سليمان القانوني.. «ظل الله في الأرضين» مجدد دين الأمة المحمدية في القرن الـ10
يعتبر السلطان سليمان القانوني بن سليم الأول، الخليفة العثماني، الذي تولى حكم الخلافة بين عامي 926 إلى 974 هجريًا، أقوى ملوك الخلافة، حتى أن الغرب وصفه بأنه «السلطان العظيم»، وكان يصف نفسه في رسائله لأعدائه بـ«سلطان السلاطين، برهان الخواقين، متوج الملوك، ظل الله في الأرضين».
ويقول الدكتور علي الصلابي، في كتابة «الدولة العثمانية»: «السلطان سليمان القانوني قضى 46 عامًا على قمَّة السلطة في دولة الخلافة العثمانية، التي بلغت خلال حكمه قمَّة درجات القوَّة والسلطان، واتسعت أرجاؤها على نحوٍ لم تشهده من قبل، وبسطت سلطانها على كثير من دول العالم في قاراته الثلاث القديمة، وامتدَّت هيبتُها فشملت العالم كلَّه، وصارت سيدة العالم، تخطبُ ودَّهَا الدول والممالك، وارتقت فيها النظم والقوانين التي تُسَيِّرُ الحياة في دقَّة ونظام، دون أن تُخالف الشريعة الإسلامية التي حرص آل عثمان على احترامها والالتزام بها في كل أرجاء دولتهم».
وتحدث «الصلابي» في كتابه عن نشأة «القانوني»، قائلًا: «ولد سليمان عام 900 في مدينة طرابزون، ونشأ محباً للعلم والأدب والعلماء والأدباء والفقهاء، واشتهر منذ شبابه بالجدية والوقار، وتولى الخلافة بعد وفاة أبيه عام 926 وعمره 26 عاماً، وكان متأنياً في جميع أموره ولا يتعجل في الأعمال التي يريد تنفيذها، بل كان يفكر بعمق ثم يقرر وإذا اتخذ قراراً لا يرجع عنه، وفي عهده بلغت الدولة أوج قوتها واتساعها».
وعن مرحلة توليه الخلافة العثمانية، أوضح «الصلابي»: «تولَّى السلطان سليمان القانوني الخلافة بعد موت والده السلطان سليم الأول في 9 من شوال 926هـ، 22 من سبتمبر 1520م، وبدأ في مباشرة أمور الدولة، وتوجيه سياستها، وكان يستهلُّ خطاباته بالآية الكريمة: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]».
ويشير الدكتور محمود شاكر، في كتابه «التاريخ الإسلامي»، و«الصلابي» في كتابه «الدولة العثمانية» إلى المشاكل التي واجهت «القانوني» فور اعتلائه العرش، وجهاده في أوروبا.
يقول «الصلابي» و«شاكر»، في كتابيهما: «ما أن وصل خبر موت السلطان سليم الأول إلى جانبرد الغزالي حاكم الشام، إلا وأعلن تمرده، وعرض على حاكم مصر أن يحذو حذوه فخدعه حاكم مصر (خير بك) بإبداء الموافقة، وفي نفس الوقت كان يطلع الخليفة سليمان على كل ما يرمى إليه حاكم الشام، الذي بدأ بالفعل في تنفيذ تمرده بمحاصرة حلب، ولكن بمجرد وصول الجيوش العثمانية إلى حلب، ولَّى حاكم الشام الأدبار ثم تحصن بدمشق وواجه الجيوش العثمانية فهُزم، وحاول أن يفر متنكرًا فسلمه أحد أعوانه للعثمانيين فقتلوه».
وأضاف «الصلابي»: «في عام 941هـ دخل العثمانيون (تبريز) بإيران للمرة الثانية، ومنها اتجهوا إلى بغداد فضمت إلى أملاك الدولة العثمانية، وفي عام 954هـ طلب أخو (الشاه الصفوي) مساعدة السلطان ضد أخيه، فدخل العثمانيون تبريز للمرة الثالثة».
وأوضح: «كانت جزيرة رودس مشاكسة وحصنًاً حصينًا لفرسان القديس يوحنا الذين كانوا يقطعون طريق الحجاج الأتراك للحجاز، وكانت تقوم بأعمال عدوانية موجهة لخطوط المواصلات البحرية العثمانية فاهتم السلطان بفتح الجزيرة في 2 صفر عام 929 مستغلاً انشغال أوروبا بقضاياها الخاصة واختلافاتها فيما بينها كي لا تساعد رهبان هذه الجزيرة الذين يسيطرون عليها، وانتقل هؤلاء الرهبان إلى جزيرة مالطة».
