قصة زواج قطر الندى
فكَّر خمارويه في تدعيم علاقاته مع الخلافة العباسية عن طريق المصاهرة، فعرض على الخليفة المعتضد زواج قطر الندى ابنة خمارويه من ابن الخليفة العباسي، إلا أن الخليفة المعتضد -وكان قد سمع عن محاسن وجمال قطر الندى- طلبها لنفسه بدلاً من ابنه. وقد بالغ خمارويه في جهاز ابنته وتكلف في ذلك ما يقصر دونه الوصف من بناء القصور في كل مرحلة على طول الطريق بين مصر وبغداد لنزول العروس، كما أكثر من الجواهر والتحف حتى إنه أنفق في ذلك مليون دينار؛ مما أدَّى إلى إفلاس خزانة مصر[32].
وكان جهازها الذي أعدَّه أبوها أسطوريًّا بالغًا في الإسراف إلى حدٍّ يفوق الخيال، وهنا أدعُ المؤرخ الكبير ابن تغري بردي يصف جهازها ورحلتها من مصر إلى بغداد، حيث يقول: "إنه جهزها بجهاز عظيم يتجاوز الوصف، حتى قيل: إنه دخل معها في جملة جهازها ألفُ هاون من الذهب"[33]، "ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته قطر الندى، أمر فبُنِيَ لها على رأس كل مَنْزِلة تنزِل فيها قصرٌ فيما بين مصر وبغداد… فكانوا يسيرون بها سيرَ الطفل في المهد؛ فكانت إذا وافت المنزلة وجدت قصرًا قد فُرِش، فيه جميع ما تحتاج إليه، وقد علقت فيه الستور، وأُعِدَّ فيه كل ما يصلح لمثلها، وكانت في سيرها من مصر إلى بغداد -على بُعد الشُّقَّة- كأنها في قصر أبيها"[34].
وكان هذا الإسراف من قِبَل خمارويه سببًا في إفلاس مالية البلاد، وكانت مصر من أغنى الدول وأكثرها ثراءً. ويبدو أن الخلافة العباسية عندما يئست من إخضاع دولة الطولونيين بالقوة لجأت إلى إضعافها بالسياسة، حتى قيل: إن المعتضد أراد بزواجه من قطر الندى أن يُفقِر أباها خمارويه في جهازها[35].
ولم يُحسِن خمارويه الاستفادة من الأموال الجمَّة التي تركها له أبوه، فأخذ يسرف في البناء وأنواع الترف، وأهم ما قام به توسيع قصر أبيه بالقطائع، وتحويل الميدان إلى حديقة غنَّاء لم يُسمَع بمثلها. ولما كَثُر أَرَقُه وامتنع عليه النوم، أنشأ بركة من الزئبق يقال: إنها خمسون ذراعًا عرضًا، يهتز عليها فراشه لينام وهو يتهدهد، وقد شُدَّ الفراش بخيوط من حرير إلى أعمدة من الفضة، واستكثر خمارويه من الجواري والغلمان حتى ضاعت هيبته. وتُوُفِّي قتيلاً على يد بعض جواريه في دمشق في ذي الحجة سنة 282هـ/ يناير 896م[36].
الدولة الطولونية بعد خمارويه
بعد وفاة خمارويه لم تستطع مصر الاحتفاظ باستقلالها الذي تعب أحمد بن طولون في تحقيق وجوده؛ إذ أصبحت مصر ميدانًا للضعف والفوضى من ناحية، ومسرحًا لأحداث دامية أطاحت بوحدة الطولونيين، وعجَّلت بزوال نفوذهم.
وقد حكم مصر بعد وفاة خمارويه ثلاثة من البيت الطولوني لم يزد حكمهم جميعًا على عشر سنوات، وخَلَفَ خمارويه ابنُه أبو العساكر جيش (282- 284هـ)، وكان صبيًّا طائشًا منغمسًا في اللهو، وأقبل على الشرب، واتخذ من سفلة الناس حاشيةً له، وخرجت بلاد الشام وما يليها عن طاعته؛ وعندئذٍ غضب عليه قوَّاد جيشه، وتبرأ العلماء من بيعته، وانتهى الأمر بخلعه وسجنه في سنة 283هـ/ 896م، وتولية أخيه الأصغر أبي موسى هارون (284- 292هـ) وكان صغيرًا لم تزد سِنُّه على الرابعة عشرة، الأمر الذي جعله لا يصلح للحكم. وفي عهده ظهر القرامطة في بلاد الشام سنة 289هـ، وهم طائفة سياسية اتخذت الدعوة إلى إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق وسيلة لتحقيق أغراضها، ونادوا بمبدأ شيوع الثورة، وقد أسَّس أحد قوادهم وهو أبو سعيد الجنابي دولة القرامطة ببلاد البحرين سنة 286هـ؛ حيث استطاعت هذه الدولة أن تبسط سيادتها على كثير من أرجاء الجزيرة العربية، وقد أنفذ هارون جيشًا لمحاربتهم ببلاد الشام، ولكن هذا الجيش عجز عن إخراجهم من بلاد الشام وقمع خطرهم[37].
