المبحث الثاني: نموذج نظري لتوصيف محاولات الإصلاح
إن مشكل المشاكل في فهم نظريات الإصلاح([sup][4])[/sup] ومشاريعه ليس مصدره الإصلاح ذاته بل طبيعة صلته بالفعل العمراني.([sup][5])[/sup] فكل تصور إصلاحي يتحدد بمقتضى تصور فعل التعمير الإنساني (استعمار الأرض والتنافس على إرثها بما يطابق شروط الاستخلاف فيها وقيمه أو بما ينافيها) طبيعته وآلياته وشروط صحته ومرضه ومقومات حياته وموته. لذلك كانت فلسفة الإصلاح دائمًا مشروطة بفلسفة التاريخ وفلسفة الوجود. وليس يمكن أن نثبت لأمة فعلاً إصلاحيا حقيقيا يعد ثورة في تاريخ البشرية قبل الوعي الصريح بهما ووضع علامة كونية في تاريخهما، لا تقتصر على تلك الأمة بل تشمل البشرية كلها:([sup][6])[/sup] أولاهما تحدد آليات صنع التاريخ، والثانية تحدد طبيعة الفاعلية فيه. ولهذه العلة رأينا أن ننطلق في هذه المحاولة من تصنيف ضروب الإصلاح بصورة النمذجة النظرية، عَلَّنا بذلك نصل إلى سبل تساعد على تحليل طبيعة الأزمة التي يعاني منها فكرنا الإصلاحي الذي تبدو نتائجه كارثية في كل مستويات وجودنا التاريخي الحالي. سنبني النموذج بصورة مبسطة على النحو التالي. فلنفرض البنية النظرية البسيطة التالية. نميز أولا بين:
1- نوعين بسيطين من الإصلاح ليس من العسير بيان الإجماع على أنهما لا ينطبقان على الإصلاح من حيث هو فعل شامل يعالج قضايا العمران العامة.
أ- الصنف البسيط الأول (ولنسمه الإصلاح الصناعي) هو صنف إصلاح الأجهزة الصناعية المعطوبة حيث يكون الإصلاح فعلاً خارجيًا ليس للآلة المعطوبة فيه دور بل هي تتلقاه تلقي المنفعل: كإصلاح سيارة معطوبة مثلاً.
ب- الصنف البسيط الثاني (ولنسمه الإصلاح العضوي) هو صنف علاج عضو كائن حي أصيب بمرض أو بجرح حيث يكون الإصلاح عملية عضوية: كالشفاء التلقائي أو الاندمال الذاتي مثلاً.
2- ونوعين مركبين من الصنفين البسيطين، وكلاهما يراوح بين الانطباق السوي فيكون إصلاحًا بحق والانطباق المرضي فيكون اسمه إصلاحًا وهو في الحقيقة إفساد، سواء كان مقصودًا أو غير مقصود.
أ- الصنف المركب الأول (ولنسمه الإصلاح العمراني ذا النموذج الصناعي) صنف مزدوج الطبيعة لأنه يمكن أن يكون سويًا ويمكن أن ينحط إلى التصور الآلي للإصلاح فيصبح موقفًا إصلاحيًا يعامل العمران الإنساني بمنطق الصنف الأول. وهو ما يمكن أن نعتبره ممثلاً للموقفين اللذين سادًا خلال عصر النهضة العربية الإسلامية أعني العلماني والأصلاني في الحكم والمعارضة، حيث يعامل العمران الإسلامي معاملة الجهاز المعطوب الذي تبدل فيه القطع مثلما يحصل للسيارة المعطوبة باستيراد قطع الغيار إما من الماضي الغربي أو من الماضي العربي.
