ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: العالِم والفلكي المسلم محمد بن إبراهيم الفَزَاري (ت 189هـ/815م) الأربعاء 06 نوفمبر 2024, 1:05 pm | |
| المعارف الفلكية الإسلامية.. أكاديميات ألهمت نهضة أوروبا الحديثةقدَّم العالِم والفلكي المسلم محمد بن إبراهيم الفَزَاري (ت 189هـ/815م) أول محاولة جريئة في التاريخ لقياس عمر الكون؛ فقد افترض -كمن سبقوه من علماء الفلك- أن جميع الكواكب والنجوم والأجرام كان مبتدؤها من بُرج الحَمَل في السماء، ثم "قدّر لكلّ واحد منها سيرا معلوما فسارت من هناك، وإنّها لا تجتمع في المكان الذي بدت منه إلاّ بعد أربعة آلاف ألف ألف وثلاثمئة ألف ألف وعشرين ألف سنة (= 4,300,020,000/أربعة مليارات و300 مليون و20 ألف سنة)، ثمّ يقضي الله -عزّ وجلّ- فيها ما شاء ممّا سبق في علمه وقدرته. وإنّ الماضي من هذه الجملة -أعني المدّة المذكورة- إلى الهجرة: ألف ألف ألف وتسعمئة واثنان وسبعون ألف ألف وتسعمئة وسبعة وأربعون ألفا وسبع مئة وثلاث وعشرون سنة (= 1,972,947,723 سنة)"!!ووفقاً لافتراض الفزاري هذا الذي نقله عنه المؤرخ ابنُ أيْبَك الدَّوَاداري (ت بعد 736هـ/1335م) في كتابه ‘كنز الدرر وجامع الغرر‘؛ فإن المدة الزمنية الفاصلة بين بداية التقويم الهجري ولحظة الانطلاقة المفترَضة للكواكب والنجوم في مسارها من برج الحَمَل هي: مليار وتسعمئة واثنان وسبعون مليونا وتسعمئة وسبعة وأربعون ألفًا وسبعمئة وثلاث وعشرون سنة (= 1,972,947,723 سنة)!!ورغم أن علم الفلك المعاصر يتجاوز بمراحل افتراض الفزاري لعمر الكواكب؛ فإن جسارة محاولة الافتراض التي أقدم عليها -مع ضآلة إمكانيات عصره- تضعنا تماما في الموضع الصحيح الذي يمكننا من خلاله ملامسة العبقرية العلمية الإسلامية في مجال علوم الفلك، خاصة إذا علمنا أن العلماء الفلكيين اليوم يفترضون أنه يوجد ما يقارب 200 مليار تريليون نجم في الكون، ويقدّرون عمر الكون نفسه بـ13.8 مليار سنة، وهو ما يعادل افتراض الفزاري ثلاث مرات تقريبا!!والواقع أن تلك القفزة الهائلة في علوم الكونيات التي أقدم عليها المسلمون جاءت مبنية على مراحل طويلة قطعها الإنسان تأمُّلًا في مجريات الأفلاك والأجرام السماوية من نجوم وكواكب، وترجع تلك المحاولات إلى أقدم عصور التاريخ المسجّل.وهذا أمر طبيعي؛ فالسماء -التي تحيط بالأرض نهارًا بسطوع شمسها وليلا بلمعان نجومها- تجعل الإنسان يتساءل عن ماهيتها وأسرارها، فكيف أُغطِش ليلُها وأُخرِج ضُحاها، وكيف يبزغ قمرها ويتحرك فينتقل من طور إلى آخر منذ لحظة ميلاده، مرورا بكونه بدرًا يملأ السماء نورًا في ظُلمة الليالي، وانتهاءً بخفوت نوره فيتبدّد اضمحلالا ثم يتجدّد استهلالا.. وهكذا دواليْكَ!!كلها بلا شك أسئلة دارت وتدور وستدور في عقل الإنسان ما دام ملتحفًا بالسماء ليلا ونهارًا، ولذا كان سؤال الزمن وكيفية قياسه أحد شواغل الإنسان منذ حقب ما قبل الحضارات المعروفة؛ فقد حاول معرفة قوانين وأزمان دورات الشمس والقمر لتحديد مقاييس الزمن، وهو ما يؤكده مؤرخ الحضارات الأميركي وِلْ ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في ‘قصة الحضارة‘- بقوله "إن الناس قاسُوا الزمن بدورات القمر قبل قياسه بالأعوام بزمن طويل...، وحتى اليوم ترانا نحسب موعد عيد الربيع بأوجه القمر".ولقد تطورت المعرفة العلمية الفلكية تطورا تدريجيا كلما تقدمت المدنية الإنسانية في مدارج الحضارة والعُمران، وجُمعت المعارف السابقة على اللاحقة بفضل جهود عصور التدوين البشرية؛ وهكذا اطّلع المسلمون على هذه المعارف الفلكية من مصادرها الأصلية، فتفهموها وهضموها، ثم نقدوها وصححوا زيوفها بمنهج تجريبي صارم، ثم طوروها وأضافوا إليها -عبْر أبحاثهم الحسابية والرصدية- من المنجزات النظرية والتطبيقية ما قطع بها أشواطا بعيدة في تراث البشرية العلمي المنهجي المتراكم عبر القرون.ومن اللافت أن الاهتمام بالمعارف الفلكية لم يقتصر على علماء المسلمين المتخصصين فيها، بل تعداهم إلى كبار الأئمة من الفقهاء والمحدِّثين بمن فيهم علماء الحنابلة الذين نجد لديهم اهتماما خاصا بإثبات نظرية كروية الأرض، حسبما تعرض شواهدَه هذه المقالة؛ فهذا الإمام ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1119م) كان يطالع كُتُب علوم الهندسة والفلك وينقل مضامينها في سياق البرهنة والاستدلال العلمي المنطقي. وينقل شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي (ت 728هـ/1328م) -في كتابه ‘منهاج السُّنة النبوية‘- إجماعَ المسلمين على إثبات كروية الأرض والأفلاك عموما منذ عصر الصحابة.