في فاكهة الصيف: للتوت لون الوطن و فوائد لا تفوتوها ..!
د. نزار جمال حداد -
أحبها حُبّا جَمّا، وعشقتهُ عِشقاً غامِراً، ولمُمانعة أهلهما نتيجة الخلاف العائلي، لم يجدا غير الشق في الجدار الفاصل بين منزليهما ليكون وسيلة للتواصل بينهما. يستعملان القش وأحجاراً متناهية الصغر يمررانها في شق الجدار ليندها بعضهما البعض. تطول الساعات في إطلاق الهمسات من ناحية الجدار، يتلقفها الآخر بأذن تكاد تلتصق بالجدار لتستجدي صوت المحبوب. وما إن ضاقا ذرعاً من شدة الشوق وحرقة الانتظار؛ انتهزا أول فرصة سانحة للقاء عند نبع الماء، بجوار شجرة التوت الكبيرة، تلك التي تحمل ثماراً زكية بيضاء. شجرة تهدلت أغصانها مُرخية بفيئها لعلها تسدل ستار السرية على لقاء الأحبة.
وصلت الجميلة المتيمة «ثيزبي» إلى المكان المنشود أولاً، وبينما هي تعدُّ اللحظات كأنها ساعات بل سنوات؛ وإذ بلبؤة مضرجة بدماء ثور التهمته للتو في الغابة جاءت لتستقي ماء. وبينما هي تهرب خائفة نحو الكهف القريب بحثاً عن مأوى سقط وشاح ثيزبي. ومع وصول «بيراموس» العاشق إلى المكان المرقوب، حيث كانت آثار أقدام اللبؤة على الأرض المخضّبة والوشاح بدماء الثور؛ انفطر قلب بيراموس فاستلَّ خِنجَرَهُ من غِمدِهِ وطَعَنَ نفسهُ حتى الموت وهو يُعَانِقُ الوشاح لعله يُكَفِّرُ عن ذنبه معُتقداً أن اللبؤة افترست ثيزبي وهي تنتظره. ما إن وصلت ثيزبي حتى كانت الأرض قد أُغرِقت بدماء شهيد الحب بيراموس، فلم تحتمل هول ما رأت، لتنزع الخنجر من صدره وتغرسه في صدرها، فارتوت شجرة التوت بدماء بيراموس وثيزبي لتصطَبِغَ ثمار التوت البيضاء بلون الدم القاني وتصبح حمراء؛ لتسبق هذه القصة الأسطورية اليونانية في حدوثها قصة شهيدي الحب روميو وجوليت لشكسبير.
من منا لم تتخضب يداه بدماء التوت عند قطافه، ثمار التوت؟ .
تلك- معشوقة الأطفال والشباب والشيبان على السواء. ألذها ما تلتقطه بيديك على الرغم من العقاب التابع لجمعها لما تفسده من ملابس، وأنت تهز الأغصان، لتتمتع بمشهد الثمار تتساقط من عليائها كأنها حبات مطر.
إنها ثمار لا تستطيع إلا أن تعشقها لنكهتها المميزة، فهي تتمتع بطعم خليط ساحر من الأحماض، حيث تتجتمع في ثمارها أحماض الماليك (حمض التفاح)، وحمض الاسكوربيك (حمض الليمون)، ممزوجة بحلاوة بديعة سببها الفركتوز والسكروز. وتحتوي على البروتينات والمواد الدهنية والكالسيوم والحديد والنحاس والكوبلت والكبريت والبوتاسيوم والفوسفور والمنجنيز وفيتامينات (أ، ب، ج) والفلانونيدات. لذلك تعتبر مصدراً ممتازاً للأملاح المعدنية. والقيمة الحرارية لكل 100غرام من ثمار التوت تبلغ أكثر بقليل من 7 سعرات حرارية.
ثمار عشقها الفراعنة وأسموها «الخوت»، وصنعوا منها عصيراً لعلاج حرقة المعدة وحالات السعال والكحة الشديدة، وخصوصا السعال الديكي، ووصفوها لعلاج البلهارسيا التي كانت منتشرة بشكل واسع في أيامهم.