ب- الصنف المركب الثاني (ولنسمه الإصلاح العمراني ذا النموذج العضوي) هو صنف مزدوج كذلك لأنه يمكن أن يكون سويًا ويمكن أن ينحط إلى التصور العضوي للإصلاح فيصبح عندما ينحط موقفًا إصلاحيًا يعامل العمران الإنساني بمنطق الصنف الثاني، وهو ما يمكن أن نعتبره ممثلاً للموقفين اللذين سادًا خلال عصر الانحطاط، حيث يترك العمران الإسلامي لمسار شبه عضوي يخلو من العودة على الذات استسلامًا إما للحتمية الطبيعية فلسفيًا أو للقضاء والقدر دينيًا.
3- الجنس الذي يتضمن الأصل لا نعلم طبيعته ما هي، ويتهدده دائمًا التحول اليسير إلى أحد هذه الأصناف الأربعة المتفرعة عنه أو إلى مجموعة منها بعضها أو كلها. وهو عين ما يجري من محاولات الإصلاح الذاتي في العمران البشري عامة بل هو عين الفاعلية العمرانية المتردد بين هذه الأصناف دون أن ترد إلى أي منها. ولعل نظرية المجدد على رأس القرن محاولة ترمز إليه باعتباره حصيلة كيفية لمسار كمي مؤلف من حصائل ما ينتج عن التردد بين العناصر الأربعة السابقة.
ورغم أنه يعسر التحديد الإيجابي لخصائص الانطباق السوي في الصنفين المركبين والذي هو الإصلاح الحقيقي فإننا نستطيع بيسر أن نحدد الانطباق المرضي الذي يجعل الإصلاح إفسادا بما يعتمد عليه من رد لطبيعة الفاعلية العمرانية إلى ما يتنافى مع حقيقتها. فالانطباق المرضي لكلا هذين النوعين المركبين هو رد فاعلية العمران إلى الفاعلية الصناعية (يرد العمران إلى مجرد جهاز آلي ويتعامل معه بهذه الصفة)،([sup][7])[/sup] أو الفاعلية العضوية (يرد العمران إلى مجرد ظاهرة حية ويتعامل معه بهذه الصفة)،([sup][8])[/sup] وكلاهما يمثل انحطاط الفاعلية العمرانية إما بالخمود العضوي، كما حدث في ما نسميه بعصر الانحطاط من تاريخنا، أو بالركام الصناعي الميت كما نراه يحدث في ما نسميه بالتحديث الحالي في جل بلاد العرب. أما الجنس الذي يتضمن أصل أصناف الإصلاح جميعًا فهو مجهول الطبيعة لكونه عين منظومة العوامل الفاعلة في العمران أو الفاعلية التاريخية التي تمثل حصانة حضارة من الحضارات والتي تبقى من الغيب الذي لا يمكن تحديد طبيعته الحقيقية تحديدًا نهائيًا، كما تفعل الإيديولوجيات التي تعتمد عليها مدارس الإصلاح كلها.([sup][9])[/sup] وما يعنينا بصورة خاصة هو النوعان المركبان وبصورة أدق فإن ما يعنينا منهما هو شكلهما المنحط بالنكوص إلى النوعين البسيطين أعني التصور الآلي والتصور العضوي. وهما يحصلان بمنطقين: منطق التصور الذي يرى أصحابه الإصلاح علاجًا ظرفيًا سواء كان آليًا أو عضويًا يقوم به بعض الأفراد في جماعة معينة يطلق عليهم عادة اسم المصلحين لما طرأ على نظام أجهزة مجتمعهم من خلل يهدف إلى استرداد ما يتصورونه الحال السوية.
ومنطق التصور الذي يرى أصحابه الإصلاح فعلاً ملازمًا للقيام العمراني بصورة دائمة لأنه عين فعل الحصانة البنيوية التي تلازم العمران الإنساني من حيث هو عين فعل حياة التاريخ الإنساني المتميزة عن حياة التاريخ الطبيعي بمقومات تمثل فاعلية، ذاتية تتضمن القدرة على إبداع ما يجعل العمران يتطور تطورًا يمكنه من أن يبقى ذا فاعلية هي شرط بقائه التاريخي الذاتي وشرط إسهامه في التاريخ الكوني.