وتقدّم هذه المقالة لقرائها جولة تاريخية مستفيضة في دروب علم الفلك الإسلامي؛ فتعرّف بملامح نشأته سياقا وتوظيفا، وتتقفّى أبرز معالم تطوراته ومحطات تحولاته، متوقفةً عند أشهر أعلام الشخصيات العاملة في هذا الحقل العلمي الحيوي في نهضة الأمم وتصدُّرها حضاريا، وترصد أهم أعمالهم (نظرياتٍ ومصنَّفاتٍ) في المعرفة الفلكية ومنجزاتهم العملية التطبيقية في آلاتها ومراصدها.كما تُبرز المقالةُ سياقاتِ التبادل الحضاري في هذا المجال بين الحضارة الإسلامية والحضارات الهندية والفارسية واليونانية الغابرة، ثم مع لاحقتها الحضارة الغربية المعاصرة التي انتقل منها هذا التراث العلمي -بعد تحريره وتطويره- إلى بقية أنحاء العالم، لنقف بذلك أمام الحقيقة العلمية التاريخية التي تقول إن "العرب (= المسلمين) هم الذين نشروا علم الفلك في العالم كله في الحقيقة"؛ طبقا لما يؤكده مؤرخ الحضارات الفرنسي غوستاف لوبون (ت 1350هـ/1931م) في كتابه ‘حضارة العرب‘.استيعاب شامل تطورت المعرفة العلمية الفلكية تطورا تدريجيا كلما تقدمت المدنية الإنسانية في مدارج الحضارة والعُمران، وجُمعت المعارف السابقة على اللاحقة بفضل جهود عصور التدوين البشرية المتعاقبة. وعندما جاء الإسلام اطّلع المسلمون على هذه المعارف الفلكية من المصادر اليونانية والفارسية والهندية؛ فكان من أهم مصادر علم الفلك -التي دَرَسوها- تلك التي كتبها العالم الرياضي اليوناني كلوديوس بَطْلُمْيوس/بطليموس (ت نحو 170م) والتي ترجموها في عصور العباسيين الأولى، وهي: كتابه «المَجَسْطي في اقتصاص أصول حركات الكواكب» ورسالتاه «في ظهور الكواكب الثابتة» و«زِيج بَطْلُمْيوس».وقد اشتهر من تلك المصادر الكتابان الأولان اشتهارا واسعًا؛ فكتاب «المَجَسْطي» (Al-Magest) "وصلنا في لغته الأصلية وفي عدة ترجمات عربية؛ [فكان] المرجعَ النموذجي الذي لعب في علم الفلك نفس الدور الذي لعبه كتاب «الأصول» لإقليدس (ت 265ق.م) في الرياضيات"؛ طبقا للباحث الفرنسي ريجيس مورلون في دراسته «مقدمة في علم الفلك»، المنشورة ضمن الكتاب الجماعي ‘موسوعة تاريخ العلوم العربية‘ الصادر بإشراف مؤرخ العلوم رشدي راشد.وقد عرف المسلمون أيضا بعض النصوص الهندية القديمة في علم الفلك مثل «الآرجبهر/آرجبهد» و«زِيج الأركند» و«زِيج السند هند». وفي ذلك يقول المؤرخ الوزير جمال الدين القِفْطي (ت 646هـ/1248م) في كتابه ‘إخبار العلماء بأخبار الحكماء‘: "فمن مذاهب الهند في علوم النجوم المذاهبُ الثلاثة المشهورة عندهم، وهي: مذهب «السند هند» و«مذهب الآرجبهر» ومذهب «الأركند»، ولم يصل إلينا على التحصيل إلا مذهب «السند هند»، وهو المذهب الذي تقلده جماعة من علماء الإسلام وألّفوا فيه الزِّيَجَة (= الأزياج/الزِّيَج)".و"الزِّيج" (بكسر الزاي ومدّه وجمعه: أزْياج وزِيَج وزِيَجَة) مصطلح فلكي منتشر بكثرة في مدونات التأليف الفلكي العربي منذ أقدم العصور، وهو لفظة معرَّبة عن الفارسية وتعني اصطلاحا "الجداول الفلكية" التي ترصد حركة الكواكب وسَيْر النجوم وعلاقاتها الحسابية والرياضية، وهو ما يمكن التعبير عنه بالخرائط الفلكية التي تعدّها وكالات الفضاء اليوم للنجوم والكواكب والمجرات.ويُعرّف ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) -في ‘المقدمة‘- "علم الأزْياج" بأنه "صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته، وما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة وبطء واستقامة ورجوع وغير ذلك، يُعْرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت...؛ [فـ]ـيضعونها في جدول مرتبة تسهيلا على المتعلمين وتسمَّى الأزياج، ويسمى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الصناعة: تعديلا وتقويما".وللزِّيج استخدامات فلكية كثيرة غير التي ذُكرت هنا سنقف على بعضها لاحقا، ومنها "معرفة الأوْج (= أبعد نقطة يكون فيها الكوكب من الشمس) والحضيض (= عكس الأوْج) والميول، وأصناف الحركات من بعضها"؛ وفقا لابن خلدون.وقد اعتمد الفلكيون المسلمون على القوانين والمؤلفات الفلكية المعروفة منذ ما قبل الإسلام، والتي -كما سنرى- كشفوا أغلاطها وصححوها ثم أضافوا إليها مكتشفات من أبحاثهم الحسابية الرياضية والرصدية؛ حتى إن مؤرخ العلوم العربية د. جورج صليبا يرى -في كتابه ‘العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية‘- أنه "عندما بلغ علمُ الفلك الإسلامي النضجَ النظري... بعد القرن الثالث عشر (الميلادي/السابع الهجري)، أصبح من الصعب إيجاد عالم فلكي جِدّي لم يحاول إعادة صياغة علم الفلك اليوناني في هذه القرون اللاحقة؛ ففي تلك الفترة لم يَعُدْ بالإمكان لأيٍّ من ممارسي علم الفلك أن يُؤخَذ على محمل الجِد إلا إذا بذل مجهودا لحل مشاكل علم الفلك اليوناني الشائكة"!!