صلاة الاستسقاء
تعريفها وحكمها ومكانها وصفتها
أولًا: تعريفها:
هي صلاة نفل بكيفية مخصوصة لطلب السُّقيا من الله تعالى بإنزال المطر عند الجَدْب والقحط.
ثانيًا: حكمها:
إذا قحط الناس وأجدبت الأرض واحتبس المطر، فيستحب - عند الجمهور - أن يخرج الإمام ومعه الناس إلى المصلى على صفة تأتي، ويصلى بهم ركعتين، ويخطب بهم، ويدعو الله تعالى بخشوع وتضرع؛ لأنه الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عباد بن تميم عن عمه قال: (خرج النبي صل الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقي، واستقبل القِبلة فصلى ركعتين، وقلب رداءه: جعل اليمن على الشمال)؛ (رواه البخاري ومسلم).
ثالثًا: مكانها وزمانها:
من حيث المكان هي كصلاة العيد، يجوز أن تؤدى في المسجد، لكن أداءها في المصلى خارج البلد (العراء) أفضل.
أما من حيث الزمان فصلاة الاستسقاء تصلى في كل وقت إلا في أوقات النهي، وقيل: تصلى بعد طلوع الشمس وارتفاعها قِيدَ رُمح، وذلك بعد طلوع الشمس بربع ساعة تقريبًا إلى الزوال؛ أي: وقت صلاة العيدين. قال الإمام النووي في كتابه المجموع:
(في وقت صلاة الاستسقاء ثلاثة أوجه: أحدها: وقتها وقت صلاة العيد، الوجه الثاني: أول وقت صلاة العيد، ويمتد إلى أن يصلي العصر، والثالث: وهو الصحيح، بل الصواب: أنها لا تختص بوقت، بل تجوز وتصح في كل وقتٍ من ليلٍ ونهار، إلا أوقات الكراهة على أحد الوجهين، وهذا هو المنصوص للشافعي، وبه قطع الجمهور، وصححه المحققون). وقال ابن قدامة المقدسي الحنبلي:
(وليس لوقت الاستسقاء وقت معين، إلا أنها لا تفعل في وقت النهي بغير خلاف؛ لأن وقتها متسع، وبعد الصلاة يقوم الإمام خطيبًا، مضمنًا خُطبته وعظًا وإرشادًا للناس، وسؤالًا للخالق سبحانه بنزول المطر).
رابعًا: كيفيتها:
صلاة الاستسقاء كصلاة العيد على رأي الجمهور، وهذا ما رجحه الشيخ ابن عثيمين والشيخ ابن باز رحمهما الله، عن ابن عباس قال: (خرج رسول الله صل الله عليه وسلم متبذلاً متواضعًا متضرعًا، حتى أتى المصلى، فرقِيَ المنبر فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد)؛ (رواه أبو داود والترمذي والنسائي).
وفي حديث عبدالله بن زيد: (... ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة)؛ (رواه البخاري ومسلم).
وعليه، فإن صفة صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، تصلى ركعتين، ويُكبر فيها بعد تكبيرة الإحرام سبع تكبيرات على رأي الشافعية، أو ست تكبيرات على رأي المالكية والحنابلة، وكله صحيح بإذن الله، وفي الركعة الثانية يكبر بعد تكبيرة القيام خمس تكبيرات، ثم يتم صلاته.
ومن الجدير بالذكر أن هناك قولاً آخر، بأن صلاة الاستسقاء ركعتان كصلاة التطوع من دون زيادة تكبير، وهو مذهب مالك والأوزاعي وأبي ثور وإسحاق.
ملاحظة: استحبَّ أحمد والشافعي الفصل بين كل تكبيرتين بذكر الله، مثل أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقال أبو حنيفة ومالك: يكبِّر متواليًا من غير فصل بين التكبير بذكر.
خامسًا: المسبوق في صلاة الاستسقاء:
عرفنا أن صلاة الاستسقاء كصلاة العيدين، وتأخذ نفس أحكامها، وعليه من فاتته التكبيرات الزوائد مع الإمام في صلاة الاستسقاء وأدرك الإمام في القراءة فإنه يكبِّر للإحرام ويأتي بالتكبيرات، وهو مذهب الحنفية والمالكية.
