذاً، شخصية جعفر حسّان، في منصب مدير مكتب الملك (تولاه مرّتين 2014 - 2018 و2021 - 2024) كانت بادية، وكان من الواضح أنّه لاعب سياسي بامتياز، بين مراكز القوى الأخرى مثل المخابرات، ورئاسة الوزراء، وأحياناً البرلمان، وهذا جزء من المعترك السياسي العرفي في الواقع الأردني، وكان لهذا الدور تأثير كبير في رسم بعض السياسات أو ملامحها. هذه الشخصية القوية، التي استطاعت مركزة دورها السياسي، عبر المنصب المذكور، قد تساعد جعفر حسّان في الاستثمار في ما أنجزه على هذا الصعيد، ويدفع باتجاه التسريع في تنفيذ سياساته الاقتصادية، لكنّها، بحكم الواقع، قد تُواجَه بمعارضة مؤسّسات أخرى، تضطر إلى إعلاء الجانب السياسي أو الأمني على حساب الاقتصادي، وهذا يقتضي بالتالي، مرة أخرى، إيجاد توازنات حذرة، أو إحداث توتّر سياسي بين المؤسّسة الأمنية ورئاسة الوزراء، وهو توتّر طالما تداولته الصالونات السياسية العمّانية، عند استذكار عدد غير قليل من الحكومات السابقة.غزّةيولي جعفر حسّان أهمّيةً مفهومة لدور الأزمات الخارجية وتأثيرها في الاقتصاد الأردني، ويرى أنّ النمو الاقتصادي الذي شهده الأردن عام 2009 هو الذي ساعد في "مواجهة" "الربيع العربي" لاحقاً، كذلك ساعد في استجابة حكومة سمير الرفاعي آنذاك لـ"الإلحاح الأمني" لزيادة الرواتب للتعامل مع احتجاجات الربيع العربي، وبالتالي فإنّ السياسات الاقتصادية ترتبط أيضاً بالأزمات السياسية. ويرى جعفر حسّان أن عدداً من تلك الأزمات أثّر في المديونية الأردنية، فالربيع العربي ساهم في ارتفاع مديونية الأردن بنحو 15%، بينما الحصار الاقتصادي الذي فرضته سيطرة تنظيم ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مناطق واسعة من العراق وسورية رفع المديونية إلى 30% بين عامي 2014 و2017، وتوقّع أن تزيد أزمة وباء كورونا المديونية بنحو 10%، وقد اندلعت الحرب الأوكرانية بعد نشر الكتاب، واليوم هناك الحرب في غزّة التي لها تأثيراتها الاقتصادية والسياسية على الأردن.حرب غزّة هي التحدي الأكبر أمام الرئيس الجديد للحكومة، كيف يمكنه المضي في سياسات اقتصادية انفتاحية بينما الأزمة الخارجية، تدفع باتجاه التثبيط، وتلك الحرب لها أكلاف سياسية أيضاً على الأردن سياسياً، وتمثل في فوز الإسلاميين، بصدى الحرب هناك في الانتخابات النيابة، والأخطر سؤال الهُويَّة الذي يقلق الأردنيين، وتزايد طرحه بعد حرب غزّة، وبالتالي التعامل، مع ملف كهذا، لن يفيده التركيز على الجانب الاقتصادي فقط، وسيستدعي الحذر والخطوات البطيئة، التي لا يبدو أنه يفضلها.وعلى ذلك، تقوم التحدّيات التي قد تواجهها حكومة رئيس الوزراء الجديدة في الأردن، على ثنائيات الاقتصاد والسياسة، السرعة والخطوات البطيئة، وتلك الثنائيات ترتبط بواقع داخلي وخارجي، يتركان جعفر حسّان أمام حلّين لا ثالث لهما، إمّا أن يخضع لإكراهات الواقع السياسي الأردني أو أن يقامر بتجاوزها لصنع التغيير الاقتصادي، كما يراه، ولكلّ من الخياريْن أثمانٌ لا محالة.https://www.google.jo/books/edition/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A_%D8%A7 %D9%84%D8%A3%D8%B1/ulnzDwAAQBAJ?hl=ar&gbpv=1 يقدم الفصل الأول من الكتاب نبذة تاريخية عن الاقتصاد الأردني، ويستعرض طبيعة هذا الاقتصاد منذ نشأة الدولة مروراً بالبناء المتسارع بعد الاستقلال، وآثار العوامل الإقليمية والدولية في تشكيل الحالة الاتّكالية التي سادت وميزت اقتصاد المملكة، خاصة بعد حرب حزيران 1967 وما تبع ذلك خلال العقدَين اللاحقَين إلى أن وصل الأردن إلى طريق مسدودة في نهاية الثمانينات.ويعاين هذا الفصل أيضاً الخطوات الصعبة التي اتُّخذت في مطلع التسعينات لإعادة بناء النموذج الاقتصادي، بهدف الخروج من الحالة المأزومة، وإرساء دعائم نموذج اقتصادي مستدام يكون بديلاً لنموذج الاقتصاد الاتّكالي الذي بدأت أعراضه المزمنة تشكّل خطراً على استقرار المملكة وأمنها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.فقد كان الاقتصاد الأردني في عهد الإمارة اقتصاداً رعوياً ريفياً، يعيش منه ربع مليون من السكان نصفهم من البدو وبضعة آلاف يسكنون المدن. وتطوّر هذا الاقتصاد بعد الاستقلال ليتحول على مدى أربعة عقود إلى اقتصاد خدمات، إذ توسّع القطاع العام، وانتقل السكان من الأرياف إلى المدن على ضوء توسُّع فرص العمل في المؤسسات الحكومية وانتشار التعليم. كما كان لتدفُّق اللاجئين أثر كبير في مسار الاقتصاد السياسي، يُضاف إلى أثر الحروب والأزمات الإقليمية وانعكاساتها على المسيرة التنموية.وقد موّلت المساعدات التي وصلت في بعض السنوات إلى أكثر من 120% من النفقات الحكومية، توسعةَ القطاع العام، ليوظّف نصف القوى العاملة في المملكة، إذ شكّل معدلُ الدعم الخارجي منذ منتصف الخمسينات وحتى منتصف الثمانينات بشكل شبه متواصل حوالي 53% من النفقات الحكومية السنوية الجارية، أو ما يعادل 6.3 مليار دولار من موازنة النفقات الجارية لعام 2020! كما كان الأردن من الدول الأعلى إنفاقاً في العالم على موازنة الدفاع كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.وخلق اعتمادُ القطاع الخاص على الإنفاق الحكومي بشكل أساسي، حالةً اتّكالية طالت جميع المستويات في الاقتصاد الأردني. كما موّلت تحويلاتُ المغتربين استثماراتِ القطاع الخاص التي تركزت في العقارات والإنشاءات والاستهلاك. وبدأ الأردن باستيراد العمالة للزراعة والبناء، وبدأ كذلك بتصدير الكفاءات إلى الخارج للعمل في مجالات التعليم والهندسة والصحة والإدارة.وبالرغم من السياسات التنموية والبناء البنيوي المتسارع الذي تميز به الأردن بحكمة قيادته والاستخدام الفاعل لما تَحقّق من موارد خارجية في بناء القدرات البشرية والبنية التحتية، إلّا أن الاقتصاد الأردني لم يصل إلى مرحلة الاستدامة أو الاعتماد على الموارد الداخلية عندما تلاشى معظم الدعم الخارجي في منتصف الثمانينات، فالتفتَ إلى الاقتراض لسدّ ما تَوقَّع أن يكون مجرد ضائقة مرحلية، في حين كان الواقع والمستقبل يشيران إلى تحولات تاريخية في المنطقة.