محمد فاضل يروي قصة فيلم «ناصر 56» في ندوة بمناسبة عيد النصر: نظام مبارك حاول اغتيال الفيلم
في أثناء تصوير فيلم ناصر 56 الذي أنتجه التليفزيون المصري زار الرئيس الأسبق حسني مبارك- الذي أطاحت به ثورة يناير - استديوهات التصوير خلال افتتاحه في العام 1995 مدينة الانتاج الاعلامي، والتقاه النجم السينمائي الراحل أحمد زكي بطريقة أثارت الكثيرين.. فقد تعامل زكي مع مبارك باعتباره جمال عبد الناصر ولم يقل له سيادة الرئيس، كما قال زملاؤه، وقال بعدها لزملائه" إنه لا رئيس في وجود ناصر.". وتقبل الجميع ذلك من أحمد زكي الذي كان في حالة تقمص للشخصية أمام الكاميرا وبعيدا عنها.
اللافت أن مبارك فهم الحكاية ولم يغضب، وأشار إلى زكي في نهاية زيارته قائلا: "ما تنساناش يا ريس"، معتبرا إنه جمال عيدالناصر. فمبارك لا يمكن له أن ينسى فضل ناصر عليه عندما رقاه ترقية استثنائية في الستينات دفعت به إلى قيادة سلاح الطيران بعد ذلك.
الواقعة التي رواها المخرج الكبير محمد فاضل مخرج فيلم ناصر ٥٦ قد توحي بقبول نظام مبارك للفيلم أو تبنيه سياسيا، لكن الحقيقة غير ذلك، والكلام أيضا على عهدة فاضل.
محمد فاضل الذي كان يتحدث إلى جمهور ندوة نظمهتها جمعية محبي الفنون الجميلة في ذكرى انتصار المصريين شعبيا على العدوان الثلاثي الذي وقع عقب إعلان ناصر تأميم قناة السويس، قال إن النظام شعر في منتصف التسعينات بنشاط ملحوظ للحزب الناصري في صعيد مصر وبعض مناطق القاهرة، فقرر أن يتبنى هو الفكرة الناصرية ويصدرها للشعب المصري باعتبار أن الحزب الوطني الحاكم آنذاك امتداد طبيعي لما آمن به ناصر وحاول تطبيقه في مصر. ولذلك وافق التليفزيون المصري على إنتاج الفيلم ولكن المسئولين بعد ذلك شعروا بورطتهم بعدما أثار إنتاج الفيلم قبل أن يبدأ تصويره عاصفة من الحماس الشعبي لعودة ناصر إلى المشهد الفني في فيلم روائي للمرة الأولى.
فكرة الفيلم
بدأت قصة فيلم ناصر بفكرة كان المفترض أن يقدمها الكاتب والسيناريست المعروف محفوظ عبد الرحمن والنجم احمد زكي والمخرج هاني لاشين تحت عنوان "يوم في حياة..”، يقدم حلقات منفصلة عن رموز الحركة الوطنية المصرية من الزعماء السياسيين والمبدعين والمفكرين .
وبالفعل بدأ محفوظ في كتابة حلقات عن بيرم التونسي وعرابي وجمال عبد الناصر، إلا أن المخرج هاني لاشين لم يتحمس للفكرة الدرامية وراء الحلقات المنفصلة واعتذر عن استكمال العمل.
اتصل محفوظ بمحمد فاضل وطلب منه تقديم حلقة درامية للتليفزيون عن جمال عبد الناصر فوافق على الفور، وهو المعروف بالانتماء للفكرة الناصرية، وكان فاضل يحمل على كتفيه نجاحات لافتة، منها مسلسلات تعد بحسب نقاد الدراما في مصر من العلامات الفنية، كعصفور النار وأبو العلا البشري، كما قدم افلاما من أهمها الحب في الزنزانة الذي صار أيقونة سينمائية أيضا.
فاضل طلب من زكي ومحفوظ بعد أن قرأ السيناريو ان يتم التوسع في الفكرة لتصبح فيلما تليفزيونيا لأن ناصر، بحسب رأيه، يستحق في المرة الأولى التي يتم إنتاج فيلم عنه أكثر من مجرد حلقة درامية.
