أجيال وصراعات خفية
عزيزي الأب الستّيني المغلوب على أمره: طبيعيٌّ جدّاً أن ينتابك الحزن حين ترى أبناءك يرتكبون
الحماقات، ويكرّرون الأخطاء، خصوصاً أنّك تدرك أنْ لا أحدَ منهم سوف يستمع إلى نصائحك من باب
الاستفادة من حكمتك، وخلاصة تجاربك في الحياة، إذ لا تبدو حُجَجُك مقنعةً، بل تبدو طروحاتك لهم
في أيّ شأن ضعيفةً باهتةً، فيأخذونك "على قدّ عقلك"، لكنّهم يتصرّفون بحسب قناعاتهم فقط.
لعلّك نسيت أنّك ذات زمن كنت فيه شاباً مطيعاً مُؤدَّباً لم تتمكّن من الانتصار لنفسك في مواجهة تسلّط
والدك، ولم ترمِ تعليمات الوالد عُرض الحائط، بل نفَّذتها مُرغَماً بالحرف، ولم تواجهه قائلاً لا أحدَ
يتّخذ قراراته بناءً على تجارب الآخرين، "لا بدّ لي من خوض التجارب واختبار خيبة الأمل والتوصّل
إلى الاستنتاجات وإطلاق الأحكام، قد أنجح أحياناً وأفشل أحياناً أخرى، سوف أحزن وأفرح، وأُقبل
وأُدبر، وأندفع وأتراجع، سوف أقترب وأبتعد، ثمّ ألوذ في نهاية المطاف بشيخوختي محمّلاً بحصيلةٍ
معرفيةٍ وبخبرةٍ حياتيةٍ لن تفيد أحداً".
لم يكن بإمكانك قول ذلك رهبةً وتبجيلاً لهيبة الوالد المعروف أنّ كلمته "ما بتصير ثنتين"، هو يقول
والعائلة تنفّذ، من دون نقاش، فهو الحكيم الفهيم الحاكم بأمره، كان ذلك في سالف العصر والزمان
الذي مضى إلى غير رجعة، في زمن ليس ببعيد تفرّد الأهل بتقرير المصير، يختارون لأبنائهم ماذا
سيدرسون وماذا سيعملون ومن سيتزوّجون، وكم من الأطفال سينجبون، لم يكن مفهوم استقلالية
الأفراد مقبولاً، بل اعتُبر مُجرَّد التفكير فيه عقوقاً وتمرّداً وجحوداً، وقلّة حياء أيضاً. تحتّم على الابن
أن يظلّ لصيقاً بالعائلة طيلة حياته، وحين يتزوّج العروس التي اختارتها الوالدة، بعد تأكّدها من قوّة
أسنانها وكثافة شعرها وبياض بشرتها، سوف يستمرّ في الإقامة مع زوجته في بيت العائلة، وفي
أحسن الحالات يُعمِّر له الوالد شقّةً فوق السطح، ويظلّ الأب مسيطراً مهيمناً على الولد وزوجته
وأبنائه، يتدخّل في أدق التفاصيل، ويأخذ القرارات المُنفرِدة من دون مشورةٍ، ومهما بلغ تحصيل
الابن الأكاديمي، وإنجازه المهني، فسيظلّ في نظر أبيه الولد الذي يصبّ القهوة عند حضور الضيوف.
غير أنّ الأمر تغيّر كلّياً في زمننا الراهن، فاختلف إلى الأبد شكل العلاقة بين الأب وأبنائه، فهيمنت
وسائل التربية الحديثة التي تُعلي من قيمة الفرد وتنفي الفوارقَ بين الأجيال، وقد تراجع (كي لا نقول
اختفى) الدور السلطوي للأب، لم تعد كلمته نافذةً ونهائيةً وحاسمةً، بل أصبحت مُجرَّد فكرة قابلة
للنقاش والمداولة والرفض، بات الأبناء أنداداً غير قابلين للخضوع لسلطة الوالد، الذي أصبح يستعين
بهم لدفع فواتيره إلكترونياً، ولإعادة تشغيل هاتفه النقّال حين يتعطّل، ولإعادة ضبط تلفزيونه الذكي،
ولطلب سيارة "أوبر" حين يرغب في الخروج، ومن ثم فقد شرعية إسداء النصائح والتوجيهات،
وحتّى لو ثرثر بها طوال الوقت، لن يجد آذاناً مُصغيةً. ليس أمامه والحال هذه سوى الانسحاب من
المشهد، الذي لم يعد له فيه سوى دور ثانوي لا يتجاوز الطقوس الفلكلورية في المناسبات والأعياد.
لعلّ الفكرة حزينة ومؤلمة، غير أنّها حقيقةٌ علينا التعايش معها، لذلك هوّن عليك عزيزي الأب
الستّيني المغلوب على أمره، ولنعترف أنّنا جيل عاثر الحظّ تعرّض للقمع والتحكّم ومصادرة الحرّية
وحقّ الاستقلالية من الأهل، أصحاب السلطة المطلقة، ثمّ حين صرنا آباءً وأمهاتٍ تعرّضنا للتهميش
والاستخفاف من أبناءٍ متفوّقين علينا تكنولوجياً ومعرفياً، لعلّهم يروننا كائناتٍ "دقّة قديمة" عديمة
الجدوى، غير قادرة على التصالح مع مفردات الحداثة، ويستولي عليه الإحساس بالضآلة أمام سطوة
التكنولوجيا التي تغلغلت في أصغر التفاصيل، وعمّقت الفجوة بين الأجيال، ورسَّخت الغربة بيننا وبين
أقرب الناس، ما يُبرّر تحسّرنا على عمر ضاع هباءً، قائلين باستسلام: "عليه العوض ومنه
العوض".