وقد أدّى التوجُّه إلى القروض المكلفة بدلاً من المنح إلى وقوع كارثة اقتصادية ومالية في عام 1988، لم يتعافَ منها الأردن إلّا بعد سبعة عشر عاماً من حيث أثرها في مستويات الدخل للأفراد، ووصلت المديونية إلى مستويات قاربتْ ضعفَي الناتج المحلي الإجمالي في نهاية الثمانينات.وشهد العقد الأخير من عهد الملك الحسين بدايةَ برامج الأردن مع صندوق النقد الدولي، والحاجة إلى اعتماد نهج اقتصادي جديد يبني القدرات الإنتاجية للاقتصاد والقطاع الخاص، فبدأت برامج الخصخصة، وأُنجز جزء يسير من هذه البرامج قبل نهايات القرن العشرين.إنّ تلك الحقبة ذات امتدادات مهمة ومقاربات ضرورية للمرحلة التي تلتها. لذلك يرسم الفصل الأول صورة اقتصادية شمولية لـ"حالة البلاد" حتى مطلع عام 1999 عشية اعتلاء الملك عبدالله الثاني العرش.أما الفصل الثاني فيتناول العقد الأول في العهد الجديد ورؤية الملك عبدالله الثاني في بناء اقتصاد مستدام وإصلاح قطاعات رئيسية، وطبيعة السياسات والقرارات التي تم تبنّيها، ونتائجها على الاقتصاد وعلى المواطن بشكل عام.فقد سعت الرؤية الملكية إلى استبدال الاستثمارات بالمساعدات، وتعزيز إمكانيات الاعتماد على الذات من خلال بناء القطاعات المعرفية والتصديرية وزيادة تنافسيتها عالمياً لبناء قطاع خاص قوي يكون ركيزة لاقتصاد المملكة، وتوجيه الإنفاق الحكومي للتعليم والصحة وشبكة الأمان الاجتماعي.وبدا الأردن خلال السنوات الخمس الأولى من عهد الملك عبدالله الثاني شبيهاً بورشة عمل كبيرة شملت قطاعات عديدة بالرغم من الأزمات المحيطة التي تطلّبت من جلالته قيادة البلاد في وجه تحديات أمنية واقتصادية غيّرت مسار المنطقة. ويمكن القول إنّ السياسات الاقتصادية خلال تلك السنوات سرّعت وتيرة الإصلاح الاقتصادي الذي بدأه الملك الحسين في نهايات القرن العشرين. وكان للجهود المباشرة للملك عبدالله الثاني ودوره في قيادة هذه الإصلاحات أثرٌ مفصليّ في العديد من المجالات، عكسته المؤشرات الاقتصادية الرئيسية، إذ ارتفعت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2004 لتتجاوز -للمرة الأولى منذ 17 عاماً- المستويات التي كانت قد بلغتها في عام 1987.ولم يكن النمو خلال الفترة 1999-2009 والذي وصل إلى معدل 8% في نهاياتها، ناتجاً عن المنح الخارجية والإنفاق الراسمالي للحكومة بقدر ما كان حصيلةً لارتفاع مستويات الصادرات والاستثمارات الخارجية والداخلية التي تضاعفت أكثر من مرة.ورغم النجاحات الملموسة خلال تلك الفترة القصيرة، ظلت الإنجازات أقلّ مما تاقت إليه الرؤية الملكية، لأسبابٍ من أهمها حالة التجاذب بين أقطاب متنافرة داخل الدولة ومؤسساتها، والتي غالباً ما كانت نتيجةَ خلافات شخصية أو صراعات نفوذ أو تباين في الرؤى الإصلاحية.ويتوقف الفصل الثالث عند المحطات المفصليّة في العقد الأخير، وتحدّيات النمو المتدنّي، وتراكم المديونية، وتآكل دخل الأفراد، وارتفاع مستويات البطالة مجدّداً، وبلوغ الأزمات الإقليمية ذروتها، سواء أكان ذلك مرتبطاً بـ"الربيع العربي" الذي انعكست آثاره داخلياً، أو بالحرب في سوريا وما تمخّضت عنه من انتشار الإرهاب الداعشي، أو بتفاقم "الحصار التجاري" الذي يعاني منه الأردنّ منذ أكثر من ستّ سنوات بسبب إغلاق حدوده مع سوريا والعراق لفترات طويلة، أو بمواجهة جائحة "كورونا" وآثارها الاقتصادية.