وتخبرنا المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (ت 1420هـ/1999م) -في كتابها ‘شمس العرب تسطع على الغرب‘- عن الواقعية العلمية التي دفعت العلماء المسلمين إلى ذلك التطوير الثوري لعلم الفلك حتى لكأنه تجددت له نشأة أخرى على أيديهم؛ فتقول: "لئن أدرك الإغريق دوماً أن الشمول في نظرة واحدة كاملة، واكتشفوا النظام البديع والترتيب العقلاني في كل الظواهر الطبيعية؛ فإن العرب كانوا يرون الهدف العلمي الذي من أجله يهيئون أنفسهم بكلياتها ليس في إجراء تحقيق واحد أو عشرة تحقيقات فحسب، بل في المئات الكثيرة منها".وترى هونكه أن ثمة حاجات دينية ودنيوية دفعت المسلمين إلى اقتحام علم الفلك، وهضم كل المعارف الفلكية السابقة الواصلة إليهم من الهنود والفُرس والإغريق؛ "فلما كان العربي يسعى دوما إلى ربح مكسب مادي (= فائدة عملية) لتحقيقاته العلمية أولا بأول: كالقيام بالصلاة في مواعيدها المحددة، وتمييز ظهور القمر في شهر رمضان في لحظته الأولى، وتحديد سبل سير القوافل في الصحاري التي تقرر المصير في الموت أو في الحياة؛ فإنه كان يعلق اهتمامه الكبير على النتائج ومدى دقتها، على خلاف الإغريق الذين كانوا يتساهلون غالبا في الدقة، ويُهملون -عن رضا- كثيرًا من الحسابات العويصة. إن الأبحاث التي حققها العرب في ميدان علم الهيئة والتنجيم -تلبيةً لحاجاتهم اليومية- تطورت تطورًا كبيرا حتى أصبحت أسُسًا جديدة لعلم الفلك".ولهذه الأسباب اندفع المسلمون إلى ترجمة وتعريب كل ما كُتب عن علوم الفلك في الحضارات السابقة؛ فقد عرفوا بعض الأزياج الفارسية القديمة مثل «زيج الشاه» الذي يصفه المستشرق الروسي كراتشكوفسكي (ت 1371هـ/1951م) –في ‘تاريخ الأدب الجغرافي العربي‘- بأنه "كان أكثر مصنفات المذهب الفلكي الإيراني انتشارا في اللغة العربية، بل وربما كان الوحيد من نوعه؛ إذْ لا علم لنا بوجود ترجمات لمصنفات أخرى، ومن المحتمل أن الفُرس لم تعرف في هذا الفن كُتُبا غيره".وجاء ذكْر «زِيج الشاه» هذا لدى الجغرافي ابن رُسْتَه الفارسي (ت 300هـ/912م) في كتابه ‘الأعلاق النفيسة‘، فقال إن المنجّمين وعلماء الفلك -حتى عصر الخليفة المأمون العباسي (ت 218هـ/833م)- كانوا "لا يجدون الأحكام تصحّ إلا من «زِيج الشاه»، فقد أرّخوه بملك يَزْدَجِرد بن شَهْريار (ت 30هـ/651م) آخر مَن مَلكَ من ملوك العجم"، أي ملوك الفُرس الساسانيين. وقد أوضح كراتشكوفسكي ما أجمله ابن رُسْتَه هنا بقوله إن هذا الزيج "يبدأ حساب توقيته ببداية مُلْك يزدجرد [الثالث]، أي في اليوم السادس عشر من شهر يونيو عام 632" ميلادية الموافقة لسنة 12 هجرية.اهتمام مبكر ولئن اطلع المسلمون على المصادر اليونانية والفارسية والهندية التي أُلِّفت قبل الإسلام في علوم الفلك/الهيئة والتنجيم؛ فإن ذلك لا يعني انتفاء الحركة العلمية الفلكية بالعراق وبلاد الشام خلال العصر الإسلامي المبكر، ولاسيما عند العلماء السريان مثل القس ساويرا سابوخت (ت 47هـ/667م) والقس يعقوب الرُّهاوي (ت 89هـ/708م) في القرن الأول الهجري/السابع الميلادي.وقد ذكرت مصادر التاريخ الأموي المبكر أخبارًا متفرقة عن اهتمام المسلمين بالظواهر الفلكية، وبعض ذلك كان امتدادا للتراث العربي الجاهلي في هذا المجال؛ ذلك أنه في الجاهلية "لم تقف معرفة البدو عند القمر وحده، بل عرفوا جيدا الكواكب التي احتلت المكانة الأولى بينها الزّهرة (Venus) وعطارد (Mercury)، أما فيما يتعلق بالنجوم فقد عرفوا منها ما لا يقل عن مئتين وخمسين نجما في تسميتها العربية الخالصة، جمعها بعناية فائقة في القرن العاشر الفلكي عبد الرحمن الصوفي (ت 376هـ/986م)"؛ حسب كراتشكوفسكي.بل إن المؤرخ جورج صليبا توصَّل -في بحث له عن المعارف الفلكية عند عرب الجاهلية وأشار إليه في كتابه ‘العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية‘- إلى أن "العلوم الفلكية التي يمكن توثيقها من تلك الفترة لم تكن مختلفة كثيرَ الاختلاف -من حيث النوع- عن العلوم التي كانت متداولة في المناطق المجاورة، مثل بيزنطة أو إيران الساسانية أو حتى الهند"!!