أدَّى ضعف الدولة الطولونية إلى رغبة الخلافة العباسية في إعادة مصر إلى نفوذها المطلق، فأرسل الخليفة المكتفي قائدَه محمد بن سليمان الكاتب للقضاء على الطولونيين، فنزل بحمص وبعث بأسطول إلى سواحل مصر، وفي (تِنِّيس) التقى الأسطولان العباسي والمصري، فحَلَّت الهزيمة بأسطول مصر، ووقعت تِنِّيس ودمياط في يد محمد بن سليمان، وفرَّ هارون إلى العبَّاسة -بمحافظة الشرقية- حيث قتله عمَّاه: شيبان وعدي ابنا أحمد بن طولون في صفر سنة 292هـ/ 905م، فلم يرضَ قوادُ الجند عن عملهما. ولما عُيِّن شيبان على ولاية مصر رفضوا الموافقة على تعيُّنه، وكاتبوا محمد بن سليمان، فنزل الفسطاط، وألقى النار في مدينة القطائع عاصمة الطولونيين. وهكذا قُضِي على الدولة الطولونية، وخربت القطائع، ولم يبقَ منها غير المسجد الجامع شاهدًا على عظمة الدولة الطولونية[38].
الدولة الطولونية في عيون المؤرخين
لعلَّه من الإنصاف القول: إنه على الرغم من أن الطولونيين حكامٌ ينتمون إلى أصول غريبة عن مصر، وفدوا إليها قادمين من بغداد عاصمة الخلافة العباسية، فإن تاريخهم يمثِّل صفحة رائعة من تاريخ مصر؛ ذلك لأنهم كرَّسوا معظم جهودهم للنهوض بأمرها، وارتبطوا بها وتقربوا إلى المصريين، وأحاطوهم برعايتهم. وأبلغ دليل على ذلك ما قاله المؤرِّخ البلوي في أحمد بن طولون: "وأما إشفاقه على أهل مصر فكان يزيد على كل إشفاق، حتى إنه كان يجوز إشفاق الوالد على ولده، يحوطهم، ويرعى أحوالهم ومصالحهم، ويدفع كل مكروه عنهم"[39].
ولذلك عندما قضت الخلافة العباسية على الدولة الطولونية شعر المصريون بالحزن والحسرة، وبقيت ذكراها ماثلة في أذهانهم. ويشير المؤرخ أبو المحاسن إلى أن تلك الدولة كانت من "غُرَر الدول، وأيامهم من محاسن الأيام"[40].
أعلام الدولة الطولونية
1- في العلوم الدينية:
نبغ في عهد الدولة الطولونية عددٌ كبير من الفقهاء والمحدثين، نذكر منهم من علماء المالكية محمد بن عبد الله بن الحكم المصري المُتوفَّى سنة 268هـ/ 881م، الذي تولَّى الإفتاء بمصر، وكان فقيه مصر على مذهب مالك، وإليه تُشَدُّ الرِّحال من المغرب والأندلس، وله مصنَّفات كثيرة[41].
ومن المالكية أيضًا محمد بن أصبغ بن الفرج المتوفَّى سنة 275هـ/ 888م، وروح بن الفرج أبو الزنباع الزبيري المتوفَّى سنة 282هـ/ 895م[42]، وأحمد بن محمد بن خالد الإسكندراني المتوفَّى سنة 309هـ/ 921م[43].
أما الشافعية فقد نبغ منهم الربيع بن سليمان المرادي، صاحب الشافعي، وهو الذي روى أكثر كتبه، وقال الشافعي عنه: "الربيع راويتي"[44]. وقال أيضًا: "ما خدمني أحدٌ ما خدمني الربيع"[45]. وتُوُفِّي سنة 270هـ/ 883م[46].