ويكمل «الصلابي»، قائلًا: «أصبحت شبه جزيرة القرم ولاية عثمانية، وكانت من قبل ولاية يحكمها التتار من فرع القبيلة الذهبية، ثم وقع الخلاف بين حكامها فتدخلت الدولة العثمانية في شؤونها، ولكن بقيت الفوضى قائمة حتى ضمتها إليها عام 939، وفي عام 931 أرسل جيشاً استولى على عاصمة الأفلاق، وأخذ أميرها إلى اسطانبول، التي كانت تعترف بالسيادة العثمانية، وتدفع الجزية، لكن الأعيان ثاروا على ذلك بمساعدة أمير ترانسلفانيا وعينوا أميراً جديداً فوافق السلطان مقابل زيادة في الجزية».
وتطرق «الصلابي» لفتح المجر وحصار فيينا، قائلًا: «رغب ملك فرنسا في التحالف مع العثمانيين كي يحاربوا المجر التابعة لملك النمسا بسبب انتشار أملاكه حول فرنسا من كل جهة إذ كانت تتبعه إسبانيا، وهولندا، وإمارتا جنوه وفلورنسا، وصقلية، وجزر البالئار، وفي الوقت نفسه يعد إمبراطوراً لألمانيا، لذا أرسل ملك فرنسا سفيراً للخليفة العثماني في هذا الشأن، ووعده الخليفة بالتصرف، وبالفعل سار الخليفة سليمان القانوني عام 932 على رأس مائة ألف مقاتل إضافة إلى 800 سفينة انطلقت في نهر الدانوب، وجعل قاعدته مدينة بلجراد، وأحرز الانتصار، وقتل ملكهم لويس، ودخل بعدها العاصمة (بودا) في 3 ذي الحجة عام 932، وعين أمير ترانسلفانيا (جان زابولي) ملكاً على المجر، ورجع بعدها إلى اسطانبول، غير أنه في العام التالي 933 ادعي الأمير فرديناند شقيق ملك النمسا المقتول أحقيته بملك المجر، فسار إليه عام 935 ، وحاصر (بودا) ، ففر منها فرديناند متجهاً نحو (فيينا)، فحاصر (القانوني) المدينة، وأمر بالهجوم عليها في 20 صفر 937 بعد أن أحدث ثغرات في أسوارها لكنه لم يقو على اقتحامها إذ نفدت ذخيرة المدفعية، وداهمه فصل الشتاء البارد فقرر فك الحصار والعودة».
وتابع «الصلابي»: «وفي العام التالي 938 أرسل ملك النمسا جيشاً لدخول (بودا) غير أنه عجز عن ذلك أمام مقاومة الحامية العثمانية، وعاد الخليفة نحو فيينا عام 939 إلا أنه عاد لما علم من استعدادات ملك النمسا الدفاعية، وجاءت سفن بحرية تابعة لملك المجر والبابا واحتلت بعض المواقع في شبه جزيرة المورة اليونانية التابعة للدولة العثمانية، وبعد ذلك تم توقيع معاهدة بين النمسا والخليفة العثماني».
ويقول «الصابي»: «هاج الرأي العام النصراني في أوروبا على فرنسا لتحالفها مع الدولة العثمانية المسلمة التي تقاتل النمسا الدولة النصرانية، فما كان من ملك فرنسا فرانسوا الأول إلا أن خضع للرأي الصليبي، وهادن ملك النمسا، وأخلف بما وعد به العثمانيين من غزو مشترك لإيطاليا، وعادت الحرب بين العثمانيين والنمسا عام 943 وانهزمت النمسا، وحرض فرديناند شقيق ملك النمسا أمير ولاية (البغدان) بالمجر على التمرد ضد العثمانيين لكن فتنته قمعت، وعزل عن الإمارة، وتولى مكانه شقيقه اصطفان عام 944، وعزز العثمانيون حاميتهم هنالك واتفق جان زابولي ملك المجر، مع الأمير النمساوي فرديناند على اقتسام المجر، وإنهاء التدخل العثماني، وللإيقاع بزابولي، أرسل (فرديناند) نسخة من الاتفاق إلى الخليفة العثماني ليعرف عدم ولاء زابولي، ويقصيه عن الملك، وعندها يزداد النفوذ النمساوي في المجر، ويزول من طريقه حليف العثمانيين».