فمن معارف التراث العربي الجاهلي في مجال الفلك ما كانوا يسمَّونه "الأنواء"، ويعرِّفها كراتشكوفسكي بأنها "التنبُّؤ بحالة الطقس وتحديد فصول السنة الملائمة للزراعة نتيجة لخبرة طويلة الأمد بمراقبة طلوع ومغيب نجوم معينة"، ثم يشير إلى أنه بلغت مؤلفات المسلمين فيها التي بلغتنا عناوينها "أكثر من عشرين.. في القرنين التاسع والعاشر [الميلادييْن/الثالث والرابع الهجرييْن] وحدهما".ومن تطبيقات ثقافة "الأنواء" تلك في العصر الإسلامي ما رُوي من أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/696م) قال يوما للإمام أبي عامر الشَّعْبي (ت 106هـ/725م): "من أين تهبّ الريح؟ فقال: لا علم لي يا أمير المؤمنين! فقال عبد الملك: أما مَهَبّ [ريح] الشمال فمن مطلع بنات نَعْش (= سبعة نجوم شمالية بكوكبة الدب الأكبر) إلى مطلع الشمس، وأما مهب الصَّبا فمن مطلع الشمس إلى مطلع سُهيل (= نجم جنوبي)، وأما الجنوب فمن مطلع سُهَيل إلى مغرب الشمس، وأما الدَّبُور فمن مغرب الشمس إلى مطلع بنات نعش"؛ وفقا للمسعودي (ت 346هـ/957م) في كتابه ‘مروج الذهب ومعادن الجوهر‘.وقد اشتهرت الأخبار التاريخية التي تفيد بأن الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ/704م) كان شاعرا مثقفا، وعالما مهتما بعلوم عدة منها علم الفلك الذي عُرف عند المسلمين أولا بـ«علم الهيئة» أو «علم النجوم»، وقد وصلَنا من الآثار المنسوبة إلى هذا الأمير أبيات شعرية في التنجيم تسمَّى «ديوان النجوم»، وذكر المؤرخ الألماني كارل بروكلمان (ت 1376هـ/1956م) أن نسخة منها توجد بمكتبة كوبريللي وأخرى في مكتبة جار الله، والمكتبتان كلتاهما في إسطنبول التركية.ومما يؤيد اهتمام الأمير خالد بعلم الفلك اقتناؤه بعض آلاته الأثرية البالغة النفاسة، وكانت ضمنها كُرَة نحاسية تبسط بعض المسائل الفلكية وهي -على ما يقال- من صُنع الفلكي اليوناني بطلميوس نفسه؛ وفقا لما أورده المؤرخ القِفْطي في رواية عن عالم فلكي مسلم -في الدولة الفاطمية- سمّاه ابن السنبدي (ت بعد 435هـ/1044م)، ووصفه بأنه "رجل كان بمصر، وهو من أهل المعرفة والعلم والخبرة بعمل الأَسْطُرْلاب (= آلة فلكية قديمة تكشف حركة الأجرام السماوية وكيف تبدو السماء في مكانٍ معيّن عند وقتٍ محدَّد) والحركات، وقد رأينا من عمله آلات حسنة الوضع في شكلها، صحيحة التخطيط".فقد حكى ابن السنبدي هذا أن الإدارة الفاطمية بمصر ضمّته -في سنة 435هـ/1044م- إلى لجنة فنية أوكلت إليها مهمةَ صيانة وفهرسة «خزانة الكتب» الفاطمية الكبرى بالقاهرة، ثم أضاف قائلا: "وحضرتُ لأشاهد ما يتعلق بصناعتي (= علوم الفلكية والرياضية) فرأيتُ من كتب النجوم والهندسة والفلسفة خاصة ستة آلاف وخمسمئة جزء، وكرةَ نحاسٍ من عمل بطلميوس وعليها مكتوب: «حُمِلت هذه الكرة من الأمير خالد بن يزيد بن معاوية»، وتأمّلنا ما مضى من زمانها (= تاريخ صنعها) فكان ألفا ومئتين وخمسين سنة"!! والظاهر أن هذه الكرة الفلكية صُنعت قبل عصر بطلميوس لأن المسافة الزمنية بينه وبين السنبدي أقلّ من عمرها المذكور بنحو 350 سنة.ولم تكن كرة خالد الفلكية إلا مقدمة لغيرها من آلات مماثلة اخترعها الفلكيون المسلمون، ومن أهم نظائرها تلك التي وصلت إلى عصرنا وتحدث عنها المؤرخ وِلْ ديورانت -في ‘قصة الحضارة‘- فقال إنه "في عام 1081 (474هـ) صنع إبراهيم السَّهْلي (الأندلسي المتوفى بعد 478هـ/1085م) -أحدُ علماء بلنسية- أقدمَ كرة سماوية معروفة في التاريخ! وقد صُنعت هذه الكرة من النحاس الأصفر وكان طول قطرها 209 ملليمتر (5.81 بوصات)؛ وحُفر على سطحها 1015 نجماً مقسمة إلى سبعة وأربعين كوكبة، وتبدو النجوم فيها حسب أقدارها"!! |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: العالِم والفلكي المسلم محمد بن إبراهيم الفَزَاري (ت 189هـ/815م) الأربعاء 06 نوفمبر 2024, 1:06 pm | |
| اندفاعة عباسية ورغم تلك الأخبار والآثار المُنْبئة باهتمام واضح بعلم الفلك في عصر الأمويين؛ فإننا "لا نعثر على أي أثر [مكتوب] للجغرافيا الفلكية بين العرب في ذلك العصر. ولكنها تندفع فجأة كسيل جارف في نهاية القرن الثامن (الميلادي = الثاني الهجري)، ولا تكتفى بإبراز فرع جديد فحسب بل تُحدِث تحوُّلا ملحوظا في الفروع الأخرى التي تشكلت آنذاك" في ميدان الجغرافيا عامة؛ وفقا لكراتشكوفسكي.وهذا "السيل الجارف" لأعلام وأعمال الفلك الإسلامي اهتمّ برصد طبقاته وشخصياته المستشرق السويسري هَيْنْرِخ سُوتر (ت 1340هـ/1922م)، الذي صَنَّف كتابا بالألمانية عنوانه: «أصحاب الرياضيات والفلك عند العرب وتصانيفهم»، وقد "روى فيه -بغاية الاختصار- تراجمَ نيِّف وخمسمئة رجل ممن اشتغلوا من العرب بالهيئة أو العلوم الرياضية، وذكر أسماء أكثر مصنفاتهم مع بيان ما نشر منها بالطبع، وما يعرف وجوده بنسخ خطية في مكاتب الغرب والشرق"؛ وفقا للمستشرق الإيطالي المتخصص في التراث الفلكي الإسلامي كارلو نلّينو (ت 1358هـ/1938م) في كتابه ‘علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى‘.