ومن فقهاء الشافعية قحزم بن عبد الله الأسواني المتوفَّى سنة 271هـ/ 884م، وهو من أصل قبطي، وكان من جملة أصحاب الشافعي الآخذين عنه، وكان مقيمًا بأسوان[47]. ومن الشافعية أيضًا أبو القاسم بشر بن منصور البغدادي المتوفَّى سنة 302هـ/ 914م، الذي جاء إلى مصر وتفقَّه على المذهب الشافعي[48].
أمّا الفقهاء الحنفية، فمن أشهرهم القاضي بكار بن قتيبة الثقفي المتوفَّى سنة 270هـ/ 883م، وله أخبار في العدل والعفة والنزاهة والورع[49]. ومنهم أيضًا أحمد بن أبي عمران المتوفى سنة 285هـ/ 898م، وكان من أكابر الحنفية وهو شيخ الطحاوي[50].
2- في الطب:
اشتُهِرَت مصر في العصر الطولوني بالطب، فظهر منهم سعيد بن ترفيل، وهو مسيحي كان في خدمة أحمد بن طولون، وسعيد بن البطريق المتوفَّى سنة 328هـ/ 939م، وهو مسيحي أيضًا كانت له عِدَّة مؤلَّفات منها تاريخه المسمَّى (التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق)[51].
3- في الحياة الأدبية واللغوية:
كان أحمد بن طولون وابنه خمارويه يقرِّبان الشعراء ويبالغان في الإغداق عليهم، ومما يدل على كثرة الشعراء في مصر الطولونية ما رواه المقريزي عن القاضي أبي عمرو عثمان النابلسي في كتابه (حسن السيرة في اتخاذ الحصن بالجزيرة)؛ إذ قال: "رأيت كتابًا قَدْر اثنتي عشرة كراسة، كم يكون شعرهم مع أنه لم يوجد من ذلك الآن ديوان واحد"[52].
ومن الكُتَّاب الذين ظهروا في عهد الطولونيين جعفر بن عبد الغفار المصري، الذي اتخذه أحمد بن طولون كاتبًا له، ولم يكن لدى هذا الكاتب الكفاية والمقدرة بحيث يستطيع القيام بأعباء هذا المنصب، فأشار أحمد بن خاقان صديق أحمد بن طولون عليه بعزله، ولكنه رفض قائلاً: "أنا أحتمله لأنه مصري". فقال له ابن خاقان: "أراك أيها الأمير تفضِّل الكاتب المصري على الكاتب البغدادي". فقال له ابن طولون: "لا والله، ولكن أصلح الأشياء لمن يملك بلدًا أن يكون كاتبه منه"[53].
ووضح ازدهار الدراسات اللغوية في العصر الطولوني على يد الوليد بن محمد التميمي المعروف بولاّد، كذلك أنجبت المدرسة اللغوية أحمد بن جعفر الدينوري صاحب كتاب (المهذَّب في النحو)، وأبا جعفر النحاس صاحب كتاب (معاني القرآن ومنسوخه)، ومحمد بن حسان النحوي[54].
4- المؤرِّخون:
ظهر في مصر في العصر الطولوني بعض الكتّاب الذين اهتموا بتدوين التاريخ والخطط، ومن أشهرهم عبد الرحمن بن عبد الحكم القرشي المتوفَّى سنة 257هـ/ 871م، الذي يَمُتُّ إلى عصر الولاة أكثر مما يمتُّ للطولونيين، وكان من أهل الرواية والحديث، ثم شُغِفَ بالقصص والأخبار، وكَلِف بالتاريخ، ومن مؤلَّفاته كتاب (فتوح مصر)، ويُعَدُّ ابن عبد الحكم أول مؤرِّخ لخطط مصر الإسلامية[55].
ومن أشهر مؤرِّخي مصر في العصر الطولوني أبو جعفر أحمد بن يوسف المعروف بابن الداية، وقد ألَّف كتابًا في (سيرة أحمد بن طولون)، وكتابًا آخر في سيرة خمارويه، ويقول ابن زولاق: "وكان أبو جعفر أحمد بن يوسف الكاتب قد عمل سيرة أحمد بن طولون أمير مصر، وسيرة ابنه أبي الجيش، وأنشد في الناس، وقرأتهما عليه، وحدثتُ بهما عنه، مع غيرهما من مصنَّفاته، ثم عملتُ أنا ما فاته من سيرتهما"[56].
