الزوجة التي طلقت طلاقاً رجعياً ترث من زوجها إذا مات وهي في العدة ، وكذلك هو يرثها إذا ماتت وهي في العدة ، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة ، بل حكاه بعض العلماء إجماعاً ، وإليك نصوصهم في ذلك :-
قال ابن المنذر: "وأجمعوا أن من طلق زوجته مدخولاً بها طلاقاً يملك رجعتها وهو صحيح أو مريض فمات أو ماتت قبل أن تنقضي عدتها فإنهما يتوارثان" •
وقال الموفق ابن قدامة: "إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً يملك رجعتها في عدتها لم تسقط التوارث بينهما ما دامت في العدة ، سواء كان في المرض أو الصحة بغير خلاف نعلمه" •
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: "ومن طلق امرأته في مرض موته يقصد حرمانها من الميراث ورثته إذا كان الطلاق رجعياً إجماعاً" •
وقال أيضاً: "هذه المطلقة إن كانت مطلقة طلاقاً رجعياً ومات زوجها وهي في العدة ورثته باتفاق المسلمين" •
وقال ابن حجر الهيثمي: "ويتوارثان" أي من طلق مريضاً والمطلقة (في العدة) طلاقاً (رجعياً) إجماعاً" •
وقال الشيخ عبد الله الشنشوري: "يتوارث الزوجان في عدة الطلاق الرجعي باتفاق الأئمة الأربعة" •
وقد عللوا ذلك بتعليلين :
التعليل الأول : أن المطلقة طلاقاً رجعياً زوجة غير أن لا قسم لها ومن أحكام الزوجية أن كلاً منهما يرث من صاحبه" •
التعليل الثاني : أن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه، ويملك إمساكها بالرجعة بغير رضاها ولا ولي ولا شهود ولا صداق جديد، فكذلك يحصل التوارث بينهما ما دامت في العدة •
حكم إرث الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً
في حال الصحة أو المرض غير المخوف
الكلام في هذا المبحث يشتمل على ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : حكم إرث الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً في حال الصحة •
المطلب الثاني : حكم إرث الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً في حال المرض غير المخوف •
أما المطلب الأول فقد أجمع العلماء على أن الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً في حال صحة الزوج المطلق لا ترث •
وممن حكى الإجماع ابن المنذر حيث قال: "وأجمعوا أن من طلق زوجته ثلاثاً وهو صحيح في كل قرء تطليقة ثم مات أحدهما أن لا ميراث للحي منهما من الميت" •
والموفق ابن قدامة حيث قال: "وإن طلقها في الصحة طلاقاً بائناً أو رجعياً فبانت بانقضاء عدتها لم يتوارثا إجماعاً" •
والشيخ عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة حيث يقول: "وجملة ذلك أن الرجل إذا طلق امرأته في صحته طلاقاً بائناً أو رجعياً فبانت بانقضاء عدتها لم يتوارثا إجماعاً" •
والشيخ إبراهيم الباجوري في التحفة الخيرية على الفوائد الشنشورية حيث يقول: "أما لو كان في الصحة فلا إرث بينهما إجماعاً" •
وقد عللوا ذلك بما يأتي :-
التعليل الأول : أن الزوجية التي هي سبب الميراث قد زالت •
التعليل الثاني : انقطاع صلة الزوجية من غير تهمة تلحق الزوج في ذلك•
المطلب الثالث : حكم إرث الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً في حال المرض غير المخوف ، والمراد بالمرض غير المخوف هو المرض الذي لا يخاف منه في العادة أي لا يسبب الموت غالباً •