وأردف: «ومات جان زابولي ملك المجر عام 946 قبل أن يلقى الجزاء من الخليفة، وهاجمت الجيوش النمساوية المجر بسرعة لإنهاء الحماية العثمانية عليها، وحاصرت مدينة (بودا) وفيها أرملة زابولي وطفلها، واحتلت مدينة (بست) المقابلة لمدينة (بودا)، ومع وصول الخبر إلى الخليفة اتجه فوراً عام 947 على رأس جيش إليها ففر النمساويون، وغدت المجر ولاية عثمانية مرة أخرى، وأما أرملة زابولي وأم الطفل والوصية عليه، فقد قبلت تلك الحماية المؤقتة لبلوغ الطفل سن الرشد».
وعن جهاد «القانوني» في بلاد المغرب العربي، وبداية سيطرته عليها أشار «الصلابي»: «في عهد السلطان سليم الأول ظهر أحد البحارة الذين لهم صفحات لامعة في التاريخ الإسلامي، وهو البحار خير الدين الذي كان قرصانًا نصرانيًّا في جزر بحر إيجه ثم اعتنق الإسلام هو وأخوه عروج، ونذرا نفسيهما لخدمة الإسلام، وكانا ينتقمان من القراصنة النصارى الذين كانوا يعترضون السفن المسلمة ويسرقون ركابها وينهبونها، فكانا بالمثل يعترضان سفن النصارى ويبيعان ركابها عبيدًا، ثم في عهد السلطان سليم الأول أرسلا إليه إحدى السفن التي أسروها، فقبلها منهما فأعلنا طاعتهما وخدمتهما للعثمانيين».
وتابع: «انطلق خير الدين وشقيقه يطهران شواطئ إفريقيا من الصليبيين، فحرر شقيقه (عروج) الجزائر في عهد السلطان سليم الأول، فعين خير الدين واليًا على الجزائر، وبالتالي ضمت الجزائر إلى الدولة العثمانية».
واستكمل: «أرسل السكان المسلمون في طرابلس الليبية إلى الخليفة القانوني يستغيثونه بعد احتلال الإسبان لطرابلس، فأرسل إليهم قوة بحرية صغيرة عام 926هـ بقيادة مراد أغا ولكنه فشل في تحريرها، فأرسل الخليفة الأسطول العثماني بقيادة طورغول بك فحرر المدينة من الإسبان وطردهم شر طردة، وواصل تحرير المدن الإسلامية من وطأتهم فحرر بنزرت ووهران وغزا ميورقة (إحدى جزر البليار جنوب شرقي إسبانيا) وكورسيكا، وبذلك غدت طرابلس الغرب (ليبيا حاليًا) ولاية عثمانية».
وعن فتح تونس، قال «الصلابي»: «دعا الخليفة سليمان البحار خير الدين وأمره بالاستعداد لغزو تونس وتحريرها من ملكها الحفصي، الذي اشتهر بميله إلى شارلكان الملك النصراني، فأعد خير الدين العدة وبنى أسطولاً كبيرًا لهذا الغرض، وسار من مضيق الدردنيل قاصدًا تونس، وفي طريقه أغار على مالطة وجنوبي إيطاليا للتمويه، ولكي لا يعرف مقصده الأساسي ثم وصل تونس، وبمنتهى السهولة سيطر عليها وعزل السلطان حسن الحفصي، ووضع مكانه أخاه، فاشتاط شارلكان ملك إسبانيا وإيطاليا والنمسا وغيرها من بلاد أوروبا، وصمم على استعادة نفوذه في تونس وإعادة ملكها العميل المخلص له، فقاد شارلكان بنفسه الجيوش، وتمكن من دخول تونس وترك الحرية لجنوده في النهب والقتل وهتك الأعراض وهدم المساجد والسبى والاستعباد، وأعاد السلطان حسن الحفصي للحكم بعد أن أجبره على التنازل له عن مدن بنزرت وعنابة وغيرها، واضطر خير الدين إلى الانسحاب من تونس».