وتحمس محفوظ وزكي للفكرة وأعاد السيناريست كتابة سيناريو الفكرة كفيلم تليفزيوني، إلا أن فاضل قال في إحدى جلسات القراءة إنه يفضل أن يكون الفيلم سينمائيا لاستغلال نجومية أحمد زكي. وبالطبع وافق محفوظ وزكي بحماس بلغ أن وافق النجم السينمائي على أجر لا يزيد على 120 ألف جنيه وهو الذي كان ينال عن كل فيلم وقتها 750 ألفا .
وقبل بدأ التصوير وافق كل الممثلين بمن فيهم النجمة فردوس عبد الحميد على العمل بلا أجر لو اضطروا لذلك.
معارك مستمرة
وفور بدء التصوير وبدء الحملات الإعلامية للفيلم بدأت المعركة الخفية لنظام مبارك لوقف الفيلم بعدما شعروا أنهم تورطوا في الحكاية.. بدأ ت القصة بمكالمة ساخنة سمعها المخرج فاضل بين ممدوح الليثي، المسئول البارز في التليفزيون المصري مع أحد رجال مبارك المقربين يسبه لإقدامه على إنتاج التليفزيون عملا فنيا عن عبد الناصر. فقرر الليثي وصفوت الشريف – وزير الإعلام وقتها - افتعال المعارك الصغيرة لوقف الفيلم بصورة لا تجعل الناس تظن ان النظام تراجع عن إنتاجه
بدأت الحلقة الأولى برفض إمداد فاضل بأفلام خام بالأبيض والأسود وكان قد قرر إنتاج الفيلم كله بهذه النوعية من الأفلام ليمنح المشاهد ، كما قال الناقد السينمائي محمد الروبي، العودة النفسية لزمن أحداث الفيلم ولكي يمنح نفسه كمخرج استخدام لقطات وثائقية دون أن تقطع السياق البصري للفيلم.
ولكن المخرج، كما أخبر جمهور الندوة، لجأ إلى أحد أصدقائه في شركة للتصوير وفر له الأفلام الخام وفوت الفرصة على صفوت الشريف والليثي في محاولتهما الأولى لوقف الفيلم او تضييق الخناق عليه كمخرج.
المشكلة الثانية افتعلها الليثي عندما طلب من فاضل التوقف عن التصوير لأن أسرة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر غاضبة من الفيلم بسبب الأخبار التي تنشرها الصحف وخاصة في جريدة الجمهورية.. فاتصل فاضل بخالد عبد الناصر بوجود الليثي ليؤكد له نجل عبد الناصر إن الاسرة لا تتدخل في العمل لأنها راضية وواثقة تماما في الكاتب والمخرج والنجم الكبير ، فأسقط في يد الليثي ومرت الأزمة الثانية.
الأزمة الثالثة كانت طعنا شخصيا في نزاهة فاضل حيث يقول إنه فوجىء بأخبار ملفقة عن مجاملته لزوجته الفنانه فردوس عبد الحميد، ومنحها مساحة درامية كبيرة في الفيلم على حساب الفكرة السينمائية. وهنا دافع محفوظ عبد الرحمن عن تاريخه والسيناريو الذي كتبه وقال إنه لا يقبل أصلا أن يتدخل أحد ويملي عليه إضافة لقطات لمجاملة زوجته، كما دافع عن صديق عمره محمد فاضل، وقال إن فاضل ليس المخرج الذي يجامل أحدا على حساب فيلمه.
ولكن الحملة استمرت وتوسعت واضطر فاضل ومحفوظ إلى اختصار مشاهد فردوس من36 مشهدا بحسب السيناريو الأصلي الذي وافق عليه التليفزيون المصري ويحتفظ فاضل بنسخة منه، ليتقلص عدد مشاهد فردوس عبد الحميد إلى ستة مشاهد فقط. وكان الكثيرون من رجال النظام يظنون إن فردوس عبد الحميد ستعتذر عن الفيلم بعد هذا الاختصار لدورها، فيبدأ مسلسل الاعتذارات ويتوقف الفيلم . إلا أن النجمة قالت لفاضل سأمثل في الفيلم ولو في مشهد واحد وانتهت زوبعه فردوس.
المشكلة الجديدة التي اخترعها النظام كانت متعلقة بتحميض الفيلم الذي أفسد لقطات كثيرة بسبب المعامل وعدم قدرة الماكينات التي تعمل بالألوان على تحميض الفيلم بصورة جيدة. فطلب فاضل تحميض الفيلم في لندن فاعترض الليثي وقال له الأمر يحتاج إلى تدخل من رئيس الوزراء . إلا أن صفوت الشريف استشعر الحرج من اتهام التليفزيون بعرقلة الفيلم، فقرر الموافقة على مضض على تحميض الفيلم في لندن.