وقد اتفق الأئمة الأربعة على أن الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً في مرض الموت غير المخوف لا ترث •
وعللوا ذلك بما يأتي :-
التعليل الأول : أن حكم الطلاق فيه حكم الطلاق في الصحة •
التعليل الثاني : أن الزوج غير متهم بحرمانها من الميراث حال الطلاق•
حكم إرث الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً في حال مرض الموت المخوف
وفيه ستة مطالب :
المطلب الأول : بيان مرض الموت المخوف •
المطلب الثاني : بيان الزوج المتهم بقصد حرمانها من الميراث والذي لا يتهم بذلك •
المطلب الثالث : مذهب الحنفية •
المطلب الرابع : مذهب المالكية •
المطلب الخامس : مذهب الشافعية •
المطلب السادس : مذهب الحنابلة •
المطلب السابع : بيان القول الراجح •
المطلب الأول
بيان مرض الموت المخوف
قد اختلفت عبارات العلماء رحمهم الله في تحديد مرض الموت المخوف وإليك بعض ما وقفت عليه :
1- قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله : "ليس معنى المرض المخوف الذي يغلب على القلب الموت منه أو يتساوى في الظن جانب البقاء والموت ؛ لأن أصحابنا جعلوا ضرب المخاض من الأمراض المخوفة، وليس الهلاك فيه غالباً ولا مساوياً للسلامة ، وإنما الغرض أن يكون سبباً صالحاً للموت فيضاف إليه ويجوز حدوثه عنده ، وأقرب ما يقال ما يكثر حصول الموت فلا عبرة بما يندر وجود الموت منه ، ولا يجب أن يكون الموت منه أكثر من السلامة" •
2- وقال الشيخ عثمان الزيلعي رحمه الله: "ومرض الموت ما يكون سبباً للموت غالباً وإنما يكون سبباً للموت غالباً إذا كان بحيث يزداد حالاً فحالاً إلى أن يكون آخره الموت ، وأما إذا استحكم وصار بحيث لا يزداد ولا يخاف منه الموت لا يكون سبباً للموت كالعمى ونحوه إذ لا يخاف منه؛ ولهذا لا يشتغل بالتداوي" •
3- قال الشيخ سليمان الجمل: "كل ما لا يتطاول بصاحبه معه الحياة" •
4- وقال الشيخ عبد الرحمن الأخضري: "والمراد بالمرض ما كان مخوفاً وهو ما غالب العادة بوقوع الموت منه" •
5- وقال الشيخ مصطفى الزرقاء: "هو الذي يعجز الرجل عن ممارسة أعماله المعتادة خارج البيت ، ويعجز المرأة عن أعمالها المعتادة داخل البيت ويتصل به الموت دون أن يستمر سنة كاملة على حال واحدة من غير ازدياد" •
يتلخص مما نقلت أن مرض الموت المخوف هو ما توافر فيه ثلاثة شروط :-
أ- أن يكون من الأمراض التي يكثر حصول الموت بسببها •
ب- أن يتصل به الموت •
ج- أن يكون المرض قد أعجزه عن القيام بممارسة أعماله المعتادة •
ومن أمثلة الأمراض المخوفة ما يأتي :-
1- مرض البرسام وهو بخار يرتقي إلى الرأس ويؤثر في الدماغ فيختل عقل صاحبه ، ويعرف في الطب الحديث باسم : (أنسفيلاتسي) وهو إلتهاب خلايا الدماغ الحاد •
2- مرض ذات الجنب وهو قروح بباطن الجنب ، ويعرف في الطب الحديث باسم نمونيا وهو إلتهاب حاد رئوي •
3- مرض دوام القيام وهو المبطون الذي أصابه الاسهال ولا يمكنه إمساكه ، وهو إلتهاب معوي حاد •
4- مرض الرعاف الدائم لأنه يصفي الدم فتذهب القوة ، ويعرف في الطب الحديث باسم أبيستاكسي وهو نزيف أنف داخلي •
5- مرض الفالج في أوله وهو داء معروف يرخي بعض البدن، ويعرف في الطب الحديث باسم همي بلبيجيا وهو الشلل •
المطلب الثاني