وبهذه الخاصية التي تضاعف فعل العمران من حيث هو دائم العودة على ذاته لتحصينها ليس بإصلاح الأعطاب فحسب بل كذلك بالاستعداد لكل الطوارئ، وبها خاصة يتميز التاريخ الحضاري عن التاريخ الطبيعي: مبدأ التطور بالعمل على علم بقوانين المعمول. فغير البشر من الحيوانات لها تاريخ طبيعي لا غير: أي إن ما يجري فيها يكون بمنطق الضرورة العضوية التي تتضمن آليات التكيف بالانتخاب الطبيعي مثلاً. لكن البشر لهم بالإضافة إلى آليات التاريخ الطبيعي آليات تاريخ حضاري مشروطة بعودة فاعليته الدائمة على ذاته ليستكمل ما لا توفره له آليات تاريخه الطبيعي: أي إن ما يجري فيهم لا يكفي فيه منطق الضرورة العضوية بل لا بد كذلك من منطق الاختيار والروية مثلاً.
ومعنى ذلك أن للإنسان ضربين من آليات التكيف، أولاهما تنتسب إلى التاريخ الطبيعي الخاضع للضرورة الطبيعية، والثانية تنتسب إلى التاريخ الحضاري الخاضع للحرية الخلقية. وقد وصف ابن تيمية هذين المنطقين ليحرر إرادة المسلمين من الاستسلام للجبرية الصوفية والفلسفية بأن سمى الأولى مجال الربوبية والمشيئة، والثانية بمجال الألوهية والإرادة: والإصلاح يتعلق بهذه الأخيرة خاصة دون أن يستثني الأولى بما في ذلك من منطلق المنطق القرآني لأن الإنسان بالعلم يمكن أن يتدخل في الضرورة الطبيعية ليحولها وهو معنى كونها سخرت له وكونه استخلف فيها:
وبين أن النوع الأول رد فعل طارئ على عمل الظاهرة الاجتماعية من خارجها ويقبل المقارنة عند انحطاطه مع العلاج التقني: المصلح هنا تقني يصلح جهازًا عاطلاً.
لكن النوع الثاني فعل ذاتي لعمل الظاهرة الاجتماعية نفسها ويقبل المقارنة عندما يكون سويًا مع العلاج الطبي السوي الذي يفعل مقومات الصحة والحصانة الذاتية للكائن للإبقاء على فاعليتها التطورية، فيكون المصلح هنا طبيبًا لا يتدخل في جهاز عاطل بل بفعل كائن حي ليصلح ذاته بشرط علمه بقوانينه.
وهكذا فالإصلاح في الحالة الأولى علاج ظرفي فني لعطل يظن طارئًا بصورة عرضية فلا يعتمد على آليات المقاومة الذاتية للمرض الملازم للصحة أو لعوامل الموت الملازمة لعوامل الحياة في كل كائن حي، كالحال في الإصلاح بمعناه الثاني. أما في الحالة الثانية فالإصلاح بنيوي خلقي يفعِّل ما في الكائن الحي البشري من قدرة على التكيف الذاتي المقاوم بآليات الإصلاح الذاتي لعلل الموت فيه، ويكون فيه المصلح من جنس الطبيب العالم بشروط الصحة الإنسانية.
ويمكن أن نطلق على هذا النوع الثاني اسم الإصلاح البنيوي الدائم وهو يختلف تمامًا عن الإصلاح الظرفي أو الطارئ. وبين أن الفرق الأساسي بين النوعين هو من جنس الفرق بين التعامل مع الجهاز الآلي الصناعي والتعامل مع الكائن الحي البشري مع اشتراكهما في شرط التعامل للعمل على علم أعني العلم بقوانين الجهاز الآلي وبقوانين الكائن الحي البشري.