المشكلة الاخرى حدثت بعد إنتاج الفيلم ومروره من كل العقبات التي واجهته والحملة الإعلامية المنظمة ضده من قبل وسائل إعلام وصحافيين محسوبين على نظام مبارك، لدرجة أنهم قالوا "استعوضوا ربنا في الملايين الثلاثة التي تكلفها الفيلم "، عرض الفيلم في مهرجان الإذاعة والتليفزيون ونجح نجاحا باهرا كما عرض في حفلات خاصة للاعلاميين والسينمائيين.
وظن فاضل إن المعركة انتهت بانتصار ناصر إلا أن المسئولين ردوا عليه بجملة غريبة عندما سألهم: متى يعرض الفيلم للجماهير؟ حيث قالوا :"ربنا يسهل"... ونام ناصر في أدراج التليفزيون المصري قرابة عام كامل.
وعندما زارت وزيرة الاعلام الليبيبة صفوت الشريف قالت له "لو مش عاوزين تعرضوا فيلم ناصر، احنا نشتريه وندفع لكم كل التكلفة وزيادة ونعرضه في لبيبيا "، عندها شعر المسئول المصري بالحرج وقرر عرض الفيلم منتظرا فشله وليستريح الجميع.
الفيلم الذي تكلف فقط 3 ملايين جنيه وتم تصويره في عام كامل بثلاثة مديرين للتصوير وإعادة بعض لقطاته لأكثر من ثلاثين مرة بسبب حرص فريق العمل على شهوة الدقة، حصد في أسابيع قليلة أعلى إيراد في تاريخ السينما المصرية، بحسب الناقد الروبي .. فقد حقق الفيلم 14 مليونا من الجنيهات وسط إقبال شبابي منقطع النظير، وتفوق الفيلم على أفلام جماهيرية لنجم الكوميديا الأول عادل إمام الذي قدمفي ذلك العام فيلم بخيت وعديلة .
وظن الجميع أن الفيلم سيستمر إلا أن إدارة التليفزيون قررت وقف الحملات الدعائية للفيلم وسحبته من دور العرض في عز نجاحه، ليتم قتل نجاح فيلم أو إخفاء صورة زعيم كان يمثل مشكلة لنظام ينهار أمام الشعب في صمت من الطرفين.
الندوة حضرها نجما الفيلم فردوس عبد الحميد وطارق دسوقي الذي قدم دور عبد الحكيم عامر وقالت فردوس عبد الحميد إن عبد الناصر هو الحل لمشكلة مصر الحالية فقد كان مشغولا بالجماهير الكادحة في الوقت نفسه الذي كان مهتما بدور الفن.. وقال دسوقي إن الفنانين الملتزمين بقضايا وطنهم صاروا قلة في الوقت الراهن لكنه أكد على تفاؤله بنجاح هذه القلة في الاستمرار وتقديم الفن الذي أثبت فيلم ناصر 56 أنه مطلوب من قبل الشباب المصري ما يؤكد كذب مقولة "الجماهير عاوزة كده".
الناقد محمد الروبي قدم إضاءة على أهمية السيناريو في تقديم قراءة بصرية ونفسية واجتماعية لمرحلة تأميم القناة، وقال إن فاضل قدم عملا فنيا بالأساس وهذا سر نجاح الفيلم، وليس عبد الناصر فقط كما يدعي البعض من النقاد. لأن أفلاما أخرى ظهرت عن ناصر لكنها فشلت لأنها لم تكن على الدرجة ذاتها من الصدق الفني لفيلم فاضل ومحفوظ والنجم أحمد زكي صاحب الموهبة الطاغية و"الألف وجه" كما وصفه الروبي.
أدار النقاش الناقد محمد كمال وقدم عددا من المشاهد المهمة في الفيلم الذي يحتفل هذه الأيام بمرو 20 عاما على نتهاء تصويره، واحتفالا بذكرى النصر " الشعبي" على العدوان الثلاثي على مصر. وهو عيد النصر القديم الذي تراجع الى الخلفية لحساب عيد النصر العسكري "في 1973