بيان الزوج المتهم بقصد حرمانه من الميراث والذي لا يتهم بذلك ، يكون الزوج متهماً بقصد حرمانها في الميراث فيما يأتي :-
1- إذا طلق الزوج زوجته ثلاثاً في مرض موته المخوف ابتداء من غير سؤالها •
2- إذا سألته الزوجة أن يطلقها طلاقاً رجعياً فطلقها طلاقاً بائناً •
3- إذا علق طلاق زوجته بالثلاث على ما لا غناء لها عنه شرعاً أو طبعاً؛ وذلك بأن يقول لها: إذا صليت الصلوات الخمس فأنت طالق ثلاثاً، أو قال لها: إذا أكلت أو نمت فأنت طالق ثلاثاً •
4- أن يقر في مرضه المخوف أنه أبانها في صحته ، أو قذفها في صحته ولاعنها في مرضه • والمراد وجود التهمة لا حقيقة القصد •
ويكون الزوج غير متهم بقصد حرمانها من الميراث فيما يأتي :-
1- أن تسأله الزوجة أن يخالعها وهو في مرض موته المخوف فيخالعها بناء على طلبها •
2- أن تسأله الطلاق الثلاث فيطلقها ثلاثاً بناء على طلبها •
3- أن يعلق الطلاق البائن على فعل شيء لها منه بد ؛ وذلك بأن يقول لها: إذا حمرت وجهك فأنت طالق بالثلاث ففعلته عالمة بالتعليق •
4- إذا طلق الزوج المسلم زوجته الذمية أو الأمة في مرض موته المخوف طلاقاً بائناً ثم أسلمت الذمية وعتقت الأمة •
5- أن يعلق الطلاق البائن على شرط في الصحة فيوجد ذلك الشرط في مرض موته المخوف •
المطلب الثالث
مذهب الحنفية
أنها ترث إذا توفي مطلقها وهي في العدة بشرط أن يكون الزوج متهماً بقصد حرمانها من الميراث (1) وإليه ذهب عروة بن الزبير ، والشعبي، والحارث العكلي ، والأوزاعي ، وحماد بن أبي سليمان وابن شبرمة(2)، والإمام الشافعي في القديم (3)، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها الشيخ نصر الله التستري (4)•
وقد استدلوا على ذلك بما يأتي :-
الدليل الأول: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ومنها :-
عن شريح قال أتاني عروة البارقي من عند عمر في الرجل يطلق امرأته ثلاثاً في مرضه أنها ترثه ما دامت في العدة ولا يرثها (5)•
2- عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: قال عبد الرحمن بن عوف: لا تسألني امرأة الطلاق إلا طلقتها فغارت تماضر بنت الأصبغ فأرسلت إليه تسأله طلاقها ••• الأثر ، وفيه: فأرسلت إليه وهو مريض فغضب • وقال: أيضاً هي طالق البتة •• الأثر وفيه فارتفعوا إلى عثمان رضي الله عنه وكان ذلك في العدة فورثها منه (6)•
3- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في المطلقة ثلاثاً وهو مريض ترثه ما دامت في العدة (1)•
4- أنه مروي أيضاً عن عبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنها ترث ما دامت في العدة (2)•
وجه الاستدلال :
أن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم ورثوا المطلقة في مرض الموت ما دامت في العدة ، بل إن عثمان رضي الله عنه ورث تماضر بنت الأصبغ الكلبية ، وقد مات زوجها عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهي في العدة ، بمحضر من الصحابة فلم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً (3)•
وأجيب عن هذا الاستدلال بما يأتي :-
1- أن ما ورد عن عمر، وعائشة، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم قد خالفهم ما ورد عن عثمان رضي الله عنه من توريثه تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف بعد العدة ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم في زمنه •