ويضع الفصل الرابع منظوراً شمولياً لتطور الاقتصاد الأردني بأزماته وإنجازاته، مبيناً الدروس المستفادة لمواجهة تحدّيات الحاضر وسُبل التعامل معها، وما يمكن تحقيقه في المرحلة المقبلة ما بعد الأزمة الناتجة عن انتشار فيروس كورونا المستجدّ (كوفيد 19) وآثارها، ومخاطر السير على الحافة في منطقةٍ تشهد أزمات متواصلة، وفي غياب أيّ بوادر تشير إلى تحولات في منظومة التعاون والتكافل العربي.ولهذا جاء التركيز على ما يمكن تحقيقه من خلال استعراض المراحل السابقة وإخضاع المحطّات المهمة خلال العقود الأخيرة للتحليل الموضوعيّ، وبما يتيح التعرف على الإنجازات والإخفاقات الرئيسية والخيارات الممكنة.ويركّز هذا الفصل على أربعة محاور أساسية يمكن أن تطلق إمكانيات النمو وتعزّز الاعتماد على الذات، وهي: التشغيل، والطاقة، والضريبة، والإدارة الحكومية. ويطرح أبرز المعيقات أمام قطاع الطاقة حالياً، والحلقة المفرغة التي لا بد من تجاوزها لتخفيض الكلف من خلال عدد من الإجراءات والسياسات التي يمكن النظر فيها.ومن الخلاصات التي ينتهي إليها هذا الفصل، ضرورة وجود استراتيجية واضحة في برامج الإصلاح المالي، للتحول التدريجي من ضريبة المبيعات إلى ضريبة الدخل كي تصبحَ المصدر الأساسي للإيرادات المحلية، بالإضافة إلى ضمان استراتيجية مؤسسية مستدامة لتعزيز التحصيل ومكافحة التهرب الضريبي وتحقيق العدالة. فقد عمدت الحكومات، بعد جفاف مصادر الدعم الخارجي وضعف الإطار المؤسسي لتحصيل الضرائب على الدخل والأرباح، إلى زيادة الاتّكال على ضريبة المبيعات لسهولة وسرعة تحصيلها بالرغم من آثارها على الاقتصاد.ولا بد من الإشارة هنا إلى أن القدرة على تنفيذ الإصلاحات الضرورية مقرونةً بالرغبة في ذلك، كانت العاملَ الحاسم في عمل الحكومات. فهناك من المسؤولين مَن واجه تحديات المرحلة وظروفها الصعبة وتعامَل مع المعادلات المستعصية بحكمة وشجاعة. وفي المقابل، هناك مَن لم يكن بحجم التحدّي أو على مستوى ما تتطلبه الرؤية الملكية، إمّا لافتقاره إلى سمات القيادة، أو لاستسلامه للخوف والتردد، أو لعدم قناعته أو فهمه لمتطلبات الإصلاح. وإذا كان بعضهم يبرّر تقصيره بنقص الصلاحيات أو عدم امتلاك الولاية العامة، فهذه ذرائع لتغطية أوجه الضعف والفشل في إدارته. فكلّ مسؤول يتمتع بصلاحياته كاملةً وفقاً للدستور وما نصّت عليه القوانين بشأن منصبه وطبيعة المهام الموكَلة إليه، وهو ما يحرص عليه الملك الحرص كلّه. كما أنّ المشكلة الأساسية لا ترتبط بتغيير الحكومات بقدر ما تكمن في آلية عملها.وتشير خاتمة الكتاب إلى أن النموذج الاتّكالي لم يرتكز على قوة إنتاجية للاقتصاد، بقدر اعتماده على منح خارجية غير مستدامة تتحكم بها التقلباتُ السياسية والظروف الإقليمية والعلاقات الخارجية، وهو ما اضطرّ الدولةَ إلى المراوحة بين الإفراط في الإنفاق من المساعدات حيناً، والاعتماد على الاقتراض بشقّيه الخارجي والداخلي حيناً آخر. وقد شكّلَ هذا الوضع مخاطرَ للدولة في قدرتها على استدامة معدلات النمو الاقتصادي وسط ظروف إقليمية مضطربة وتطورات مفاجئة، وكذلك في إمكانية زيادة دخل المواطن أو تلبية مطالب لا تستند إلى قاعدة إنتاجية محلية أو إيرادات ذاتية لتمويل كلفها، خاصة في ضوء ضعف قدرة الدولة على بناء موارد محلية مستدامة ترتكز على الضرائب المباشرة لرفد الموازنة، إذ اتسمت الإيرادات المتحققة لضريبة الدخل بتواضع القيمة ومحدودية الأثر.