وقص «الصلابي»، في كتابه، حكاية ضم شبه الجزيرة العربية للعثمانيين، وحربهم في الهند، قائلًا: «بدأ يظهر خطر من قِبَل البرتغاليين باحتلالهم لبعض المواقع في جنوب شبه الجزيرة العربية ومواصلة الزحف لنبش قبر الرسول، بالإضافة إلى خطرهم على بلاد الهند التي كانت في ذلك الوقت تحت سلطان المغول».
وتابع: «أمر الخليفة سليمان بتجهيز أسطول للسيطرة على الجزيرة العربية وتطهيرها من البرتغاليين، فتمكن العثمانيون من ضم اليمن وعدن ومسقط ومحاصرة جزيرة هرمز، وبالتالي أغلقوا الأبواب في وجه البرتغاليين وأهدافهم الدنيئة، وفي نفس الوقت استنجد المغول بالسلطان سليمان من البرتغاليين الذين احتلوا بعض سواحل الهند، فأرسل إليهم أسطولاً تمكن من تحرير بعض القلاع من البرتغاليين، ولكن الأسطول العثماني هزم في معركة ديو البحرية، فاضطر إلى الانسحاب وخاصة بعدما حاول الأعداء إثارة الفتن وإشاعة أن العثمانيين يريدون ضم الهند».
وفاة سليمان القانوني
يقول محمد فريد بك، في كتابه «تاريخ الدولة العلية العثمانية»: «لم يترك السلطان سليمان القانوني الجهاد قط، وفي أواخر أيامه أصابه مرض النِّقْرِس، فكان لا يستطيع ركوب الخيل؛ ولكنه كان يتحامل إظهارًا للقوَّة أمام أعدائه، وقد بلغ السلطان من العمر 74 عامًا، ومع ذلك عندما علم بأن ملك الهايسبرج أغار على ثغر من ثغور المسلمين؛ قام السلطان للجهاد، ومع أنه كان يتألَّم من شدَّة المرض، فإنَّه قاد الجيش بنفسه، وخرج على رأس جيش في (9 من شوال 973هـ 29 من أبريل 1566م)، ووصل إلى مدينة سيكتوار المجرية، وكانت من أعظم ما شيَّده المسيحيون من القلاع، وكانت مشحونة بالبارود والمدافع، وكان قبل خروجه للجهاد نصحه الطبيب الخاص بعدم الخروج لعلَّة النِّقْرِس التي به. فكان جواب السلطان سليمان الذي خلده له التاريخ: (أحب أن أموت غازيًا في سبيل الله)».
ويتابع: «واستمرَّ القتال والحصار قرابة 5 أشهر كاملة، وما ازداد أمر الفتح إلَّا صعوبة، وازداد همُّ المسلمين لصعوبة الفتح، وهنا اشتدَّ مرض السلطان، وشعر بدنوِّ الأجل، فأخذ يتضرَّع إلى الله تعالى، وكان من جملة ما قاله: (يا رب العالمين؛ افتح على عبادك المسلمين، وانصرهم، وأضرم النار على الكفار)، فاستجاب الله دعاء السلطان سليمان، فأصاب أحدُ مدافع المسلمين خزانة البارود في الحصن، فكان انفجارًا مهولًا، فأخذت جانبًا كبيرًا من القلعة فرفعته إلى عنان السماء، وهجم المسلمون على القلعة، وفُتحت القلعة، ورُفعت الراية السليمانية على أعلى مكان من القلعة».
تابع: «وعند وصول خبر الفتح للسلطان فرِح، وحمد الله على هذه النعمة العظيمة، وقال: «الآن طاب الموت، فهنيئًا لهذا السعيد بهذه السعادة الأبدية، وطوبى لهذه النفس الراضية المرضية، من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه». وتخرج روحه إلى بارئها في (20 من صفر 974هـ 5 من سبتمبر 1566م)».
صفاته
قال ابن عماد الحنبلي، في كتابه «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» عن «القانوني»: «كان مؤيدا في حروبه ومغازيه، مسددا في آرائه ومعازيه، مسعودا في معانيه ومغانيه، مشهودا في مواقعه ومراميه، أيان سلك ملك، وأنى توجه فتح وفتك، وأين سافر سفر وسفك، وصلت سراياه إلى أقصى الشرق والغرب، وافتتح البلدان الشاسعة بالقهر والحرب، وأخذ الكفار والملاحدة بقوة الطعان والضرب، وكان مجدد دين هذه الأمة المحمدية في القرن العاشر».يعتبر السلطان سليمان القانوني بن سليم الأول، الخليفة العثماني، الذي تولى حكم الخلافة بين عامي 926 إلى 974 هجريًا، أقوى ملوك الخلافة، حتى أن الغرب وصفه بأنه «السلطان العظيم»، وكان يصف نفسه في رسائله لأعدائه بـ«سلطان السلاطين، برهان الخواقين، متوج الملوك، ظل الله في الأرضين».
