عقوق الأباء للابناء
هذا الموضوع قد يكون حساسا بالنسبة للبعض منكم ولكن لا بد من طرحه حتى نصون الاجيال المقبلة من التفسخ الاجتماعي وكراهية انفسهم قبل كراهية الغير وحتى لا تكون تلك الاجيال معول تدمير لمجتمعاتنا.
قد يتفق البعض معي في هذا الطرح وقد يعارضني بعضكم والاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية. وارجو من الاخوة والاخوات التفاعل مع هذا الموضوع الخطير الذي يتجاهله الكثير منا.
ما دفعني الى كتابة هذا الموضوع هو انتشار جرائم اعتداء الاباء على ابنائهم بحجج كثيرة منها ان ابناءهم يعقونهم وانهم - اي الاباء - يقومون بتربيتهم وتقويم اعوجاجهم! مع ان الناظر لهذه الجرائم يرى انها محاولة لتصفية الحسابات بين الوالدين وبين ابناءهم.
على الرغم من عدم انتباه الكثيرين لها، فإن عقوق الآباء للأبناء ظاهرة قديمة، غير أنها تأخذ صورا وأشكالا شتى. ففيما يطالب كل الآباء أبناءهم بأن يبروهم ويعاملوهم بالحسنى، وتنطلق دعاوى العلماء والشيوخ والدعاة محذرة الأبناء من عقوق آبائهم، لا يلتفت أحد من هؤلاء جميعا إلى قضية حقوق الأبناء على آبائهم. بينما يصرخ العديد من الأبناء شاكين منددين بعقوق آبائهم لهم.
كثيرا ما سمعنا أو قرأنا أو استنكرنا عقوق الأبناء لآبائهم أو سوء معاملتهم أو تنكرهم لهم أو قيامهم بفعل مسيء بحقهم يرفضه الدين والمجتمع إلا أنه نادرا جدا أن تطرق أحد أو ناقش أوطرح أو تناول موضوع عقوق الآباء أو بمعنى أصح ظلم الوالدين لأبنائهم أو التسبب بإيذائهم ماديا أم معنويا , ولا أعلم السبب في تجاهل كثير من الناس لهذا الأمر ! بل وقد تمادى البعض لتعزيز فكرة أن الوالدين لمجرد أنهم والدين فلهم على الأبناء حقوقا مهما فعلوا أو لم يفعلوا وبغض النظر عن إلتزامهم بالقيام بواجبهم على أكمل وجه أم لا ! رغم أنه في الإسلام للإبن حق على أبيه كما للأب حق الرعاية والتقدير والإحترام ...
لقد جعل الاباء اية (ولا تقل لهما اف ولا تنهرهما) سيفا مسلطا على الابناء يرهبونهم به ويؤذونهم بحجة انهما والدين.
عجبا هل تحول الدين الى سلاح يمارس القوي فيه سلطاته على الضعيف؟
صحيح نحن لانملك الحق في محاسبة أهلنا مهما فعلوا وليس ذلك هو ما أهدف إليه بل أرجو لو يضع الأهل سلوكهم ومعاملتهم لأبنائهم تحت المجهر ويراقبون مدى إلتزامهم بأداء الدور المرجو منهم ويحاسبون هم أنفسهم .
ترى هل يعي جميع الآباء أن لأبنائهم حق عليهم !؟
الوالدان هم من يعهد إليهم بتربية أبنائهم وبالتالي يعتبران مسئولان بنسبة كبيرة عن تصرفات أبنائهم ولكن الأبناء لا يختارون آبائهم ولا أهلهم ولا يملكون تربيتهم أو تغييرهم أو تصحيح توجهاتهم الخاطئة وبالتالي فإن مشقة العيش مع والدين أو احدهما يسيء لأبنائه لهي أصعب بكثير من تحمل العيش مع ابن عاق ...فكم من أب ظلم أبناءه أو قصر باحتياجاتهم أو مارس عليهم أسلوب القمع والدكتاتورية في التربية دون أن يحاسب نفسه بما فعل أو يتقي الله بهم ؟ وكم من أم أضاعت مستقبل أبنائها بتهورها واستهتارها ؟
ما أكثر ما يشكو الآباء من عقوق الأبناء. ولكن من يرفع شكوى الأبناء من عقوق الآباء؟!