ابن سينا، ابن البيطار، وداوود الأنطاكي وغيرهم العديد العديد من علماء العرب وصفوا التوت وعصيره كمطفىء للظمأ، ما يجعله رفيقاً رائعاً للصائم في رمضان. واعتبروه مفيداً للكبد وعلاج الحصبة والسعال، وتنقية الجسم من السموم، والمساعدة في علاج الجدري. أما أبوقراط؛ فقد استخدمها ووصفها كمضاد للالتهاب والروماتيزم، وكمدر للبول، وكمواد ملينة للأمعاء، وفي علاج اضطرابات المعدة وأمراض المسالك البولية، إضافة إلى استخدامها في علاج الزحار أو ما يعرف بالدزنطاريا، ناهيك عن مرض الأسقربوط.
وقد أثبت البحث العلمي الحديث صحة ما توصل له الأطباء قديماً، فقد تبين من خلال بحوثهم أن تناول ثمار التوت مفيد في حالات فقر الدم وآلام الحلق واللثة، وقدرته على خفض درجة حرارة المصابين بأنواع الحُمى والحصبة.
اما عصيره فمفيد في حالات الشعور بالعطش الشديد، وطرد الديدان المعوية، وعلاج الإسهالات. كما أن له تأثيرات إيجابية على الهرمونات الذكرية لدى الرجال، ما يجعله ذا فائدة في حل بعض مشاكل الضعف عندهم. وتبين أنه خافض لنسبة السكر في الدم والبول، ويستخدم عصير التوت في الصناعات الدوائية لإضفاء اللون والطعم المرغوبين على الأدوية، ولاسيما المخصصة للأطفال.
كما أن للقلب نصيب في ثمار التوت، ليس من باب العشق والحب فحسب، بل ومن باب العلاج أيضاً، حيث يساعد تناول ثمار التوت وعصيرها في انطلاق مادة أوكسيد النيتريك في الشرايين التاجية، مما يسهم في المحافظة على النشاط الشرياني وضغط الدم، ويمنع تشكل التخثرات الدموية في الشرايين.
أما أوراقه؛ فهي الأخرى لها قصتها، حيث ساد معتقد بين الناس تاريخياً أن سيدنا آدم أخفى عورته بأوراق التوت بعد سقوطه في الخطيئة، لتنتشر مقولة «وسقطت ورقة التوت» في الإشارة إلى انكشاف العورة والمستور. وهي ليست فقط مفيدة في إنتاج الحرير عند تغذي دودة القز عليها فحسب، بل يتم غليُها ونقعها لاستخدامها في العلاج في تطهير البثور والقروحات الجلدية. كما يستخدم منقوعها سائلاً للمضمضة لعلاج تقرحات الفم.
هذا ويضع الفلاحون مفارش من القماش النظيف أسفل الشجرة، ويعمدون إلى هز الأغصان لتتساقط الثمار وبعدها تجمع. وترفع المفارش إلى اليوم المثالي، حيث يترك السيء من الثمار على الأرض، ويسمح بعدها للدجاج البلدي بالتقاط الثمار، فيتمتع هو الآخر بهذه الثمار الشهية.
كل هذه الفوائد وغيرها الكثير لم يتم اكتشافها، ومنها ما نكاد نجزم أنه في طريقه نحو الاكتشاف، تجعل من شجرة التوت شجرة هامة. ولكن، وحتى لا نُفرط في التوقعات العلاجية لثمار التوت وأوراقه، دعونا نتعمق إذا في توقعاتنا العاطفية نحو التوت وشجره. فحسبنا نتلذذ بثماره في هذه الفترة الوجيزة من الصيف، التي يتوفر فيها من كل عام.
ولنحاول أن نمنح صغارنا متعة صبغ أيديهم بثمار التوت الأحمر، فأغلب الجيل الصاعد لا يعرف حتى شكل شجرة التوت، ولا أين تزرع وتنمو. دعونا نعلمهم أن حب الوطن ليس بالتنظير عن الوطنية، ولا بالزعيق والنفير، بل لعلنا نقول لهم أن لون التوت لدينا أحمر لأسباب غير تلك التي وردت في أُسطورة بيراموس وثيزبي؛ فـتوتنا الأبيض لعله مروي بعرق جبين فلاحين عشقوا تراب الوطن، وعشقوا شقوق أيديهم، وعشقوا تلوح جباههم بأسمر الشمس، وأصحاب القلوب البيضاء، أما توتنا الأحمر فمروي بدماء شهدائنا الذين ذادوا عشقاً وحباً لثرى هذا الوطن.
فصدق محمود درويش حين قال:
«وتسأل: ما معنى كلمة وطن؟
سيقولون: هو البيت وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل ورائحة الخبز والسماء الأولى
وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات وتضيق بنا!؟»
رئيس الاتحاد النوعي للنحالين الأردنيين