ويقول الدكتور علي الصلابي، في كتابة «الدولة العثمانية»: «السلطان سليمان القانوني قضى 46 عامًا على قمَّة السلطة في دولة الخلافة العثمانية، التي بلغت خلال حكمه قمَّة درجات القوَّة والسلطان، واتسعت أرجاؤها على نحوٍ لم تشهده من قبل، وبسطت سلطانها على كثير من دول العالم في قاراته الثلاث القديمة، وامتدَّت هيبتُها فشملت العالم كلَّه، وصارت سيدة العالم، تخطبُ ودَّهَا الدول والممالك، وارتقت فيها النظم والقوانين التي تُسَيِّرُ الحياة في دقَّة ونظام، دون أن تُخالف الشريعة الإسلامية التي حرص آل عثمان على احترامها والالتزام بها في كل أرجاء دولتهم».
وتحدث «الصلابي» في كتابه عن نشأة «القانوني»، قائلًا: «ولد سليمان عام 900 في مدينة طرابزون، ونشأ محباً للعلم والأدب والعلماء والأدباء والفقهاء، واشتهر منذ شبابه بالجدية والوقار، وتولى الخلافة بعد وفاة أبيه عام 926 وعمره 26 عاماً، وكان متأنياً في جميع أموره ولا يتعجل في الأعمال التي يريد تنفيذها، بل كان يفكر بعمق ثم يقرر وإذا اتخذ قراراً لا يرجع عنه، وفي عهده بلغت الدولة أوج قوتها واتساعها».
وعن مرحلة توليه الخلافة العثمانية، أوضح «الصلابي»: «تولَّى السلطان سليمان القانوني الخلافة بعد موت والده السلطان سليم الأول في 9 من شوال 926هـ، 22 من سبتمبر 1520م، وبدأ في مباشرة أمور الدولة، وتوجيه سياستها، وكان يستهلُّ خطاباته بالآية الكريمة: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]».
ويشير الدكتور محمود شاكر، في كتابه «التاريخ الإسلامي»، و«الصلابي» في كتابه «الدولة العثمانية» إلى المشاكل التي واجهت «القانوني» فور اعتلائه العرش، وجهاده في أوروبا.
يقول «الصلابي» و«شاكر»، في كتابيهما: «ما أن وصل خبر موت السلطان سليم الأول إلى جانبرد الغزالي حاكم الشام، إلا وأعلن تمرده، وعرض على حاكم مصر أن يحذو حذوه فخدعه حاكم مصر (خير بك) بإبداء الموافقة، وفي نفس الوقت كان يطلع الخليفة سليمان على كل ما يرمى إليه حاكم الشام، الذي بدأ بالفعل في تنفيذ تمرده بمحاصرة حلب، ولكن بمجرد وصول الجيوش العثمانية إلى حلب، ولَّى حاكم الشام الأدبار ثم تحصن بدمشق وواجه الجيوش العثمانية فهُزم، وحاول أن يفر متنكرًا فسلمه أحد أعوانه للعثمانيين فقتلوه».
وأضاف «الصلابي»: «في عام 941هـ دخل العثمانيون (تبريز) بإيران للمرة الثانية، ومنها اتجهوا إلى بغداد فضمت إلى أملاك الدولة العثمانية، وفي عام 954هـ طلب أخو (الشاه الصفوي) مساعدة السلطان ضد أخيه، فدخل العثمانيون تبريز للمرة الثالثة».
وأوضح: «كانت جزيرة رودس مشاكسة وحصنًاً حصينًا لفرسان القديس يوحنا الذين كانوا يقطعون طريق الحجاج الأتراك للحجاز، وكانت تقوم بأعمال عدوانية موجهة لخطوط المواصلات البحرية العثمانية فاهتم السلطان بفتح الجزيرة في 2 صفر عام 929 مستغلاً انشغال أوروبا بقضاياها الخاصة واختلافاتها فيما بينها كي لا تساعد رهبان هذه الجزيرة الذين يسيطرون عليها، وانتقل هؤلاء الرهبان إلى جزيرة مالطة».
