أي دولة فلسطينية على أي أرض؟
بقلم محمد السمّاك
في عام 1948 صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 181. نصّ القرار على "إقامة دولتين مستقلتين واحدة عربية والثانية يهودية على أن تخضع مدينة القدس الى نظام دولي".
كانت تلك المرة الأولى التي يطرح فيها شعار الدولتين. ولكن هذا الشعار لم يبصر النور حتى اليوم. فهل تتحقق المعجزة الآن وتقوم الدولة العربية الفلسطينية في موازاة إسرائيل؟. كان الفلسطينيون حتى بعد حرب عام 1948 يملكون 97.2 بالمئة من مساحة ارض فلسطين التاريخية. ولكن عشية قيام إسرائيل عرضت الامم المتحدة على الفلسطينيين بموجب مشروع التقسيم 47 بالمئة من الارض. ولما رفض العرض الفلسطينيون والعرب (وكذلك الاسرائيليون) توسعت إسرائيل في كل اتجاه مما ادى الى تقلّص مساحة الارض الباقية للفلسطينيين من وطنهم الى 22 بالمئة فقط.
وبعد حرب حزيران - يونيو 1967. ضمّت اسرائيل 20 بالمئة من هذه الارض الفلسطينية الباقية (بما فيها القدس).
وبموجب اتفاق اوسلو 1993. كان يفترض ان تقوم دولة فلسطينية على مساحة 47 بالمئة من الثمانين بالمئة المتبقية من الاثنين والعشرين بالمئة من مساحة فلسطين التاريخية. ولكن حتى اتفاق اوسلو سقط رغم كل ما فيه من ظلم وإجحاف.
وبموجب "خارطة الطريق" فإنّ المطروح على الفلسطينيين هو اقامة دولة على 42 بالمئة من هذه البقية الباقية
اي ان هذه الدولة العتيدة ستقوم (اذا قامت فعلاً) على 42 بالمئة من 80 بالمئة المتبقية من أصل 22 بالمئة من مساحة الارض الفلسطينية. ولقد ابتلعت اسرائيل مساحة إضافية من تلك التي حددها اتفاق خارطة الطريق. أقامت عليها مستعمرات جديدة وشقت اليها طرقات جديدة. ثم ان ذلك مشروط بالتنازل عن حق عودة اللاجئين الذي كفله لهم قرار مجلس الامن الدولي رقم 194؛ كما انه مشروط بأن تكون الدولة منزوعة السلاح. وهو مشروط كذلك بتصفية مسبقة لكل فصائل المقاومة الفلسطينية. حتى اذا قامت هذه الدولة على هذه البقية الباقية من الارض. وبموجب هذه الشروط التعجيزية. فانها ستجد نفسها محاطة "بجدار برليني" من الاسمنت المسلح يبلغ طوله الف كيلومتر وتعلوه شبكة من الاسلاك المكهربة بلغت نفقات بنائه 2 مليار دولار.. الامر الذي يجعل من الدولة سجناً كبيراً.. بل ربما قفصين مكتظين بشعب معتقل. قفص في بقية غزة. وقفص في بقية الضفة الغربية . وفوق ذلك كله. بل ومقابل ذلك كله. مطلوب من الفلسطينيين ان يسبّحوا بحمد اميركا التي تعمل على تحقيق المعجزة التي طال انتظارها وهي ولادة الدولة الفلسطينية !!.
وفي الواقع فان ثمة قوى سياسية دينية في كل من اسرائيل والولايات المتحدة ترفض من حيث المبدأ ان يكون للفلسطينيين دولة ولو على شبر واحد من الارض "التي وعد الله بها بني اسرائيل". وتؤمن هذه القوى التي تتمتع بنفوذ قوي في حكومة نتنياهو. وتلك التي تشكل العمود الفقري لليمين الديني الأميركي المتجمع في الحزب الجمهوري. بأن اقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية (يهودا والسامرة) هو رفض للإرادة الإلهية. وتعطيل للوعد الإلهي. وبالتالي فهو تحدٍّ لله. وتحذر هذه القوى اليهودية والمسيحانية الصهيونية معاً بأن من يفعل ذلك سوف يتعرّض لسخط الله وغضبه. لقد تمكنت هذه القوى من تفشيل مشروع خارطة الطريق. كما فشّلت من قبل مشروع التقسيم في عام 1947. ومشروع اوسلو في عام 1992. ومشروع واي ريفر بعد ذلك.. وأخيراً مشروع كمب دايفيد في الأسابيع الأخيرة من عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
غير ان الرئيس الحالي باراك أوباما يوحي بأنه جاد هذه المرة في استيلاد الدولة الفلسطينية كما يوحي بأنه متحرر من ضغوط اليمين الديني الأميركي. فالولايات المتحدة. بعد الحرب على العراق وما ألحقته به من مجازر ومآسي. تحتاج الى مبادرة تحتوي غضب العالم العربي والاسلامي وتمتصّ كراهيته.
في عام 1935 نشر مناحيم بيغن (رئيس حكومة اسرائيل الاسبق وزعيم الليكود) مذكراته التي قال فيها: " لقد عرفت طعم الجوع والخوف مرات عديدة. ولكنني بكيت مرتين فقط. المرة الأولى لدى اعلان قيام اسرائيل في عام 1948. والمرة الثانية لدى وقوع حادث "الطالينا."