2- ما ورد في الأثر الثاني من أن عثمان رضي الله عنه ورث تضامر عن عبد الرحمن بن عوف وهي في العدة أن في سنده عمر بن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف قد اختلف عليه ، فمرة روى أن ذلك في العدة، ومرة أخرى روى أن ذلك بعد العدة ، كما نقلت ذلك عن ابن حزم قريباً في تخريج هذا الأثر • وأيضاً قد اختلف علماء الحديث في الاحتجاج بعمر بن أبي سلمة كما نقلت ذلك في تخريج هذا الأثر • وأيضاً الحافظ بن عبد البر، وابن حزم قد صححا أن الثابت فيها أن عثمان رضي الله عنه ورثها بعد انقضاء العدة •
الدليل الثاني : أن توريث الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً في مرض الموت المخوف إذا مات زوجها وهي في العدة •• لأن العدة حق من حقوق النكاح كبقاء النكاح في حكم التوريث باتفاق الصحابة رضوان الله عليهم •
وأجيب عن هذا التعليل بما يأتي :-
1- أن هذا التعليل مخالف لقضاء عثمان رضي الله عنه بتوريث تماضر بنت الأصبغ الكلبية بعد انقضاء العدة •
2- أن التوريث ليس مناطه كونها ما زالت في العدة وإنما مناطه معارضة قصده ؛ حيث قصد منعها من الميراث ، فعورض بنقيض قصده، وهذا حاصل سواء كانت في العدة أو بعد العدة •
وعلل الحنفية على أنها لا ترث بعد العدة بأنه لما انقضت عدتها حل لها أن تتزوج ، وذلك دليل حكمي مناف للنكاح الأول فلا يبقى معه النكاح حكماً كما لو تزوجت •
وأجيب عنه بما ورد قريباً في فقرة رقم 2 فأغنى عن إعادته •
تنبيه : خص الحنفية ميراثها في العدة بشرط عدم الردة حيث قال السرخسي رحمه الله ما نصه: "وإذا طلق المريض امرأته ثلاثاً ثم ارتدت عن الإسلام والعياذ بالله ثم أسلمت ومات وهي في العدة فلا ميراث لها؛ لأنها بالردة صارت مبطلة حقها ؛ لأنها تخرج بها من أن تكون أهلاً للميراث فلا يعود حقها بالإسلام بعد ذلك" •
المطلب الرابع
مذهب المالكية
ترث مطلقاً سواء كان متهماً بقصد حرمانها من الميراث أو غير متهم بذلك، وسواء كانت في العدة أو بعد العدة، وسواء تزوجت أو لم تتزوج •
وإليه ذهب ربيعة ، والليث بن سعد ، وهو رواية عن الإمام أحمد أن غير المتهم ترث منه الزوجة ، كالمتهم ، اختارها السامري ، وشيخ الإسلام ابن تيمية •
وقد استدلوا على ذلك بما يأتي :-
الدليل الأول : الآثار عن الصحابة رضوان الله تعالى عنهم ومنها :-
1- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف : أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته البتة وهو مريض فورثها عثمان بن عفان رضي الله عنه منه بعد انقضاء عدتها •
2- عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "إذا طلقها وهو مريض ورثتها منه ولو مضى سنة لم يبرأ أو يموت" •
3- عن الشعبي أن أم البنين بنت عيينة بن حصن كانت تحت عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فلما حصر طلقها وقد كان أرسل إليها ليشتري منه ثمنها فأبت ، فلما قُتل أتت علياً رضي الله عنه فذكرت ذلك له فقال تركها حتى إذا أشرف على الموت طلقها فورثها •
وجه الاستدلال : تدل هذه الآثار على أن المطلقة طلاقاً بائناً في المرض المخوف ترث من زوجها ولو خرجت من العدة ، بل إن قضاء عثمان رضي الله عنه بتوريث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، وكان طلقها في مرضه فبتها واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر فكان إجماعاً •
الدليل الثاني : أنه قصد قصداً فاسداً في الميراث فعورض بنقيض قصده كالقاتل القاصد استعجال الميراث يعاقب بحرمانه •
الدليل الثالث : أن سبب توريثها فراره من ميراثها وهذا المعنى لا يزول بانقضاء العدة معاملة بنقيض قصده •
وعللوا على أن غير المتهم ترث منه الزوجة ؛ لأنه طلقها في مرضه •
وأجيب عنه أن هذا لم يقصد قصداً فاسداً فيعامل بنقيض قصده •
وعللوا توريثها بعد أن تتزوج بزوج آخر بما يأتي :-
التعليل الأول : أن سبب توريثها فراره من ميراثها ، وهذا المعنى لا يزول بزواجها زوجاً آخر •
التعليل الثاني : أنها شخص يرث مع انتفاء الزوجية فورثها معها كسائر الوارثين •
وأجيب عن هذين التعليلين بما يأتي :-
1- أن هذه الزوجة بزواجها أتت بما ينافي النكاح الأول برغبتها فينتفي توريثها ، وليست مثل العدة ؛ لأن العدة تنتهي بقضاء الله وقدره ، وليست برغبتها •
2- ما قاله السرخسي رحمه الله ؛ حيث يقول: "وما قاله مالك من بقاء الميراث بعد التزوج بعيد ؛ لأن المرأة الواحدة لا ترث من زوجين بحكم النكاح ، وما قاله يؤدي إلى هذا" •
المطلب الخامس
مذهب الشافعية
الصحيح عند الشافعية أنها لا ترث مطلقاً ، وممن صححه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي • وقد قال الشيخ إبراهيم الباجوري: "فلا ترث عندنا معاشر الشافعية مطلقاً" •
وإليه ذهب الظاهرية •
واستدلوا على ذلك بما يأتي :-
الدليل الأول : أنه مروي عن عبد الرحمن بن عوف وعن أخيه عبد الله ابن عوف وهو مذهب عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم ، وهو رواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه •
وأجيب عن ذلك بما يأتي :-
1- ما قاله الموفق بن قدامة رحمه الله ؛ حيث يقول: "ولم يثبت عن علي ولا عبد الرحمن خلاف في هذا ، بل قد روى عروة عن عثمان أنه قال لعبد الرحمن : لئن مت لأورثنها منك ، قال: قد علمت ذلك" •
2- ما قاله الشارح عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة ؛ حيث يقول: "وما روي عن ابن الزبير إن صح فهو مسبوق بالإجماع" •
الدليل الثاني : أن الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً قد بانت منه قبل موته فانقطع إرثها منه كالطلاق في الصحة •
الدليل الثالث : أن الله تعالى أباح الطلاق وقطع بالثلاث وبالطلاق قبل الوطء جميع الحقوق الزوجية من النفقة وإباحة الوطء والتوارث •
وأجيب عن هذين التعليلين بما يأتي :-
1- أنه مخالف لما قضى به عثمان رضي الله عنه ؛ حيث ورث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، وقد اشتهر هذا القضاء ، فلم ينكره أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على عثمان رضي الله عنه •
2- أن هذا مخالف لقاعدة سد الذرائع ؛ حيث إن هذا المطلق قصد قصداً فاسداً في الميراث فعورض بنقيض قصده •
3- أن قياس هذه المسألة على القاتل في منعه من الإرث أولى من قياسها على الطلاق في الصحة ؛ لأن هذا المطلق أشبه القاتل من جهة أن القاتل يستعجل ميراث مورثه ، والمطلق يستعجل حرمان زوجته من الإرث•
المطلب السادس
مذهب الحنابلة
أنها ترث ما لم تتزوج أو ترتد إذا كان زوجها متهماً بقصد حرمانها من الميراث •