وقد انقلبت المعادلة مع انخفاض الإنفاق الرأسمالي وجفاف المساعدات الخارجية، وظهرت حالة من الاستقطاب بين القطاعَين العام والخاص بعد أن بدأت العلاقة بينهما تتغير بشكل كبير منذ بداية التسعينات، متخذةً شكلَ التنافُس على النفوذ والسياسات والمصالح نتيجة تساقط النموذج الاتّكالي للدولة. فازداد اعتماد الدولة على قدرة القطاع الخاص على الإنتاج لتحصيل الإيرادات الضريبية التي أصبحت المورد الأساسي للدولة، ليعاد توزيعها للقطاع العام مع انخفاض الإنفاق الرأسمالي وارتفاع النفقات الجارية من كلف رواتب وتقاعدات.وأثّرت هذه التغييرات في فئات المجتمع والقوى التقليدية، خاصة مع تحوُّل دور الدولة في الاقتصاد، وزيادة التباين في الثروة، وازدياد مظاهر الإنفاق المفرط والاستهلاك الترفي، ونمو الثروات الجديدة، فبدأت فئات كبيرة من المجتمع ترى أن النهج السائد يهمّشها.والسؤال هنا: كيف نمضي للأمام؟ فلا بد من التحول في العلاقة بين القطاعَين العام والخاص من التبعية إلى التكاملية، فنجاح أيّ منهما أو فشله مرتبطٌ بنجاح الآخر أو فشله.***لقد استطاع الاقتصاد الأردني أن يواجّه تحدّيات هائلة منذ نشأته، وأبدى مرونة واسعة في التأقلم مع كوارث عديدة واجهت المملكة على المستويات كافة؛ إنسانيّاً وجغرافيّاً وسياسيّاً. ويكمن السرّ في قدرة الأردن على الصمود أمام تلك التحديات على اختلافها، في طبيعة نظامه السياسي الملَكي الدستوري، وبنية مؤسساته، وحكمة قيادته وبُعد نظرها.ومن المعروف أنّ هذا الاقتصاد اتسم بالاتّكال على الموارد الخارجية خلال العقود الخمسة التي تلت الاستقلال.وإلى جانب الاتّكالية الهيكلية، اتسم الاقتصاد الأردني بارتباطه بالأزمات، فقد عملت الأزمات والتغييرات السياسية الإقليمية على تشويه بنيته إلى حد كبير، رغم أن القيادة جعلت منها دافعاً لمواصلة البناء وتسريع العملية التنموية.وها هو الأردن يقف اليوم على أبواب القرن الثاني من عمر الدولة الحديثة، مؤكداً صموده في وجه التحديات التي فشلت دولٌ أقوى وأغنى في تخطّيها، وذلك بتصميم أبنائه وقيادته الهاشمية وعزمهم، سواء أكانوا مؤسِّسين أم بُناة أم محدِّثين. فقد طوّع الأردنيون الصعاب، وبنوا بلدهم بإرادة عالية رافعين رؤوسهم اعتزازاً بما أحرزوه.إنّ التحديات الاقتصادية لن تزول بطبيعة الحال، لكنّ الإيمان بقدرة الأردنيين على الإبداع والتكيُّف والتجديد وإعادة البناء، يتعزّز بعد كل أزمة، فبتكاتفهم وإصرارهم تزداد المملكة قوةً ومنعةً، وتعلو الثقةُ بالمستقبل بعيداً عن الخوف والتشكيك. |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: جعفر حسّان... السياسة أم الاقتصاد في الأردن؟ الجمعة 27 سبتمبر 2024, 7:37 am | |
| |
|