والطالينا هو اسم سفينة عسكرية اميركية اشتراها انصار الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة وارسلوها الى مرفأ حيفا لحساب منظمة ارغون الارهابية التي كان يتزعمها بيغن نفسه. وذلك بعد ان شحنوها بخمسة الاف بندقية حربية وثلاثة ملايين رصاصة. وثلاثة الاف قنبلة يدوية وبمئات الأطنان من المواد المتفجرة. اضافة الى 850 متطوعاً اميركياً للقتال الى جانب اليهود ضد عرب فلسطين.
وصلت الباخرة الى شاطئ حيفا عشية اعلان بن غوريون (زعيم عصابة الهاغانا ثم رئيس أول حكومة اسرائيلية) قيام اسرائيل الدولة. ورغم ان الاعلان جاء بعد الاتفاق على توحيد كل العصابات الارهابية اليهودية (الهاغانا والارغون وشترن وسواها) لتشكل كلها نواة الجيش الاسرائيلي. فقد أراد بيغن ان تحتفظ منظمته بالأسلحة. ولكن بن غوريون أصرّ على ان تحوّل الاسلحة الى الجيش. مما ادى الى الخلاف بين الرجلين والى وقوع اول مجابهة بينهما. اعتصم بيغن داخل السفينة. فأمر بن غوريون بقصفها. وقُصفت بالفعل. مما حمل بيغن على الفرار منها مع معظم المتطوعين القادمين من الولايات المتحدة. ادى القصف الى احراق السفينة والى غرقها بكامل حمولتها. وغرق معها أيضاً حوالي 15 متطوعاً من الذين بقوا على متنها !!. اعترف بن غوريون بعد ذلك في مذكراته "ان هذا الحادث وضع الاسرائيليين عشية اعلان الدولة امام حرب اهلية بين اليهود انفسهم. ولكن بعد ان غرقت السفينة وهمدت النيران المشتعلة فيها. تمت ولادة الدولة". اما بيغن الذي كاد ان يُقتل ويغرق مع السفينة. فقد تولى فيما بعد رئاسة الحكومة. وهو الذي استقبل الرئيس المصري الراحل انور السادات في القدس المحتلة في عام 1979.. ووقّع معه على معاهدة السلام في كمب دايفيد برعاية الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر!!.
ان من سخرية القدر ان يموت بيغن في فراشه وهو صاحب ابشع المجازر التي ارتُكبت ضد الفلسطينيين. بما فيها مجزرة دير ياسين التي ذهب ضحيتها 200 فلسطيني في ساعات قليلة في شهر نيسان -ابريل من عام 1948. وان يموت اسحق رابين اغتيالاً في احدى ساحات تل ابيب بسبب موافقته على مشروع للسلام مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات شخصياً. حتى ان قساوسة الحركة الصهيونية - المسيحية في الولايات المتحدة اعتبروا اغتياله انتقاماً وعقاباً الهياً. لانه وافق على "التنازل للفلسطينيين عن جزء من الارض اليهودية المقدسة". وقد أثمر اغتيال رابين عن سقوط حزب العمل وعودة قادة الليكود (الذين اتهمتهم ارملة رابين بانهم مسؤولون عن اغتياله) الى السلطة. حيث توالى على رئاسة الحكومة من بعده نتنياهو وباراك وشارون وأولمرت والآن نتنياهو مرة ثانية !
لقد كان رابين من "ابطال" اسرائيل ومن رجالاتها المؤسسين. وذلك نظراً للأدوار التي قام بها على الصعيدين العسكري والسياسي. ومع ذلك فان اغتياله على يد احد الأصوليين اليهود. جعل من القاتل رمزاً مقدساً يتبارك به الأصوليون اليهود والأصوليون المسيحانيون الاميركيون المتصهينين.
من هنا السؤال : ما هو السيناريو الذي سوف تعتمده اسرائيل اذا التزمت بالفعل بحلّ الدولتين ؟ وكيف سيبرر نتنياهو الى اليمين الديني اليهودي.. والى اليمين الديني المسيحاني الاميركي حلاً يقتضي "التنازل" عن أجزاء من الضفة الغربية لتقوم عليها الدولة الفلسطينية ؟. وماذا عن القدس؟ وماذا عن الهيكل؟.
معروف عن بن غوريون قوله :" لا اسرائيل من دون القدس. ولا قدس من دون الهيكل". ومعروف عن الحركة الصهيونية الأميركية شعارها الديني: "لا عودة ثانية للمسيح من دون الهيكل". وفي أساس عقيدتها "ان الله هو الذي أعلن القدس عاصمة لاسرائيل. وان ما قرره الله لا يغيره البشر"!!.
لقد واصلت اسرائيل ممارسة سياسة قضم الأراضي العربية وابتلاعها من عام 1947 حتى اليوم. فتضاءلت جراء ذلك مساحة الأرض المتبقية لقيام الدولة الفلسطينية حتى أصبحت الآن في حجم النملة بعد أن كانت في حجم الفيل. وإذا كان قد استحال على الرؤساء الأميركيين السابقين تمرير الفيل من "سمّ الخياط" -أي من ثقب الإبرة.. فيبدو ان الرئيس الاميركي باراك أوباما قد استجمع كل قواه الآن للقيام بمعجزة تمرير النملة.. فهل تمر؟.