وإلى كونها ترث ما لم تتزوج ذهب الحسن البصري ، وحميد الطويل ، وعثمان البتي ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى •
واستدلوا على توريثها بما استدل به المالكية في المطلب الرابع فأغنى عن إعادته •
وعللوا عدم توريثها إذا تزوجت بزوج آخر بما يأتي :-
التعليل الأول : أن هذه وارثة من زوج فلا ترث زوجاً سواه كسائر الزوجات •
التعليل الثاني : أن التوريث في حكم النكاح فلا يجوز اجتماعه مع نكاح آخر كالعدة •
التعليل الثالث : أنها فعلت باختيارها ما ينافي نكاح الأول فأشبه ما لو كان فسخ النكاح من قبلها •
وعللوا عدم توريثها إذا ارتدت ثم أسلمت بأنها فعلت ما ينافي النكاح أشبه ما لو تزوجت •
المطلب السابع
بيان القول الراجح
في النظر فيما استدل به أو علل به أصحاب الأقوال السابقة وما أجيب به عن بعض الأدلة أجد ما يأتي :-
أولاً : أن ما استدل به الحنفية من اثار الصحابة رضي الله عنهم قد أجيب عنها • وكذلك أجيب عن ما عللوا به من تخصيص ذلك بالعدة •
ثانياً : أن ما علل به المالكية من أن غير المتهم ترث منه الزوجة وأنها ترث إذا تزوجت آخر قد أجيب عنه •
ثالثاً : أن ما استدل به الشافعية من آثار الصحابة رضي الله عنهم قد أجيب عنها ، وكذلك أجيب عن ما عللوا به من أن الزوجة أصبحت بائنة منه، وأن الطلاق قد قطع الميراث •
رابعاً : أن ما استدل به المالكية ، والحنابلة من توريث المطلقة من المتهم بقصد حرمانها من الميراث فهو استدلال وجيه •
خامساً : أن ما علل به الحنابلة على تقييد ذلك بالمتهم وبالزوجة التي لم تتزوج فهو تعليل وجيه •
سادساً : أن ما علل به الحنفية ، والحنابلة على تقييد ذلك بالزوجة التي لم ترتد فهو تعليل وجيه •
سابعاً : قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله ما نصه: "ثم على هذا هل ترث بعد انقضاء العدة ، والمطلقة قبل الدخول ، على قولين للعلماء أصحهما أنها ترث أيضاً ، وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وقول للشافعي؛ لأنه قد روي أن عثمان ورثها بعد انقضاء العدة ؛ ولأن هذه إنما ورثت لتعلق حقها بالتركة لما مرض مرض الموت وصار محجوراً عليه في حقها وحق سائر الورثة ، بحيث لا يملك التبرع لوارث ولا يملكه لغير وارث بزيادة على الثلث ••• وهذا هو طلاق الفار المشهور بهذا الاسم عند العلماء وهو القول الصحيح الذي أفتي به" •
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله أيضاً: "وإن كان الطلاق بائناً كالمطلقة ثلاثاً ورثته أيضاً عند جماهير أئمة الإسلام وبه قضى أمير المؤمنين عثمان بن عفان •••• فشاور عثمان الصحابة فأشاروا على أنها ترث منه ولم يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك خلاف وإنما ظهر الخلاف في خلافة ابن الزبير فإنه قال: لو كنت أنا لم أورثها وابن الزبير قد انعقد الإجماع قبل أن يصير من أهل الاجتهاد ، وإلى ذلك ذهب أئمة التابعين ومن بعدهم ، وهو مذهب أهل العراق كالثوري ، وأبي حنيفة وأصحابه ، ومذهب أهل المدينة كمالك وأصحابه ، ومذهب فقهاء أهل الحديث كأحمد بن حنبل وأمثاله" •
ثامناً : أن سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله قرر مذهب الحنابلة • وكذلك رجحه فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان وبنى ترجيحه على ما يأتي :-