وقد ذهب مؤرخو علم الفلك إلى أن أول عالم مسلم اهتمّ بعلم الفلك اهتماما علميا منهجيا هو محمد بن إبراهيم الفَزاري (ت 189هـ/815م) الذي برع في علم الفلك، وتعلم لهذا الغرض لغات أجنبية منها السنسكريتية الهندية. ويخبرنا القفطي -وهو المعروف بتتبعه النشيط لأخبار وآثار علماء المسلمين في العلوم التجريبية حتى عصره في منتصف القرن السابع الهجري/الـ13م- أن الفزاري "خبير بتسيير الكواكب، وهو أول من عُني فِي الملة الإسلامية وَفِي أوائل الدولة العباسية بهذا النوع".ولهذا السبب جعله الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (ت 158هـ/775م) على رأس علماء الفلك في دولته، وكلفه مهمة ترجمة زيج «السند الهند» من اللغة الهندية إلى العربية، كما أمَر المنصور بـ"أن يؤلَّف منه كتاب تتخذه العرب أصلاً فِي حركات الكواكب، فولِيَ ذَلِكَ محمد بن إبراهيم الفزاري وعمل منه كتاباً يسميه المنجمون: «السند الهند الكبير»".وقد افترض الفزاري -كمن سبقوه من علماء الفلك- أن جميع الكواكب والنجوم والأجرام كان مبتدؤها من بُرج الحَمَل في السماء، ثم "قدّر لكلّ واحد منها سَيْرا معلوما فسارت من هناك، وإنّها لا تجتمع في المكان الذي بدت منه إلاّ بعد أربعة آلاف ألف ألف وثلاثمئة ألف ألف وعشرين ألف سنة (= 4,300,020,000/أربعة مليارات و300 مليون و20 ألف سنة)، ثمّ يقضي الله -عزّ وجلّ- فيها ما شاء ممّا سبق في علمه وقدرته. وإنّ الماضي من هذه الجملة -أعني المدّة المذكورة- إلى الهجرة: ألف ألف ألف وتسعمئة واثنان وسبعون ألف ألف وتسعمئة وسبعة وأربعون ألفا وسبع مئة وثلاث وعشرون سنة (= 1,972,947,723 سنة)"؛ طبقا للدَّوَاداري (ت بعد 736هـ/1335م) في ‘كنز الدرر وجامع الغرر‘.ووفقا لافتراض الفزاري هذا؛ فإن المدة الزمنية الفاصلة بين بداية التقويم الهجري ولحظة الانطلاقة المفترضة للكواكب والنجوم في مسارها من برج الحَمَل هي: مليار وتسعمئة واثنان وسبعون مليونا وتسعمئة وسبعة وأربعون ألفًا وسبعمئة وثلاث وعشرون سنة (= 1,972,947,723 سنة)!!ورغم أن علم الفلك المعاصر يتجاوز بمراحل افتراض الفزاري لعمر الكواكب؛ فإن جسارة محاولة الافتراض التي أقدم عليها -مع ضآلة إمكانيات عصره- لا ينقضي منها العجب والإعجاب، خاصة إذا علمنا أن العلماء الفلكيين اليوم يفترضون أنه يوجد ما يقارب 200 مليار تريليون نجم في الكون، ويقدرون عمر الكون نفسه بـ13.8 مليار سنة، وهو ما يعادل افتراض الفزاري ثلاث مرات تقريبا!!وإذا كان العلماء المسلمون (عربا وعجما) قد شككوا في أرقام الفزاري وتوقعاته، لاعتماده على زِيَج (جداول) حسابات «السند الهند» القديمة فقط؛ فإننا نعدّه أول عالم مسلم يُدرك -قبل 1300 سنة من الآن- ما توصلت إليه وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) -في يومنا هذا وبإمكانيات هائلة في المال والرجال والآجال- من تقدير لأعمار النجوم والكواكب والمجرات بمليارات وملايين السنين الضوئية، علما بأن وكالة ناسا الفضائية الأميركية تقدِّر -على موقعها الإلكتروني- السنةَ الضوئية بـ9.46 تريليونات كيلومتر سنويا!!ويزداد العجب من صنيع الفزاري إذا علمنا أن "معظم النجوم التي نراها بالعين المجردة في الغالب- على أبعاد [من الأرض] تتراوح بين المئتين والثلاثمئة سنة نورية (= سنة ضوئية)"!! وفقا للعلّامة الفلكي اللبناني منصور حنا جرداق (ت 1384هـ/1964م) في كتابه ‘أصول علم الفلك الحديث‘.وحتى فيما يتعلق بمعايير قياسات السرعة في الفضاءات الشاسعة المسافات؛ فإننا نجد أن علماء الفلك المسلمين وضعوا اللبنة الأولى في توجُّه العلماء اليوم لاعتماد سرعة الضوء معيارا نموذجيا لتقدير القياسات الفلكية، فالعالم الفلكي أبو الريحان البِيرُوني (ت 440هـ/1049م) "قرّر أن سرعة الضوء أكبر بكثير من سرعة الصوت"؛ حسبما يعزوه إليه مؤرخ العلوم المستشرق الإسباني خوان فيرنيه (Juan Vernet ت 1432هـ/2011م) في بحثه عن إسهامات المسلمين في علم الفلك المنشور ضمن الكتاب الاستشراقي الجماعي ‘تراث الإسلام‘.ومن اللبنات الأولى التي وضعها علم الفلك الإسلامي على درب السبق العلمي والمصطلحي في مجال الفلك؛ تداول مؤلفاته لافتراضات يظن كثيرون أنها وليدة عصرنا هذا، ومن ذلك نظرية "الثقوب السُّود/السوداء" الفلكية التي نجد إشارات إليها -في بعض كتب تراثنا العلمي الفلكي- بمصطلح "الآبار" بدلا من "الثقوب"؛ فقد ذكر هذا المصطلحَ المؤرخُ الكاتب محمد بن أحمد البَلْخي الخوارزمي (ت 387هـ/998م) وشَرَحه -في كتابه ‘مفاتيح العلوم‘- قائلا: "الآبارُ: دُرَجٌ في البُروج إذا بلغتها الكواكب نُحِسَتْ (= اختفتْ/أظلمتْ) فيها، واحدها: بئر".