وعند الشافعية والحنابلة: إن حضر المأموم وقد سبقه الإمام بالتكبيرات أو بعضها لم يتدارك شيئًا مما فاته؛ لأنه ذكر مسنونٌ فات محله.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: ما الحكم لو أدركت الإمام وهو يصلي العيد - ومثلها الاستسقاء - وكان يكبر التكبيرات الزوائد، هل أقضي ما فاتني أم ماذا أعمل؟
فأجاب: (إذا دخلت مع الإمام في أثناء التكبيرات، فكبر للإحرام أولًا، ثم تابع الإمام فيما بقي، ويسقط عنك ما مضى).
وسئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين أيضًا: ما الحكم لو أدرك الإمام أثناء التكبيرات الزوائد في صلاة العيد ومثلها الاستسقاء؟
فأجاب فضيلته بقوله: (سبق الجواب عليه إذا أدركه في أثنائه، أما إذا أدركه راكعًا فإنه يكبر للإحرام فقط، ثم يركع، وإذا أدركه بعد فراغه من التكبير فإنه لا يقضيه؛ لأنه فات).
أما من فاته ركعة من صلاة الاستسقاء فإنه يدخل مع الإمام فيما بقي، وإذا سلَّم الإمام يقوم ويأتي بركعة ثانية بتكبيراتها الخمس؛ لأن القضاء مثل الأداء، وهذا الأفضل، وإن قضاها كسائر الصلوات بدون التكبيرات الزوائد فلا بأس، ولا حرج عليه، وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للإفتاء.
مسألة: من فاتته صلاة الاستسقاء مع الإمام، هل يجوز له أن يصليها منفردًا؟
الأصل أن تؤدى صلاة الاستسقاء جماعة، لكن من لم يشهد الجماعة إذا شاء أن يصلي ويدعو بنزول المطر، فلا بأس في ذلك.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن ذلك فأجاب: (إذا فاتت الإنسانَ صلاةُ الاستسقاء فأنا لا أعلم في هذا سنَّة عن النبي صل الله عليه وسلم - يقصد أن يقضيها منفردًا - لكن لو صلى ودعَا فلا بأس).
وسئل الشيخ ابن جبرين السؤال التالي: هل تصلَّى صلاة الاستسقاء فرادى في البيوت؟
فأجاب رحمه الله: (لا يشرع ذلك، ولكن يجوز لكل فرد إذا مست الحاجة فعل هذه الصلاة، والدعاء بعدها؛ فإن كثيرًا من الأفراد إذا نزلت بهم شدة وفاقة، ودعَوُا الله تعالى بإخلاص وصدق - أغاثهم، وأنزل عليهم ماءً ثجَّاجًا، سواء صلَّوا في بيوتهم، أو خرجوا في المصلى؛ فقد ثبت أن النبي صل الله عليه وسلم استسقى في غزوة تبوك، فنزل مطر رويت منه الأرض، وشرب الغزو كلهم، وسقَوا رواحلهم، وملؤوا قِرَبهم، ولم يتجاوز ذلك المطر أماكنهم، ومواضع رحلهم... والوقائع من ذلك كثيرة يفهم منها رحمة الله تعالى بعباده، وإجابته لدعوتهم، وإغاثته للمضطرين؛ كما قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62].
سادسًا: خطبة الاستسقاء:
ذهب مالك في رواية عنه، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وأكثر أهل العلم إلى أن خطبة الاستسقاء بعد الصلاة؛ لحديث عبدالله بن زيد قال: (خرج رسول الله صل الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحوَّل رداءه حين استقبل القِبلة، وبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم استقبل القِبلة ودعا)؛ (رواه أحمد).
وذهب مالك في رواية ثانية وأحمد في رواية ثانية إلى أن الخطبة قبل الصلاة؛ لحديث عبدالله بن زيد قال: (خرج النبي صل الله عليه وسلم يستسقي، فتوجه إلى القِبلة يدعو، وحوَّل رداءه، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة)؛ (رواه البخاري ومسلم).
والأمر في هذا واسع، فيجوز أن يخطب قبل الصلاة أو بعدها، ويستحب أن تكون خطبته مناسبة للحديث، مشتملة إظهار الافتقار والندم والتوبة إلى الله تعالى؛ كما قال العباس حينما استسقى به عمرُ بن الخطاب رضي الله عنهما: (وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقِنا الغيثَ).
والسؤال هنا: هل خطبة الاستسقاء خطبة واحدة أم خطبتان كالجمعة؟
ذهب المالكية والشافعية ومحمد بن الحسن إلى أنهما خطبتانِ كخطبتي العيد.