أ- صحة ما عللوا به من قيام سبب التوريث في العدة وبعدها فحصرها كما يقول الأحناف لا وجه ؛ لأن البينونة منه حاصلة في العدة وبعدها وإنما ورثوها منه معاملة بنقيض قصده وسداً للذريعة •
ب- أن مذهب الشافعية مخالف لقضاء عثمان رضي الله عنه الذي اشتهر بين الصحابة رضوان الله عليهم فأصبح كالإجماع ، ومخالف أيضاً لقاعدة سد الذرائع •
ج- أن مذهب المالكية في إطلاقه بتوريثها بعد زواجها من زوج آخر يرد عليه أنها قد ترث من زوجين في آن واحد •
وبما ذكرته ونقلته اتضح لي رجحان مذهب الحنابلة من أن المطلقة طلاقاً بائناً في مرض الموت المخوف من متهم بقصد حرمانها من الميراث ترث ما لم تتزوج أو ترتد • والله أعلم بالصواب •
حكم إرث الزوج منها إذا فعلت في مرض موتها ما
يفسخ نكاحها
إذا فعلت الزوجة في مرض موتها المخوف ما يفسخ نكاح زوجها حتى لا يرث منها فلا يخلو من حالين :-
الحال الأول : أن تكون متهمة بقصد حرمانها من الميراث مثل أن ترضع امرأة زوجها الصغيرة أو ترضع زوجها الصغير في الحولين خمس رضعات •••• أو ارتدت والعياذ بالله في مرضها • وقد اختلف العلماء في سقوط ميراث زوجها على قولين :-
القول الأول : عدم سقوط ميراث زوجها إذا ماتت وهي في العدة وإليه ذهب الحنفية والحنابلة •
وعللوا ذلك بما يأتي :-
التعليل الأول : أنها أحد الزوجين فر من ميراث الآخر فأشبه الرجل•
التعليل الثاني : أنها ممنوعة من إبطال حقه فأبقينا النكاح في حق الإرث دفعاً للضرر عنه •
القول الثاني : سقوط ميراث زوجها •
وهو مقتضى مذهب الشافعية ؛ لأنهم لا يرون ميراث الزوجة من زوجها الذي طلقها في مرض موته المخوف فكذلك هنا ، وقد تقدم أن الراجح أنها ترث كما تقدم ذكره •
وعلى هذا فيكون الراجح هو القول الأول عدم سقوط ميراث زوجها؛ لأنها متهمة بقصد حرمانه من الميراث فتعاقب بنقيض قصدها • والله أعلم بالصواب •
الحال الثاني : أن تكون غبر متهمة بقصد حرمانه من الميراث مثل فسخ المعتقة نكاحها إذا كانت تحت عبد فقد قطع الحنابلة بعدم إرث زوجها ؛ لأن فسخ النكاح لأجل دفع الضرر وليس المقصود منه الفرار من إرثه•
ومثل أن تكون الزوجة مجنونة وترضع زوجة زوجها الصغيرة ونحو ذلك فقد قطع الحنابلة بعدم إرث زوجها ؛ لأن المجنونة لا قصد لها •
حكم إرث الزوجة المكرهة على فسخ النكاح في مرض زوجها المخوف
إذا أكره ابن عاقل وارث زوجة أبيه على ما يفسخ نكاحها بان جامعها وهي مكرهة أو على إرضاع زوجة له صغرى فقد قطع الحنفية والحنابلة على أنها ترث •
وعللوا ذلك بأنه فسخ حصل في مرض الزوج بغير اختيار الزوجة بقصد حرمانها من الميراث فلم ينقطع إرثها أشبه ما لو أبانها الزوج •
وأما إذا كان للزوج زوجة أخرى ترثه فقد نص الحنابلة على عدم إرث هذه الزوجة التي انفسخ نكاحها •
وعللوا ذلك بانتفاء تهمة قصد حرمانها من الميراث ؛ لأنه لم يتوفر عليه بفسخ نكاحها شيء من الميراث •
وقد نص الحنابلة أيضاً على أن الابن إذا كان غير متهم بحرمانها من الميراث وذلك بأن يكون رقيقاً أو مبايناً لدين زوجها أو كان المكره ابن ابن مع وجود الابن فلا ترث الزوجة ، وكذلك إذا أطاعت المرأة ابن زوجها على وطئه فلا ترث ؛ لأنها شاركته فيما ينفسخ به نكاحها أشبه ما لو سألت زوجها البينونة فأبانها •