والطريف أن وكالة "ناسا" الفضائية تعبّر بـ"الآبار" عن "الثقوب السُّود" الفلكية؛ فقد جاء في موقعها العربي الإلكتروني تعريف لها يقول: "تعتبر «الثقوب السوداء» نتيجةً نهائية لانهيار النجوم الثقيلة، وهي «آبار» في نسيج الزَّمَكان (= الكون/الفضاء بالأبعاد الثلاثة مضافا لها الزمان)، يصل عمقُها إلى درجة لا تسمح لأي شيء -حتى الضوء- بالهرب منها"!!تطوير متعاظم مع مطلع القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي؛ جاء عالم الرياضيات والفلك محمد بن موسى الخوارزمي (ت بعد 232هـ/850م) ليختصر ويُعدّل ما قام به الفزاري من قبله بأكثر من نصف قرن، بناء على توصية من الخليفة العباسي المأمون الذي كان قد أنشأ ببغداد "بيت الحكمة" الذي يُعدّ أولَ مؤسسة علمية أو أكاديمية بحثية في تاريخ الإسلام.وقد اهتمت هذه المؤسسة بالترجمة والعلوم التجريبية ومنها الفلك، ومن خلال ذلك تواصل التطوير "لمدرسة بغداد [الفلكية] التي دام زمن ازدهارها سبعة قرون (750–1450م [/132-854هـ])"؛وفقا للمستشرق الفرنسي غوستاف لوبون (ت 1350هـ/1931م) في كتابه ‘حضارة العرب‘.وقد استند العالم الفلكي الخوارزمي إلى ما قام به الفزاري من أبحاث فلكية، لكنه أدخل عناصر من علم فلك بطلميوس اليوناني. ويتضح من «زيج الخوارزمي» أنه وضع جداول لحركات الشمس والقمر والكواكب الخمسة المعروفة آنذاك، مع شرح لطريقة استخدامها العلمي.وقد أعجَب عمله هذا العلماء "فاستحسنه أهلُ ذَلِكَ الزمان من أصحاب [زيج] «السند هند»، وطاروا به في الآفاق، وما زال نافعاً عند أهل العناية بالتعديل (= الحساب الفلكي) إِلَى زماننا هَذَا"، فالتعديل الذي أدخله الخوارزمي على زيج «السند هند» الفلكي ظل مستخدما حتى القرن السابع الهجري/الـ13م؛ وفقا للقفطي الذي توفي منتصف هذا القرن.ولئن كان الفزاري هو أولَ عالم يُعتدّ به في الحضارة الإسلامية له اهتمام علمي بالمصادر والأعمال الفلكية الهندية ونقْلها إلى العربية، ولاسيما زيج «السند هند»؛ فإن محمد بن كثير الفَرْغاني (ت بعد 247هـ/862م) -الذي جاء بعده بنصف قرن وكان أيضا زميلا للخوارزمي في مؤسسة "بيت الحكمة" العباسية- كان أول عالم مسلم يتناول تبسيط وتوضيح علم الفلك في مؤلَّف عنوانُه: «كتاب في جوامع علم النجوم».وقد طبع رسالةَ الفرغاني هذه -التي وصفها كراتشكوفسكي بأنها من بين مؤلفات الفلك الإسلامية "تكاد تكون أكثرها شهرة في أوروبا الوسيطة"- المستشرقُ الهولندي يعقوب غوليوس (ت 1078هـ/1667م)، ونُشرت بعد وفاته بمدينة أمستردام سنة 1080هـ/1669م.وضمن مصنَّفه هذا؛ يعرض الفرغاني -في ثلاثين فصلا- كيف يظهر الكون بطريقة وصفية لا تتضمن براهين أو معادلات رياضية، ونجد فيه وصفا لمختلف حسابات الأشهر والسنين وفقا للتقاويم العربية والسريانية والبيزنطية والفارسية والمصرية.كما يبْسط الفرغاني القولَ في البرهنة على كروية السماوات والأرض التي اتفق علماء الفلك -قبل الإسلام وبعده- على حقيقتها، حتى إنه "ساق بعض البراهين المتداولة في أيامنا هذه لإثبات كروية الأرض، كاختلاف مواعيد طلوع نجم معين أو اختلاف الكسوف باختلاف الأماكن... إلخ"؛ وفقا لكراتشكوفسكي. ومن نصوص الفرغاني في ذلك قوله: "والدليل على ذلك (= كروية الأرض) أن الكواكب جميعا تبدو من المشرق، فترتفعُ قليلاً قليلاً على ترتيب واحد في حركاتها ومقادير أجرامها وأبعاد بعضها من بعض إلى أن تتوسط السماء، ثم تنحدر هابطةً نحو المغرب على ذلك الترتيب والنظام".ومن اللافت أن القول بكروية الأرض لدى المسلمين لم يقتصر على علماء الفلك، بل تعداهم إلى كبار الأئمة من الفقهاء والمحدِّثين ولاسيما من علماء الحنابلة؛ فهذا الإمام ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1119م) كان يطالع كُتُب علوم الهندسة والفلك وينقل مضامينها في سياق البرهنة والاستدلال العلمي المنطقي.ومن ذلك هذا النص الثمين الذي يتحدث فيه عن مفاهيم فلكية وجغرافية مثل كروية الأرض وخط الاستواء، والذي خلده لنا الإمام الحنبلي أبو الفرَج ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) في ‘المنتظم‘: "قال أبو الوفاء بن عقيل: ونقلتُ من ‘كتاب الهندسة‘: ذَكَرَ علماءُ الهندسة أن الأرض على هيئة الكرة على تدوير الفلك، موضعُهـ[ـا] في جوف الفلك كالمُحّة (= صفَار البَيض) في جوف البيضة…؛ والأرض مقسومة نصفين بينهما خطُّ الاستواء، وهو [يمتدّ] من المشرق إلى المغرب، وهو طول الأرض، وهو أكبر خط في «كرة الأرض»"!!