ويتضح من كلام ابن زولاق أن ابن الداية كانت له كتب أخرى في التاريخ، وقد أشارت المراجع الأخرى التي ترجمت له إلى هذه الكتب وهي كتاب (أخبار غلمان بني طولون)، وكتاب (حُسْن العقبى)، وكتاب (أخبار الأطباء)، وكتاب (المكافأة)[57].
وكذلك من أشهر مؤرخي الدولة الطولونية أبو محمد عبد الله بن محمد المديني المعروف بالبلويّ، ولا نعرف تاريخ مولده أو وفاته، ولكننا نعرف أنه ينتمي إلى قبيلة بَلِيّ العربية، وأنه عاش في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وكان ابن النديم أول من ترجم له في كتابه (الفهرست)، فذكر أنه كان عالمًا وفقيهًا وواعظًا، وأنه ألَّف كتبًا كثيرة منها: كتاب الأبواب، وكتاب المعرفة، وكتاب الدين وفرائضه[58]. وقد فُقِدت هذه الكتب جميعًا ولم يبقَ من مؤلَّفاته إلا كتابه (سيرة أحمد بن طولون) الذي يُعَدُّ من أهم المصادر لدراسة تاريخ مصر والشرق الأدنى الإسلامي في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)[59].
[1] موقع إسلام أون لاين.
[2] طولون تحريف لكلمة دولون، وتعني بدر التمام.
[3] موقع منتديات التاريخ.
[4] المصدر السابق نفسه.
[5] موقع محيط.
[6] محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص195.
[7] المصدر السابق ص195، 196.
[8] محمود محمد الحويري: مصر في العصور الوسطي ص104، 105.
[9] المصدر السابق ص104، 105.
[10] وهو ثائر ظهر في أسوان وشمال النوبة، وهو من سلالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واسمه عبد الله بن عبد الحميد بن عبد العزيز.
[11] محمود محمد الحويري: مصر في العصور الوسطي ص107.
[12] حمدي عبد المنعم محمد حسين: محاضرات في تاريخ مصر الإسلامية ص53، 54.
[13] السابق نفسه ص54-57.
[14] محمود الحويري: مصر في العصور الإسلامية ص106، 107.
[15] موقع إسلام أون لاين.
[16] محمود الحويري: مصر في العصور الوسطى ص113.
[17] حمدي عبد المنعم حسين: محاضرات في تاريخ مصر الإسلامية ص72.
[18] كان الرغيف في ذلك الزمن كبير الحجم.
[19] محمود الحويرى: مصر في العصور الوسطى ص114.
[20] حمدي عبد المنعم حسين: محاضرات في تاريخ مصر الإسلامية ص74-76.
[21] محمود الحويرى: مصر في العصور الوسطى ص116.
[22] المصدر السابق ص116.
[23] حمدي عبد المنعم حسين: محاضرات في تاريخ مصر الإسلامية ص76.
[24] المصدر السابق ص76.
[25] موقع إسلام أون لاين.
[26] ابن الأثير: الكامل 6/328.
[27] موقع مصر الخالدة.
[28] محمود الحويرى: مصر في العصور الوسطى ص110.
[29] إبراهيم أيوب: التاريخ العباسي السياسي والحضاري ص179.
[30] إقليم الحوف هو الأراضي الواقعة شرقي دمياط.
[31] محمود الحويرى: مصر في العصور الوسطى ص115.
[32] حمدي عبد المنعم محمد حسين: محاضرات في تاريخ مصر الإسلامية ص67، 68.
[33] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 3/66.
[34] المرجع السابق 3/74.
[35] موقع إسلام أون لاين.
[36] محمود الحويري: مصر في العصور الوسطى ص111.
[37] المصدر السابق ص112.
[38] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
[39] محمود الحويري: مصر في العصور الوسطى ص113.
[40] المصدر السابق، الصفحة نفسها.
[41] السيوطي: حسن المحاضرة 1/55.
[42] المصدر السابق 1/648.
[43] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
[44] ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/291، 292.
[45] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
[46] محمود الحويري: مصر في العصور الوسطى ص117.
[47] السيوطي: حسن المحاضرة 1/398.
[48] المصدر السابق 1/400.
[49] السابق نفسه 1/463.
[50] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
[51] محمود الحويري: مصر في العصور الوسطى ص117، 118.
[52] المصدر السابق ص118.
[53] السابق نفسه ص119.
[54] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
[55] محمود الحويري: مصر في العصور الوسطى ص119.
[56] المصدر السابق ص120.
[57] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
[58] ابن النديم: الفهرست ص243.
[59] محمود الحويري: مصر في العصور الوسطى ص119، 120.