فالنوع الأول من الإصلاح يتعامل مع العمران وكأنه جهاز صناعي يتم إصلاحه عندما يصيبه عطب ومن ثم فهو رد فعل لاحق وخارجي لحصول العطب، وليس فعلاً متقدمًا عليه بوصفه الاستعداد الدائم نظير جهاز المقاومة في الكائنات الحية، السيارة المعطوبة لا تصلح نفسها وليس فيها جهاز مقاومة لا واع ولا غير واع. فتكون محاولات الإصلاح التي هذا نوعها عمليات متوالية بتقطع كلما حصل عطب وقع الإصلاح بتدخلات من خارج الجهاز الصناعي نفسه. ولذلك فهي تقبل العلاج بما يسمى قطع الغيار كما نراه يحصل اليوم من استيراد للمؤسسات والقوانين والممارسات وأنماط الحياة بدائل عند من يعد الهم الأساسي تهديم الموجود واستيراد المنشود بدل تكوين شروط إبداعه، نزيل القطعة التي نتصورها معطوبة ونضع بدلها قطعة أخرى مستوردة نتصورها سليمة فيكون الأمر من جنس تركيب الأعضاء باستيراد قطع الغيار لأن ما نتعامل معه ليس سيارة معطوبة بل هو حضارة مريضة لم نفعِّل حصانتها الذاتية المبدعة للحياة دون الاقتصار على مقاومة المرض. لذلك يحصل الرفض.
أما النوع الثاني من الإصلاح فالعمران فيه ليس جهازًا صناعيًا يصيبه العطب أحيانًا ويكون سويًا أحيانًا أخرى بل هو كائن حي معرض للمرض من حيث هو حي وصحته هي ما فيه من جهاز مناعة ومقاومة فاعلة وليست مجرد رد فعل إلا في الظاهر.
وليس من شك في أن التصورين يقبلان العمل معا بل إن العمران البشري لا يخلو من تلازمهما حتى وإن كانت الحالة السوية هي التي يغلب عليها التصور الثاني والحالة المرضية هي التي يغلب عليها التصور الأول:
والمعلوم أن تعامل أصحاب العمل المباشر يغلب عليهم طريقة الفنيين الذين يصلحون عطلا طارئا بسبب ما يتميز به فعلهم من عجلة وراهنية مباشرة.
لكن الفكر عامة والفكر الفلسفي خاصة لا يمكنه أن يرضى بذلك ليس لمجرد كونه فعلاً غير مباشر فحسب بل لأن الفعل عنده لا يكون إلا عملاً على علم، ومن ثم فلا بد فيه من العلم بقوانين الأشياء حتى يتمكن من جعلها تعمل بذاتها فيكون تدخله من جنس تدخل الطبيب لا من جنس تدخل الفني.
ويقتضي هذا التمييز أن نوصِّف حركات الإصلاح خلال النصف الثاني من القرن العشرين الذي يعنينًا في هذه المحاولة بمميزاتها الداخلية والخارجية لاستخرج المقصود بها وتحديد ما علينا فهمه بمقارنة فكره منها ومن ثم تحديد خصائص الإصلاح في العالم الإسلامي. ويتقدم على ذلك تحديد طبيعة السياق أو نظام الظروف التي حصلت فيها أفعال الإصلاح والعلل التي جعلتها يغلب عليها النوع الصناعي بدل النوع العضوي إن صح التعبير. فالسياق ينقسم إلى بعدين محددين أحدهما يصف المنفعل الذي يراد إصلاحه والثاني يصف الفاعل الذي يعتبر علة العطب المراد إصلاحه:
1- سياق المحدد الداخلي أو سياق المنفعل: بداية هذا السياق هي ما يمكن أن يوصف بكونه الشروع في مقاومة الاستعمار المباشر للإمبراطوريتين اللتين قضت عليهما الحرب العالمية الثانية (الفرنسية والإنجليزية خاصة) والوقوع في الاستعمار غير المباشر للإمبراطورتين اللتين ورثتاهما (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قبل أفوله) ونهاية هذا السياق هي نهاية الحرب الباردة وعودة الاستعمار المباشر ولكن ببعدين أعمق:
الاستعمار السياسي (أنظمة الحكم) والاستعمار التربوي (أنظمة التربية).