ويقرر شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي (ت 728هـ/1328م) إثباتَ كروية الأرض ناقلا -في كتابه ‘مجموع الفتاوى‘- "إجماعَ" المسلمين الفقهي على إثباتها كما هو حال علماء الفلك قديما وحديثا؛ فها هو يقول: "اعلم أن «الأرض» قد اتفقوا على أنها كروية الشكل...؛ والأفلاك مستديرة بالكتاب والسنة والإجماع؛ فإن لفظ «الفَلَك» يدل على الاستدارة، ومنه قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}...، وأهلُ الهيئة (= علم الفَلك) والحساب متفقون على ذلك".كما نجده يناقش كثيرا -في ‘منهاج السُّنة النبوية‘ وغيره من كتبه الأخرى- مَنْ "قد ينازعون في استدارة الأفلاك [عموما] ويدّعون شكلا آخر" لها، جازما بأن "الأفلاك مستديرة عند علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، كما ثبت ذلك عنهم بالأسانيد المذكورة في موضعها، بل قد نقل إجماعَ المسلمين على ذلك غيرُ واحد من علماء المسلمين، الذين هم من أخبر الناس بالمنقولات...، وقد دل على ذلك الكتابُ والسُّنة"!!وقد استعرض المستشرق نلّينو -في كتابه ‘علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى‘- مناقشةَ الإمام فخر الدين الرازي الشافعي (ت 606هـ/1209م) لبعض الآراء الفلكية اليونانية بما أثبتت لاحقا الأبحاثُ المعاصرةُ دقةَ رأيه فيه إلى حد كبير، ومن ذلك نظرية "مركز الأرض الذي هو عندهم مركز العالم، وإلى هذا الرأي ذهب فلكيو العرب بأَسْرِهم؛ فلم يرتب فيه إلا القليل من المتكلمين والمتفلسفين مثل الإمام فخر الدين الرازي".ومما يتصل بكروية الأرض مسألة الخلاف في دورانها؛ وقد استعرض نلينو تطور آراء علماء الفلك بشأن اكتشاف دوران الأرض حول محورها منذ عصر الإغريق، واضعا آراء علماء الفلك المسلمين في سياقها التاريخي من ذلك التطور؛ فذكر أن دوران الأرض قال به بعض فلاسفة اليونان وعلماءِ الهند، ثم قال: "أما العرب فلا أدري فيهم أحدا ظن أن الكرة السماوية ساكنة والأرض دائرة على محورها، اللهم إلا أبا سعيد أحمد بن محمد بن عبد الجليل السِّجْزي (ت 477هـ/1084م) الرياضي المشهور" والفلكي البارع.وقد يُستدرك هنا على ما ذكره نلينو بأن العلامة الفلكي البِيروني كان أول من أثبت -في نهاية كتابه "الأَسْطُرْلاب"- أن الأرض تدور حول محورها، سابقا بذلك على الأرجح أبا سعيد السِّجْزي.ثم يربط نلينو تلك الأقوال المبدئية القديمة بشأن دوران الأرض بمعزِّزاتها من أبحاث الفلكيين الأوروبيين في العصر الحديث، مشيرا إلى أنها انتقلت -بعد نحو خمسة قرون من قول السِّجْزي بفرضيتها- إلى دائرة الحقيقة العلمية الثابتة عبر مراحل من الاختبار العلمي. ذلك أنه "عند الإفرنج ما انتشر تعليم حركة الأرض الدورية إلا بعد سنة 1543م (950هـ) لما أوضحه كبرنك (= نيكولاس كوبرنيكوس المتوفَّى 950هـ/1543م) على وجه التخمين المرجَّح...، أما أول من أثبت بالبراهين الواضحة أن هذا الظن لا يناقض القوانين الطبيعية البتة فهو الفلكي والفيلسوف الإيطالي الشهير كلليو كللاي (= غاليليو المتوفَّى 1032هـ/1642م))".ومع كل ذلك؛ فإن الأمر استغرق قرنين آخرين حتى أخذ وضعه العلمي النهائي والحاسم، إذْ "لم يأتِ بالبرهان القاطع على حركة الأرض الدورية إلا [العالم] الطبيعي الفرنسي فوكول (ليون فوكول المتوفَّى 1285هـ/1868م) سنة 1851 (1267هـ)" عبر تجاربه العلمية في باريس.ابتكارات أصيلة ورغم الأهمية الكبرى التي أضافها كتاب الفرغاني إلى المكتبة العربية في علم النجوم والفلك آنذاك؛ فإن هذا العلم ظل يدور كغيره في فلك كتاب «المَجَسْطي» لبطلميوس اليوناني. لكن منذ نهايات القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي انتقل علم الفلك بجهود العلماء المسلمين إلى مرحلة الابتكار الأصيل، وأهم ما تميزت به هذه المرحلة هو وضع "الأزياج" الفلكية والجداول الرياضية.لقد علمنا أن "الأزْيَاج" هي الجداول الفلكية الحسابية التي كان يُعرف بها سَيْر النجوم وحركاتها ومقاييس أحجامها، وكان يُستخرَج بواسطتها التقويم السّنوي حسابيًا، ومن أشهر من تعاطى بمهارة مع فنّ الأزياج محمد بن جابر الحَرّاني المعروف بالبِتّاني (ت 317هـ/929م)، والذي يقول عنه المستشرق غوستاف لوبون إنه "كان له من الشأن بين العرب ما لبطلميوس بين الأغارقة (= اليونان)"!!