هل من معتبر قبل وقوع الجناية.. أو مستدرك قبل فوات الأوان..؟!
إنه لتناقض عجيب أن يتلقن الأبناءُ البرَّ كلمات وشعارات.. وهم يرون مشاهد الإهانة وسوء الخلق ليل نهار! فمن أين يأتي البر المنشود؟!
إنها سلسلة ذات حلقات.. بالسلب أو بالإيجاب.. تتوارثها أجيال عقب أجيال.. وفق سنة لا تتخلف (الجزاء من جنس العمل).. كما في الأثر: "بروا آباءكم تبركم أبناؤكم".
فمن ورث البر كابراً عن كابر.. ورّثه لمن بعده.. وورثه هو "قرة عين" تهنأ بها حياته وتسعد بها ايامه ويضمن النجاة في الاخرة.
كما تدين تدان والبادئ اظلم.
وتعالوا بنا في جولة سريعة نرى بها مجموعة من عقوق الاباء لأبنائهم من أمثلة رأيتها بعيني وسمعتها بأذني.
سوء اختيار الام هو اهم دليل على عقوق الابناء لوالديهم. عندما يختار الاب اما لاهية لا هم لها سوى تمضية الوقت في النوادي او التجول في الاسواق مع صديقاتها او الاهتمام بالزينة والموضة مهملة ابناءها تاركة الاهتمام بهم للخادمة. عندما تكبر هذه الام فلن تجد ابناءها الى جانبها كي يساعدوها بل قد يضعونها هي او والدهم في دار المسنين. الابناء محتاجون الى عطف الام واهتمامها. وكم من كوارث حصلت بسبب عدم حصول الابن على الرعاية اللازمة من امه. الابن عندما يرى امه لاهية فإنه يبحث عمن يعوضه عن الفراغ العاطفي الذي خلفه غياب الام فنجد هذا الابن قد انضم الى رفقة السوء ويقضي جل وقته في الخارج ولا يعود الا ليلا. اذا كانت الام قد تخلت عن امومتها عندما كان الابناء بحاجة لها فكيف تطلب منهم الاهتمام بها؟ لن يقبل الابناء بذلك ابدا. ومن يذهب الى المحاكم النظامية والشرعية سيرى من القضايا ما يشيب له الولدان وكلها دعوى من الام او الاب على ابنائما متهمينهم بالتقصير في حقهما. ولو تأملنا تفاصيل تلك القضايا لعرفنا ان الوالدين قد اهملا حقوق ابنائهما فكيف يطلبان حقهما ممن اهملوهما؟
وكذلك الاب اذا كان مستهترا يقضي اغلب وقته مع اصدقائه ويهمل ابناءه بحجة انه وفر لهم ما يحتاجونه من مأكل ومشرب وملبس ونسي انهم يحتاجونه هو كأب وليس كحصالة نقود! الابن بالذات يحتاج الى ابيه فاذا تخلى عنه الاب فلماذا نلوم الابن عندما يتخلى عن ابيه فيما بعد؟
ومن الامثلة كذلك ان يحل الاباء لانفسهم ما يحرمونه على انفسهم. وقد رأيت حادثة جرت في احدى الشقق المجاورة لشقتي عندما كنت طالبا في جامعة القاهرة. في احد الايام سمعت شجارا وصراخا بين الام وابنتها في تلك الشقة. وبعد تدخل الجيران هدأت الام والابنة. وسألت احدى الجارات الام عن سبب الشجار. اجابت الام: ابنتي تحب احد زملائها في الكلية. ولم تنس الام ان تنهي جملتها ببعض الشتائم. ولكن ردة فعل البنت كان صاعقة هوت على رأس امها عندما قالت البنت: انت يا امي احببت ابي في الجامعة ثلاث سنوات وانت من اخبرني بذلك. لماذا تعاقبيني ان قلدت ما فعلتيه انت؟ فلزمت الام الصمت واكتفت موجهة ملامها الى ابنتها بقولها: اخرسي. والسؤال عنا لماذا احلت الام لنفسها ان تحب زميلها في الجامعة بل وتفاخرت بذلك وكررتها اكثر من مرة امام ابنتها؟ لماذا رفضت الام ان تحل لابنتها ما احلته لنفسها؟ ليست هذه محاولة لاضفاء الشرعية على ما فعلته البنت ولكنه احتجاج على انانية الام.