وذهب الحنابلة وأبو يوسف إلى أنها خطبة واحدة، وهذا ما يرجحه الشيخ ابن عثيمين فيقول: (أما الاستسقاء فهو خطبة واحدة، حتى على قول من يرى أن صلاة العيد لها خطبتان، فهي خطبة واحدة؛ إما قبل الصلاة وإما بعد الصلاة؛ فالأمر كله جائزٌ).
سابعًا: الفرق بين صلاة الاستسقاء وصلاة العيدين:
من الجدير بالذكر أن الشيخ ابن عثيمين ذكر في كتابه الشرح الممتع على زاد المستنقع أوجه الاختلاف بين صلاة الاستسقاء وصلاة العيدين، فيقول: (خالفَتْ صلاةُ الاستسقاء صلاةَ العيد في أمور، منها:
أولًا: أنه يخطب في العيد خطبتين على المذهب، وأما الاستسقاء فيخطب لها خطبة واحدة.
ثانيًا: أنه في صلاة الاستسقاء تجوز الخطبة قبل الصلاة وبعدها، وأما في صلاة العيد فتكون بعد الصلاة. ثالثًا: أنه في صلاة العيد تبين أحكام العيدين، وفي الاستسقاء يكثر من الاستغفار، والدعاء بطلب الغيث).
ثامنًا: من سنن الاستسقاء:
1- خروج الناس مع الإمام إلى المصلى متبذِّلين متواضعين متضرعين؛ فقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس: أن النبي صل الله عليه وسلم خرج لصلاة الاستسقاء متبذِّلاً متواضعًا متضرعًا، (معنى متبذِّلاً؛ أي: تاركًا لبس ثياب الزينة، ومعنى متخشِّعًا؛ أي: مُظهِرًا للخشوع؛ ليكون ذلك وسيلة إلى نيل ما عند الله عز وجل، ومعنى متضرعًا؛ أي: مُظهِرًا للضراعة، وهي التذلل عند طلب الحاجة).
2- أن يدعوَ الإمام، ويكثر المسألة قائمًا مستقبل القِبلة، رافعًا يديه مبالغًا في رفعهما، جاعلًا ظهور كفيه إلى السماء، ويرفع الناس أيديهم، ويحول الإمام رداءه: عن عبدالله بن زيد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي بهم، فقام فدعا الله قائمًا، ثم توجه قِبَل القِبلة وحوَّل رداءه، فأسقوا)؛ (رواه البخاري)، وقد ورد عند البخاري ومسلم وأبي داود أن النبي صل الله عليه وسلم كان يمد يديه - ويجعل بطونهما مما يلي الأرض - حتى يرى بياض إِبْطيه.
وجاء في رفع اليدين حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء (رواه مسلم)، واختلف أهل العلم في المراد بقوله: (فأشار بظهر كفيه إلى السماء)، والأظهر أن المراد به المبالغة في رفعهما، وأنه لشدة الرفع انحنت يداه؛ لأن الرفع إذا قوي صارت أصابع اليدين نحو السماء مع نوع من الانحناء، حتى كأن الرائي يرى ظهورهما نحو السماء، لا أنه قصد ذلك، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ ابن باز رحمهما الله.
وورد أيضًا صفة أخرى في كيفية رفع اليدين؛ فعن عمير مولى آبِي اللَّحمِ رضي الله عنه أنه: رأى رسول الله يستسقي عند أحجار الزيت قريبًا من الزوراء قائمًا، يدعو يستسقي رافعًا كفيه، لا يجاوز بهما رأسه، مقبلٌ بباطن كفيه إلى وجهه؛ (رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي).
أما تحويل الإمام رداءه الواردُ في حديث عبدالله بن زيد، فمعناه: أن يجعل ما على يمينه - من ردائه - على يساره والعكس، واستحبه الجمهور، وقيل: يستحب أن يقلب ظهر رداءه لبطنه، وبطنه لظهره، والحكمة في ذلك: التفاؤل بتحويل الحال، ومحل تحويل الرداء في أثناء الخطبة حين يستقبل القِبلة للدعاء، وهو عند الحنفية والشافعية والحنابلة وعند المالكية بعد الفراغ من الخطبتين.
ملاحظة: من الجدير بالذكر أنه يجوز الاستسقاء بدون صلاة مخصوصة؛ فقد استسقى - أي دعا بنزول المطر - النبيُّ صل الله عليه وسلم في خطبة الجمعة، واستسقى في المسجد في غير جمعة ومن غير صلاة، كما واستسقى خارج المسجد، وقد بينا في الفصل الثاني من الباب الأول أدعية الاستسقاء وأحاديثها بفضل الله تعالى.