وقد حرر خلاصة أعماله في مؤلف ضخم أسماه «الزيج الصابئ» الذي "احتوى... على معارف زمنه الفلكية كما احتوى كتاب بطلميوس" على نظيرتها في عصره. ويضيف لوبون أنه بسبب تلك الأعمال الفلكية المتميزة "وَضَع لالاند (الفلكي الفرنسي جوزيف لالاند المتوفى 1222هـ/1807م) الشهيرُ البتانيَّ في صف الفلكيين العشرين الذين عُدُّوا أشهرَ علماء الفلك في العالم"!!وحسب ما يقرره الباحث الفرنسي مورلون في دراسته «علم الفلك العربي الشرقي بين القرنين الثامن والحادي عشر» الميلادييْن/الثاني والخامس الهجريين، المنشورة ضمن الكتاب الجماعي ‘موسوعة تاريخ العلوم العربية‘ المذكور آنفا؛ فإنه كان لكتاب «الزيج الصابئ» تأثير كبير على علم الفلك في الغرب اللاتيني خلال القرون الوسطى وفي بداية عصر النهضة الغربية، وذلك لأنه كان "المؤلَّفَ الكاملَ الوحيدَ في علم الفلك العربي الذي تُرجِم بكامله إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر" الميلادي/السادس الهجري.ويضيف مورلون أن "إسهام البتاني [الفلكي يكمن] في ميدان الرصد الخالص"، ولذلك فإنه استطاع أن يقيس بدقة فائقة مَيْلَ فلك البروج أو دائرة البروج، متخطيا ومصحِّحا الأخطاء التي وقع فيها بطلميوس وبعض علماء الفلك العرب الذين سبقوا البتاني؛ فقد وجد البتاني -بعد رصد دقيق- أن أوْج الشمس (أقرب نقطة يكون فيها الكوكب من الشمس) على فلك البروج يقع على بُعد 22,50,22 (القِيَم العددية تساوي على الترتيب من اليمين: ثانية – دقيقة - درجة) من برج الجوزاء.وتبنى البتاني قيمةً ثابتةً مبادرةَ الاعتدالين التي وردت في «الزيج المُمْتَحَن» الذي كان من واضعيه الفلكي البغدادي يحيى بن أبي منصور الفارسي المنجِّم (ت 230هـ/845م)، وهي المساوية لدرجة واحدة كل 66 سنة، وذلك بعد أن دقق في صحتها، وهذا ما سمح بإعادة حساب أرقام جدول الكواكب الثابتة الوراد في كتاب «المَجَسْطي» لبطلميوس اليوناني، فخفض عددها -بعد دراسة تجريبية ورصدية أكثر دقة- إلى أقل من النصف (489 بدلا من 1022)؛ وفقا لمورلون.والبتاني -كغيره من أهل صنعته الفلكية في الحضارة الإسلامية- لا يتردد في تخطئة بطلميوس في المواضع التي تستحق ذلك، لكنه أيضا يعترف بصحة استنتاجاته "إذا كان قد تقصَّى ذلك من وجوهه، ودلّ على العلل والأسباب العارضة بالبرهان الهندسي والعددي الذي لا تُدفَعُ صحّته، ولا يُشكّ في حقيقته"؛ كما يقول في كتابه ‘الزيج الصابئ‘.وقد جعل البتاني كتابَه هذا شرحا وتوضيحا واستدراكًا وإضافة علمية رصدية تجريبية لما سبقه من مصنفات في علم الفلك؛ فها هو يقول في مقدمته: "أوضحتُ فيه ما استعجمَ، وفتحتُ ما استغلقَ، وبيّنتُ ما أشكل من أصول هذا العلم، وما شذّ من فروعه...، وصححتُ فيه حركات الكواكب ومواضعها من منطقة فلك البروج على نحو ما وجدتُّها بالرصد، وحساب الكُسوفيْن، وسائر ما يُحتاجُ إليه من الأعمال".ولأجل هذه المنهجية العلمية التي اعتمدها البِتّاني؛ اعترف الباحثون الأوروبيون للبتاني بأن "رصده [هو] الأكثر شهرةً بحق، [فقد] رصد تغير زاوية الرؤية لكل من الشمس والقمر، وهذا ما جعله يستنتج -لأول مرة في تاريخ علم الفلك- أن كسوفات الشمس الحلقية ممكنة؛ لأن زاوية رؤية القمر في حدها الأدنى يمكن أن تكون أصغر بقليل من زاوية رؤية الشمس"؛ طبقا لما جاء في ‘قصة الحضارة‘ لديورانت الذي يضيف أن البتاني "وصل بهذه الأرصاد إلى كثير من «المعاملات» الفلكية التي تمتاز بقربها العجيب من تقديرات هذه الأيام".وهذا التميز في أعمال البتاني الفلكية هو ما جعل "كتابَه المؤلَّفَ الوحيد الكبير الأهمية في علم الفلك الشرقي ذي التقليد العربي، الذي عُرف ودُرس حتى عهد قريب نسبيا" في جامعات أوروبا؛ حسب مورلون. وتصديقا لما ذكره هذا الباحث الفرنسي؛ أكد المتخصص في تراث العرب العلمي الدكتور أحمد فؤاد باشا -في كتابه ‘التراث العلمي للحضارة الإسلامية ومكانته في تاريخ العلم والحضارة‘- أن أرصاد البتّاني "عن الكسوف والخسوف اعتمد عليها العلماءُ المحدَثون سنة 1947م في تحديد تزايد عجلة تحرُّك القمر خلال قرن من الزمان"!! |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: العالِم والفلكي المسلم محمد بن إبراهيم الفَزَاري (ت 189هـ/815م) الأربعاء 06 نوفمبر 2024, 1:07 pm | |
| |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: العالِم والفلكي المسلم محمد بن إبراهيم الفَزَاري (ت 189هـ/815م) الأربعاء 06 نوفمبر 2024, 1:08 pm | |
| |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: العالِم والفلكي المسلم محمد بن إبراهيم الفَزَاري (ت 189هـ/815م) الأربعاء 06 نوفمبر 2024, 1:08 pm | |
| |
|