ومن الامثلة كذلك الايذاء البدني والنفسي الذي يمارسه الاباء بحق ابنائهم الذين لا حول لهم ولا قوة. فعندما يخطئ احد ابنائهم تجد سيلا من الشتائم ينهال على رأس هذا الابن مع جمل الاهانة والتنقيص منهم كجملة انت غبي او طول عمرك جاهل منذ متى انت تعرف شيئا؟ ولكن الوالدين لا يوجهانه الى التصرف الصحيح او ردة الفعل اللازمة لكل موقف. بمعنى اخر يعاقبونهم ولا يوجهونهم بل ويطلبون من الابن ان يعرف كيف يتصرف وكيف يرد! كيف يعرف هذا الابن ما عليه ان لم يعلمه احد؟ وقد حضرت يوما مجلسا ضم عددا من الاشخاص. اثناء الجلسة لاحظت احد الاباء قد اهان ابنه الموجود في تلك الجلسة وهو بالمناسبة شاب اعتقد ان عمره وقتها كان لا يقل عن 18 سنة. لم يكن داع من هذه الاهانة لان الابن وقتها لم يرتكب اي ذنب او تقصير. وعندما قلت له: هذا ابنك وعليك ان ترفع من قدره لا ان تهينه بدون داعي. فقال لي الاب: انا ابوه ومن حقي ان اقول عنه ما اشاء. هنا كانت ردة الأبن عنيفة عندما رفع صوته في وجه اباه قائلا له: يكفي يا ابي يكفي ليس من حقك ان تهينني امام الحضور وانا لم افعل شيئا.غضب الاب وقام ليضرب ابنه وهو يقول له: ولا تقل لهما اف ولا تنهرهما!! وتدخل الحضور لفض الاشتباك بين الاب وابنه.
ومن الامثلة التي نراها كثيرا في مجتمعاتنا المعاصرة هي رغبة الاباء ان يكون الابناء نسخة عنهم وهذا محال. فللابناء شخصية مستقلة يقوم الاباء بتسلطهم ورغبتهم في السيطرة واعتقادا منهم ان ابناءهم ملك لهم يحق لهم ان يفعلوا بهم ما يريدون يقوم الاباء بسبب ذلك بسحق شخصية ابنائهم ومحوها من الوجود. فالاباء يعتقدون ان ما تربوا عليه يجب ان يطبق على ابنائهم ونسي الاباء ان الزمان غير الزمان وان المكان غير المكان. فلقد تغيرت القيم والمفاهيم وفقدت معانيها القديمة واكتسبت معاني جديدة لم تكن في زمان الاباء. وهنا ينشأ الابناء في صراع مستمر بين بناء شخصيتهم المستقلة وبين رغبة الاباء المتسلطة. وبسبب هذا تهتز شخصية الابن وينمو وقد صار عاملا مفسدا في المجتمع لا عامل بناء. بل قد يتدخل الوالدان في حياة ابنائهم حتى في القرارات المصيرية ويفرضون عليهم ما يريدون لا ما يريده الابناء. ومن امثلة ذلك عندما كنت في جامعة القاهرة في كلية العلوم اخبرني احد زملائي في الكلية انه لا قدرة له على الدراسة في هذه الكلية لصعوبة المادة وانه ينوي التحول الى كلية التجارة لانه يميل اليها اكثر ولكن والده يرفض ذلك! فقلت له: هذه حياتك انت ومستقبلك انت لا مستقبل والدك. فطلب مني سلفة مالية حتى يستطيع الانتقال الى كلية التجارة. وانهى صديقي كلية التجارة بتفوق وكانت علاماته شبه كاملة. وعندما عرف والده بالامر ثار وغضب ولكن الابن قال لوالده: لقد انتهى الامر وتخرجت من الجامعة. وقد يرفض الوالد عريسا مناسبا تقدم لابنته لانه ليس غنيا ولا يملك سيارة! ومن اغرب الامور التي سمعتها هي اعتقاد الاب ان ابنته هي مشروع يجب أن يأخذ مقابله. احد اصدقائي هنا في بلدي