حنان الشيخ - الغد
المكان: أي عاصمة عربية غير دمشق
الزمان: مؤخرا
صراخ ابنتها الجائعة من غرفة نومها، لم يمكنها من التركيز في تحضير الرضعة لها، خصوصا وأن صراخا آخر قادما من الصالة من زوجها، يستحث خطاها للإسراع في إطعام الطفلة، أربكها هو أيضا. لم يكن صراخا أبويا قلقا على الصغيرة، بقدر ما كان فرصة ولاحت له كي يصب على رأسها دلو الشتائم المعد سلفا، لتلك المناسبات التي أصبحت تتكرر في الآونة الأخيرة، المتعلقة بأدائها العام داخل بيتها من حيث النظافة والترتيب والرعاية والواجبات الزوجية.
في الحقيقة، ثمة صراخ أقوى كان يملأ المطبخ، حيث ما تزال تقف مكانها متسمرة، تحاول أن تتذكر لماذا جاءت هنا، ولماذا تقف أمام سخان الماء الكهربائي. كان ثمة صوت لم يغادر بعد حلمة أذنها وبقي معلقا كقرط يتدلى من فتحة مشروخة، سببها صيدلاني المخيم الذي قام بخرم أذنها، وهي في الرابعة عشرة من عمرها. الصوت الآن انتقل إلى دماغها مباشرة عبر قشعريرة موصلة للحرارة والصوت معا، وصار يفسر نفسه صورا متحركة وثابتة، ملونة ومعتمة، واضحة ومشوشة؛ نحن نموت من الجوع يا ابتسام، يقتلنا الجوع واحدا تلو الآخر. نحن لا نجد رغيف خبز اليوم، يغلق فم أخيك المفتوح دائما للبكاء، والبكاء فقط. أمك يا ابتسام صارت تصوم كل الأيام قضاء لأيام صباها، ولكنها للأسف تفوت صلاتي المغرب والعشاء معا، لأنها وقبل أن يؤذن المغرب، تنام!
أبوك يا ابتسام، نعتقد أنه قضى على داء السكري بجدارة؛ لأنه الوحيد في المخيم الذي ما يزال قادرا على السير مسافة الكيلوميترين ذهابا، ومثلهما إيابا، إلى حيث لم يكشتف محاصرونا أنه ثمة ربوة خلف المسجد الكبير مباشرة، لم تزل تقبض على الجعدة وحصى البان بين عشبها اليابس، خوفا من أن يأتي أبوك وغنمة عمك أبي صالح، ولا يجدا غصنا يلتقطانه!
تقف ابتسام في وسط المطبخ، تمسك بقنينة الحليب لا تعرف ماذا تفعل بها، بينما صور علب الحليب المتكدسة في دكان "حيفا" تتراقص أمامها، وأصوات المعركة التي نشبت يومها بين البائع أبو فتحي وأختها القوية، تجعلها اليوم تبتسم وهي متكئة على حافة المغسلة في المطبخ. "الله يرحمها، كانت قوية كتير". تقرأ على روحها الفاتحة وهي على نفس وضعها، لكن ضحكتها تنحسر حين تتذكر أنها فقدت أختها القوية، بسبب جلطة قلبية، قضت عليها في لحظة سماعها خبر غرق سفينة المهاجرين، أمام السواحل الايطالية. وبالرغم أن أبناء أختها نجوا من الغرق بأعجوبة، لكنهم جربوا ذنب اليتم مرتين؛ حين ماتت أمهم جزعا، ويوم قرروا أن لا يموتوا جوعا.
الآن سكتت الطفلة في الغرفة، وتبع سكوتها حركة متسارعة من قدمي زوجها، إلى حيث ما تزال في مكانها واقفة، تسأل نفسها عن سبب مجيئها إلى المطبخ. حاصرها زوجها الغاضب في الزاوية، وأمسك بشعرها بقوة، وهو يهز رأسها يمينا ويسارا وفي كل الاتجاهات، يسمعها كلمات وعبارات تحاول أن تلتقط منها شيئا فلا تقدر. تدرك أنه غاضب لسبب ما، وتحاول أن تستيقظ لتعرف ما الذي يزعجه. إنما كل محاولاتها باءت بالفشل، ولا شيء يمكن أن يعيدها إلى الوعي من جديد. هي لا تريد أن تعود إلى الوعي. لا تريد أن ترجع لإنسانيتها وطبيعتها البشرية المتصنعة الكاذبة المنافقة. لا تريد أن تقف أمام الفرن ثانية لصنع المعجنات والحلويات بعد اليوم. لا تريد أن تنظف زجاج غرفة الضيوف، ولا أن تعتني بالأزهار على الشرفة.
لا تريد أن تجامل حماتها وأهل زوجها في أعياد ميلادهم التافهة الغبية. كل ما تتمناه اللحظة هو أن توقظ أمها من سباتها الطوعي، لتطلب منها أن تتنحى جانبا، لتدفن رأسها فوق أمعائها، وتنام. تريد أن ترعى غنمة عمها، وتسابق والدها إلى ربوة الجامع، لتكتشف أن نوار الأقحوان أزهر هو الآخر. تنظر إلى كفها وهي متدلية على طرف ذراعها التي يشد عليها زوجها، وهو يضربها بالحائط حتى تنظر إليه. تتخيل كفها قد استحال رغيفا ساخنا تلفه عروسة لبنة، تحنو بها على آخر العنقود.
ابتسام، ماذا كان يهيأ لأهلها حين سموها ابتسام، وهم اللاجئون طويلا، المهجرون كثيرا، الفلسطينيون دائما!