هل كان غِياب الحُكم الرّشيد “وحده” سببًا في تفجير ثورات الربيع العربي؟ أين أخطأ عمرو موسى وأصاب في أحدث نظريّاته؟ ولماذا لم يَكُن “رشيدًا” في سَردِ الحقائق في مُذكّراته وندواته الأخيرة؟ وهل سيَعترَف بأخطائه الكارثيّة ويندم مثلما فعَل أوباما؟
السيّد عمر موسى الذي أمضى عشر سنوات من حياته في العمل الدبلوماسيّ أمينًا عامًّا للجامعة العربيّة (2001 ـ 2011) في فترةٍ من أكثر فتَرات العالم العربيّ خُصوبةً وازدحامًا بالأحداث السياسيّة والعسكريّة الهامّة، من أبرزها حرب “غزو العِراق عام 2003″، وعاش “ثورات” الربيع العربي، وكان من المُفترض أن يكون “أمينًا” في تناوله للوقائع هذه بحُكم موقعه كأمين عام للجامعة، أو رئيسًا للدبلوماسيّة المِصريّة قبلها، ولكنّه لم يكن كذلك للأسف، بالنّظر إلى ما دوّنه في مُذكّراته التي صدرت في كتابين.
نحن لسنا هُنا بصدد مُناقشة ما ورد في الكتابين في هذه العُجالة، فعرض الكتب ليس مكانه في هذه الزّاوية من الصّحيفة، وإنّما التوقّف عند ما قاله في ندوة المُلتقى الفكري الذي نظّمها معهد البحوث والدراسات العربيّة انعقدت قبل يومين وكان أبرز ما قال فيها “إنّ الحُكم العربيّ لم يَكُن رشيدًا، ولهذا قامت ثورات الربيع العربي”، وضرب مثلًا بالزّعيم اللّيبي الرّاحل معمّر القذافي “الذي لم يُدرك حقيقية التيّار الثّوري الذي اجتاح تونس ثمّ مِصر قبل الوصول إلى ليبيا”، ولم يتطرّق إلى ما حدث في دولٍ أُخرى مِثل مِصر وسورية إلا بشَكلٍ سريع.
لا نَختلِف مع السيّد عمر موسى في قوله “إنّ الحُكم العربيّ لم يَكُن رشيدًا” فهذه حقيقة ثابتة، وما زالت مُستمرّة حتّى في مُعظم الدّول التي كانت مسرحًا لهذا “الرّبيع”، ولكنّنا نَختلِف معه جذريًّا في أنّ غِياب الحُكم الرّشيد لم يَكُن وحده سبب انطِلاق “الثّورات العربيّة”، بل جرى توظيفه من أجل تفجير هذه الثّورات في مُعظم الدّول العربيّة، من قِبَل قِوى عُظمى مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا استخدمت حُكومات عربيّة كأدوات لتَدمير مُعظم هذه الدّول، وزعزعة أمنها واستِقرارها، وتفتيت وحدتها الترابيّة في إطار ما يُسمّى “الفوضى الخلّاقة”، ومن المُؤسِف أنّ السيّد عمر موسى وجامعته العربيّة كان أحد أبرز هذه الأدوات، سواءً بقصد أو بُدون قصد، ونميل هُنا إلى الأُولى.
لا نُجادل مُطلقًا في ضخامة المظالم التي كانت، وما زالت، تُعاني منها مُعظم، إن لم يَكُن كُل، الشّعوب العربيّة في تلك الفترة التي سبقت ثورات الربيع العربي، على أيدي حُكومات ديكتاتوريّة ينخرها الفساد، مثلما لا نُشَكِّك مُطلَقًا بالتّعبير الصّادق للشّعوب المُنتفضة، لتغيير هذه الأوضاع، ورفع هذه المظالم، بكُل الوسائل المشروعة المُتاحة، ولكن ما لم يَقُله السيّد موسى، أو يُشير إليه في مُذكّراته، هو الأسباب الحقيقيّة التي دفعت حِلف “النّاتو” للتّدخّل عسكريًّا في ليبيا، بتَحريضٍ من كُل نيكولاي ساركوزي، الرئيس الفرنسي، وديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا في حينها، وبمُباركةٍ مِن باراك أوباما، وغطاء شرعيّ من جامعة الدول العربيّة ودعم مالي وسياسي لبعض الدّول الأعضاء فيها.
نتمنّى من السيّد موسى أن يطّلع على الرّسائل الإلكترونيّة السّريّة للسيدة هيلاري كلينتون التي جرى رفع السريّة عن مضامينها قبل عدّة أشهر، بقَرارٍ من الرئيس دونالد ترامب في ذروة الحملة الانتخابيّة الرئاسيّة، وزياراتها لعدد من العواصم العربيّة إلى جانب باريس ولندن للتّحضير لبعض هذه الثّورات، إن لم يَكُن كلّها.
فإذا كان الحُكم العربيّ لم يَكُن رشيدًا، فإنّ المُؤرخّين له وأسراره، وحقائقه، لم يكونوا رشيدين أيضًا، وعلى رأسهم السيّد عمر موسى، الذي لم يُغيّب الكثير من الحقائق فقط، وإنّما أقدم على ليّ عُنقها، وتزويرها أيضًا، وهذا أمْرٌ مُعيب في رأينا ورأي الكثير من المُؤرّخين الموضوعيين.
كُنّا، وما زَلنا، نتمنّى على السيّد موسى، أن يحذو حذو الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي عبّر علانيّةً، وهو في الحُكم، عن ندمه الشّديد على تدخّل بلاده عسكريًّا في ليبيا، واعتبر هذا التّدخّل أكبر غلطة ترتكبها إدارته، ولم يتردّد في الاعتِذار لضحايا هذا التّدخّل، وحمل المسؤوليّة لكُل من ساركوزي وكاميرون باعتِبارهما أبرز مُهندسي هذه المُؤامرة.
ننتظر من السيّد موسى، وهو يقترب من مُنتصف الثّمانين من عُمره، أن يكون “رشيدًا” ومسؤولًا، ويُبادر إلى تصحيح الأخطاء التي ارتكبها في المُذكّرات، ويُروي للتّاريخ، والأجيال القادمة، ما عايشه من أحداثٍ ووقائع طِوال العشرين عامًا التي تَولّى فيها المسؤوليّة، سواءً في الخارجيّة المِصريّة أو الجامعة العربيّة، ونأمَل ألا يطول انتِظارنا، خاصّةً أنّنا في زمن “الكورونا” الذي لا يرحم، مع دعواتنا له في الوقتِ نفسه بالسّلامة وطُول العُمر لعلّه يُنجِز هذه المَهمّة.