الاستعمار الاقتصادي (نظام الإنتاج المادي) والاستعمار الثقافي (نظام الإنتاج الرمزي).
2- سياق المحدد الخارجي أو سياق الفاعل: بداية هذا السياق هي الانتقال من الاستعمار الأوروبي القاري أو الفاعل الأصلي إلى استعمار فكرى لثورتي أوروبا الفكريتين أو الفاعل المشتق:
(أي الولايات المتحدة؛ مستعمرة ثورة الإصلاح الديني والروحي في أوروبا الحديثة، وكذلك الاتحاد السوفييتي؛ مستعمرة ثورة الماركسية أو الإصلاح السياسي والمادي في أوروبا الحديثة).
ونهاية هذا السياق هي الاستعمار المطلق أعني العولمة مع ما يصحبها من محاولات يستعد بها قطبًا الغرب الحاليين أي أوروبا الموحدة والولايات المتحدة لقطبي الشرق المقبلين أي الهند والصين. فأين نحن في كل ذلك؟ هل نتعامل مع وضعنا تعامل الطبيب الذي يفعِّل جهاز المناعة بمعنييه أي المقاوم للمرض والمبدع لشكل الحياة القادرة على تحقيق شروط الصحة المقبلة؟ أي معنى يمكن أن نعطيه لمفهوم الإصلاح في هذه الحالة؟ الجواب لا يكون من دون عملية استقراء لتاريخ حركات الإصلاح لتحديد الكلي المشترك بينها جميعًا بوصفه عين طبيعة الإصلاح.
المبحث الثالث: فرضية العمل والقصد من وراء المحاولة
فلنحاول الجواب عن السؤال الأساسي في إشكاليتنا: ما الذي جعل فكر الإصلاح ينكص من المفهوم المبدع لمعنى السلف الذي بدأ حركة تحرر من التقليد (بوحي من ابن تيمية وابن خلدون) إلى المفهوم المقلد الذي انتهى عبودية لوثنيتين، وثنية الماضي الأهلي ووثنية الماضي الأجنبي (عند الأصولية والعلمانية)؟
في مستوى النظر والإبداع الرمزي: في الساحة الثقافية والتربوية.
في مستوى العمل والفعل التاريخي: الساحة السياسية والاقتصادية.
فرضية العمل التي نعتمدها في هذا البحث ذات فرعين:
الفرع الأول يتعلق بما عليه الأمر في فعل الإصلاح:
فالنكوص إلى القومية والدولة القطرية علته محاكاة ما حصل في أوروبا نهاية عصر النهضة التي أنهت أوروبا ذات الوحدة اللاتينية المسيحية أعني العمليتين اللتين مزقتا نسيج الأمة وكل مقومات وحدتها. ذلك أنه بخلاف ما حصل في أوروبا أصبح هذان الأمران عائقي كل نهوض ممكن ليس بسبب حصولهما بل بسبب الاستمرار عليهما تقليدًا لما أصبح منافيًا لمحددات الظرف في التنافس بين الأمم أو حيلولة دونه للظن بأن الوحدة الإسلامية تستوجب حتما أن تكون من جنس ما كانت وبنفس الشعارات التي لم تعد محركة للتاريخ بدل إبداع ما يحرك التاريخ ليحقق نفس الغايات.