الاردن وهذا الصديق قد سافر وانقطعت عني اخباره تماما منذ اكثر من 15 سنة. رأيته مرة حزينا وعندما سألته عن السبب اخبرني انه ذهب مع اهله لخطبة فتاة وبعد ان تم الاتفاق على كل شئ احضر والد الفتاة دفترا قديما وقال له بأنه عليه ان يدفع مبلغا يساوي الاف الدنانير وعندما سأله عن سر هذا المبلغ اجاب الاب بأن هذه هي المصاريف التي صرفها على ابنته منذ ان عرف وهي جنين في بطن امها انها بنت حتى تلك اللحظة! فقام الشاب غاضبا وغادرالمجلس هو واهله.
ومن الامثلة كذلك هي ما يمارسه الكثير من حرمان بناتهم مما يبيحونه لابنائهم بل وصل الامر في بعض الدول الى قتل البنت كي تحرم من الميراث ويتم اتهام البنت بشرفها للتغطية على هذه الجريمة. وقد يتآمر الوالدين مع ابنائهم الذكور بمنحهم ما لديهم من متاع الدنيا وحرمان البنات منها وحجتم في ذلك ان مال البنت سيذهب الى غريب اي زوجها! اي انهم يحرمون ان يذهب نصيب ابنتهم الى رجل غريب ويبيحون ان تأخذ امرأة غريبة انصبة ابنائهم! اليس هذا منطق اعوج؟
لدي من الامثلة الشئ الكثير ولكن يكفي ما اوردته لكم.
ولكن هناك من يحتج على استخدام كلمة عقوق الاباء وانما يجب ان يطلق عليها كلمة اساءة معاملة. ونقول لهم: لماذا التلاعب بالالفاظ والمعنى واحد؟ اليس عقوق الابناء لوالديهم هو اساءة معاملة؟
بعد كل ذلك ألا يوجد عقوق الآباء ؟ ألا يجدر بالآباء الإعتراف بحقوق أبنائهم وإحترامها وتحمل مسئولية واجباتهم؟
ان للابناء حقوقا على ابائهم وهي سابقة لحقوق الاباء على ابنائهم. ومنها تربيتهم تربية صالحة ينجون بها من النار ويسعدون في الدنيا والآخرة، قال تعالى لرسوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [ طه : 132 ]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} الآية [ التحريم : 6 ] أي: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة. وتبدأ العناية بالطفل قبل أن يدخل إلى رحم أمه؛ ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي
عليه وسلم قال : "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضى بينهما ولد لم يضره " فاذا كان الاباء ليس لديهم معرفة بالعلم الشرعي فعليهم تعلمه وحث ابنائهم على تعلمه.
ومنها ايضا وجوب النفقة عليهم إن كانوا فقراء، قال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، وقال
عليه وسلم : " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول"؛ رواه احمد وابوداود وصححه الإمام النووي.
ولكن هناك من يقول بأن تقصير الآباء في حقوق الأبناء لا يبرر عقوق وتقصير الأبناء. نقول لمن يقول مثل تلك الجملة: كيف تطالب بحقك وانت لم تعط الطرف الاخر حقه؟ ما كان حق لك هو واجب على ابنائك وما كان حقا لابنائك هو واجب عليك. اد ما عليك تجاه ابنائك سيؤدوا بدورهم جميع واجباتهم دون ان يطلب منهم احد ذلك. عندما يهين الاب مثلا ابنه في كل وقت سيتولد كره للاب في قلب الولد وسيطفح الاناء لا محالة وسينفجر في وجه الوالد .