ويكمل «الصلابي»، قائلًا: «أصبحت شبه جزيرة القرم ولاية عثمانية، وكانت من قبل ولاية يحكمها التتار من فرع القبيلة الذهبية، ثم وقع الخلاف بين حكامها فتدخلت الدولة العثمانية في شؤونها، ولكن بقيت الفوضى قائمة حتى ضمتها إليها عام 939، وفي عام 931 أرسل جيشاً استولى على عاصمة الأفلاق، وأخذ أميرها إلى اسطانبول، التي كانت تعترف بالسيادة العثمانية، وتدفع الجزية، لكن الأعيان ثاروا على ذلك بمساعدة أمير ترانسلفانيا وعينوا أميراً جديداً فوافق السلطان مقابل زيادة في الجزية».
وتطرق «الصلابي» لفتح المجر وحصار فيينا، قائلًا: «رغب ملك فرنسا في التحالف مع العثمانيين كي يحاربوا المجر التابعة لملك النمسا بسبب انتشار أملاكه حول فرنسا من كل جهة إذ كانت تتبعه إسبانيا، وهولندا، وإمارتا جنوه وفلورنسا، وصقلية، وجزر البالئار، وفي الوقت نفسه يعد إمبراطوراً لألمانيا، لذا أرسل ملك فرنسا سفيراً للخليفة العثماني في هذا الشأن، ووعده الخليفة بالتصرف، وبالفعل سار الخليفة سليمان القانوني عام 932 على رأس مائة ألف مقاتل إضافة إلى 800 سفينة انطلقت في نهر الدانوب، وجعل قاعدته مدينة بلجراد، وأحرز الانتصار، وقتل ملكهم لويس، ودخل بعدها العاصمة (بودا) في 3 ذي الحجة عام 932، وعين أمير ترانسلفانيا (جان زابولي) ملكاً على المجر، ورجع بعدها إلى اسطانبول، غير أنه في العام التالي 933 ادعي الأمير فرديناند شقيق ملك النمسا المقتول أحقيته بملك المجر، فسار إليه عام 935 ، وحاصر (بودا) ، ففر منها فرديناند متجهاً نحو (فيينا)، فحاصر (القانوني) المدينة، وأمر بالهجوم عليها في 20 صفر 937 بعد أن أحدث ثغرات في أسوارها لكنه لم يقو على اقتحامها إذ نفدت ذخيرة المدفعية، وداهمه فصل الشتاء البارد فقرر فك الحصار والعودة».
وتابع «الصلابي»: «وفي العام التالي 938 أرسل ملك النمسا جيشاً لدخول (بودا) غير أنه عجز عن ذلك أمام مقاومة الحامية العثمانية، وعاد الخليفة نحو فيينا عام 939 إلا أنه عاد لما علم من استعدادات ملك النمسا الدفاعية، وجاءت سفن بحرية تابعة لملك المجر والبابا واحتلت بعض المواقع في شبه جزيرة المورة اليونانية التابعة للدولة العثمانية، وبعد ذلك تم توقيع معاهدة بين النمسا والخليفة العثماني».
ويقول «الصابي»: «هاج الرأي العام النصراني في أوروبا على فرنسا لتحالفها مع الدولة العثمانية المسلمة التي تقاتل النمسا الدولة النصرانية، فما كان من ملك فرنسا فرانسوا الأول إلا أن خضع للرأي الصليبي، وهادن ملك النمسا، وأخلف بما وعد به العثمانيين من غزو مشترك لإيطاليا، وعادت الحرب بين العثمانيين والنمسا عام 943 وانهزمت النمسا، وحرض فرديناند شقيق ملك النمسا أمير ولاية (البغدان) بالمجر على التمرد ضد العثمانيين لكن فتنته قمعت، وعزل عن الإمارة، وتولى مكانه شقيقه اصطفان عام 944، وعزز العثمانيون حاميتهم هنالك واتفق جان زابولي ملك المجر، مع الأمير النمساوي فرديناند على اقتسام المجر، وإنهاء التدخل العثماني، وللإيقاع بزابولي، أرسل (فرديناند) نسخة من الاتفاق إلى الخليفة العثماني ليعرف عدم ولاء زابولي، ويقصيه عن الملك، وعندها يزداد النفوذ النمساوي في المجر، ويزول من طريقه حليف العثمانيين».