إن أوروبا التي تحاكيها قومياتنا ودولنا القطرية لم يعد لها وجود منذ أمد طويل بل هي تجاوزت ما تحاكيه حركات الإصلاح عندنا لفهمها مقتضيات الظرف العالمي وتسعى إلى بناء الوحدة المماثلة للإمبراطورية الرومانية فعليا منذ الحرب العالمية الثانية في مستوى الواقع المادي ورمزيًا منذ عصر التنوير في مستوى الواقع الرمزي علمًا وأننا بهذا الصنيع قد قضينا على ما كان تجاوزًا له منذ نزول القرآن ونشأة الدولة الإسلامية متعددة الشعوب والقبائل المتعارفة.
الفرع الثاني يتعلق بمفهوم الإصلاح المنشود المفقود في ما يجري.
لعل الاعتماد على منهج العلاج التاريخي ومنهج العلاج البنيوي في آن قد يمكن من العلاج الهاديء الرصين. فهذا النكوص بوجهيه العلماني والأصلاني يقبل الفهم التاريخي بصورة تبين أنه قد جعل ما يقدم على أنه إصلاح إفسادًا. ولا بد لفهم هذه المسألة العويصة من الانطلاق من مبدأ جوهري: ليس فهم الحضارات عملية أجنبية عن فعلها من حيث هي منظومة مؤسسات صانعة للأشخاص الذين يبدعونها، بل هو الجزء الأرقى من كيانها أي إن فهمها لذاتها هو ذروة كيانها وهو نظير وعي المرء بنفسه. وبالتالي فإنه لا يمكن أن يكون مستوردًا لا من حيث المضمون ولا من حيث المنهج بل هو يكون دائمًا زبدة ما بلغ إليه العمران من النضوج الحضاري الذاتي.
وكل استيراد مستحيل لأنه يماثل استيراد المرء لوعيه بذاته: فهل يمكن أن يكون وعي غيري بذاته قابلاً للتركيب علي ليكون وعيي بذاتي من دون أحد أمرين إما أن نغير الوعي أو أن نغير الذات؟ لذلك فقد بات الإصلاح بهذا المفهوم عين هذه العملية التغييرية بالتهديم:
إما تهديم الذات لتطابق ما يزعم الوعي الحقيقي المستورد (وذلك ما يفعله العلماني).
أو تهديم الوعي المستورد ليطابق ما يزعم الذات الحقيقية (وهو ما يفعله الأصلاني).
ولما كان كلا الأمرين ممتنعًا بات فعل الإصلاح في مأزق لا مخرج منه من دون تحليله بمعنى التحليل النفسي لتحريره من هذا الاستلاب والاغتراب.
لذلك فالفهم الممكن عقلاً والذي يمكن أن يكون منطلقًا للجواب عن هذا السؤال هو آخر ما بلغه صوغ الفكر التاريخي الإسلامي لوعيه بذاته قبل أن يسيطر عليه الوعي المستورد. وهذا الوعي يتحدد في كل الحضارات بأصناف النخب التي تمثله. ففي اللحظة التي شرعنا فيها في النهوض خلال القرنين الأخيرين كان هذا الوعي تمثله خمس نخب على النحو التالي:
النخبة السياسية الحاكمة سياسيًا، وهي في الأغلب إما شيوخ قبائل أمية، أو مغامرين عسكريين لا يقلون عنهم أمية.
النخبة التربوية الحاكمة تربويًا، وهي في الأغلب إما فقهاء وعلماء دين في جامعات شبه ميتة أو متصوفة شاطحين في طرق شبه ميتة.
النخبة الثقافية الحاكمة أدبيًا، وهي في الأغلب شعراء بلاط وأدباء سير وخرافات شعبية.
النخبة الاقتصادية الحاكمة اقتصاديًا، وهي في الأغلب بعض الإقطاعيين والصناعيين البدائيين والتجار المغامرين مع شيء من القرصنة.