وأردف: «ومات جان زابولي ملك المجر عام 946 قبل أن يلقى الجزاء من الخليفة، وهاجمت الجيوش النمساوية المجر بسرعة لإنهاء الحماية العثمانية عليها، وحاصرت مدينة (بودا) وفيها أرملة زابولي وطفلها، واحتلت مدينة (بست) المقابلة لمدينة (بودا)، ومع وصول الخبر إلى الخليفة اتجه فوراً عام 947 على رأس جيش إليها ففر النمساويون، وغدت المجر ولاية عثمانية مرة أخرى، وأما أرملة زابولي وأم الطفل والوصية عليه، فقد قبلت تلك الحماية المؤقتة لبلوغ الطفل سن الرشد».
وعن جهاد «القانوني» في بلاد المغرب العربي، وبداية سيطرته عليها أشار «الصلابي»: «في عهد السلطان سليم الأول ظهر أحد البحارة الذين لهم صفحات لامعة في التاريخ الإسلامي، وهو البحار خير الدين الذي كان قرصانًا نصرانيًّا في جزر بحر إيجه ثم اعتنق الإسلام هو وأخوه عروج، ونذرا نفسيهما لخدمة الإسلام، وكانا ينتقمان من القراصنة النصارى الذين كانوا يعترضون السفن المسلمة ويسرقون ركابها وينهبونها، فكانا بالمثل يعترضان سفن النصارى ويبيعان ركابها عبيدًا، ثم في عهد السلطان سليم الأول أرسلا إليه إحدى السفن التي أسروها، فقبلها منهما فأعلنا طاعتهما وخدمتهما للعثمانيين».
وتابع: «انطلق خير الدين وشقيقه يطهران شواطئ إفريقيا من الصليبيين، فحرر شقيقه (عروج) الجزائر في عهد السلطان سليم الأول، فعين خير الدين واليًا على الجزائر، وبالتالي ضمت الجزائر إلى الدولة العثمانية».
واستكمل: «أرسل السكان المسلمون في طرابلس الليبية إلى الخليفة القانوني يستغيثونه بعد احتلال الإسبان لطرابلس، فأرسل إليهم قوة بحرية صغيرة عام 926هـ بقيادة مراد أغا ولكنه فشل في تحريرها، فأرسل الخليفة الأسطول العثماني بقيادة طورغول بك فحرر المدينة من الإسبان وطردهم شر طردة، وواصل تحرير المدن الإسلامية من وطأتهم فحرر بنزرت ووهران وغزا ميورقة (إحدى جزر البليار جنوب شرقي إسبانيا) وكورسيكا، وبذلك غدت طرابلس الغرب (ليبيا حاليًا) ولاية عثمانية».
وعن فتح تونس، قال «الصلابي»: «دعا الخليفة سليمان البحار خير الدين وأمره بالاستعداد لغزو تونس وتحريرها من ملكها الحفصي، الذي اشتهر بميله إلى شارلكان الملك النصراني، فأعد خير الدين العدة وبنى أسطولاً كبيرًا لهذا الغرض، وسار من مضيق الدردنيل قاصدًا تونس، وفي طريقه أغار على مالطة وجنوبي إيطاليا للتمويه، ولكي لا يعرف مقصده الأساسي ثم وصل تونس، وبمنتهى السهولة سيطر عليها وعزل السلطان حسن الحفصي، ووضع مكانه أخاه، فاشتاط شارلكان ملك إسبانيا وإيطاليا والنمسا وغيرها من بلاد أوروبا، وصمم على استعادة نفوذه في تونس وإعادة ملكها العميل المخلص له، فقاد شارلكان بنفسه الجيوش، وتمكن من دخول تونس وترك الحرية لجنوده في النهب والقتل وهتك الأعراض وهدم المساجد والسبى والاستعباد، وأعاد السلطان حسن الحفصي للحكم بعد أن أجبره على التنازل له عن مدن بنزرت وعنابة وغيرها، واضطر خير الدين إلى الانسحاب من تونس».
وقص «الصلابي»، في كتابه، حكاية ضم شبه الجزيرة العربية للعثمانيين، وحربهم في الهند، قائلًا: «بدأ يظهر خطر من قِبَل البرتغاليين باحتلالهم لبعض المواقع في جنوب شبه الجزيرة العربية ومواصلة الزحف لنبش قبر الرسول، بالإضافة إلى خطرهم على بلاد الهند التي كانت في ذلك الوقت تحت سلطان المغول».
وتابع: «أمر الخليفة سليمان بتجهيز أسطول للسيطرة على الجزيرة العربية وتطهيرها من البرتغاليين، فتمكن العثمانيون من ضم اليمن وعدن ومسقط ومحاصرة جزيرة هرمز، وبالتالي أغلقوا الأبواب في وجه البرتغاليين وأهدافهم الدنيئة، وفي نفس الوقت استنجد المغول بالسلطان سليمان من البرتغاليين الذين احتلوا بعض سواحل الهند، فأرسل إليهم أسطولاً تمكن من تحرير بعض القلاع من البرتغاليين، ولكن الأسطول العثماني هزم في معركة ديو البحرية، فاضطر إلى الانسحاب وخاصة بعدما حاول الأعداء إثارة الفتن وإشاعة أن العثمانيين يريدون ضم الهند».
وفاة سليمان القانوني
يقول محمد فريد بك، في كتابه «تاريخ الدولة العلية العثمانية»: «لم يترك السلطان سليمان القانوني الجهاد قط، وفي أواخر أيامه أصابه مرض النِّقْرِس، فكان لا يستطيع ركوب الخيل؛ ولكنه كان يتحامل إظهارًا للقوَّة أمام أعدائه، وقد بلغ السلطان من العمر 74 عامًا، ومع ذلك عندما علم بأن ملك الهايسبرج أغار على ثغر من ثغور المسلمين؛ قام السلطان للجهاد، ومع أنه كان يتألَّم من شدَّة المرض، فإنَّه قاد الجيش بنفسه، وخرج على رأس جيش في (9 من شوال 973هـ 29 من أبريل 1566م)، ووصل إلى مدينة سيكتوار المجرية، وكانت من أعظم ما شيَّده المسيحيون من القلاع، وكانت مشحونة بالبارود والمدافع، وكان قبل خروجه للجهاد نصحه الطبيب الخاص بعدم الخروج لعلَّة النِّقْرِس التي به. فكان جواب السلطان سليمان الذي خلده له التاريخ: (أحب أن أموت غازيًا في سبيل الله)».
ويتابع: «واستمرَّ القتال والحصار قرابة 5 أشهر كاملة، وما ازداد أمر الفتح إلَّا صعوبة، وازداد همُّ المسلمين لصعوبة الفتح، وهنا اشتدَّ مرض السلطان، وشعر بدنوِّ الأجل، فأخذ يتضرَّع إلى الله تعالى، وكان من جملة ما قاله: (يا رب العالمين؛ افتح على عبادك المسلمين، وانصرهم، وأضرم النار على الكفار)، فاستجاب الله دعاء السلطان سليمان، فأصاب أحدُ مدافع المسلمين خزانة البارود في الحصن، فكان انفجارًا مهولًا، فأخذت جانبًا كبيرًا من القلعة فرفعته إلى عنان السماء، وهجم المسلمون على القلعة، وفُتحت القلعة، ورُفعت الراية السليمانية على أعلى مكان من القلعة».
تابع: «وعند وصول خبر الفتح للسلطان فرِح، وحمد الله على هذه النعمة العظيمة، وقال: «الآن طاب الموت، فهنيئًا لهذا السعيد بهذه السعادة الأبدية، وطوبى لهذه النفس الراضية المرضية، من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه». وتخرج روحه إلى بارئها في (20 من صفر 974هـ 5 من سبتمبر 1566م)».
صفاته
قال ابن عماد الحنبلي، في كتابه «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» عن «القانوني»: «كان مؤيدا في حروبه ومغازيه، مسددا في آرائه ومعازيه، مسعودا في معانيه ومغانيه، مشهودا في مواقعه ومراميه، أيان سلك ملك، وأنى توجه فتح وفتك، وأين سافر سفر وسفك، وصلت سراياه إلى أقصى الشرق والغرب، وافتتح البلدان الشاسعة بالقهر والحرب، وأخذ الكفار والملاحدة بقوة الطعان والضرب، وكان مجدد دين هذه الأمة المحمدية في القرن العاشر».