وأخيرًا الشعب الصامت الذي يئن تحت العبث الصادر عن هذه النخب التي لا تمثله والذي يعبر بين الحين والآخر عن معارضته بشيء من الفوضى والهرج الذي يمثله أفضل تمثيل الخارجون عن سلطان الدول الهشة التي كانت تحكم مقاطعات العالم الإسلامي حكم من يحلب الشعب لا حكم من يرعى مصالحه: من هنا المقابلة بين ما يسمى بالمخزن والسيبة في المغرب الأقصى وهي ظاهرة عامة حتى وإن لم يطلق عليها هذا الاسم الاصطلاحي إلا في المغرب.
وكل القراءات المستوردة وخاصة الماركسي منها لا تعير أي أهمية لهذه الحالة التي انطلقت منها حركات النهضة العربية والإسلامية الحديثة. لكنها تحاول فرض شبكة للفهم لا يمكن أن تساعد على فهم ما حصل منذئذ إلى الآن خاصة وأمر النخب لم يكد يتبدل كثيرًا بخلاف الظاهر:
فالنخبة السياسية ما تزال شيوخ قبائل ومغامرين من العسكر الذين جاءوا إلى الحكم بالانقلابات.
والنخب التربوية حتى وإن بدت قد تحدثت فهي بمقتضى خضوعها للانتخاب المفروض من النخبة السياسية تحولت إلى خدم الأحزاب والأنظمة التي هذه خصائصها.
والنخبة الثقافية صارت من جنس الطحالب التي تعيش حول شعارات التقدمية والعلمانية أو التأصيلية والأصولية ولا تبدع شيئًا يمكن أن يؤسس لثورة ثقافية حقيقية.
والنخبة الاقتصادية يكفي لتعريفها أنها صارت عامل التبعية الأساسي لكونها لم تؤسس لاقتصاد قابل للاستقلال بطبيعة الاقتصاد الذي اختارته أولاً وبحكم القُطرية الضيقة التي تنفي كل إمكانية للتنمية.
لذلك فمنطلقنا ينبغي أن يكون محاولة لتحديد طبيعة الفهم الذاتي الذي يحكم فعل الإصلاح الجاري حاليًا بعد أن صار كله فعلا مستوردًا مضمونًا ومنهجًا إما من الماضي الأهلي أو من الماضي الأجنبي وليس علاجًا للأوضاع الموجودة بما تستوجبه من حلول يقتضيها الظرف الذي صار كونيًا ودرجة المعرفة بما هي عليه وبما نسعى إليه لاستئناف دورنا في التاريخ الكوني.
فالنخب التي بدأت بها النهضة لا يمكن أن تكون مختلفة عن هذه النخب إلا بكونها كانت قلة تحاول التعبير عن إرادة ما كانت تسميه العامة بمنطق ما يمكن أن تستمده من الماضي الأهلي ومما بدأت تتعرف عليه تعرفًا شديد السطحية من الحاضر الغربي المعاصر لها. لذلك فهي قد استندت إلى أفضل ما في الماضي الأهلي لإعادة تأويله من أجل تحقيق ما تسعى إليه والقليل القليل الذي فهمته مما يجري من حولها في الغرب لكي تسهم في الحكم السياسي والتربوي والاقتصادي والثقافي.
لذلك ظن الكثير أن هذه البداية واعدة. لكن النتائج التي حصلت ينبغي أن تكون ثمرة لما فيها من عوامل معاكسة لهذا الظن. فهي سرعان ما نكصت إلى ما نراه عليها الآن بفرعيها العلماني والأصلاني. وينبغي أن يكون نكوصها أمرًا مكتوبًا فيها: في فهمها للماضي الأهلي وفي ما أخذته من الحاضر الغربي وفي هدفها من ترؤس حركة الإصلاح.
وما يعنيني هو أن أفهم هذا النكوص فهمًا بنيويًا بنفس الوجهين فهما يتجاوز اللحظة الراهنة وحتى التجربة العربية. ولا بد لنا بالإضافة إلى الفهم التاريخي من اعتبار النكوص ذاته جزءًا لا يتجزأ من فعل الإصلاح نفسه عندما يجري بحسب ما أشرنا إليه من الاستعمال المنحط للنموذج الصناعي. وكما أسلفت فالقراءة التي أقدمها للنكوص ولكيفية علاجه تعتمد على مصدرين:
فلسفة التاريخ العامة (أي دور فاعلية العمران في التاريخ التي تتواطأ عليها فلسفات الإصلاح الأساسية) والخاصة بالمسلمين (أي ما كتبه ابن خلدون).([sup][10])[/sup] وفلسفة الدين العامة (أي دور الدين في الإصلاح دوره الذي تتواطأ عليها فلسفات الإصلاح الأساسية) والخاصة بالإسلام (ما كتبه ابن تيمية).([sup][11])[/sup] ولا بد إذن من تحديد مراحل الإصلاح التي عرفتها الأمة لنحدد النضوج التاريخي المعلل لما يجري أمام ناظرنا. ويمكن أن نقترح المراحل التالية بصورة العد العكسي من غايتها إلى بدايتها بعد أن نبرز بالصورة التالية العناصر المقومة لفعل الإصلاح:
1- تصور موضوع الإصلاح ومنهجه التصور الذي تقوم به نخب حضارة من الحضارات (في حالتنا النخب الغربية ونخب المسلمين من تغرب منها ومن لم يتغرب)؟
2-ما يحصل من التصور في المستوى الفعلي (كل محاولات تحويل موضوع الإصلاح: في حالتنا ما عمله الاستعمار وأنظمة الاستقلال).
3- أثر التصور في الفعل حيث تحول كل العمل فصار مبنيا على فهوم إيديولوجية خاطئة وليس على نظريات علمية محققة للأهداف (في حالتنا تجارب الأحزاب التي وصلت إلى الحكم وما أدت إليه من تهديم نسقي لشروط القيام من دون تحقيق البدائل: أفضل مثال الإصلاحات الزراعية والإصلاحات التربوية ومحاولات التصنيع والتأميم).
4- أثر الفعل في التصور حيث تحول الفكر إلى بروباجندة وأصبحت التربية والثقافة وسائل للحط من مستوى الفكر والثقافة العامة. ولعل أفضل مثال هو أن الجامعات المصرية التي كانت تخرج نخبا من مستوى عالمي باتت في ذيل القائمة لفرط ما ساد من تسطيح إيديولوجي ومزاعم حول المساواتية (في حالتنا تقويم تجارب الأحزاب التي وصلت إلى الحكم: أفضل مثال تحول النقاش الوطني إلى تخدير دائم للرأي العام لتصوير الفشل الفعلي نجاحًا وخاصة محاولات إطالة نظرية المؤامرة والمقاومة للإبقاء على الأنظمة الفاشلة).
5- القيام الذاتي للفعل العمراني أي أصل الأبعاد السابقة. فهو عين القيام الذاتي من حيث هو ذات إنسانية تدرك ظرفها وتتعامل معه بشرط التعامل العقلي المسبوق والمصحوب والمشفوع بالروية العقلية، ومن ثم بالنظر المؤسس للعمل على علم. ومن ثم فالأصل هو الكيفية التي يفهم بها الإصلاح في الفكر والفعل الإصلاحيين في حضارة من الحضارات أعني الوعي الحضاري لأمة حية تبدع تاريخها في كل لحظة ولا تستورده من ماضيها فضلاً عن استيراده من ماضي غيرها (وفي حالتنا بمستويات المنظور التالية التي حكمت تاريخنا الفكري والفعلي). وبذلك يصبح بالوسع أن نحدد بصورة شبه علمية مقومات فعل الإصلاح الذي أدى إلى ما نراه من نتائج وخيمة في لحظتنا الراهنة: