منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:41 am

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية
 د. أبو يعرب المرزوقي([sup][1])[/sup]         
تمهيد:
من المعلوم أن الإصلاح مسألة عملية بل هي ذروة المسائل العملية في الفعل الإنساني. ومع ذلك فليس هذا البعد هو ما يعنيني في هذه المحاولة. ما يعنيني ليس فعل الإصلاح في وجهه العملي كما يراه أصحاب العمل الإصلاحي المباشر، سواء كان ذلك في منظومة فكرية أو في فعل سياسي معين، بل الشروط التي تحدد نجاح العمل الإصلاحي أو فشله. أعني المسألة التالية: هل يمكن للإصلاح من حيث هو ذورة عملية أن ينحصر في وجهه العملي فيبقى حكرًا على أصحاب العمل الإصلاحي المباشر فكريًا كان أو سياسيًا أم إن كونه ذروة عملية يجعله بالضرورة في آن ذروة معرفة علمية بالفعل الإصلاحي وشروط النجاح والفشل فيه لكون المعرفة العلمية تعد شرط تحديد الغايات والوسائل والعلاقة بينهما في الاتجاهين ومن ثم فهي العمل على علم؟
فرضيتي هي أن ما يحصل في حركة الإصلاح العربية الإسلامية علته خلل يقبل الوصف المنطقي والخلقي والتاريخي والسياسي من منطلق هذا الفهم للعمل على علم. وذلك ما أريد تقديمه لحضراتكم آملا ألا نواصل الخلط الذي كثيرًا ما يقع الخلط بين الفكر النظري ومجرد التخمين الفكري كما يحصل عادة عند من يخلط بين الخيال العلمي الذي هو جوهر النظر والعلم الخيالي. والفرق بينهما كالفرق بين مجرد التخمين الأدبي للتغلب على حاجزي الزمان والمكان بالسجاد السحري في ألف ليلة وليلة وبين علم قوانين الطبيعة التي تمكن من إبداع وسائل الاتصال والمواصلات. وهو ما يفهمنا مفارقة القول الخلدوني المشهور بأن العلماء أبعد الناس عن السياسة رغم كونه كان يسعى لوضع علم السياسة ما يعني أنه أدرك طبيعة هذا الخلط ومن ثم التمييز بين الخيال العلمي في الإبداع العلمي والعلم الخيالي في الإبداع الأدبي.
وحتى نعالج هذه الإشكالية بهذا المنظور لا بد أولاً من وصف الحاصل في مجال الإصلاح الواقع، وواجب الحصول الذي يقتضيه مفهوم الإصلاح إذا كان عملاً على علم، حتى نؤسس لفرضية العمل في هذه المحاولة والقصد من ورائها. وقد اخترنا الاعتماد على منهجية المقارنة الداخلية بين خصائص تجاربنا أولاً والمقارنة الخارجية مع خصائص التجارب الأساسية في التاريخ القريب منها لإثبات هذه الفرضية.
ونحن نسعى بذلك إلى تحديد الوضع العربي الراهن بوصفه فوضى لعلها تكون خلاقة حتى وإن غلب عليها حاليًا الطابع الهدام عينة من الوضع الإسلامي الذي لا يختلف عنه كثيرًا. وقد استعملت هذا المصطلح لأن وضعنا الفوضوي غني عن المفهوم الأمريكي الذي لم يعد مذكورًا. وسيتضمن البحث تأملات فلسفية حول معاني الإصلاح في الفلسفة كما يقصها تاريخ المحاولات الإصلاحية وفي الدين كما يقصها القرآن الكريم حتى وإن كان ذلك مما يستهجنه الكثير من السامعين والقراء.
وبما أني لا أنوي مقارنة أعيان التجارب لتقويمها عينيا أو للمفاضلة بينها. فغرضي هو محاولة تحديد الصفات العامة المشتركة بين محاولات الإصلاح من حيث هي إصلاح، وذلك حتى يمكن فهم الحكم العام الذي يشملها سعيًا إلى تعليل صلتها بتحقيق غرضها إيجابًا وسلبًا مع تسليمي بغلبة الوجه السلبي، كما هو بين من حال التخبط التي يعاني منها المسلمون.
والهدف الأساسي هو محاولة تعليل هذا التخبط بأزمة تتجاوز التصنيفات العادية التي تفسر الفشل في عمل من الأعمال بقصور جزئي يتعلق إما بإرادة الأشخاص الفاعلين أو بأخطائهم المنهجية أو بالعوائق الخارجية. فهذه الأزمة لكي نقربها تقبل المقارنة بما يحصل في مجال المعرفة قبل أن تصبح علمية وفي مجال العمل قبل أن يصبح مستندًا إلى المعرفة العلمية. وهذه الأزمة سأرمز إليها بنموذجين كلاهما عرف بالاستفهام الساخر:
أحدهما شعري ديني ويمثله إبراهيم الخليل عليه السلام.
والثاني علمي فلسفي ويمثله سقراط عليه التسليم.
ويجمع بين النموذجين المنهج القرآني (الجامع بين الصيغتين الإبراهيمية والسقراطية والمتجاوز لهما ويمكن أن نطلق عليه اسم النموذج المحمدي).
وهذه الأزمة لها أصل صريح في علم الكلام يسمى منهج قياس الغائب على الشاهد في منافاة صريحة لما يدعو إليه القرآن الكريم، أعني العكس تمامًا، أي قياس الشاهد على الغائب حتى يبقى العلم الإنساني مفتوحًا إلى الأبد، فلا يدعي أحد أنه قد قال الكلمة الأخيرة في أي موضوع لما فيه من بعد غيبي. والفرق بين هذين التصورين للعلاقة بين الشهادة والغيب هو عين الأزمة التي تعاني منها كل محاولات الإصلاح بحيث يصبح وصفها بكونها وثنيات وصفًا أمينًا: فهي ناتجة عن رد المثال الأعلى إلى أحد أعيانه لظنها علمها محيطًا ومن ثم فهي تضفي الإطلاق وتنفي صيرورة التقدم العلمي والاجتهاد الدائم.
إن المشروعات الإصلاحية التي تهمني لا تقدم العناية بما كتبه الأعلام المشار إليهم في ورقة الندوة بل هي تؤخره دون أن تهمله لتقدم عليه ما هو فاعل بحق في تاريخنا الحديث أعني المشروعات التي يعبر عنها أصناف النخب الخمسة المستولية على الفعل والمستبدة به (ومنها وثائق الأحزاب الحاكمة ومؤلفات الزعماء من جنس فلسفة الثورة والكتاب الأخضر وتوجيهات بورقيبة...إلخ).
المبحث الأول: حال الإصلاح بين الموجود والمنشود
فلنبدأ بوصف الموجود حتى لا يكون بحثنا من جنس ما يعيبه ابن خلدون على الفكر الفلسفي العربي الوسيط: مجرد كلام حول ما ينبغي أن يكون بدل البحث في قوانين الكائن. بحثنا يدور حول قوانين ما هو كائن، حتى وإن كان النموذج النظري الذي نعتمد عليه لا صلة له بما هو كائن -كالحال في طبائع النماذج النظرية- لكونه جهازًا نظريًا من جنس الهندام في فن العمارة: من طبيعة الهندام أنه يلقى جانبًا بمجرد الفراغ من تشييد البناء.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:42 am

المسألة الأولى: المقصود بالإصلاح الحاصل:
ليست مشروعات الإصلاح الورقية هي التي تعنيني بل حركات الإصلاح الجارية فعليًا من قبل من بيدهم السلطة من المستبدين بها بشرعية القوة لا بقوة الشرعية أعني أني سأبحث في ما تقوم به الأنظمة الحاكمة والحركات المعارضة في الوطن العربي بصنفيها عينة من أمثالها في دار الإسلام:([sup][2])[/sup]
أفعال الإصلاح التي تقوم بها أنظمة حاكمة تسمي نفسها قومية وهي شبه علمانية. ولها فاعليتان: 1- سطحية الاضطراب الفوضوي للعنف الرمزي الناتج عن اليأس مما يجري في مستوى الفاعلية الرمزية أي في التربية والثقافة 2- وعميقة لا يمكن الحكم عليها حاليًا، لكننا نعلم مجال فعلها ما هو: أعني التوق إلى إحياء الوعي الدنيوي العميق في النخب.
أقوال الإصلاح التي تقوم بها حركات معارضة تسمي نفسها إسلامية وهي شبه دينية. ولها كذلك فاعليتان: 1- سطحية هي الاضطراب الفوضوي للعنف المادي الناتج عن اليأس مما يجري في مستوى الفاعلية المادية أي في السياسة والاقتصاد 2- وعميقة لا يمكن الحكم عليها حاليا لكننا نعلم مجال فعلها ما هو: أعني التوق إلى إحياء الوعي الديني العميق في عامة الشعب.
والفاعليتان المباشرتان تمثلان في ذروتهما المرضية بقايا الحرب الباردة التي حولتهما إلى حركتين جذريتين وظفهما الصراع بين القوتين الأعظمين وبصورة أدق الأنظمة العربية التابعة لهما على النحو التالي:
فالأصولية المفرطة ليست إلا تحولا حصل في أداة الأنظمة الدينية وحليفها الأمريكي خلال الحرب الباردة: وذروتها لا يمكن أن تتعين إلا في الإرهاب المادي لليأس من تغيير الواقع السياسي والاقتصادي.
والعلمانية المفرطة ليست إلا تحولا حصل في أداة الأنظمة القومية وحليفها السوفياتي خلال الحرب الباردة: وذروتها لا يمكن أن تتعين إلا في الإرهاب الرمزي لليأس من تغيير الواقع الثقافي والتربوي.
وذلك لأن الحركات الأولى أنشئت في الأصل لتكون أداة توظفها أمريكا ضد الاتحاد السوفياتي والأنظمة الحليفة معه. ثم تحولت ضدهما لما تخلت عنها أمريكا. والثانية أنشئت لتكون أداة يوظفها الاتحاد السوفياتي ضد أمريكا والأنظمة الحليفة معها. ولما سقط موظفها اضطرت للاحتماء بمن كانت تعارضه فانضمت إلى صفه في المعركة ضد الحصانة الروحية التي بقيت صامدة أمام الغزو الثقافي.
ثم أحيت أمريكا ومن يحالفها من الطائفيين بقايا الحرب التي بردت فجعلتها تصبح حارة بإحياء حزازات الماضي العقدية والإثنية: حرب الطائفيات العقدية (مسلم مسيحي، أو سني شيعي) والسلالية (عربي فارسي، أو عربي كردي، أو عربي أمازيعي، أو عربي زنجي).
والمعلوم أن مقارنة بسيطة بين الدفقة الأولى من الإصلاح وما يجري حاليًا من إصلاح تبين تردِّي الفكر الإصلاحي إلى ما يشبه الحلول السهلة المتمثلة في الاستجابة للحاجة الملحة بمحاكاة الحلول الجاهزة، سواء كانت مستوردة من ماضينا أو مما يُظن حاضر الغرب، وهو في الحقيقة ماض لمجرد كونه قابلاً للمحاكاة (إذ لا بد أن يكون قد وقع حتى يكون قابلاً للمحاكاة وما وقع بعد ماض وليس حاضرًا فضلاً عن أن يكون مستقبلاً).
المسألة الثانية: توصيف الفكر الإصلاحي بأبعاده التالية:
1- التوصيف المنطقي: الخلاف بين مدارس الفكر الإصلاحي الحالية يدور حول المواقف من موضوع الإصلاح وليس حول العلم بمقوماته وحقائقه. ومن ثم جاء نفي كل إمكانية للوصول إلى فهوم مشتركة بين المتصارعين وأصبح الحوار بينها ممتنعًا.
2- التوصيف الخلقي: الخلاف بينها يمكن اعتباره خلافًا بين من يرد مشكلات الإصلاح إلى مشكلة العلاقات الشرطية (علاقة غاية بوسيلة ومن ثم حسابات دنيوية خالصة) ومن يردها إلى مشكلة العلاقات القطعية (علاقة قيمة بسلوك ومن ثم حسابات أخروية خالصة). وبالتالي فلا وجود لأي فرصة للصلح بين الصفين وهو ما يقتضي الحرب الأهلية الدائمة.
3- التوصيف التاريخي: الخلاف هو بين التحديث المحاكي للماضي الأجنبي والتأصيل المحاكي للماضي الذاتي. ومن ثم ففي الحالتين يغيب مفهوم إبداع المستقبل. ولما كانت المحاكاة في الحالتين حجابًا إيديولوجيا فإن ما يجري هو ترك الأمور تجري على الغارب عند كلا الفريقين والاكتفاء بالكلام على الحداثة والأصالة عندهما للتلهي عن العلاج الفعلي لمشاكل الإصلاح.
4- التوصيف السياسي: يتنكر الخلاف حول إدارة الشأن العام إلى خلاف حول مقابلة زائفة بين الدولة الدينية والدولة المدنية. لكن العلمانيين يقلبون وظيفة الدين التحريرية إلى أداة تخدير للشعب والأصوليين يقلبون وظيفة الدولة المدنية التحريرية إلى أداة تخدير للشعب بما يضفونه على شكلها المتخلف من طابع مقدس لا يقره الإسلام.
والجامع بين الأمرين الأولين: هو المقابلة الزائفة بين العقل المزعوم والنقل الموهوم. والحلول المقترحة هي ما يسمى بالتوسط بين العقل والنقل، وهو حل مقيت يلغي العقل والنقل في آن بما يحدثه من مزاج هزيل بينهما: لإغفال طبيعة العلاقة بين الدنيا والدين أعني كونها من جنس العلاقة بين الدليل والمدلول أو بين الجسد والروح.
والجامع بين الأمرين الثانيين: هو المقابلة الزائفة بين الكونية والخصوصية والحلول المقترحة هي ما يسمى بالتوسط بين الخصوصية والكونية، وهو حل مقيت يلغي الخصوصية والكونية في آن بما يحدثه من مزاج هزيل بينهما: لإغفال طبيعة العلاقة بين الخصوصي والكوني، أعني كونها من جنس العلاقة بين العضو والوظيفة.
المسألة الثالثة: ما تقتضيه طبائع الأشياء:
لا بد لتحديد هذا النوع من الإصلاح أن ننطلق من الكلام على الناطقين باسم هذه المجالات أي النخب المسيطرة عليها وطبيعة وعيها بالعلاقة بين النظر والعمل بصرف النظر عن هذه الحجب المذهبية التي لا تغير من طبيعة الوجه المؤثر فعليا في الإصلاح، من حيث هو فعل يقبل التعريف بكونه عمل العمران على علم بقوانينه، ومن ثم فهو لا يتغير مهمًا تغيرت الإيديولوجيات. فكيف نحدد طبيعة هذا الإصلاح تحديدًا موجبًا يتعالى على المقابلات الإيديولوجية تمامًا كما نحدد العلاج لأي مرض بصرف النظر عن الإيديولوجيات المتعلقة بالمرض أو بما يشعر به المريض، حتى وإن كنا لا ننفي أن يكون لهذه العوامل بعض التأثير، وهو في الغالب تأثير نفسي بُعْده المحبط أكثر فاعلية من بُعْده المشجع.
لن يتسنى لنا ذلك إلا من خلال المقومات المؤسسية الخمسة التي يتقوم بها أي عمران بشري واجتماع إنساني وعلى رأسها النخب الفاعلة بواسطتها والناطقة باسمها:
نخبتا صورة العمران أي: 1- النخبة السياسية. 2- والنخبة التربوية.
ونخبتا مادة العمران أي: 3- النخبة الاقتصادية. 4- والنخبة الثقافية.([sup][3])[/sup]
فنقارن الإصلاح الحاصل في هذه المؤسسات بالإصلاح واجب الحصول أعني ما يحصل عندما تصبح عملية الإصلاح العمراني ذاتية الحركة وليست عملاً لا يتحقق إلا بتدخل خارجي وتركيب الأعضاء أو استبدال قطع الغيار. ولعل هذا التعريف هو التصور الأقرب لمطابقة معنى الإصلاح الحقيقي.
5- ثم النخبة اللامحددة أو المعين الدائم لتحدي النخب السالفة من النخب الخالفة دون فصل قبلي بين هذه الوظائف. وتلك هي المؤسسة الخامسة أعني الرأي العام أو التعبير العام الذي يمكن أن يكون مقياس شرعية الأنظمة الأربعة السابقة وتمسك الرأي العام الشعبي بها ومن ثم بالشرعية القائمة. ومن جنسها الرأي العام في ضمير كل فرد، من حيث دوره مثلاً في جعل خالد بن الوليد لا يستطيع أن ينقلب على عمر بن الخطاب لما عزله وجعل أي قائد عسكري في الغرب عاجزًا عن القيام بانقلاب: أعني قيم الأمة المجمع عليها إلا في حالات الفوضى والهرج والمرج الظرفية. وهذه الشرعية نوعان فضلاً عن كونها ذات تعيين:
مادي في مؤسسات التعبير عن الرأي العام التي لا يمكن أن يخلو منها مجتمع مهما كان بدائيا على الرغم من أنها صارت اليوم أكثر بروزا بفضل التقدم في المؤسسات الإعلامية.
ومعنوي هو ما يحصل في ضمير المواطنين من تقويم صامت في الغالب لكنه مثل الحمى الكامنة ينفجر أحيانًا فيكون ممثلاً بالهرج العمومي.
فالشرعية بالنسبة إلى صورة العمران بوجهيها أي التطابق بين الوجهين والدليل عليه يمكن اعتبارها بمصطلح أصول الفقه تحقيق حفظ مقصدي النفس والعقل: فإذا كانت صورة العمران أي السياسة والتربية محترمة للنفس والعقل فإن صورة العمران تكون عاملة بشروط الشرعية الممدة لها بالفاعلية القصوى.
والشرعية بالنسبة إلى مادة العمران بوجهيها أي التطابق بين الوجهين والدليل عليه بنفس المصطلح تحقيق حفظ مقصدي الملكية والكرامة: فإذا كانت مادة العمران أي الاقتصاد والثقافة محترمة للملكية والكرامة، فإن مادة العمران تعمل بشروط الشرعية الممدة لها بالفاعلية القصوى.
والشرعية الشاملة التي هي ما يعبر عن التناسق بين الشرعيات الأربع دليلها تحقيق حفظ مقصد الدين بنفس المصطلح أعني المعتقد الحر بوصفه حال القيم في أمة من الأمم أو خياراتها الوجودية. فيكون المعنى العميق للمقاصد إذا فُهمت على حقيقتها هو ما بينه ابن خلدون عندما اعتبرها محددة لمهام الفعل العمراني في علمه الجديد: فمقصد الدين أو جعل كل شيء في خدمة الإنسان الخليفة يتألف من المقاصد الأربع الأخرى الضامنة لهذه الشرعيات، المال للاقتصاد والكرامة للثقافة والنفس للسياسة والعقل للتربية.
والإصلاح لا يكون إصلاحًا إلا بهذه الشروط وهو بغيرها يكون إفسادًا. وبهذه المعاني يمكن القول بصورة جازمة لا لبس فيها: حركة الإصلاح الحالية نكصت ليس بالقياس إلى الدفقة الأولى عند نزول القرآن ولا حتى بالقياس إلى ما ولاها من لحظات استفاقة في التاريخ الإسلامي ممثلة بما يسمى بالمجدد على رأس القرن قبل عصر الانحطاط بل حتى بالقياس إلى بداية النهضة في القرن التاسع عشر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:43 am

المبحث الثاني: نموذج نظري لتوصيف محاولات الإصلاح
إن مشكل المشاكل في فهم نظريات الإصلاح([sup][4])[/sup] ومشاريعه ليس مصدره الإصلاح ذاته بل طبيعة صلته بالفعل العمراني.([sup][5])[/sup] فكل تصور إصلاحي يتحدد بمقتضى تصور فعل التعمير الإنساني (استعمار الأرض والتنافس على إرثها بما يطابق شروط الاستخلاف فيها وقيمه أو بما ينافيها) طبيعته وآلياته وشروط صحته ومرضه ومقومات حياته وموته. لذلك كانت فلسفة الإصلاح دائمًا مشروطة بفلسفة التاريخ وفلسفة الوجود. وليس يمكن أن نثبت لأمة فعلاً إصلاحيا حقيقيا يعد ثورة في تاريخ البشرية قبل الوعي الصريح بهما ووضع علامة كونية في تاريخهما، لا تقتصر على تلك الأمة بل تشمل البشرية كلها:([sup][6])[/sup] أولاهما تحدد آليات صنع التاريخ، والثانية تحدد طبيعة الفاعلية فيه.
ولهذه العلة رأينا أن ننطلق في هذه المحاولة من تصنيف ضروب الإصلاح بصورة النمذجة النظرية، عَلَّنا بذلك نصل إلى سبل تساعد على تحليل طبيعة الأزمة التي يعاني منها فكرنا الإصلاحي الذي تبدو نتائجه كارثية في كل مستويات وجودنا التاريخي الحالي. سنبني النموذج بصورة مبسطة على النحو التالي. فلنفرض البنية النظرية البسيطة التالية. نميز أولا بين:
1- نوعين بسيطين من الإصلاح ليس من العسير بيان الإجماع على أنهما لا ينطبقان على الإصلاح من حيث هو فعل شامل يعالج قضايا العمران العامة.
أ- الصنف البسيط الأول (ولنسمه الإصلاح الصناعي) هو صنف إصلاح الأجهزة الصناعية المعطوبة حيث يكون الإصلاح فعلاً خارجيًا ليس للآلة المعطوبة فيه دور بل هي تتلقاه تلقي المنفعل: كإصلاح سيارة معطوبة مثلاً.
ب- الصنف البسيط الثاني (ولنسمه الإصلاح العضوي) هو صنف علاج عضو كائن حي أصيب بمرض أو بجرح حيث يكون الإصلاح عملية عضوية: كالشفاء التلقائي أو الاندمال الذاتي مثلاً.
2- ونوعين مركبين من الصنفين البسيطين، وكلاهما يراوح بين الانطباق السوي فيكون إصلاحًا بحق والانطباق المرضي فيكون اسمه إصلاحًا وهو في الحقيقة إفساد، سواء كان مقصودًا أو غير مقصود.
أ- الصنف المركب الأول (ولنسمه الإصلاح العمراني ذا النموذج الصناعي) صنف مزدوج الطبيعة لأنه يمكن أن يكون سويًا ويمكن أن ينحط إلى التصور الآلي للإصلاح فيصبح موقفًا إصلاحيًا يعامل العمران الإنساني بمنطق الصنف الأول. وهو ما يمكن أن نعتبره ممثلاً للموقفين اللذين سادًا خلال عصر النهضة العربية الإسلامية أعني العلماني والأصلاني في الحكم والمعارضة، حيث يعامل العمران الإسلامي معاملة الجهاز المعطوب الذي تبدل فيه القطع مثلما يحصل للسيارة المعطوبة باستيراد قطع الغيار إما من الماضي الغربي أو من الماضي العربي.
ب- الصنف المركب الثاني (ولنسمه الإصلاح العمراني ذا النموذج العضوي) هو صنف مزدوج كذلك لأنه يمكن أن يكون سويًا ويمكن أن ينحط إلى التصور العضوي للإصلاح فيصبح عندما ينحط موقفًا إصلاحيًا يعامل العمران الإنساني بمنطق الصنف الثاني، وهو ما يمكن أن نعتبره ممثلاً للموقفين اللذين سادًا خلال عصر الانحطاط، حيث يترك العمران الإسلامي لمسار شبه عضوي يخلو من العودة على الذات استسلامًا إما للحتمية الطبيعية فلسفيًا أو للقضاء والقدر دينيًا.
3- الجنس الذي يتضمن الأصل لا نعلم طبيعته ما هي، ويتهدده دائمًا التحول اليسير إلى أحد هذه الأصناف الأربعة المتفرعة عنه أو إلى مجموعة منها بعضها أو كلها. وهو عين ما يجري من محاولات الإصلاح الذاتي في العمران البشري عامة بل هو عين الفاعلية العمرانية المتردد بين هذه الأصناف دون أن ترد إلى أي منها. ولعل نظرية المجدد على رأس القرن محاولة ترمز إليه باعتباره حصيلة كيفية لمسار كمي مؤلف من حصائل ما ينتج عن التردد بين العناصر الأربعة السابقة.
ورغم أنه يعسر التحديد الإيجابي لخصائص الانطباق السوي في الصنفين المركبين والذي هو الإصلاح الحقيقي فإننا نستطيع بيسر أن نحدد الانطباق المرضي الذي يجعل الإصلاح إفسادا بما يعتمد عليه من رد لطبيعة الفاعلية العمرانية إلى ما يتنافى مع حقيقتها. فالانطباق المرضي لكلا هذين النوعين المركبين هو رد فاعلية العمران إلى الفاعلية الصناعية (يرد العمران إلى مجرد جهاز آلي ويتعامل معه بهذه الصفة)،([sup][7])[/sup] أو الفاعلية العضوية (يرد العمران إلى مجرد ظاهرة حية ويتعامل معه بهذه الصفة)،([sup][8])[/sup] وكلاهما يمثل انحطاط الفاعلية العمرانية إما بالخمود العضوي، كما حدث في ما نسميه بعصر الانحطاط من تاريخنا، أو بالركام الصناعي الميت كما نراه يحدث في ما نسميه بالتحديث الحالي في جل بلاد العرب.
أما الجنس الذي يتضمن أصل أصناف الإصلاح جميعًا فهو مجهول الطبيعة لكونه عين منظومة العوامل الفاعلة في العمران أو الفاعلية التاريخية التي تمثل حصانة حضارة من الحضارات والتي تبقى من الغيب الذي لا يمكن تحديد طبيعته الحقيقية تحديدًا نهائيًا، كما تفعل الإيديولوجيات التي تعتمد عليها مدارس الإصلاح كلها.([sup][9])[/sup] وما يعنينا بصورة خاصة هو النوعان المركبان وبصورة أدق فإن ما يعنينا منهما هو شكلهما المنحط بالنكوص إلى النوعين البسيطين أعني التصور الآلي والتصور العضوي. وهما يحصلان بمنطقين:
منطق التصور الذي يرى أصحابه الإصلاح علاجًا ظرفيًا سواء كان آليًا أو عضويًا يقوم به بعض الأفراد في جماعة معينة يطلق عليهم عادة اسم المصلحين لما طرأ على نظام أجهزة مجتمعهم من خلل يهدف إلى استرداد ما يتصورونه الحال السوية.
ومنطق التصور الذي يرى أصحابه الإصلاح فعلاً ملازمًا للقيام العمراني بصورة دائمة لأنه عين فعل الحصانة البنيوية التي تلازم العمران الإنساني من حيث هو عين فعل حياة التاريخ الإنساني المتميزة عن حياة التاريخ الطبيعي بمقومات تمثل فاعلية، ذاتية تتضمن القدرة على إبداع ما يجعل العمران يتطور تطورًا يمكنه من أن يبقى ذا فاعلية هي شرط بقائه التاريخي الذاتي وشرط إسهامه في التاريخ الكوني.
وبهذه الخاصية التي تضاعف فعل العمران من حيث هو دائم العودة على ذاته لتحصينها ليس بإصلاح الأعطاب فحسب بل كذلك بالاستعداد لكل الطوارئ، وبها خاصة يتميز التاريخ الحضاري عن التاريخ الطبيعي: مبدأ التطور بالعمل على علم بقوانين المعمول. فغير البشر من الحيوانات لها تاريخ طبيعي لا غير: أي إن ما يجري فيها يكون بمنطق الضرورة العضوية التي تتضمن آليات التكيف بالانتخاب الطبيعي مثلاً. لكن البشر لهم بالإضافة إلى آليات التاريخ الطبيعي آليات تاريخ حضاري مشروطة بعودة فاعليته الدائمة على ذاته ليستكمل ما لا توفره له آليات تاريخه الطبيعي: أي إن ما يجري فيهم لا يكفي فيه منطق الضرورة العضوية بل لا بد كذلك من منطق الاختيار والروية مثلاً.
ومعنى ذلك أن للإنسان ضربين من آليات التكيف، أولاهما تنتسب إلى التاريخ الطبيعي الخاضع للضرورة الطبيعية، والثانية تنتسب إلى التاريخ الحضاري الخاضع للحرية الخلقية. وقد وصف ابن تيمية هذين المنطقين ليحرر إرادة المسلمين من الاستسلام للجبرية الصوفية والفلسفية بأن سمى الأولى مجال الربوبية والمشيئة، والثانية بمجال الألوهية والإرادة: والإصلاح يتعلق بهذه الأخيرة خاصة دون أن يستثني الأولى بما في ذلك من منطلق المنطق القرآني لأن الإنسان بالعلم يمكن أن يتدخل في الضرورة الطبيعية ليحولها وهو معنى كونها سخرت له وكونه استخلف فيها:
وبين أن النوع الأول رد فعل طارئ على عمل الظاهرة الاجتماعية من خارجها ويقبل المقارنة عند انحطاطه مع العلاج التقني: المصلح هنا تقني يصلح جهازًا عاطلاً.
لكن النوع الثاني فعل ذاتي لعمل الظاهرة الاجتماعية نفسها ويقبل المقارنة عندما يكون سويًا مع العلاج الطبي السوي الذي يفعل مقومات الصحة والحصانة الذاتية للكائن للإبقاء على فاعليتها التطورية، فيكون المصلح هنا طبيبًا لا يتدخل في جهاز عاطل بل بفعل كائن حي ليصلح ذاته بشرط علمه بقوانينه.
وهكذا فالإصلاح في الحالة الأولى علاج ظرفي فني لعطل يظن طارئًا بصورة عرضية فلا يعتمد على آليات المقاومة الذاتية للمرض الملازم للصحة أو لعوامل الموت الملازمة لعوامل الحياة في كل كائن حي، كالحال في الإصلاح بمعناه الثاني. أما في الحالة الثانية فالإصلاح بنيوي خلقي يفعِّل ما في الكائن الحي البشري من قدرة على التكيف الذاتي المقاوم بآليات الإصلاح الذاتي لعلل الموت فيه، ويكون فيه المصلح من جنس الطبيب العالم بشروط الصحة الإنسانية.
ويمكن أن نطلق على هذا النوع الثاني اسم الإصلاح البنيوي الدائم وهو يختلف تمامًا عن الإصلاح الظرفي أو الطارئ. وبين أن الفرق الأساسي بين النوعين هو من جنس الفرق بين التعامل مع الجهاز الآلي الصناعي والتعامل مع الكائن الحي البشري مع اشتراكهما في شرط التعامل للعمل على علم أعني العلم بقوانين الجهاز الآلي وبقوانين الكائن الحي البشري.
فالنوع الأول من الإصلاح يتعامل مع العمران وكأنه جهاز صناعي يتم إصلاحه عندما يصيبه عطب ومن ثم فهو رد فعل لاحق وخارجي لحصول العطب، وليس فعلاً متقدمًا عليه بوصفه الاستعداد الدائم نظير جهاز المقاومة في الكائنات الحية، السيارة المعطوبة لا تصلح نفسها وليس فيها جهاز مقاومة لا واع ولا غير واع. فتكون محاولات الإصلاح التي هذا نوعها عمليات متوالية بتقطع كلما حصل عطب وقع الإصلاح بتدخلات من خارج الجهاز الصناعي نفسه. ولذلك فهي تقبل العلاج بما يسمى قطع الغيار كما نراه يحصل اليوم من استيراد للمؤسسات والقوانين والممارسات وأنماط الحياة بدائل عند من يعد الهم الأساسي تهديم الموجود واستيراد المنشود بدل تكوين شروط إبداعه، نزيل القطعة التي نتصورها معطوبة ونضع بدلها قطعة أخرى مستوردة نتصورها سليمة فيكون الأمر من جنس تركيب الأعضاء باستيراد قطع الغيار لأن ما نتعامل معه ليس سيارة معطوبة بل هو حضارة مريضة لم نفعِّل حصانتها الذاتية المبدعة للحياة دون الاقتصار على مقاومة المرض. لذلك يحصل الرفض.
أما النوع الثاني من الإصلاح فالعمران فيه ليس جهازًا صناعيًا يصيبه العطب أحيانًا ويكون سويًا أحيانًا أخرى بل هو كائن حي معرض للمرض من حيث هو حي وصحته هي ما فيه من جهاز مناعة ومقاومة فاعلة وليست مجرد رد فعل إلا في الظاهر.
وليس من شك في أن التصورين يقبلان العمل معا بل إن العمران البشري لا يخلو من تلازمهما حتى وإن كانت الحالة السوية هي التي يغلب عليها التصور الثاني والحالة المرضية هي التي يغلب عليها التصور الأول:
والمعلوم أن تعامل أصحاب العمل المباشر يغلب عليهم طريقة الفنيين الذين يصلحون عطلا طارئا بسبب ما يتميز به فعلهم من عجلة وراهنية مباشرة.
لكن الفكر عامة والفكر الفلسفي خاصة لا يمكنه أن يرضى بذلك ليس لمجرد كونه فعلاً غير مباشر فحسب بل لأن الفعل عنده لا يكون إلا عملاً على علم، ومن ثم فلا بد فيه من العلم بقوانين الأشياء حتى يتمكن من جعلها تعمل بذاتها فيكون تدخله من جنس تدخل الطبيب لا من جنس تدخل الفني.
ويقتضي هذا التمييز أن نوصِّف حركات الإصلاح خلال النصف الثاني من القرن العشرين الذي يعنينًا في هذه المحاولة بمميزاتها الداخلية والخارجية لاستخرج المقصود بها وتحديد ما علينا فهمه بمقارنة فكره منها ومن ثم تحديد خصائص الإصلاح في العالم الإسلامي. ويتقدم على ذلك تحديد طبيعة السياق أو نظام الظروف التي حصلت فيها أفعال الإصلاح والعلل التي جعلتها يغلب عليها النوع الصناعي بدل النوع العضوي إن صح التعبير. فالسياق ينقسم إلى بعدين محددين أحدهما يصف المنفعل الذي يراد إصلاحه والثاني يصف الفاعل الذي يعتبر علة العطب المراد إصلاحه:
1- سياق المحدد الداخلي أو سياق المنفعل: بداية هذا السياق هي ما يمكن أن يوصف بكونه الشروع في مقاومة الاستعمار المباشر للإمبراطوريتين اللتين قضت عليهما الحرب العالمية الثانية (الفرنسية والإنجليزية خاصة) والوقوع في الاستعمار غير المباشر للإمبراطورتين اللتين ورثتاهما (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قبل أفوله) ونهاية هذا السياق هي نهاية الحرب الباردة وعودة الاستعمار المباشر ولكن ببعدين أعمق:
الاستعمار السياسي (أنظمة الحكم) والاستعمار التربوي (أنظمة التربية).
الاستعمار الاقتصادي (نظام الإنتاج المادي) والاستعمار الثقافي (نظام الإنتاج الرمزي).
2- سياق المحدد الخارجي أو سياق الفاعل: بداية هذا السياق هي الانتقال من الاستعمار الأوروبي القاري أو الفاعل الأصلي إلى استعمار فكرى لثورتي أوروبا الفكريتين أو الفاعل المشتق:
(أي الولايات المتحدة؛ مستعمرة ثورة الإصلاح الديني والروحي في أوروبا الحديثة، وكذلك الاتحاد السوفييتي؛ مستعمرة ثورة الماركسية أو الإصلاح السياسي والمادي في أوروبا الحديثة).
ونهاية هذا السياق هي الاستعمار المطلق أعني العولمة مع ما يصحبها من محاولات يستعد بها قطبًا الغرب الحاليين أي أوروبا الموحدة والولايات المتحدة لقطبي الشرق المقبلين أي الهند والصين. فأين نحن في كل ذلك؟ هل نتعامل مع وضعنا تعامل الطبيب الذي يفعِّل جهاز المناعة بمعنييه أي المقاوم للمرض والمبدع لشكل الحياة القادرة على تحقيق شروط الصحة المقبلة؟ أي معنى يمكن أن نعطيه لمفهوم الإصلاح في هذه الحالة؟ الجواب لا يكون من دون عملية استقراء لتاريخ حركات الإصلاح لتحديد الكلي المشترك بينها جميعًا بوصفه عين طبيعة الإصلاح.
المبحث الثالث: فرضية العمل والقصد من وراء المحاولة
فلنحاول الجواب عن السؤال الأساسي في إشكاليتنا: ما الذي جعل فكر الإصلاح ينكص من المفهوم المبدع لمعنى السلف الذي بدأ حركة تحرر من التقليد (بوحي من ابن تيمية وابن خلدون) إلى المفهوم المقلد الذي انتهى عبودية لوثنيتين، وثنية الماضي الأهلي ووثنية الماضي الأجنبي (عند الأصولية والعلمانية)؟
في مستوى النظر والإبداع الرمزي: في الساحة الثقافية والتربوية.
في مستوى العمل والفعل التاريخي: الساحة السياسية والاقتصادية.
فرضية العمل التي نعتمدها في هذا البحث ذات فرعين:
الفرع الأول يتعلق بما عليه الأمر في فعل الإصلاح:
فالنكوص إلى القومية والدولة القطرية علته محاكاة ما حصل في أوروبا نهاية عصر النهضة التي أنهت أوروبا ذات الوحدة اللاتينية المسيحية أعني العمليتين اللتين مزقتا نسيج الأمة وكل مقومات وحدتها. ذلك أنه بخلاف ما حصل في أوروبا أصبح هذان الأمران عائقي كل نهوض ممكن ليس بسبب حصولهما بل بسبب الاستمرار عليهما تقليدًا لما أصبح منافيًا لمحددات الظرف في التنافس بين الأمم أو حيلولة دونه للظن بأن الوحدة الإسلامية تستوجب حتما أن تكون من جنس ما كانت وبنفس الشعارات التي لم تعد محركة للتاريخ بدل إبداع ما يحرك التاريخ ليحقق نفس الغايات.
إن أوروبا التي تحاكيها قومياتنا ودولنا القطرية لم يعد لها وجود منذ أمد طويل بل هي تجاوزت ما تحاكيه حركات الإصلاح عندنا لفهمها مقتضيات الظرف العالمي وتسعى إلى بناء الوحدة المماثلة للإمبراطورية الرومانية فعليا منذ الحرب العالمية الثانية في مستوى الواقع المادي ورمزيًا منذ عصر التنوير في مستوى الواقع الرمزي علمًا وأننا بهذا الصنيع قد قضينا على ما كان تجاوزًا له منذ نزول القرآن ونشأة الدولة الإسلامية متعددة الشعوب والقبائل المتعارفة.
الفرع الثاني يتعلق بمفهوم الإصلاح المنشود المفقود في ما يجري.
لعل الاعتماد على منهج العلاج التاريخي ومنهج العلاج البنيوي في آن قد يمكن من العلاج الهاديء الرصين. فهذا النكوص بوجهيه العلماني والأصلاني يقبل الفهم التاريخي بصورة تبين أنه قد جعل ما يقدم على أنه إصلاح إفسادًا. ولا بد لفهم هذه المسألة العويصة من الانطلاق من مبدأ جوهري: ليس فهم الحضارات عملية أجنبية عن فعلها من حيث هي منظومة مؤسسات صانعة للأشخاص الذين يبدعونها، بل هو الجزء الأرقى من كيانها أي إن فهمها لذاتها هو ذروة كيانها وهو نظير وعي المرء بنفسه. وبالتالي فإنه لا يمكن أن يكون مستوردًا لا من حيث المضمون ولا من حيث المنهج بل هو يكون دائمًا زبدة ما بلغ إليه العمران من النضوج الحضاري الذاتي.
وكل استيراد مستحيل لأنه يماثل استيراد المرء لوعيه بذاته: فهل يمكن أن يكون وعي غيري بذاته قابلاً للتركيب علي ليكون وعيي بذاتي من دون أحد أمرين إما أن نغير الوعي أو أن نغير الذات؟ لذلك فقد بات الإصلاح بهذا المفهوم عين هذه العملية التغييرية بالتهديم:
إما تهديم الذات لتطابق ما يزعم الوعي الحقيقي المستورد (وذلك ما يفعله العلماني).
أو تهديم الوعي المستورد ليطابق ما يزعم الذات الحقيقية (وهو ما يفعله الأصلاني).
ولما كان كلا الأمرين ممتنعًا بات فعل الإصلاح في مأزق لا مخرج منه من دون تحليله بمعنى التحليل النفسي لتحريره من هذا الاستلاب والاغتراب.
لذلك فالفهم الممكن عقلاً والذي يمكن أن يكون منطلقًا للجواب عن هذا السؤال هو آخر ما بلغه صوغ الفكر التاريخي الإسلامي لوعيه بذاته قبل أن يسيطر عليه الوعي المستورد. وهذا الوعي يتحدد في كل الحضارات بأصناف النخب التي تمثله. ففي اللحظة التي شرعنا فيها في النهوض خلال القرنين الأخيرين كان هذا الوعي تمثله خمس نخب على النحو التالي:
النخبة السياسية الحاكمة سياسيًا، وهي في الأغلب إما شيوخ قبائل أمية، أو مغامرين عسكريين لا يقلون عنهم أمية.
النخبة التربوية الحاكمة تربويًا، وهي في الأغلب إما فقهاء وعلماء دين في جامعات شبه ميتة أو متصوفة شاطحين في طرق شبه ميتة.
النخبة الثقافية الحاكمة أدبيًا، وهي في الأغلب شعراء بلاط وأدباء سير وخرافات شعبية.
النخبة الاقتصادية الحاكمة اقتصاديًا، وهي في الأغلب بعض الإقطاعيين والصناعيين البدائيين والتجار المغامرين مع شيء من القرصنة.
وأخيرًا الشعب الصامت الذي يئن تحت العبث الصادر عن هذه النخب التي لا تمثله والذي يعبر بين الحين والآخر عن معارضته بشيء من الفوضى والهرج الذي يمثله أفضل تمثيل الخارجون عن سلطان الدول الهشة التي كانت تحكم مقاطعات العالم الإسلامي حكم من يحلب الشعب لا حكم من يرعى مصالحه: من هنا المقابلة بين ما يسمى بالمخزن والسيبة في المغرب الأقصى وهي ظاهرة عامة حتى وإن لم يطلق عليها هذا الاسم الاصطلاحي إلا في المغرب.
وكل القراءات المستوردة وخاصة الماركسي منها لا تعير أي أهمية لهذه الحالة التي انطلقت منها حركات النهضة العربية والإسلامية الحديثة. لكنها تحاول فرض شبكة للفهم لا يمكن أن تساعد على فهم ما حصل منذئذ إلى الآن خاصة وأمر النخب لم يكد يتبدل كثيرًا بخلاف الظاهر:
فالنخبة السياسية ما تزال شيوخ قبائل ومغامرين من العسكر الذين جاءوا إلى الحكم بالانقلابات.
والنخب التربوية حتى وإن بدت قد تحدثت فهي بمقتضى خضوعها للانتخاب المفروض من النخبة السياسية تحولت إلى خدم الأحزاب والأنظمة التي هذه خصائصها.
والنخبة الثقافية صارت من جنس الطحالب التي تعيش حول شعارات التقدمية والعلمانية أو التأصيلية والأصولية ولا تبدع شيئًا يمكن أن يؤسس لثورة ثقافية حقيقية.
والنخبة الاقتصادية يكفي لتعريفها أنها صارت عامل التبعية الأساسي لكونها لم تؤسس لاقتصاد قابل للاستقلال بطبيعة الاقتصاد الذي اختارته أولاً وبحكم القُطرية الضيقة التي تنفي كل إمكانية للتنمية.
لذلك فمنطلقنا ينبغي أن يكون محاولة لتحديد طبيعة الفهم الذاتي الذي يحكم فعل الإصلاح الجاري حاليًا بعد أن صار كله فعلا مستوردًا مضمونًا ومنهجًا إما من الماضي الأهلي أو من الماضي الأجنبي وليس علاجًا للأوضاع الموجودة بما تستوجبه من حلول يقتضيها الظرف الذي صار كونيًا ودرجة المعرفة بما هي عليه وبما نسعى إليه لاستئناف دورنا في التاريخ الكوني.
فالنخب التي بدأت بها النهضة لا يمكن أن تكون مختلفة عن هذه النخب إلا بكونها كانت قلة تحاول التعبير عن إرادة ما كانت تسميه العامة بمنطق ما يمكن أن تستمده من الماضي الأهلي ومما بدأت تتعرف عليه تعرفًا شديد السطحية من الحاضر الغربي المعاصر لها. لذلك فهي قد استندت إلى أفضل ما في الماضي الأهلي لإعادة تأويله من أجل تحقيق ما تسعى إليه والقليل القليل الذي فهمته مما يجري من حولها في الغرب لكي تسهم في الحكم السياسي والتربوي والاقتصادي والثقافي.
لذلك ظن الكثير أن هذه البداية واعدة. لكن النتائج التي حصلت ينبغي أن تكون ثمرة لما فيها من عوامل معاكسة لهذا الظن. فهي سرعان ما نكصت إلى ما نراه عليها الآن بفرعيها العلماني والأصلاني. وينبغي أن يكون نكوصها أمرًا مكتوبًا فيها: في فهمها للماضي الأهلي وفي ما أخذته من الحاضر الغربي وفي هدفها من ترؤس حركة الإصلاح.
وما يعنيني هو أن أفهم هذا النكوص فهمًا بنيويًا بنفس الوجهين فهما يتجاوز اللحظة الراهنة وحتى التجربة العربية. ولا بد لنا بالإضافة إلى الفهم التاريخي من اعتبار النكوص ذاته جزءًا لا يتجزأ من فعل الإصلاح نفسه عندما يجري بحسب ما أشرنا إليه من الاستعمال المنحط للنموذج الصناعي. وكما أسلفت فالقراءة التي أقدمها للنكوص ولكيفية علاجه تعتمد على مصدرين:
فلسفة التاريخ العامة (أي دور فاعلية العمران في التاريخ التي تتواطأ عليها فلسفات الإصلاح الأساسية) والخاصة بالمسلمين (أي ما كتبه ابن خلدون).([sup][10])[/sup]
وفلسفة الدين العامة (أي دور الدين في الإصلاح دوره الذي تتواطأ عليها فلسفات الإصلاح الأساسية) والخاصة بالإسلام (ما كتبه ابن تيمية).([sup][11])[/sup]
ولا بد إذن من تحديد مراحل الإصلاح التي عرفتها الأمة لنحدد النضوج التاريخي المعلل لما يجري أمام ناظرنا. ويمكن أن نقترح المراحل التالية بصورة العد العكسي من غايتها إلى بدايتها بعد أن نبرز بالصورة التالية العناصر المقومة لفعل الإصلاح:
1- تصور موضوع الإصلاح ومنهجه التصور الذي تقوم به نخب حضارة من الحضارات (في حالتنا النخب الغربية ونخب المسلمين من تغرب منها ومن لم يتغرب)؟
2-ما يحصل من التصور في المستوى الفعلي (كل محاولات تحويل موضوع الإصلاح: في حالتنا ما عمله الاستعمار وأنظمة الاستقلال).
3- أثر التصور في الفعل حيث تحول كل العمل فصار مبنيا على فهوم إيديولوجية خاطئة وليس على نظريات علمية محققة للأهداف (في حالتنا تجارب الأحزاب التي وصلت إلى الحكم وما أدت إليه من تهديم نسقي لشروط القيام من دون تحقيق البدائل: أفضل مثال الإصلاحات الزراعية والإصلاحات التربوية ومحاولات التصنيع والتأميم).
4- أثر الفعل في التصور حيث تحول الفكر إلى بروباجندة وأصبحت التربية والثقافة وسائل للحط من مستوى الفكر والثقافة العامة. ولعل أفضل مثال هو أن الجامعات المصرية التي كانت تخرج نخبا من مستوى عالمي باتت في ذيل القائمة لفرط ما ساد من تسطيح إيديولوجي ومزاعم حول المساواتية (في حالتنا تقويم تجارب الأحزاب التي وصلت إلى الحكم: أفضل مثال تحول النقاش الوطني إلى تخدير دائم للرأي العام لتصوير الفشل الفعلي نجاحًا وخاصة محاولات إطالة نظرية المؤامرة والمقاومة للإبقاء على الأنظمة الفاشلة).
5- القيام الذاتي للفعل العمراني أي أصل الأبعاد السابقة. فهو عين القيام الذاتي من حيث هو ذات إنسانية تدرك ظرفها وتتعامل معه بشرط التعامل العقلي المسبوق والمصحوب والمشفوع بالروية العقلية، ومن ثم بالنظر المؤسس للعمل على علم. ومن ثم فالأصل هو الكيفية التي يفهم بها الإصلاح في الفكر والفعل الإصلاحيين في حضارة من الحضارات أعني الوعي الحضاري لأمة حية تبدع تاريخها في كل لحظة ولا تستورده من ماضيها فضلاً عن استيراده من ماضي غيرها (وفي حالتنا بمستويات المنظور التالية التي حكمت تاريخنا الفكري والفعلي). وبذلك يصبح بالوسع أن نحدد بصورة شبه علمية مقومات فعل الإصلاح الذي أدى إلى ما نراه من نتائج وخيمة في لحظتنا الراهنة:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:44 am

التوصيف العلاجي (المنهجي والخلقي)
فبلغة منطقية: يتعلق الأمر بالمواقف القضوية وليس بالمضامين القضوية. فالصراع في هذه الحالة لا يمكن أن يكون معرفيًا بل هو عاطفي يدور حول الخيارات والمفاضلات دون أن يتقدم عليه النزاع المعرفي حول الحقائق والوقائع. وينتج عن ذلك العمل بمقتضى الخيارات دون العمل بما توجبه حقائق الأشياء من مناهج عمل فضلاً عن العلاقة بين الغايات والوسائل التي هي جوهر العمل دائمًا. وقد سبق لابن خلدون أن بيَّن فساد التركيز على المواقف القضوية في مدرستي الفكر السياسي الإسلامي الوسيطتين، أي مدرسة المدن الفاضلة (عند الفلاسفة والمتصوفة) ومدرسة الأحكام السلطانية (عند المتكلمين والفقهاء).
التوصيف الغائي (التاريخي والسياسي)
وبلغة الغائية: فالأمر يتعلق بتوثين المثل العليا وظنها مطابقة لشكل متعين منها تحقق في الماضي الذاتي أو في الماضي الأجنبي. والغريب هو مفارقة تبادل الأدوار بين الموقفين. فلكي يُقبل ما يدعيه الأصولي من مثل عليا حاصلة في الماضي الذاتي لا بد له من أن يحدِّث الماضي الإسلامي بأن يضخ فيه ما يعتبره مثلاً متحققة في الحاضر الغربي. ولا يدري أنه بذلك يصبح علمانيًا بل هو يزايد عليه بقراءة كل ما في حضارتنا بما يتصوره موجبًا في الحضارة الغربية: نوع من التنفيس عن عقدة نقص ليس منها شفاء لأنها ليس لها دواء. والعلماني لكي يُقبل ما يدعيه من تمثيل لمصلحة الأمة فإنه يعتِّق الحاضر الغربي بضخ الماضي الإسلامي فيه فيصبح أصلانيا من حيث لا يدري، بل يزايد عليه بقراءة كل ما في حضارة الغرب بما يتصوره موجبا من حصارتنا: نوع من التبرير الذاتي وطلب المشروعية من التراث.
وفي الحقيقة فكلاهما يقع في نفس الإشكال: توثين المثال بجعله حاصلاً في الموجود، سواء كان ماضينا أو ماضي الغرب. فأصبح بذلك ابن رشد ثوريًا بل مؤسسًا للحداثة الغربية، وأصبح التصوف وجودية...إلخ من التخريف. وعلة الظاهرتين واحدة: فمن يجعل الفكر دائرا حول المواقف لا يمكنه إلا أن يظن المثال متعينا في المواقف الحاصلة لتبرير المواقف المطلوبة. وقد سبق لابن تيمية أن بين فساد الردين السيئين للمثل النظرية والعملية إلى وقائع ردًا يجوهرها فيوثنها: فالخلط بين المعاني المجردة والوقائع العينية يؤدي إلى جهل المسافة الفاصلة بينهما، ومن ثم إلى عدم معرفة مجال الفعل النظري والفعل العملي وهو ما ينتهي إلى الخلط بين عالم الربوبية والضرورة وعالم الألوهية والاختيار فيتم التعامل مع العمران إما بوصفه جهازًا آليًا ميتًا أو جهازًا عضويًا يقتله التطبب المسمى إصلاحًا.
فما الذي يترتب على هذين الخيارين (وهما ليسا مختارين بل مضطرين) في خصائص السلوك والتعامل بين الصفين؟
1- امتناع الفكر الرصين والحوار السلمي فيصبح المجتمع في هرج ومرج دائمين حول التغني بالمواقف وليس حول المعرفة بالحقائق ولا ينتج عن ذلك إلا الحرب الأهلية التي يؤدي إليها تبادل التهم وانعدام المرجعية التي يمكن الاحتكام إليها لفض الخلافات بالحجج بدل فضه بالسلاح.
2- إفساد أدوات العمل أعني المؤسسات التي تبدو هينة الدور مثل اللغة ووحدتها والتاريخ ووحدته والمعالم ودورها والمؤسسات العميقة ودورها من دون بدائل مؤثرة.([sup][12])[/sup]
الجنس الأول: الأصناف الأهلية بمعيار التوالي الزماني:([sup][13])[/sup] تغييب السؤال الذي يرمز إليه إبراهيم الخليل عليه السلام بدعوته إلى التحرر من الوثنية وإخضاع الوجود الإنساني إلى البحث الخلقي الروحي:
1- في نصف القرن الأخير: أي بعد الاستقلال أقطار الوطن العربي.
2- منذ النهضة إلى الاستقلال: من بدء الاستعمار المباشر إلى ثورات التحرير.
3- منذ الشعور بأن حال الأمة بدأت تميل إلى الانحطاط: منذ سقوط بغداد خاصة إلى الصوغ النهائي لعلله التي تنتسب إلى فلسفة الدين (ابن تيمية) وإلى فلسفة التاريخ (ابن خلدون).
4- التقويم النهائي لحال الأمة خلال القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي عندما انتقلت النهضة إلى الغرب بصورة واضحة: وهو التقويم التي انطلقت منه النهضة واعتمدته أساسًا لعلاجها الوضع الذي كانت عليه حال الأمة: في ذروة وصول حروب الاسترداد إلى استعمار دار الإسلام).
5- صلة ذلك كله بمفهوم الإصلاح القرآني والفلسفي:
أ- عقلاً (الدلالة المضاعفة: إما علاج ما فسد للحفاظ على ما كان موجودًا أو التعويض الدائم للعلم بأنه لا شيء يمكن أن يدوم).
ب- ونقلاً (الدلالة المضاعفة: الإصلاح في معناه القرآني استعادة الفطرة التي فقدت وتحقيق المثال الذي لم يحصل بعد:
فمن سورة التين: (....) (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(التين:4-5)
ثم كل سورة العصر: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبْرِ)(العصر:1-3).
أي الحلين يفضل القرآن الكريم؟ طبعا الذي يتوجه إلى المستقبل وليس الذي يتلفت إلى الماضي.
الجنس الثاني: الأصناف الخارجية: تغييب السؤال الذي يرمز إليه سقراط بدعوته إلى إخضاع الأخلاق والحياة الإنسانية للمعرفة العلمية والسؤال الفلسفي.
1- المحاولة الأفلاطونية الأرسطية: التدرج من اليتوبيا إلى خطة العمل القابلة للتنفيذ الفعلي.
2- المحاولة الأوروبية الوسيطة: وجها الإصلاح المقاوم والمؤسس ومحاولات الجمع بين الدين والدين محاكاة للإسلام.
3- المحاولة الأوربية الحديثة: الإصلاح القطيعة في المجالين الديني والفلسفي.
4- المحاولات الأوروبية الحالية: البحث عن شروط إنقاذ الحضارة الأوروبية أمام الهجوم الذي نتج عن نظام العالم الموالي للحرب العالمية الثانية.
5- الإصلاح في المرحلة الراهنة من فكر البشرية الذي اعترف بتقدم العمل على النظر غائيا وتقدم النظر على العمل وسيليا: العولمة أو مشكل وحدة البشرية. وبذلك نعود إلى القضية القرآنية أو المقصود بالرسالة الخاتمة من حيث هي شهادة على العالمين.
أما السؤال في شكله المحمدي([sup][14])[/sup] فهو إبراهيمي وسقراطي في آن، بل هو متعال عليهما بما فيه من مبدأ يحرر من الصراع الدائم بين الدين والفلسفة، أعني كل ما أدى إلى إفساد كل محاولات الإصلاح:
فهو إبراهيمي لكونه يعتمد على النبوة المشروطة بالحكم والكتاب، معتبرًا إسلام الغاية (المحمدية) وإسلام البداية (الآدمية) صلحا نهائيا بين فطرة البداية العرية عن التجربة التاريخية وفطرة الغاية التي تمثل عينة شاملة منها تمثيل خارطة العالم للعالم رغم كونها نقطة منه.
وهو سقراطي لأنه يختم هذا الخيار الأول بما يجعله بخلاف ما يتوهمه الكثير ليس نقلاً مقابل العقل، بل ضربًا جديدًا من تصور العلاقة بينهما: عدم الاعتماد على المعجزات الناقضة للعادات، بل على المعجزات المؤيدة لها، ومن ثم بجعل الدين نفسه مستندًا إلى سلطة الحجة لا حجة السلطة.
والرمز المؤكد لذلك هو تحرير التدين من السلطة الروحية الوسيطة وربط الحياة الروحية غاية لتحقيق القيم القرآنية من حيث هي غاية مكارم الأخلاق الذاتية وما بين البشر المتساوين بالحياة السياسية أداة لتحقيق هذه القيم في حياة الأفراد وفي ما بينهم من علاقات. والمؤسسات البدائل التي تحقق ذلك يمكن وصفها كما وردت باعتبارها شرط الاستثناء من الخسر في سورة العصر:
فهي في مستوى الضمير الفردي الإيمان والعمل الصالح جمعًا للبعدين النظري العقدي والعملي الشرعي.
وهي في مستوى الضمير الجمعي التواصي بالحق شرط الاجتهاد الحر من خلال فعل المشاركة في طلب معرفة الحق والتواصي بالصبر شرط الجهاد الحر من خلال فعل المشاركة في طلب تحقيق الحق في التاريخ الفعلي.
وقد بين التاريخ الإنساني للثورات العقلية الأساسية أنها عين المضامين التي سعت إليها المشروعات الإصلاحية في التجارب الأربع التي ذكرنا:
1- فالتجربة الإصلاحية اليونانية الأولى تمثلها فلسفة الإصلاح الأرفع عندهم أعني جمهورية أفلاطون ونواميسه ورسالته في الحكم، من حيث هي بحوث عن شروط القيام المبدع في الحضارة اليونانية: فقد عالج فيها: 1.قضية الحكم. 2.وقضية التربية. 3.وقضية الاقتصاد. 4.وقضية والثقافة. 5.الحياة المشتركة التي تحقق التناغم والوحدة المستندين إلى مبدأ العمل على علم، حتى وإن كان هذا العمل على علم ليس بالضرورة هو ما توصل إليه أفلاطون من علم.
2- والتجربة الإصلاحية الإسلامية الأولى تمثلها فلسفة الإصلاح الأرفع عندنا أعني القرآن الكريم وسنة الرسول من حيث هما بحث عن شروط القيام المبدع للحضارة الإسلامية. وقد عالجت نفس القضايا لنفس الهدف.
لكن الخاصية المميزة بالقياس إلى الحالة اليونانية هي أن العمل على علم أو الإصلاح المتصل القرآني في هذه الحالة لم يحدد بصورة يمكن لأحد أن يدعي أنه يحيط به بصورة نهائية. ولذلك فهو مفتوح إلى يوم الدين: والعلة هي مفهوم الغيب الثوري. ولعل كل ما حصل في تاريخنا من انحراف عن هذه التجربة علته عدم فهم الطابع الثوري لهذا المفهوم كما يتبين من قلب العلاقة بين الشهادة الغيب. فمبدأ قيس الغائب على الشاهد كفر بالمنهجية القرآنية التي يمثلها الطابع الثوري لهذا المفهوم. ذلك أن علماءنا بدلاً من أن يعتبروا الشاهد نفسه لا يمكن أن يُعلم علما نهائيًا لكونه يتضمن بعدًا غيبيًا عكس فكرنًا الكلامي والفلسفي والصوفي والفقهي المنهج القرآن فوضع مبدأ يقيس به الغائب على الشاهد ثم أطلقه ليقيس الغيب على الشهادة. ومن ثم فقد تأسس المبدأ الذي قلب كل محاولاتنا الإصلاحية إلى فكر متحجر يطلق العلم النسبي فيقتل الاجتهاد والجهاد المشار إليهما في مفهومي التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
3- والتجربة اللاتينية الأولى تمثلها غايتها أعني فلسفة الإصلاح الأرفع في النهضة الأوروبية الحديثة من حيث هي محاولة للجمع بين السؤال الإبراهيمي والسؤال السقراطي يعترف بالغيب على الرغم من كون الاعتراف به كان لتركه جانبًا وليس لأخذه بعين الاعتبار، وهو ما أدى إلى كل انحرافات الفكر الحديث. لكن كل من اطلع جيد الاطلاع على فلسفة أكبر فلاسفة الحداثة وعلمائها أعني ديكارت ولا يبنتس يدركان أنهما يمثلان الفكر الحديث في ثورتية الدينية (لا يبنتس للإصلاح البرتستنتي وديكارت للإصلاح الجنسيني الأغسطيني) والعلمية (لايبنتس للفلسفة بوجهيها الطبيعي ما بعد الطبيعي من منظور أرسطي خاصة وديكارت للفلسفة بوجيهها ذينك من منظور أفلاطوني) جمعًا للسؤالين بخلاف أوهام من تقتصر ثقافته الفلسفية على التقريب الجمهوري في الصحافة الغربية.
وتشترك جميع هذه التجارب في بنية نضوجية يمكن وصفها السريع على النحو التالي. فلعملية الإصلاح صلة بمحاكاة اللاحق للسابق حتما لكنها لا تكون عملية إصلاح ناجحة إلا إذا أدت إلى التخلص من المحاكاة لتأسيس طور الإبداع الحضاري الموسع للأفق الإنساني، وذلك بالذات ما يدل بعدمه على فشل الإصلاح العربي الإسلامي الراهن. فالأمر الذي يحرر القدرة الإبداعية الواحدة عند جميع البشر ويوسع أفق الإنسانية وكأنه استئناف من منطلق جديد غير مسبوق لم يحصل في فكرنًا الإصلاحي الحالي، ومن ثم فكل محاولات الإصلاح لم تتجاوز المحاكاة إما للماضي الذاتي أو للماضي الأجنبي بعد أن وثنا للظن أنهما ممثلان للثورة القرآنية وللثورة الحداثية. ويمكن بصورة سريعة أن نقول إن طبيعة هذا الأمر المحقق للنقلة الكيفية من المحاكاة إلى الإبداع تتمثل في علاقة مضاعفة كلا فرعيها مزدوج:
فهي علاقة ذات خالفة بذات سالفة
وهي علاقة بالغير، سواء كان الغير غيرا بإطلاق أو ماضي الذات.
وكلتا العلاقتين تجري على مستويين، أعني في واقع الأحداث الفعلية أو الوقائع العينية وفي واقع الأحداث الرمزية أو المثل. وفي الحالتين تكون المحاكاة والتبعية للواقعين ولا تتحقق الانقلابة الكيفية إلا بإبداع اللاحق لمثال يتجاوز به السابق برفع الذات إلى الكلية والكونية، أعني بإبداع طموح يمثل الكونية الإنسانية بإطلاق: ولولا ذلك لما كان الإسلام ثورة بل لكان العرب قد صاروا مناذرة وغساسنة وليسوا أصحاب رسالة كونية على غيرهم أن يحاكيهم فيها.
إن التجربة الإسلامية الحالية لسوء الحظ تخلو من مما تضمنته هذه التجارب لخلوها من البعد النظري والعمق الديني والفلسفي بسبب ما وصفنا في الفصول السابقة. لذلك فإنه يمكن القول إن علميات الإصلاح قد كانت في الحقيقة علميات إفساد للموجود دون سعي للبديل المنشود. ولعل السر هو أن مشروعات الإصلاح التي لها مؤلف محدد كالتي ذكرت في ورقة الندوة يصح عليها وصف ابن خلدون لما كانت تعاني منه الأمة كما وصف حالها في كتابه المقدمة:
1- فهي إما مشروعات يتوبية لا تهتم بعلم موضوعها بل بالموقف منه، ولذلك فابن خلدون يعتبرها من أكبر الأدلة على أن أصحابها هم أبعد الناس عن السياسة بمعنى قيادة شؤون الأمة بمقتضى الصالح العام.
2- أو شعوذات جهلة عبثية من جنس فلسفة الثورة أو الكتاب الأخضر وبرامج الأحزاب الفاشية التي همها الحكم لذاته وليس من حيث هو أداة تحقيق رسالة.
وكلا الأمرين يفسر الهرج الدائم أو الحرب الأهلية الصامتة التي يعاني منها المجتمع المسلم في كل أقطار دار الإسلام. وغياب العلاج العلمي الحقيقي للكشف والتعليل والوصف العلاجي قياسا لفعل الإصلاح على الطب مع فارق أن الإصلاح هو الطب الذاتي، أي إن المريض نفسه هو الذي يعالج نفسه ولا يوجد طبيب سوي يعالج مريضًا غير سوي، ومن ثم فهو يشبه التكيف الذاتي للظاهرة الحية باختراع الحلول للطوارئ وعدم الاقتصار على إعادة المعطوب إلى حالة السالفة. فالحال السوية التي يتم الإصلاح بمقتضاها ليست حالا ماضية حصلت بل هي حال مثالية تفترض حاصلة في المطلق لكنها لم تحصل أبدا وتبقى غاية لا تدرك وتلك هي علة التقدم نحو المثال طريقا إلى التكيف اللامتناهي مع الطوارئ. ومن دون هذا الفهم يصبح ختم الوحي تثبيتا وتجميدا للحياة وليس فتحا لآفاقها التي لن تتوقف إلى يوم يبعثون.
الخاتمة
كان القصد في هذه المحاولة كشف حساب محاولات الإصلاح في قرني النهضة والصحوة لتحديد المعيقات التي ترجعها فرضية العمل التي أبني عليها إلى خلل في تصور مسائل الإصلاح. وقد درست هذا الخلل في ما يجري من الأفعال وليس في المشروعات القولية للمصلحين المشار إليهم في ورقة الندوة. فالعودة الحالية لتقويم ما حدث خلال القرنين الأخيرين من تاريخنا سائلين ما الذي أضافه فكرنا في مجال فهم شروط النجاح لعلاج الشأن الإنساني، بالقياس إلى ما حصل في التجارب الأربع التي وصفنا والتي كانت ثورات كونية تقتضي أن نميز بين:
1- التعبير عن المواقف من الشأن الإنساني التي يقتصر عليها فكرنا الحالي بحيث إن كل مدارس الإصلاح تعرف بمواقفها من مسائل الإصلاح وليس بنظريات علمية تتعلق بموضوع الإصلاح ومنهجياته المحققة لغاياته.
2- والعلاج الفعلي للشأن الإنساني والذي آل في كل تجاربنا الحديثة إلى الكوارث التي تسمى إصلاحًا زراعيًا أدى إلى التبعية الغذائية، وإصلاحًا تعليميًا أدى إلى أن حكامنا يتعالجون في المصحات الأجنبية بعد قرنين من التعليم الحديث وجل أدوات في السلم والحرب مستوردة بحيث نكاد لا ننتج شيئًا؟
فنصل إلى التفريق الواضح بين:
3- المواقف التي لها أسس موضوعية أعني ما جعل الثورات التي وصفنا تكون ثورات هدفها تحقيق استعمار الأرض والاستخلاف فيها بدل مجرد العيش والأكل كما تأكل الأنعام حتى ولو بنينا صروحا تناطح السماء؛ لأن لنا مواد خام نبيعها ونحتاج القواعد الأجنبية لحمايتها.
4- والمواقف المعبرة عن عواطف أصحابها والتي تجعل النقاش العام مجرد هرج ومرج حول تبادل التهم بدل البحث في سر ما نحاول مغالبته؟ ولعل أفضل مثال هو المواقف من التعامل مع أكبر عائق يحول دوننا والفراغ إلى سر الانبعاث: فبدلاً من فهم أسرار القوة الفعلية في الحضارة الغربية لتعلمها بشروطها، لم نتعلم إلا أنماط العيش الأوربية فصار التحديث الاستهلاكي الذي يوطد التبعية الذي جعلته التقارير العربية الشهيرة شرطًا في النهوض حائلاً دون التحديث الإنتاجي الذي يحقق الاستقلال، ومن ثم الدور التاريخي الفعلي.
لذلك فلا غرابة إذا كان تقويمي للعلاجات الإصلاحية قد التزم بالمعيار الوحيد المقبول عقلا. لا أقضي في الأمر إلا بالنتائج التي آل إليها فعل الإصلاح، سـواء تعلق الأمر بعلم الشأن الإنساني أو بالعمل فيه.([sup][15])[/sup] وطبعًا فحكمي كان سـلبيًا ولعله سـوداوي التـشــاؤم.
ذلك أن الغرض الأساسي هو محاولة فهم ذلك واقتراح تفسير قد يبدو غريبًا بعض الشيء لأنه من جنس من يقول إن علل فشلنا في الحروب كلها هي علل تأخرنا في الرياضيات العالية. وطبعا فمثل هذا التفسير سيهزأ منه كل من تسكره في العلم زبيبة قراءة أو من يصبح زبيبا وهو حصرم فيتهم الفكر الفلسفي بكونه أحلامًا تعبر عن غفلة أصحابها وبعدهم عن الواقع. فليس أبعد عن الواقع العامي ممن يقول إن الرياضيات العالية هي الواقع الوحيد. لكن ما يمكن أن يزيد في الاستغراب هو القول بأن كل محاولات الإصلاح الحديثة لا تتجاوز مفاعيلها المفاعيل التهديمية التي لجنس المؤلفات التي يمثلها كتاب فلسفة الثورة والكتاب الأخضر.
إن منطلقي هو القول بأن فكرنا الإصلاحي اقتصر على المواقف من المشكلات بدل العلم بالمشكلات وفن علاجها، من ثم فهو قد اقتصر على مواقف غير مؤسسة حكمته فكانت العلاجات كلها بنت النزوات والشعارات ولم تكن عملاً على علم، سواء في مستوى المعرفة بالشأن الإنساني أو في مستوى العمل فيه. وقد تعجبون لو قلت لكم إن مداخلتي تقتصر على وصف ما يمكن أن نسميه المأساة التي حاول ابن خلدون وصفها في المقدمة والوصية التي ختمها بها وفي التاريخ والعبرة التي سعى إليها وفي سيرته الذاتية جمعًا لهذه الوجوه الأربعة. لكني في الحقيقة لم أزد حرفًا واحدًا على هذه الأبعاد عدا بيان أمرين:
أولهما الانطباق العجيب لهذه المأساة على حالنا الراهنة حتى لكأن الرجل يدرك ما عليه وضعنا أكثر مما ندركه نحن على الرغم من تأخرنا الزماني الذي تجاوز الستة قرون.
الثاني كونية هذه المأساة عند الأمم التي لها دور كوني في التاريخ الإنساني والتي يمكن استقراء تجاربها الإصلاحية لفهم ما يجري عندنا باعتباره عينة من ظاهرة كونية لا يمكن التعامل معها بنجاح من دون إدراك هذا البعد الكوني منها.
فالمعلوم أن القرآن الكريم قد قدم على النبوة شرطين ليس منهما بد في الأنبياء فكيف بغيرهم من محاولي القيام بعمليات الإصلاح: الكتاب والحكم:
والأول يشير إلى الخبرة الحاصلة المتقدمة على فعل الفكر الإنساني في التعامل الإصلاحي مع الوضعيات الآنية.
والثاني هو القدرة على التقدير الذي يناسب بين الخبرة والوضعية الآنية لعزم الأمر والحسم في القرارات والمحاولات الإصلاحية تكون صائبة بمقدار ما يكون التقدير مطابقًا لما في الكتاب ولما في الحدث الآني أعني للخبرة الماضية والوضعية الراهنة وما يمكن أن يترتب على القرارات في المستقبل.
لكن كل الثورات التي حصلت كانت القيادة فيها للعواطف والفكر الغفل الذي ليس له كتاب ولا حكم: بل هو يعمل بالعواطف والأحكام المسبقة، وخاصة بالشعارات الإيديولوجية والتأثر السطحي بالأفكار الحديثة وأغلبها كانت فاشية. وكانت الثورات في الحقيقة قضاء على الحاصل من التجارب وتعويضها بالارتجال الذي يجعل من ثاروا بسبب هزيمة فلسطين الأولى أوصلونا إلى هزيمة فلسطين الثانية التي تعد الهزيمة الأولى بالقياس إليها نصرًا كبيرًا. والمعلوم أن الفوضى العقلية قد حدثت في الحضارة العربية الإسلامية مرتين متشابهتن إلى حد كبير:
أولاهما كانت غاية الحرب الأهلية الأولى وهي قد بلغت الذروة في تعميم الحرب الأهلية على كل أبعاد فكر المسلمين بين من جعلوا الفلسفة حربًا على الدين برداء ديني فقتلوهما ومن جعلوا الدين حربًا على الفلسفة برداء عقلي فقتلوهما: ورمزها الحرب بين الباطنية والسنة.
والثانية كانت بداية الحرب الأهلية الثانية وهي بلغت الذروة الآن في تعميم الحرب الأهلية على كل أبعاد فكر المسلمين بين نفس الحزبين ولكن من دون تنكر برداء الدين بالنسبة إلى الحزب الأول ولا برداء الفلسفة بالنسبة إلى الحزب الثانيك ورمزها الحرب بين السلفية العلمانية والسلفية الدينية.
والوضعية الراهنة جمعت بين الحربين: لأن الأولى لم تمت بل استؤنفت وتحالفت مع الثانية من أجل نفس الهدف العودة بفكر المسلمين ودارهم إلى ما تقدم على نزول القرآن الكريم. وذلك لأن السلفية الدينية جعلت الدين الكلي ينكص إلى الدين القومي والسلفية العلمانية جعلت العقل الكلي ينكص إلى العقل القومي. فاجتمعت علينا الطائفية الدينية والعنصرية القومية.
وهذان الحزبان يمثلان من رمزنا إليه بالوثنيتين: توثين الفلسفة التي زعمت متحققة في ماضي الغرب (عصر التنوير) وتوثين الدين الذي زعم متحققا في ماضي المسلمين (عصر السلف). إنها حرب بين سلفيتين.
وفوق كل ذي علم عليم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:45 am

الإصلاح والسياسة: نماذج فكرية وخبرات إسلامية
أ.د. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل
مقدمة
الخرائط الفكرية والنماذج الإصلاحية والمشاريع الحضارية للتغيير والنهوض
من الأمور التي يجب التوقف عندها في هذا المقام البحث في الخرائط الذهنية والإدراكية، والخرائط العقلية وتوجهاتها وتصنيفاتها، والجمع بين ذلك في إطار امتداد أوسع يمكن تسميته بالخرائط المعرفية([sup][16])[/sup] بما يمكن أن تشتمل عليه من خرائط فكرية وثقافية، وخرائط المعمار الفكري المرتبط بالسياقات الحضارية (الخرائط الحضارية) والمدى الذي تعكسه في سياق ارتباطها بنماذج معرفية،([sup][17])[/sup] وهو أمر يولد عناصر الشاكلة الحضارية([sup][18])[/sup] من دون إهمال لحالة التفاعل الحضاري ومقتضياتها وحال التواصل الحضاري وتأثيراتها.
الخرائط أيًّا كان وضعها (الذهنية، الإدراكية، والمعرفية، والعقلية، والثقافية، والفكرية، والحضارية، والنماذج المعرفية...)، تعتمد على المعلومات عن الموضوع في شكل تخطيطات، تنظم عالم الأفكار وتصنفه، فترى التضاريس في عالم الأفكار في كليتها، فيما يراه الباحث أنه أنسب وأليق وأوضح في توضيح الروابط والعلاقات والصلات بين عالم الأفكار الجزئية وخريطة الرؤية الكلية، وإذا كانت أول أهداف هذه الخرائط الوعي والمعرفة، فإنها كذلك تتواصل مع استشراف المستقبل وإمكانات التعامل معه.
الإصلاح، السياسة، الفكر: ارتباطات ودلالات
إن ارتباط الإصلاح بالسياسة أمر من الأمور المقررات في إطار الحديث عن الإصلاح السياسي، إلا أنه في حقيقة الأمر من أهم إشكالات الإصلاح وعملياته هي العلاقة بين الفكري والسياسي، وفي هذا السياق فإن المفكرين كان لهم منذ قديم الزمان حديث مهم يرتبط بعلاقة المفكر أو من هم في حكمه بعالم السياسة الممتد لبلوغ الأمر الذي يتعلق بالمجتمع المثالي، وعرف ذلك في الأدبيات بالبحث عن المدينة الفاضلة على مر العصور،([sup][19])[/sup] وظل ما حمله أفلاطون في جمهوريته من إشارته إلى أن أفضل نظام للحكم في الجمهورية إنما يتمثل في حكم الفلاسفة،([sup][20])[/sup]وظلت الإشكالية المتعلقة بالعلاقة بين الفيلسوف والحكم من الأسئلة المهمة في هذا المقام، وبدت هذه الإشكالية تتلون بحكم التراث الذي يحتضنها واستعراض القضية التي ترتبط بها.
الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Ch-01
فما بين الحاكم الفيلسوف والحاكم المفكر والحاكم أو الإمام بشرطه والذي يشير كأحد منظومة الشروط إلى التخصص والعلم المفضي إلى الاجتهاد([sup][21])[/sup] إلى العلاقة بين رجل العلم ورجل السياسة كما يشير إلى ذلك ماكس فيبر([sup][22])[/sup] وإلى العلاقة بين السيف والقلم كما يشير إلى ذلك ابن خلدون([sup][23])[/sup] وإلى تنوعات العلاقة بين العالم والسلطان([sup][24])[/sup] والتي تمحورت حول إشكالية الدخول على السلاطين والعمل معهم، إلى خبير السلطة([sup][25])[/sup] الذي يحمل تخصصًا يشير به على أهل السلطان حتى يرشد خياراتهم ويسدد قراراتهم إلى علماء السلطان الذين ينحازون إليه ويبررون له إلى رجال الدين الذين يحكمون ويتحكمون، إلى المعنى الجامع في تأويل أولي الامر([sup][26])[/sup] ما بين العلماء والأمراء، إلى الحديث عن العلاقة بين الحكيم والسلطان في عالم الأدب الرمزي من مثل كليلة ودمنة،([sup][27])[/sup] أو الأدب الرمزي الذي حمل توصيف للمدينة بكل تكويناتها من مثل ما فعل جورج أرويل في مزرعة الحيوانات،([sup][28])[/sup] هذا الدرس "درس المدينة الفاضلة" إنما كان يشير إلى حالة تصورية تدار بها المدينة على أفضل وجه وعلى طريق العدل محققًا السعادة والرخاء، كل ذلك ربما يشير إلى أشكال متنوعة في العلاقة بين المفكر والسلطة أبرز هذه الأشكال ما يكون فيها المفكر في السلطة، على الخيار الذي زكاه أفلاطون ومن بعده الفارابي،([sup][29])[/sup] ثم حينما يكون العالم مع السلطان ليبرر له ويقدم له المسوغات لفعله خاصة مع ظلمه وجوره (عالِم السلطان، العالِم كقاطع طريق مثلما يشير إلى ذلك ابن الجوزي،([30]) ودكاترة السلطان الذين احتلوا تلك المساحة التي تركها العالِم التقليدي ليملأها هؤلاء الذين تقدموا ليشكلوا لسان السلطة وحجتها في تبرير شرعيتها،([31]) إلا أن ذلك لم يكن يعني أن العالِم كذلك يمكن أن يقوم بالدور في مواجهة السلطان ممثلاً لما أسمى بسلطان العلماء وبين هؤلاء جميعًا يأتي العالِم محايدًا، أو منسحبًا أو منعزلاً عن مجتمعه وعن السلطة على حد سواء، ويأتي ذلك العالِم أيضًا الذي ينخرط في مجتمعه وأمته مما أسماه أستاذنا الدكتور حامد ربيع بكفاحية العالم،([32]) أو مـا أســماه جرامشي بالمثقف العضوي.([33])
وفي تنويعات أخرى يأتي ذلك النموذج الذي يشكل فيه العالم حالة تخصصية يدلي برأيه ومشورته إلى السلطة باعتباره خبيرا للسلطة([34]) ويأتي أيضًا على الجانب المقابل حينما يدعي السلطان أو صــاحب السلطة أنــه صاحب فكر (أبو العريف)([35]) معتقدًا أنــه بســلطانه يجب أن يحتل المكانة الأولى في كل شــيء (حتى في عالم الحكمة والفكر).
ويشار كذلك في هذا المقام إلى المفكر الممتلئ والذي قد يصل إلى السلطة بشكل أو بآخر ليشكل مشروع طاغية لو اعتلى عرش السلطان في سياق يتفرد في حكمه وينفرد بقراره ويستغني عن غيره ويفرض رأيه، باعتباره الحق والصواب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (انظر المفكر المستبد)، ويأتي في نهاية سلم التصنيفات أو إن شئت في آخر دركاته المستبد الجاهل أسوأ أنواع المستبدين وأخطر أنواع الاستبداد على المجتمع وطاقاته وفاعلياته.([36])
أولاً: إعادة الاعتبار لمفهومي السياسة والإصلاح
ليس من المصادفات ذلك الارتباط الكياني بين مفهومي الإصلاح والسياسة، حتى إنه يمكننا القول أن مفهوم السياسة مسكون بتضميناته الإصلاحية ومفهوم الإصلاح مصبوغ بمكنوناته ودلالاته الإصلاحية.
1. إعادة الاعتبار لمفهوم السياسة
السياسة في الرؤية الكلية الشاملة متعددة المستويات والزوايا، تؤسس لمعان غير اعتيادية لمفهوم السياسة:
السياسة إصلاح وصناعة
والسياسة قيام على الأمر بما يصلحه، فالإصلاح بنيوي فيها وقسيم لها وهدف لها.
قال أبو زيد البلخي في كتاب السياسة: إن السياسة صناعة، ثم هي من أجل الصناعات قدرًا وأعلاها خطرًا، إذ كانت صناعة بها تتهيأ عمارة البلاد، وحماية من فيها من العباد، وكل صانع من الناس فليس يستغني في إظهار مصنوعه عن خمسة أشياء تكون عللا لها:
أحدها: مادة له (آلة ومادة) يعمل بها.
والثاني: صورة ينحو بفعله نحوها.
والثالث: حركة يستعين بها في توحيد تلك الصورة بالمادة.
والرابع: غرض ينصبه في وهمه (ذهنه) من أجله يفعل ما يفعل.
والخامس: آلة يستعملها في تحريك المادة.
إذا نقلنا المثال من صناعة السياسة قلنا:
إن المادة فيها أمور الرعية التي يتولى الملك القيام بها.
والصورة فيها إنما هي المصلحة التي ينحو بفعله نحوها وهي نظير الصحة، لأن المصلحة هي صحة ما، والصحة مصلحة ما، وكذلك المفسدة سقم ما، والسقم مفسدة،
والفاعل هو عناية الملك بما يباشره من أمور الرعية،
وغرضه فيما يفعله هو بقاء المصلحة ودوامها،
والشي الذي يقوم له مقام الآلة في صناعته إنما هو الترغيب والترهيب.
وفعل السائس الذي هو نظير المعالجة من الطبيب ينقسم بكليته إلى قسمين: أحدهما التعهد، والآخر الاستصلاح.
أما التعهد فحفظ المستقيم وأمور الرعية على استقامة وانتظام من الهدوء والسكون حتى لا يزول عن الصورة الفاضلة، وأما الاستصلاح فرد ما عارضه منها الفساد والاختلال إلى الصلاح والالتئام.
ونظير هذا التعهد والاستصلاح في صناعة السياسة من صناعة الطب التي هي صناعة الأجساد، حفظ الصحة وإعادة الصحة، وكما أن الطب كله مدرج في هذين البابين، كذلك السياسة كلها مدرجة في نظيريهما، يعني التعهد والاستصلاح (التوحيدي، البصائر 5/146).([37])
السياسة خلافة وعمارة وعبادة
وعلى ما يؤكد "الراغب"،([38]) فإن السياسة -وفق هذا التصور- تستند في تكييفها إلى حقيقة "الاستخلاف"، ذلك أن الفعل المختص بالإنسان على ثلاثة أنحاء:
1- عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(هود:61)، وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش لنفسه ولغيره.
2- وعبادته المذكورة في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذرايات:56)، وذلك هو الامتثال للباري  بإطاعة أوامره ونواهيه.
3- وخلافته المذكورة في قوله تعالى: (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(الأعراف:129)، وذلك هو الاقتداء بالباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة.. إن الخلافة تُستحق بالسياسة، وذلك بتحري مكارم الشريعة (أصولها القيمية).
والسياسة ضربان:
أحدهما سياسة الإنسان نفسه وبدنه وما يختص به.
والثاني- سياسة غيره من رعيته وأهل بلده.
ولا يصلح لسياسة غيره من لا يصلح لسياسة نفسه "لاستحالة أن يهتدي المسوس مع كون السائس ضالا..". ([39])
السياسة شرعية، عادلة، صلاح في مواجهة فساد
ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالاتها وأنها لغاية مصالح العباد، في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يفصل بين الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، وعرف أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها، ووضعها مواضعها، وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة.
فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر بعين الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها.
وقال ابن عقيل في الفنون جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الجزم، ولا يخلو من القول به إمام، فقال الشافعي لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فقال ابن عقيل السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد.
وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط للصحابة، وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا أنه حق مطابق للواقع، ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع.
ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر.
فلما رأى ولاة الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرًا طويلًا وفسادًا عريضًا، فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنقاذها من تلك المهالك.
وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتبه، فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة، فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له، فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعاً لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات.
والمقصود أن هذا وأمثاله (من أفعال الخلفاء الراشدين) سياسة جزئية بحسب المصلحة يختلف باختلاف الأزمنة فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة ولكل عذر وأجر ومن اجتهد في طاعة الله ورسوله فهو دائر بين الأجر والأجرين.
وهذه السياسة التي ساسوا بها الأمة وإضعافها هي من تأويل القرآن والسنة، ولكن هل من الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة من السياسات الجزئية التابعة للمصالح فيتقيد بها زمانًا ومكانًا.
وهذا كما لو كان للناس عدة طرق إلى البيت وكان سلوكهم في تلك الطرق توقعهم في التفرق والتشتيت ويطمع فيهم العدو، فرأى الإمام جمعهم على طريق واحد فترك بقية الطرق جاز ذلك، ولم يكن فيه إبطال لكون تلك الطرق موصلة إلى المقصود وإن كان فيه نهي عن سلوكها لمصلحة الأمة.
والذي اختص به إياس وشريح من مشاركتهما لأهل عصرهما في العلم الفهم في الواقع والاستدلال بالأمارات وشواهد الحال، وهذا الذي فات كثيرًا من الحكام فأضاعوا كثيرًا من الحقوق.([40])
إعادة الاعتبار للسياسة: قراءة مقاصدية في مفهوم السياسة
فماذا عن الطريق الثالث الذي يخرج عن حد الاستجابة لمجرد متغيرات الواقع أو متغير النماذج التابعة لعناصر تطورات في الواقع سواء أكان داخل الدولة أو في النظام الدولي؛ كل ذلك يشكل الدواعي لبناء المفهوم استجابة لمتغيرات الواقع من خارجه.
مفهوم "السياسة" و"السياسي" حالة نموذجية في هذا المقام،([41]) إذ تشير كل التحولات التي رصدناها في مظاهر غالبا ما أتت لاعتبارات متغيرات الواقع ولمتغيرات سمتها التغير والتطور والتحول، وحادثات طارئة لكنها مؤثرة. ومن هنا فإن الاستجابة للحاجات الواقعية لرصد التطورات الحادثة في عالم المفاهيم غير منكور، إلا أن عمليات التوظيف والتبرير لسياسات معينة من منطلق عالم المفاهيم ومحاولة تزييفها فضلا عن تحريفها عن وجهتها العلمية والأكاديمية.. هو الخطر في هذا المقام. إذ يبدو عالم المفاهيم مجالا لاستيطان واغتصاب من قبل الفاعلين المستندين إلى القوة، إلى حد استخدامها في أشكال غطرسة القوة وطغيانها والبغي بالمفاهيم.
كل هذه الاعتبارات اتسمت بالتأقيت والاستقاء من ضغوط الواقع، فربما وهي تعيد تعريف "السياسي" تشوهه وربما تستخدمه وتنحرف وتدعي أن تلك ما هي إلا مرونة في المفهوم وقدرة على التكيف.
وبالنظر العميق في تعريف السياسة في الرؤية الإسلامية نلحظ أن هذا التعريف فضلا عن أنه يعيد الاعتبار لمفهوم السياسة، فإنه يجعل من اتساعه ورحابته حالة بنيانية لازمة أصلية في داخلية المفهوم غير طارئة عليه من خارجه، بحيث تستوعب المستحدث من تحيل أو ميل أو انحراف أو توظيف أو تبرير، واقع الأمر أن هذا المفهوم وجد عناصر رسوخه ضمن "صبغة" و"صيغة" المقاصد.
فإذا كانت السياسة -على قول ابن القيم- ما كانت معه الأمور أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ومناقضة السياسة بمفهومها القيمي تعني أن تكون حال ممارستها أقرب إلى الفساد وأبعد عن الصلاح بمفهوم المخالفة، إنه "السوس" الذي ينخر في الكيان فيفسده ويهدمه. المقاصد -وفق هذه الرؤية- تصبغ وتصوغ مفهوم السياسة على شاكلة العشرية المقاصدية.([42])
القيام على الأمر بما يصلحه: مقدمات ومقومات ومكونات، مجالات، وحفظ، وأولويات، وموازين، وواقع، ومناطات ومآلات، ووسائل، قيم وسياقات.
فالشريعة حكمة كلها في بنائها المعرفي، وعدل كلها في نسقها القيمي، ورحمة كلها في نسقها السلوكي، ومصلحة كلها في نموذجها المقاصدي.
والسياسة -وفق هذا التصور- ليست فنًا أو أسلوبًا أو صراعًا، بل هي رعاية متكاملة من قَبِل الدولة والفرد لكل شأن من شئون الجماعة...
والسياسة -وفق هذه الرؤية- تتصف بالعموم والشمول، فهو مفهوم يخاطب كلَّ فرد مكلَّف بأن يرى شئونه ويهتم بأمر المسلمين، بل يمارس عمارة الكون في سياق وظيفته الاستخلافية.([43])
وعلى ما يؤكد "الراغب"، فإن السياسة -وفق هذا التصور- تستند في تكييفها إلى حقيقة "الاستخلاف"، ذلك أنه الفعل المختص بالإنسان
ويبقى بعد ذلك أن رؤية "السياسي" قد أثرت تأثيرًا كبيرًا في رؤية "الدوليّ" كأحد أهم عناصر السياسي، وحقل العلاقات الدولية بكل تكويناته وتسمياته المختلفة. فكَّرس ذلك رؤية لهذا المجال ضمن مفاهيم القوة والصراع وفن الممكن المفضي إلى تحكم الواقع، وهو -على ما أشار إليه "موران"([44])- ما ولَّد جملة من الكوارث في الممارسة: غطرسة القوة -الخداع والأوهام- الأساطير السياسية، وأسهم ذلك -بدوره- بتهميش "القيمي" لمصلحة "القوة"، حتى صارت القوة في حد ذاتها القيمة.
ومن ثم، فإن إشارة العلاقات الدولية إلى التفاعلات الدولية أو العلاقات وتنوعها أو الفاعلين الدوليين، أو النظام الدولي... أو غير ذلك من مفاهيم فنية استقرت في هذا الحقل، هو ما لا غبار عليه، إلا أن النماذج الكامنة في هذا الحقل لا تزال تحتاج إلى عناصر مراجعة تؤكد اتساع صياغة العلم الخاص بالعلاقات الدولية في سياق عملياته، ومقاصده الكبرى التي تحرك عناصر العمارة الإنسانية من جهة، والحافظ على استمرار الجنس البشري من جهة ثانية، وتحريك أصول التعارف الإنساني كسُنة ماضية وعمليات متنوعة تفرضها علاقات وتفاعلات وحالات ومواقف وتحرك شأن هذه العلاقات ضمن منظور السفينة العالمية أو سفينة الأرض.([45])
لا شك أن تعريفًا يأخذ بحسبانه كل ذلك يمكن أن يحرك عناصر أجندة بحثية تختلف -إلى حد كبير- في موضوعاتها وصياغتها وقضاياها، وأن إخراج "السياسيّ" و"الدولي" من دائرة القيم أسهم -بدوره- في تبسيط المعقد واختزال الفعل الحضاري المرتبط بهذا الحقل. فإن عمق الفعل السياسي يكمن في القيم الكامنة فيه والمحرّكه له، وهو ما يحرك أصولاً داعمة للفعل الحضاري العمراني، ضمن علاقات يمكن أن تشكل أصولاً تقويمية لحركة النظام الدولي ومساراته ونمط تفاعلاته وعلاقاته، وليس ذلك من عيوب تأسيس العلم أو تكوينه، ولكن هو -في حقيقة الأمر- يضمن عملية الوصل بين العلم ووظائفه، وبين العلم وغاياته.
وربما أن المجال -على هذا النحو- يحرك ضمن تفعيل منظومة المدخل القيمي من جانب، وتفعيل الآليات التي تتحرك ضمن هذا المجال وسعة قضاياها (مثل الاهتمام بجماعات السلام، الحافظ على البيئة - الجماعات المضادة للتجارب النووية..)، إلا أن هذه الجماعات لا تزال تحرك عناصر فعلها ضمن أطرها الحضارية لا تتعداها، على الرغم من وجود تشوهات داخل معادلات النظام الدولي تأتي على دول الجنوب أكثر من أي أطراف أخرى، إلا أنها تشير -وبقدر لا بأس به من الثقة- إلى ضرورات القيم التي يجب أن تحيط عناصر البيئة الدولية، وتفحص معادلات النظم داخل معدلات النظام الدولي، وتأصيل أنماط التعارف ضمن أصول علاقات دولية تتحرك ضمن سياقات قيمية أساسية تتمتع بالثبات والمعيارية والقياسية والتقويم.([46])
2. إعادة الاعتبار للإصلاح
على الرغم مما يبدو من فرض القضية والعنوان والمجالات ومناهج الرؤية والعمل الخاصة بمسألة "الإصلاح" فرضًا أمريكيًّا صريحًا،([47]) فإن المنظور الحضاري الأصيل المصرّ على الاحتفاظ بوعيه الذاتي يرى أن الأمر ليس كذلك بالضرورة، وليس حديثُ "الإصلاح" من منطلق التجدد الحضاري الذاتي، يمثل استجابة أو ردّ فعلٍ للطروحات الأمريكية والغربية، إنما هو خط متصل، وهمُّ ممتد متأصّل واقع بين إرادة الأمة الواعية واستطاعتها المتغيرة (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت).
وما الطرح الأمريكي أو غيره -ساعتها- إلا كالمناسبة أو المجال أو الظرف الرافع للصوت الذاتي، الدافع لكشف الزيف، وبيان الإصلاح الصالح الحق من ألوان الإصلاح الأخرى: الفاسد، الضال، المخروق، الملبّس، الكاذب..إلخ.([48])
إعادة الاعتبار لمفهوم الإصلاح عبر ثلاثة أبعاد
أ- المفهوم الغربي للإصلاح، فهو مفهوم قد يشوش على الفهم الإسلامي لمفهوم الإصلاح، فنحن لا نأخذ الإصلاح باعتباره (reform) إعادة التشكيل،([49]) فالإصلاح الذي نقصده ونسعى إليه يتكون من عمليات تجديدية بأفكار نهضوية وإمكانات وقدرات فاعلية.([50])
ب- مفهوم الإصلاح ارتبط بالخارج في الخطابات الأخيرة أكثر من ارتباطه بالداخل، وصارت العلاقة بين الداخل والخارج من هذه الزاوية مثار مشاكل إلى الدرجة التي جعلت البعض يرى أن الإصلاح فقط هو الذي يأتي من الخارج، ولكن نحن نؤكد على داخلية الإصلاح، وإمكاناته وقدراته، أما الخارج فهو ضمن الوسط للإصلاح، سواء مباشرًا أو منداحًا (من دوائر الفرد إلى الدائرة النهائية إنسان الإنسانية).([51])
ج- أن عملية الإصلاح ترتبط بجملة من المفاهيم الأساسية لا يفهم الإصلاح إلا مستصحبا معها ملتزما بمعانيها:
النهوض، التجديد، الإحياء، بناء الحضارة، المتطلبات الأساسية الفكرية والثقافية للعملية الإصلاحية، الجانب الإيماني والتربوي في العملية الإصلاحية، الفاعلية.
إعادة الاعتبار للسياسة تعني ضمن ما تعني محاولة للخروج من اغتصاب وتأميم المستبد وتحريف الغرب وحصره وحصاره في السلطة والصراع حولها، وإعادة الاعتبار لمفهوم الإصلاح يرتكز إلى اعتبار مفهوم الإصلاح مفهومًا بنيويًا في مفهوم السياسة وفي مضامينه الإسلامية والإنسانية بما يهدف إلى (أنسنة السياسة) وارتباطها بمنظومة قيم تأسيسية وغايات قاصدة الى الإصلاح والصلاح والمصلحة، بما يؤكد صلاحية منظومة الشريعة لعمران الإنسان والبنيان.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:52 am

ثانياً: الفكر والعلاقة بين الإصلاح والسياسة
دخول الفكر على العلاقة بين السياسة والإصلاح يحيلنا إلى معادلتين من أنماط الإصلاح:
الأولى: هي التي تركز على الإصلاح من السلطة (من أعلى).
الثانية: الإصلاح من المجتمع (من أسفل).
إلا أنه في تاريخنا وخبراتنا الماضية والمعاصرة هناك طريق ثالث، ويقصد بهذا الطريق؛ الحاكم المفكر الجامع بين الدولة والمجتمع ضمن علاقة سوية تؤسس لعلاقة تكافلية ناهضة تشكل رافعة حضارية للأمة بكل تكويناتها وامتداداتها.
العلاقة بين الإصلاح والسياسة علاقة شديدة التشابك، كما أن المتطلبات الفكرية والثقافية هي المحضن الأساسي لهذه العلاقة.
الحاكم المفكر: رؤية جديدة في عالم الإصلاح والسياسة
نحن نرفض حصر الخيارات الإصلاحية من أعلى/من أسفل، ولا نركز على أن عملية الإصلاح هي في السفلية أو العلوية ولكن نركز على الشروط الفكرية والثقافية لعملية الإصلاح، ولذلك نحن نطرح من جديد الحاكم المفكر كصياغة جديدة للحاكم الفيلسوف وخبرته في تشييد صياغة جديدة للعلاقة بين الدولة والمجتمع، إنما تشكل إعادة التفكير في الأدبيات التي تتعلق ببناء المدن الفاضلة، ومن ثم فإننا نرفض أنماطا من السلطة جرى التسويغ لها على ألسنة كثيرين من مثل المستبد العادل، أو سلطان غشوم خير من فتنة تدوم، أو من اشتدت وطأته وجبت طاعته، أو ستون سنة بسلطان ظالم خير من ليلة بلا سلطان.([52])
ومن الأهمية بمكان أن نؤكد في هذا المقام بأن النموذج الذي يتعلق بالحاكم المفكر ليس هو نموذج أبو العُريف المتحكم، ولكننا أمام جملة من الشروط الفكرية والثقافية لعملية الإصلاح التي تجدد أصوله ومرجعيته، ووسائله، وأدواته، وآلياته، وإمكاناته، وطاقاته، وعملياته، وفاعلياته، ومقاصده، وغاياته.
إن هذا التسويغ الجامع بين متناقضات من الاستبداد والعدل أو المزيف لأوصاف من مثل الحاكم المفكر في إطار تزكية نماذج المستبد الجاهل المدّعي (أبو العريف) أو ذلك المستبد الذي يسوغ المجتمع في ضوء علاقة السيد بالعبد (دكاترة السلطان)،([53]) يمكن الرد عليه بالتأكيد على ما يلي:
- ليس هناك ما يسمى بالمستبد العادل، فالنقيضان لا يجتمعان (الاستبداد والعدل).
- لا بد أن يكون لدى المجتمع القدرات والأجهزة القادرة على كشف كل غطاء زائف حول عملية استبداد السلطة في إطار النموذج الذي يمثله أبو العريف (المستبد الجاهل)، وقابليات الاستخفاف الفرعوني.
- وكذلك فإن علاقات الاستبداد لا يمكن أن تنتج من خير ولكنه في حقيقة الأمر هو نوع إن أتى بشئ يتعلق (بتنمية الناس) فإن ظاهره الرحمة، وباطنه من قبلهم العذاب، وهي نماذج تحرك ضرورة الكشف عن كل ما يتعلق بالإصلاح الضال أو الإصلاح معكوسًا، أو الإصلاح الزائف (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(البقرة:11).
- وغاية الأمر أن الاستبداد كما هو صناعة فإن الإصلاح كذلك صناعة يقوم على أركان عدة تتفاعل في بنائه وبنيته، في سيرته ومسيرته، في تحولاته وسيرورته، ومن هنا وجب علينا أن نؤكد على أنه ليس فقط النماذج الإصلاحية في مواجهة نماذج الاستبداد والإفساد، ولكن علينا كذلك أن نؤكد على إمكانية انحراف عملية الإصلاح.
إذا كان الفاسد في سعيه يريد أن يفسد كل شيء ويهلك الحرث والنسل (التنمية والإنسان)، فإن القائم بعملية الإصلاح وجب أن تكون عينه على أمرين: الدولة والمجتمع، والعلاقة فيما بينهما فيصلح أمرهما، وعلى نموذج الإصلاح ذاته حتى لا يكسد أو يفسد، وهنا من الواجب علينا، وقد قمت قبل ذلك بإبراز النموذج الفرعوني في العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم.([54]) ضمن طاقات إفساد استطاعت، أن تغتصب كل حقائق الإصلاح ومفرداته من الرشاد ومن الطريقة المثلى ومن إخراجهم عن جادة الصواب وما اعتادوا عليه، ولكن في تركيزنا على ذلك النموذج الفرعوني يجب ألا يلفتنا عن نموذج السامري في انحراف العملية الإصلاحية.
ضمن هذا التكامل تأتي عملية الإصلاح كعملية حضارية وتربوية شاملة تزكي هذا النظر وهذا التفاعل ما بين المثلث المهم.
الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Ch-02
 فإن مثلث قاعدته الإصلاح لا بد وأن يحمل ضلعين أساسيين؛ السياسة بمضامينها الحضارية الشاملة والفكر بمضامينه الإدراكية والوعي بعالم الأفكار الضرورية التي تشكل شروطا أولية لعملية الإصلاح التي تؤكد أن عملية الإصلاح لا تحتاج فقط للرجل الصالح في ذاته، ولكن تحتاج للرجل المصلح لغيره وجماعته وأمته.
ومن هنا يبدو لنا نموذج الإصلاح في دعوة النبي شعيب عليه السلام: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(هود:88)
الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Ch-03
ومن هنا وجب على نظريات الإصلاح أن تؤكد على هذا المربع الإصلاحي التربوي الحضاري:
الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Ch-04
وكذلك هي تؤكد على هذا المربع فإنها كذلك تعبر عن معاني الحفاظ على أجهزة الإصلاح داخل المجتمع وتعظيم طاقاته الإصلاحية في هذا الإطار، وذلك ضمن روابط تربط ما بين هذه العمليات والأجهزة الإصلاحية ضمن طاقات متراكمة وطبقات متعاظمة تمكن للإصلاحي في سياساته وإستراتيجياته.
ومن أهم هذه الأمور تقع هذه الأجهزة ضمن هذا الشكل الهام.
الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Ch-05
فإن النظر في النماذج الاستبدادية التي تصوغ علاقة السلطة بالمجتمع صياغة مشوهة غير سوية تحرك تلك الشروط السابق الحديث عنها في عملية الإصلاح لتزيفها في طبيعتها وتزورها في عطاءاتها وتكر على أصل مقاصدها بالنقض والإهمال، وتسرق مفهوم الإصلاح ذاته وتغتصبه، كما يتضح من الشكل التالي:
الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Ch-06
ثالثاً: نماذج الحاكم المصلح المفكر
إن اختيار النماذج الجامعة بين الفكري والسياسي والإصلاحي ليس بالأمر الهين ولا بالأمر الجزافي، ولكنه أمر يتحرك ضمن منظومة من المعايير المنهجية تجعل من هذا الاختيار اختيارًا رشيدًا وسديدًا وممثلاً لخريطة النظم بين ثلاثية "الفكر والسياسة والإصلاح"، وفي هذا السياق فإن اختيارنا لنماذج معاصرة تمثلت في خاتمي، وعلي غرت بيجوفيتش، ومهاتير محمد، لتمثل خريطة لمفكرين ثلاث وخبرات ثلاث ثمثلت في إيران، والبوسنة والهرسك، وماليزيا، إنما تشكل عينة ممثلة تجعل هذه النماذج وإن نجحت نسبيًا قادرة لأن تعطي الحجة والدليل العياني والواقعي لهذه العلاقة الثلاثية.
وفي هذا المقام فإن هذا الاختيار لا يشكل اختيارًا متحيزًا لفئة دون فئة ولكنه اختيار منظوم في إطار جامعية الرؤية الإسلامية المحركة، والرؤية الإسلامية الدافعة، والرؤية السياسية الثاقبة والبصيرة، هذا النص شكل في هذه النماذج الثلاثة جدلا غاية في الأهمية تنوعت أشكاله واختلفت مدخلاته ومخرجاته وهو أمر يعني ضمن ما يعني أن هذه النماذج الثلاث ليست نماذج خالية من النقد، أو التحفظ على بعض مساراتها، ولكن الأمر هنا يتعلق بالقصد المباشر على ما أردناه من فرضية هذا البحث بالرؤية المنظومية للعلاقة بين الفكر والسياسة والإصلاح.
ومن هنا فإن الخبرة الإيرانية ممثلة في خاتمي، قد تجد انتقادات من هنا أو هناك من داخل هذه الخبرة أو من خارجها، وأن حركة بيجوفيتش وقبوله في النهاية تسوية في البوسنة والهرسك مما جلب عليه نقدًا هنا أو هناك، لا يعني بأي حال عدم الوقوف على خصوصية هذه الخبرة كنموذج إصلاحي كان من أهم أهدافه الحفاظ على الكيان، كما أن البعض قد ينتقد الخبرة الماليزية على عهد مهاتير مؤكدًا على نقائص فيها إلا أن هذه النقائص لا تنسخ حجم انجاز هذه الخبرة في الخروج من حال التخلف إلى حال من الارتقاء والنهوض، ولعل الخبرات التاريخية تشهد نماذج أخرى جزئية لتدل على هذه المعاني إلا أن هذه النماذج الثلاث شكلت في ذاتها وفي مساراتها نماذج بارزة في العقود الثلاثة الأخيرة.
من الجدير بالذكر أيضًا أن ننوه إلى أنه ليس من مقصودنا أن نزكي تزكية مطلقة أن الإصلاح يتم دائمًا من أعلى أو من السلطة، ولكنه أمر يدل من خلال اختيار هذه النماذج الثلاث أن رؤية هذه الخبرات الإصلاحية لم تكن لتنجح إلا وقد وضعت المجتمع ضمن معادلتها الإصلاحية. وكذلك فإنه يجب ألا ينصرف إلى الذهن أن هذه النماذج بالاعتبار لتلك الثلاثية "الفكر السياسة الإصلاح" لا تعني بأي حال من الأحوال أن عامل الفكر هو العامل الحاسم، أي بمعنى أن الحاكم لو أنه مفكر أو يستند بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الأبعاد التي تتعلق بالفكر ويجعله قاعدة لحكمه ليس معنى ذلك أن يؤدي هذا الأمر وبشكل تلقائي إلى صلاح الحكم وبشكل مطلق، ولكنه يعني ضمن ما يعني أن الاستناد إلى قاعدة فكرية ورؤية إستراتيجية هي أحد الشروط المهمة في عملية الإصلاح وفي سياق ترشيد السلطة وسياساتها ومقاصدها، وإلا فإن الخبرة التاريخية لم تعدم نماذج شكل السياق الفكر فيها مدخلاً للاستبداد، أو الاستناد إلى حركة استبدادية لم تنتج في النهاية أي نماذج إصلاحية حقيقية.
ذلك أن بعض هؤلاء استندوا في تفكيرهم إلى فكر انقلابي يحاول أن يجمع في المعادلة بين الفكر والقوة ولكنه في غالب الأمر قد التبست عليهم عناصر معادلة مختلة بين هذين الأمرين؛ فبدلا من أن يسيروا ضمن منظومة قوة الفكر ونجاعة تأثيره في ترشيد المسار والمدار والخيار والقرار فإنهم جنحوا من غير مبرر يدفعهم إلى معادلة فكر القوة أي جعل الفكر وسيلة لاكتساب عناصر السلطة ضمن حركة استبعاد لقوى سياسية أخرى، أو قوى فكرية مختلفة، وبدلا من أن يديروا الأمر ضمن معادلة الاختلاف والتعدد والحوار فإنهم أداروا الأمر ضمن الواحدية والاستبداد والاحتكار.([55])
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:56 am

محمد خاتمي([56]):
إثر قرنين من الجهود المضنية التي بذلها المفكرون الإسلاميون ازدهرت حركة إحياء الفكر الديني بين المسلمين.. فإذا كانت شخصيات فكرية بارزة مثل السيد جمال أسد آبادي ومحمد عبده ورشيد رضا وسيد قطب واقبال لاهوري، قد اعتبرت في فترة من التاريخ شخصيات استثنائية في المجتمع الإسلامي فإن أغلب المفكرين والشخصيات الفكرية الإسلامية يسخرون جهودهم اليوم لإعادة قراءة النصوص الإسلامية وإنتاج كتابات فكرية جديدة مستندة للقيم الإسلامية ومتناسبة مع حاجات ومشاكل الإنسان المعاصر.
إن النظرة الحديثة للدين وإزالة الغبار وطرد الأوهام عنه لا يعتبر اليوم جهدًا نظريًا صرفًا يختص بالشخصيات البارزة في المجتمع الإسلامي، بل إنها حركة أساسية لاستمرار حياة المسلمين في جميع الأبعاد، حيث إن هذه الحركة تتابع اليوم في جميع الدول العربية وباقي الدول الإسلامية بكل شمولية وسعة وتزايد.
حدد السيد خاتمي ثلاثة محاور أساسية لأطروحته التي تمثلت؛ بالمنطق في ساحة الحوار، والتزام القانون في العمل، والحرية والفكر، وبالاستناد لهذه المحاور طرح قراءة جديدة للمفاهيم السياسية والثقافية في العلاقات الداخلية والخارجية، وبالتالي نجح في التأثير إيجابيًا على نظرة الدول الأخرى لإيران، وأعدها لتقبل مشروع كبير باسم الحوار بين الحضارات. ومع حضور السيد خاتمي في الساحة، انتزع مبدأ الحوار، فرصة المبادرة من أيدي مثيري الغوغائية، وغطت إستراتيجية الشفافية والوضوح على أسلوب الغموض والتستر في الساحة السياسية وبالاعتماد على إدارة حكيمة ورزينة نجحت نهضة الثالث والعشرين من آيار في دعوة قطاعات واسعة من الشعب الإيراني التي كانت قد همشت اجتماعيًا في السابق بسبب الحواجز والأطر غير الواقعية، وإعادتها إلى الساحة وبثت الحياة ثانية في وجودها ومنحتها العزة والكرامة المنشودة.
ومع سماعهم الرئيس خاتمي وهو يقول: ليحيا من يعارضني، ازدادوا ثقة أن الوقوف إلى جانب رئيسهم لا يعني الانقياد بل الرفقة المشروطة التي لا يمكن تحققها إلا على أساس الميثاق الوطني الذي تعتبر الحرية خطوته الأولى.
لقد أوجد السيد خاتمي ائتلافًا بين جميع طبقات الشعب وشرائحه قائمًا على أساس التسامح والتفاهم، فأعاد الفاعلية للكثير من الفصائل والتجمعات الاجتماعية والفكرية بعد أن كانت قد جرت إلى الانفعال.
إن تجديد وتحديث البنية السياسية للبلاد في إطار توسيع دائرة مشاركة أبناء الشعب والتصدي لظاهرة الاحتكار السياسي من قبل مجموعة معينة تشكل محور نشاطات الرئيس خاتمي وسبب استقطابه لأبناء الشعب.
إن أفكار الرئيس خاتمي كأسلافه من المفكرين تتجاوز الحدود حيث اتسع مدى تأثيرها ليصل إلى العلاقات مع الدول الإسلامية بل إنها تأخذ بنظر الاعتبار العلاقات وحسن التعامل والسلام العالمي بشكل عام.
لقد نجح خاتمي -وقت أن كان في السلطة- في إزالة الكثير من حالات سوء الفهم في علاقات إيران الخارجية، وأن يفتح أبوابا جديدة أمام توسيع هذه العلاقات وإقامة علاقات قائمة على مبدأ الاحترام المتبادل.([57])
لقد شكل خاتمي من خلال تلك المفردات التي أشرنا إليها في الشكل السابق منظومة إصلاحية متكاملة راع فيها عناصر السياق الواقعي للدولة الإيرانية ولثورتها وعناصر السياق الدولي بكل تعقيداته، واستطاع من خلال تلك المفردات التي استخدمها أن يجعل من همه الأساسي أن تتحول الثورة إلى دولة ضمن خبرة إصلاحية تقوم على قاعدة من التربية والمرجعية والشرعية، ومن هنا فقد قدم رؤية للإصلاح تقوم على قاعدة دينية وقيمية وثقافية وفكرية استهدف بها بناء الإنسان وعناصر المواطنة في سياق النهوض لإيران الدولة ومكانتها العالمية.
الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Ch-07
لا شك أن هذا النموذج الذي جمع بين الحكم والفكر قد شكل معادلة جديدة في إيران ليعبر بذلك عن قدرة تجميعية ائتلفت فيها القوى على نحو مارست فيه كل درجات الحرية وهو ما أحدث نقلة نوعية، فارتبط الإصلاح باسمه وعبر عن ذلك التوجه الإصلاحي؛([58]) على الرغم من أن الأمور تحركت ضمن مسارات مختلفة في الخبرة الإيرانية،([59]) وفي هذا المقام ليس في طاقة هذا البحث أن يقوم بالتحليل والتفسير لجملة التحولات التي أعقبت خاتمي، ولكن الأمر يجعلنا نشير إلى أهمية طروحاته التي قدمها ضمن نموذجه الإصلاحي على الرغم من أنها لم تتمتع بقدر من الاستمرارية وأصابها كثير التعثر والانقطاع.
محاضير محمدSad[60])
محاضير بن محمد هو رابع رئيس وزراء لماليزيا منذ استقلال البلاد سنة 1957، تولى منصبه سنة 1981م وتجددت ولايته خمس مرات نتيجة انتخابات ديمقراطية حتى اختار أن يترك السلطة سنة 2003م، وأن يسلمها لنائبه عبد الله بدوي، مقدمًا بذلك نموذجًا رفيعًا لانتقال السلطة سلميًا في إحدى دول العالم الإسلامي.
غادر محاضير محمد السلطة، وهو يتمتع بأغلبية حزبية في البرلمان، في احتفال رفيع المستوى بعد أن نقل دولته نقلة نوعية من دولة زراعية متخلفة اقتصاديًا إلى دولة تأتي في مقدمة النمور الأسيوية والدول حديثة التصنيع. حينما تسلم محاضير محمد السلطة وكان ترتيب ماليزيا في مقياس التنمية البشرية 1980 رقم 68 من 117 دولة (أي رقم 58 إذا كان عدد الدول مائة دولة)، وترك السلطة سنة 2003 بعد أن أصبح ترتيب ماليزيا في المقياس ذاته رقم 58 من 175 دول (أي رقم 33 إذا كان عدد الدول مائة دولة). أي إن ماليزيا قفزت في عهده من الترتيب رقم 58 إلى الترتيب رقم 33 على المستوى العالمي. وفي عهد محاضير محمد ارتفع متوسط دخل الفرد الماليزي من 431 دولار في سنة 1980 إلى 8750 دولار سنة 2000، وارتفعت نسبة المتعلمين من إجمالي السكان البالغين خمسة عشر عامًا فأكثر من 66% سنة 1980 إلى 88% سنة 2000. وقد حدث ذلك كله في إطار نظام سياسي احتفظ بالموروث الماليزي التقليدي الإسلامي، مع وجود نظام برلماني يقوم على انتخابات ديمقراطية كل أربع سنوات. استطاع محاضير محمد أن يحقق التوليفة الصحيحة بين التنمية الاقتصادية من ناحبة وترسيخ الديمقراطية من ناحية أخرى، أي معضلة التوفيق بين التنمية والديمقراطية، ومكنه النظام الديمقراطي من الحصول على شرعية قوة أكسبته ولاء مختلف الأعراق في مجتمع متعدد الأعراق.([61])
بدا ذلك النموذج الذي قدمه محاضير في التنمية يعبر عن خبرة إسلامية متميزة للإصلاح، بما أداه من رؤى إستراتيجية واعية وقدرة على ترجمة هذه الإستراتيجية إلى خطط تطبيقية واسعة ومقدرة استطاع من خلالها أن يقدم سلما للأولويات وحزمة من الآليات استثمرها ضمن سياقات الخبرة الماليزية قادرًا على أن يمزج هذه الخبرة برؤية فكرية واسعة، أسس فيها نموذج التربية والتعليم كرافعة للمسار التنموي ضمن مشروع إصلاحي ونهضوي استند إلى أنساق قيم تتعلق بالمرجعية الإسلامية من جهة والقيم الآسيوية من جهة أخرى، واكتسب شرعيته ضمن حركة إنجاز تراكمت لتؤكد على مكانة متميزة للنموذج الماليزي الذي وظف كل التنوعات في داخله من دون أن يفقد المجتمع ميزانه وميزاته التي اختص بها.
الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Ch-08
ويمكن للبعض أن ينتقد خبرة محاضير هنا أو هناك خاصة في تحالفاته السياسية التي أقامها أو التي فضها، أو بعض ممارساته السياسية التي تبدو متشحة بقدر لا يتواءم مع قيمة الحرية إلا أنه مع اختلاف تقييم خبرته لا يمكننا أن نغض الطرف عن حجم إنجازه كحاكم مفكر.
 علي عزت بيجوفيتشSad[62])
لقد اكتوت يوغسلافيا بنيران حربين لا حرب واحدة... الحرب العالمية الثانية، والحرب الأهلية التي نشبت بين (الشتنك) الصربين الذين كانوا يدافعون عن الملكية اليوغسلافية وبين (الأوستاشا) الكرواتيين الذين انحازوا إلى الاحتلال النازي... وفي نفس الوقت كان البارتيزان بقيادة (جوزيف بروز تيتو) يحاربون القوات الألمانية وفق أجندة أخرى هي الشيوعية.. كان المسلمون كالعادة هم الضحايا في كل صراع ينشب بين الصرب والكروات، فاضطروا في النهاية أن يلتحقوا بالقتال دفاعًا عن وجودهم بعد أن كثر فيهم القتل والتدمير من كلا الجانبين.
كانت الاستاشا الكرواتية قد استولت على السلطة في يوغسلافيا تحت حماية القوات الألمانية الغازية.. وعلم علي عزت أنهم يبحثون عنه لتجنيده في الأستاشا الكرواتية فقد كان الكروات شأنهم في ذلك شأن الصرب يعتبرون المسلمين البوشناق جزءا منهم، ولا يعترفون باستقلالية المسلمين عن الصرب أو الكروات.
ولأن علي عزت كان كارها للعنصرية الصربية وللفاشية الكرواتية معا ولم يكن يتصور نفسه مقاتلا تحت راية النازية أو الشيوعية، لذلك هجر منزله في سراييفو ولجأ إلى أقاربه في مسقط رأسه الريفي ليختفي عندهم.([63])
الكلام كجريمة:
من بين تأملاته الفلسفية عن السجن والجريمة يقول علي عزت: تعلمنا في المدرسة أن تاريخ الجنس البشري بدأ عندما أصبح الإنسان حيوانًا تاريخيًا أي عندما بدأ يكتب.. ولكنه أصبح إنسانًا على الحقيقة عندما تعلم الكلام، أي أن يقول ما يفكر فيه.. ولكن جاء آخرون من بني جلدته فمنعوه من الكلام عندما اخترعوا جريمة (التلفظ) وشرعوا لها أشد العقوبات فعادوا بذلك إلى الحقبة الغامضة من تطوره قبل أن يتعلم الكلام.. ويرجع الفضل في هذا إلى لينين زعيم الثورة البلشفية الذي أضاف إلى قانون العقوبات في الاتحاد السوفيتي سنة 1922 معارضة أعداء الثورة بالكلام كواحدة من جرائم ستة يعاقب عليه بالإعدام.
ينتقل علي عزت من هذه النقطة إلى المقارنة بموقفه هو عندما أصبح رئيسا لجمهورية البوسنة والهرسك حيث كتب: أثناء محاضرة ألقيتها في سراييفوسنة 1994 (أثناء حرب البوسنة) قام أحد المواطنين يسسألني عن تراخي الرقابة على الإعلام قال: هل تعلم يا سيادة الرئيس ماذا يكتب الآن في صحف البوسنة الآن؟ هذا وقت حرب فكيف تسمح بهذا؟!
لماذا لا تصدر قانونا للرقابة على ما ينشر في الصحف؟
وكانت إجابتي كالتالي: بعد الذي أصابني من جراء قوانين الرقابة لا يمكنني أن أكون مساندًا لمنع الصحافة من حرية الكلام.. وليس هذا مجرد التزام بمبدأ فحسب ولكنه أيضًا مسألة (براجماتية) فإني أعتقد أن التحريم والقوة لا يكسبان شيئًا عندما يكون الأمر هو أمر اقناع واقتناع عقدي... وذكرته أن القرآن نفسه أثبت هذه الحقيقة بأروع تعبير وأبلغ إيجاز في آية واحدة قصيرة: لا إكراه في الدين.. فإذا طبقنا هذه الآية في مجال أوسع واعتبرنا الإيمان هو كل ما يعتقد فيه الإنسان من أفكار لتبين لنا أن أن الإكراه لا يجدي ولا يثمر في أي عقيدة.. فهل كان الإكراه مفيدا للشيوعيين في القضاء على الأفكار المعارضة بالتهديد والتعذيب والسجن والقتل.. فتلك كانت بعض وسائلهم في قمع الأفكار؟ لقد دلت تجربة النظام الشيوعي وبرهنت هزيمته النهائية على أن هذا مستحيل.([64])
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:57 am

مسلم وأوروبي
في لقاء صحفي مع مندوب صحيفة (شتيرن) الألمانية بتارخ 5 نوفمبر 1994م سأله قائلا: السيد الرئيس أنت معروف كمسلم حريص على التقاليد الأوروبية والتسامح الأوروبي وأنك منفتح على العالم بأسره، ولكن هناك تقارير صحفية تزعم أن هناك أسلمة جارية في البوسنة والهرسك فهل هذه مجرد شائعات؟
انظر إلى اجابة الرجل الذي يفهم العقلية الأوروبية وكيف يخاطبها لا بلغة الاعتذار والتبرير المهين إنما بمنطق المواجهة الحكيمة قال: سوف أكون شديد الصراحة وأقول لك: لا ليست هذه شائعات بل حقيقة، وتفسيرها أن العودة إلى الدين أصبحت ظاهرة عالمية في كل مكان قمع فيه الشيوعيون الدين على مدى خمسين إلى سبعين سنة.. نعم هناك أسلمة في البوسنة -على حد وصفك- وهي صحوة إسلامية، بقدر ما فيها صحوة أرثوذكسية وكاثوليكية، ولكن الفرق هو ان عودة المسيحيين إلى دينهم لم تلفت انتباه أوروبا المسيحية وهو أمر أفهمه ولا ألومها عليه، أما عودة المسلمين إلى دينهم فقد اعتبرته أمرًا مفزعًا.. أود فقط أن أصحح لك في نقطة واحدة وهي أن تسامحي ليس مرده إلى أنني أوروبي، وإنما مصدره الأصلي هو الإسلام، فإذا كنت متسامحًا حق فذلك لأنني أول وقبل كل شيء مسلم ثم بعد ذلك لأنني أوروبي.. لقد لاحظت خلال حرب البوسنة أن أوروبا تسيطر عليها ضلالات وأوهام لا تستطيع التحرر منها رغم الحقائق الدامغة، فقد دمرت في هذه الحرب مئات المساجد والكنائس.. كلها -بلا استثناء- دمرها مسيحيون، ولا توجد حالة واحدة لكنيسة دمرها البشناق (المسلمون).. أسوق إليك حقيقة تاريخية أخرى: فقد حكم الأتراك العثمانيون البلقان خمسمائة سنة فلم يهدموا كنيسة ولم يبيدوا شعبًا، بل حافظوا على الأديرة الشهيرة في جبال فروشكا جورا (قريبا من بلجراد) لأن إسلامهم يأمرهم بهذا، ولكن هذه الآثار الدينية التاريخية لم تصمد ثلاثة أعوام فقط تحت الحكم الأوروبي.. فقد دمرها الشيوعيون والفاشيون خلال الحرب العالمية الثانية، وهؤلاء لم يكونوا نتاجا آسيويا بل صناعة أوروبية.. وحتى هذه اللحظة لم تظهر أوروبا حساسية ضد الفاشية المتصاعدة في البلقان ووقفت تتفرج على الخراب الذي أحدثه الصرب في البوسنة..
إنني أعتز بأوروبا وأكن لها كل تقدير ولكن أوروبا تحمل عن نفسها فكرة أعلى بكثير من حقيقتها.([65])
ضمن هذه الرؤية المتشابكة المتعلقة بالقيم الإنسانية وضرورة المحافظة عليها، والسياق وضرورات اعتباره، والمحافظة على الكيان البوسني ومقتضياته، هذه المعطيات مثلت رؤية إستراتيجية كلية اشتملت على مفاصل فرعية في رؤيته.
الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Ch-09
شكَّل الحفاظ على كيان البوسنة جل هم علي عزت بيجوفيتش في منظوره الإصلاحي الذي اتسم برؤية فلسفية عميقة للإنسان وطبيعته ودوره ورسالته ومساره ووظيفته والنظرة للكون والحياة ولجملة العلاقات الإنسانية بين البشر ليؤكد بذلك على رؤية إصلاحية إنسانية رحبة أصل فيها معنى الحضارة في الإنسان ومعنى الإنسان في الحضارة، وقدم ضمن نموذجه الحضاري معمار من المفردات والسياسات شكلت بحق مسارات للحفاظ على كيان البوسنة والخروج من حال الحرب واستهداف البوسنيين بالتطهير العرقي إلى حال يحفظ الكيان والبنيان البسنوي محافظا على رؤيته الإسلامية الإنسانية ليعبر بذلك عن درس إصلاحي مهم على أرض الغرب وفي عقر داره، وقد مثل بهذا النموذج الإصلاحي حركة تربوية شاملة تهدف إلى التمكين للقيم الإنسانية الكبرى والقيم الإسلامية العليا وتحرك صوب عملية نهوض وإنماء استطاع من خلالها أن يضع البوسنة على أول طريق للسلام والاستقرار.
ومن هنا كان هذا النموذج الإصلاحي يختلف في مفرداته وفي آلياته وفقًا لنقطة مركزية اختلفت لدى تلك الخبرات فتمايزت هذه الرؤى وهذه المسارات الإصلاحية وتنوعت تلك الخبرات ارتباطًا بسياقاتها والفكرة المحورية التي دارت حولها. هذه الخبرات وإن تباينت في الرؤى والتوجهات والمسارات والآليات إلا أنها اتحدت في المبدأ ضمن مرجعية إسلامية إنسانية وتوافقت في المقصد ضمن هدف إصلاحي شامل، ونظم فيما بينها أسلوب يتعلق بالتربية كقاعدة لهذه النماذج الإصلاحية وانطلاقها نحو ارتقاء الإنسان باعتباره هدفا لهذه النماذج الإصلاحية، فحققت هذه النماذج الثلاثة تمايزًا ونظمًا ووحدة في آن واحد لتحقق بذلك أن في خبرة الإصلاح ما يعم وجب التأكيد عليه وما يخص وجبت مراعاته ضمن صياغة السياسات واستثمار الآليات. إنها رؤية تنظم أيضًا المعاني التي تؤكد على العروة الوثقى بين الفكر والحكم، بين الاستراتيجية والتدبير، بين المبتدأ والمسار والمقصد، فتشكل تلك الخبرات جميعًا حالة تكاملية يمكن أن يستفاد منها وكأن استعراض هذه الخبرات أعاد الاعتبار إلى السياسة في معناها الحقيقي وإلى الإصلاح في جوهره وإلى الفكر في دوره إرشادًا وتسديدًا.
ومن الجدير بالذكر وبملاحظة هذه الأشكال الثلاثة التي تترجم عند كل منهم رؤية العالم والجهاز المفاهيمي المستخدم لدى كل منهم والإشكالات الأجدر بالتناول التي حددتها النماذج الثلاثة إنما شكلت توافقا واستمدادا من تلك المهمة الإصلاحية التي عقدها كل من هذه النماذج بذاته، مراعيا في ذلك السياق الذي يتفاعل فيه، والمقصد الذي يسعى إليه.
أما عن الموافقات والأشباه والنظائر والتقاطعات فهي تأتي كالتالي:
1ـ الناظم الإنساني:
بين الإنسان والإنسانية تعلق وإن إصلاح الإنسان أهم مداخل ترقية الإنسانية.
من الجدير بالذكر أن التصور للإنسان ضمن رؤية العالم الكلية يسهم في صياغة وصناعة التصور الإصلاحي ويخرج هذا التصور على شاكلة هذه الرؤية إلا أن الأمر يظل ملتبسا إذا ما تحدثنا عن الإنسان العولمي على صعيد واحد خاصة حينما تستند العولمة إلى رؤية تنميطية مقولبة ([66]) استندت ضمن اسناداتها الفكرية والنظرية إلى ما أثبته فوكوياما حول نهاية التاريخ، وما أثبته هنتنجتون حول صدام الحضارات، ذلك أن فوكوياما في دعوته تلك التي أشار فيها إلى الانتصار المؤزر للليبرالية إنما كان يؤصل لدعوى الانخراط في سلك الغالب المنتصر لشاكلة الإصلاح على طريقة الغالب في عوائده وزيه ونحلته وسائر أحواله (ابن خلدون)، بينما أن دعوى هنتنجتون كانت المكمل الموضوعي للدعوة الأولى في إطار الإشارة إلى الحملات التأديبية والعقابية لمن يتأبى على الخضوع ويرفض الانصياع ويخالف الغالب، وذلك ضمن مفاهيم تسربلت بدعوات دينية من مثل مبعوث العناية الإلهية، وبحروب فعلية اتخذت ما يسمى بالحروب الوقائية أو الاستباقية، ونظن أن هذا التفكير أو ذاك (نهاية التاريخ وصدام الحضارات) إنما دار وفق منطق يستند على قاعدة الغرب والباقي.([67])
وإذا كان أفق الإصلاح ضمن مشروعات الإصلاح المختلفة لا بد أن يكون إنسانيًا وحضاريًا وربما في بعض تضميناته كونيًا وعالميًا فليس ذلك بمعنى العولمة الزائفة التي تشكل استبدادا ولكن على مستوى النظام العالمي وعلاقاته الشائهة والمشوهة.
2. الناظم التربوي المتعلق بالتنشئة والتعليم: إنها العملية التي تعيد صياغة الإنسان، إن إنسان الحضارة والنهوض غير إنسان التخلف والجمود.
3. البعد الإيماني من أهم الشروط الأساسية لصياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع.
4. اعتبارهم جميعًا للواقع من دون تحكيمه (اعتبار ترشيد لا اعتبار تحكيم).
5. الاختفاء عن المسرح السياسي طواعية.
(الدور المتصل) الدور لا يتعلق بالسلطة ولكن الدور الإصلاحي يتعلق بالفكرة.
6. الحفاظ على الهوية والعلاقة بين الإسلام والغرب:
بيجوفيتش: هوية الكيان المسلم الأوروبي
محاضير: خصوصية النموذج التنموي، طبعة التنمية والخيار التنموي.
خاتمي: الهوية الأساسية غير مانعة من الانخراط في عالم الإنسانية.
المفارقات والفروقات:
أ- الإستراتجية الأساسية:
خاتمي:
نموذج الانتقال من الثورة إلى الدولة: نحو صياغة علاقات الدولة والمجتمع ضمن نموذج إصلاحي.
محاضير: بناء الدولة من التخلف إلى التنمية: المجتمع رافعة للدولة.
نموذج إصلاحي يؤسس لمقام المجال المشترك لفاعليات التنمية والإصلاح والنهوض.
بيجوفيتش:
بناء الدولة في أحضان المجتمع: الحفاظ على الكيان أول درجات بناء الأمن الإنساني والأمان.
ب- اعتبار الواقع وإدراك السياقات المتشابكة:
يعد اعتبار الواقع ومحاولات إدراكه جامعًا ناظمًا فيما بين النماذج الثلاث إلا أن مع اتفاقهم في ضرورة إدراك الواقع على ما هو عليه والتعامل مع معطياته اعتبارًا لا تحكيمًا لم يمنع هؤلاء من اختلاف الخريطة الإدراكية لمفردات الواقع والجمع فيما بينها، والتعرف على الإمكانات وحجم التحديات وبناء الاستجابات المكافئة والفاعلية.
وفي إطار النماذج الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها فإن كل من هؤلاء مثل مرحلة (محطة) من مراحل (محطات) التغيير والإصلاح، فاستطاع أن يتفهم بقدر أو بآخر، بشكل أو بآخر، بدرجة من النجاح تتفاوت على نحو وآخر لما يمكن تسميته باعتبار المرحلة أو فقه المرحلة يعبر بذلك عن إمكانات مستثمرة وطاقات مقدّرة، وفاعليات مثمرة.
ج- الإمكانات وقياس الفاعليات في النماذج الإصلاحية الثلاث:
من الجدير بالذكر أن الإسراف في استخراج قياس موحد لنماذج الإصلاح في عموم الدنيا هو من الأمور التي إن وجدت شرعية في مبناها المعرفي والعلمي (البحثي) إلا أنها يجب ألا تهمل ما يمكن التأكيد عليه في إطار لا ينزلق إلى محاولات تنميط الخبرات الإصلاحية، ولكن غاية الأمر أن نقوم بإدراك التنوع الكامن خلف هذه الخبرات بما يؤكد ثراء هذه النماذج الإصلاحية والخبرات النهضوية، ولكن الأمر العلمي الحق لا بد أن ينصرف إلى ما يمكن تسميته بتصنيف الخبرات والنماذج الإصلاحية أكثر مما ينصرف إلى تنميط الخبرات الإصلاحية، ومحاولة قولبتها، ولا شك أن السير الأعمى في قياس فاعليات النماذج الإصلاحية ضمن مؤشرات نمطية هو من الأمور التي يمكن أن نشير إلى مناطق قصور هذه المحاولات على الرغم من مشروعيتها المعرفية والبحثية وهو أمر يشير إلى المنهاجية التي يجب أن تنصرف إليها الجهود في دراسة الظواهر والخبرات الإصلاحية، وفي هذا المقام، فإن الأمر ربما يتفاوت الناس في تقويمه من بين الوقوف على هذه النماذج وتلك الخبرات في إطار يحاول قياس هذه الخبرات من خلال الثابت والمتغير فيها، العام والخاص منها، الفشل والنجاح في عاقبتها وفي المقدار الذي وصلته ضمن القوانين، والاستمرارية والتغيير، والديمومة والانقطاع.
من هنا فإن القيام على دراسة هذه النماذج الإصلاحية تقييمًا وتقويمًا قياس ضمن معايير كمية وكيفية لأمر يحتاج إلى دراسات مستقلة بهذه النماذج وتلك الخبرات.([68])
لماذا أنتج هؤلاء وتخلف غيرهم؟
لا شك أن تلك من المفارقات المهمة التي يجب التوقف عندها في هذا السياق ضمن رسم خريطة النماذج الإصلاحية في مقام يربط بين الإصلاح والسياسة، وغاية الأمر في هذا السياق قد يأتي من يضم لهؤلاء عناصر أخرى يراها حريّة بالبحث والدرس والفحص.
وقد يتحدث البعض عن إمكانات ونماذج أخرى ربما شكلت الظروف الموضوعية عائقا وتحديا لأن ينتج بعض من هؤلاء الأخرين من مثل ما أنتج هؤلاء، وضمن هذا السياق فإن الأمر يحتاج منا إلى ضرورة الإشارة إلى ما أسميناه بصناعة الإصلاح، فإن من صناعات الإصلاح ما يشكل نوع الصناعات الثقيلة فيه، ومنها ما يشير إلى الصناعات الدقيقة منه، ومنه كذلك ما يؤشر على الصناعات الخفيفة في آلياته وعملياته، ومنه ما يتعلق بالصناعات الخادمة لغيرها والرافعة لإمكاناتها والقادرة على أن تمارس العامل المساعد والحافزة والدافعة لعملية الإصلاح بما يشكل رافعة للنهضة والتغيير، وكذلك فإن من الصناعات ما تشكل صناعات مكملة، تكمل البنيان وتجوده وتتقنه ضمن عملية إحسانية حضارية مفتوحة و(لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)(يونس:26)، كذلك فهناك الصناعات المولدة التي تولد من رحم علاقات شرعية تؤكد على إمكانات خلق طاقات نهوض للأمة وفاعلياتها الممتدة ضمن عملية إصلاح لا تنقض ولا تنتهي.
غاية الأمر أن الإنسان يجب ألا تنفك نشاطاته وفاعلياته عن الإصلاح أبدا، بالاعتبار الذي يؤكد على تنمية أجهزة المجتمع الإصلاحية وقدراتها في ترشيد واستمرار عملية الإصلاح الشاملة والحضارية مهما قلت هذه العمليات ومهما تصور هؤلاء المهتمون بعملية الإصلاح أن ذلك قدر يسير من عمل كبير وخطير.
هذه النماذج التي يمكن قراءتها من خلال فكرة التنوع في الوحدة تجعل أيضا من قراءة هذه النماذج من خلال خبرة فتح الله كولن([69]) الإصلاحية كناظم بين تنوعها والذي تشكل ضمن مقولات ذهبية:
- نموذج فتح الله كولن بين نظم النماذج وقراءة الخبرات.
- القيام على الأمر بما يصلحه، الطلاق بين الإصلاح والسياسة ليس بائنا.
- جوهر الإصلاح بشروطه لا بأشكاله.
هذه المقولات الذهبية الثلاث أصلت معنى التربية كقاعدة لانطلاق النموذج الإصلاحي في الإنماء والنهوض وهو أمر جعل من مفهوم الخدمة باعتباره مفهومًا محوريًا لدى كولن معنى ناظما آخر لهذه الخبرات الثلاث والتي كانت مسكونة بمفهوم الخدمة للإنسان والإنسانية عبر خصوصية خبراتهم الإنمائية في بلادهم المختلفة، إن مفهوم الخدمة هو الذي يرشد معنى السياسة، ويسدد معنى الإصلاح، ويشد كل منهما للتفكير والتدبير والتغيير.
وكذلك فإن من عناصر نظم هذه القراءة لهذه الخبرات بالإضافة لخبرة فتح الله كولن أن نستند في ذلك إلى نموذجين إرشاديين في التفكير والتدبير فيما يتعلق بعملية الإصلاح؛ ألا وهما النموذج السفني والنموذج المقاصدي، وإذا كان النموذج الأول ينظر إلى عملية الإصلاح باعتبارها سفينة لها من المقتضيات والشروط للوصول إلى بر أمانها وإلى حال نجاتها استمدادًا من حديث الني عليه الصلاة والسلام، حديث السفينة بكل تضميناته ومعطياته وشروطه وغاياته ومقاصده، لقد شكل كل هؤلاء نماذج غاية في الأهمية لقيادة سفينة الإصلاح كل حسب سياقاته وبقدراته المتميزة في قيادة سفينة الإصلاح، ويترافق مع هذا النموذج النموذج الثاني الذي يتشكل من خلال النموذج المقاصدي بكل مفرداته ومقوماته ليؤصل بذلك رؤية استراتيجية واضحة لدى هذه الخبرات الثلاث تؤصل معنى مجالات الإصلاح وأولوياته ومناط حفظ بمفاصله وقدرات رعايته وحمايته وموازينه المرجعية التي يستند إليها وحركة واقعه التي يتفاعل معها، ومناطات تسييره وتدبيره الذي يترجم هذه الإستراتيجيات إلى خطط تنفيذ وتطبيق على الأرض تتخذ من السياق الواسع مجالا لتفعيله ومن منظومة قيمه روحا سارية في صياغته وتطبيقه مستثمرًا كل آلياته معتبرا مستقبله ومآلاته، ضمن هذه الرؤية التي تتعلق بهذه العشرية ضمن النموذج المقاصدي صاغ كل منهم نموذجه الإصلاحي على اختلاف مفرداته وتنوع سياقاته.
خاتمة: الإصلاح في العالم الإسلامي: مسالك متعددة وخبرات متنوعة
إن التصور الإسلامي البديل فيما يتعلق بالمعضلة الغربية يضرب بجذوره في الإدراك الذاتي القوي بصفته مصدرا لا ينضب من المعاني الإنسانية البديلة. ويأتي المفهوم الإسلامي للأمن الوجودي والحرية كنتيجة من نتائج هذا الإدراك الذاتي القوي. فالحرية من المنظور الإسلامي لا تعتمد على القوة ولا تستمد منها، بل هي بالأحرى حالة طبيعية تنبع من الوعي الذاتي، ولذلك لا توصف الحرية الإسلامية بأنها ظاهرة نسبية قد يتمتع بها بنو البشر على قدم المساواة، أو يستعلي بها بعضهم على بعض، ولا توصف الحرية كذلك بأنها حصيلة استغلال المصادر الطبيعية من خلال الآليات والأنظمة المستحدثة. إن الحرية حسب الرؤية الإسلامية تعبير عن نضج روحاني يتحكم ويوجه الأنا الإنسانية.([70])
أما بالنسبة للأسس النظرية للأزمة التي تعاني منها الحضارتان الإسلامية والغربية في الوقت الراهن، فكل من الحضارتين اتجاه معاكس للأخرى، فأزمة الإدراك الذاتي في تفاقم مستمر ولا يمكن التغلب على هذه الأزمة من خلال إجراء إصلاحات ناجحة هيكليا ومؤسسيا فحسب، وبخاصة أن أزمة الحضارة الغربية تولدت أساسًا من معضلة العلاقة بين رؤاها الحضارية وتطبيقاتها المؤسسية، والأمر على العكس من ذلك تماما في حالة الحضارة الإسلامية. فالإدراك الذاتي الحضاري والتصورات التي ينطوي عليها لا يزال قويًا في العالم الإسلامي، على الرغم من أنماطه الهيكلية والمؤسسية الحالية لا تعكس خلفيته النظرية ورؤيته الخاصة، وتتولد أزمة العالم الإسلامي تحديدًا من كيفية تفعيل ذلك الإدراك الذاتى على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولم تكن مشكلة العالم الإسلامي قط مشكلة إدراك ذاتي قاصر، بل هي على الأحرى مشكلة كيفية نقله إلى حيز التنفيذ.([71])
وباستطاعة العالم الإسلامي تحقيق ازدهار حضاري إذا تمكنت النخب الفكرية والاقتصادية والسياسية من استرجاع الانسجام النظري والثراء التاريخي للحضارة الإسلامية بغية إنجاز ممارسة خلاقة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما يجب دعم البرنامج السياسي الجديد للعالم الإسلامي بصفته مشروعًا بديلاً للنظام العالمي الجديد المغالي في النفاق، على أن يكون هذا الدعم عن طريق تشجيع الابتكار الفكري والكفاءة الاقتصادية والحيوية الاجتماعية، فمثل هذا الازدهار الحضاري لن يقدم فقط حلولا لمشاكل العالم الإسلامي، بل هو قادر على إيجاد بديل ملائم لإخراج الإنسانية جمعاء من محنتها.([72])
إذن العالم الإسلامي من خلال خبراته -إن تاريخًا أو حاضرًا أو مستقبلاً- يمكن أن يضيف من خلال خبراته نماذج مهمة للتغير والإصلاح مستلهمة سنن التغيير في أصولها ومنتجة نماذج الإصلاح في تنوعها،([73]) إن سنن التغيير التي تقوم على قاعدة (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11).. لا يغير ما بواقعهم.. طرائق كسبهم ومعاشهم.. أخلاقهم.. أفعالهم تصرفاتهم وسائر أعمالهم.. حتى يغيروا أولا ما بأنفسهم من أنماط الفجور أو التقوى، لتتغير النية والقصد ويتغير اتجاه الفعل والعمل والتصرف والسلوك لتتغير نتائج الأفعال وغاياتها فيتغير ما بالواقع نتيجة لذلك لأن ما بواقعنا هو من عند أنفسنا (...قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ)(آل عمران:165). هو مما تحمله النفس من دوافع وموجهات غير سوية وهو مما تضفيه النفس على الأشياء من قيم خاطئة، وما فيها من معايير فاسدة تدفع بها إلى الخلل والانحراف في التصرف والسلوك وفي الفعل والعمل.
وبالتالي فإن تغيير هذه الدوافع والموجهات الخاطئة الفاسدة هو أساس أي تغيير.. أساس أي نجاح.. أساس أي تحويل من حال إلى حال.([74])
فالتغيير يبدأ مما بالنفس من أنساق وأنماط ومبادئ ومفاهيم وتصورات وآراء لينطلق التغيير بعد ذلك إلى ما بالواقع من علاقات وأفعال وأعمال وتصرفات وسلوك وأنساق وأنماط ثقافية واجتماعية وأبنية وتراكيب مادية معنوية ليتحقق بذلك الشرط الحقيقي الموضوعي لتغيير ما بالواقع وهو تغيير ما بالنفس أولاً كخطوة أولى نحو تغييرما بالواقع.([75])
ولا مفر أيضًا من نقد الذات وتعريتها ومعرفة ما هو سيئ وفاسد فيها من الأنماط الموجهة الدافعة إلى الفعل والعمل، لأن نقد الذات هو الخطوة الأولى نحو التغيير... نحو تطهير النفس من السوء ومن الخلل والانحراف، ومن سيطرة النزعات الذاتية اللاعقلية عليها وهو الخطوة الأولى أيضا نحو بناء الذات... نحو صلاح أو تصحيح ما بالذات... تصحيح ما بها من قيم ومعايير ومفاهيم غير صحيحة تدفع إلى الانحراف أو إلى الشر والفجور في الفعل والممارسة.
لا بد من مواجهة الذات وتعريتها.. وتعرية الأحكام المسبقة التي تؤثر في الحكم على الأشياء وعلى الأفعال والعلاقات وتؤثر في اتخاذ القرارات وفي إحداث التغييرات والتحولات في الواقع أو تؤثر في إصلاحه وتنظيمه.. لأن مجاملة النفس وعدم مراجعتها مقدمة للنفاق المجتمعي والحفاظ على الأمر الواقع بدون تغييره.
لأن غض الطرف عما في النفس غض له عما في غيرها، غض له عما في نفوس الآخرين من انحراف في السلوك والتصرف فلا يعود الناس يتناهون عن منكر فعلوه، فتشيع الفاحشة وتنتشر الرذيلة لتغاضي الواحد عن خطأ الآخر، وعن أخطاء الآخرين لتغاضيهم عن أخطائه، وانحرافاته مقابل ذلك.([76])
 لا شك في أن أي تغيير يقوم به الإنسان أو أي إصلاح أو تنظيم للواقع بما فيه من وقائع وعلاقات وأبنية سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية وبما فيه من تراكيب مادية أو معنوية لا بد له من مبدأ (ديني، أخلاقي، سياسي، اقتصادي، أيديولوجي...إلخ) يستند إليه، أو تنطلق منه حركة التغيير لتعبر عنه أو تجسد ما يدعو إليه في الواقع... لا بد له من قيمة (ثقافية، اجتماعية، اقتصادية، موضوعية، نفعية، ذاتية... إلخ) تجعل له (للتغيير) شأنًا ومعنى وقيمة وهدفًا وغاية يسعى الإنسان إلى تحقيقها أو اكتسابها أو الحصول عليها من خلال تحقيق التغيير في الواقع.. لا بد له من معيار يتخذه نبراسا له يكتشف به الكيفيات التي ينبغي أن يطبقها والأساليب التي يسلكها في طريقه لكي يتحقق ويؤدي دوره بنجاح وفاعلية.([77])
ولذلك فإن من يحاول فرض أفكار أو مفاهيم أو تصورات سياسية أو قضايا اقتصادية أو اجتماعية تتناقض مع الواقع الأصيل فتقفز فوقه وتحاول أن تهدم أساساته وثوابته وتتجاهل اشتراطاته الثقافية والاجتماعية بالقوة المادية أو عن طريق الضغوط أو عن طريق استغلال الصلاحيات الدستورية القانونية أو الشرعية أو السياسية أو الاقتصادية إنما يقع في خطأ تاريخي ثقافي اجتماعي منطقي واقعي يقوده إلى السقوط، إن لم يكن سقوطه هو كشخص (لأنه يملك القوة المادية أو الاقتصادية أو القانونية او الإدارية) فهو سقوط لأفكاره ولجهده ولعمله من بعده.
لأن الفكرة الأساسية هنا وهي من فرض مفاهيم وافكار وآراء وتصورات بالقوة أو بالحيلة والمكر والدهاء أو عن طريق التضليل السياسي أو الإعلامي، ستعيش في تناقض وتضاد مع هذا الواقع.. ستعيش حالة اغتراب عنه.. حتى تفقد علاقتها به وتخسره فتسقط وتنهار.([78])
من رحم سنن التغيير تلك تولد معاني الإصلاح والتجديد والنهوض حيث يعتبر الإصلاح رهانا حضاريا يهدف إلى فاعلية عملية التغيير وصولا بالحياة إلى المستوى الحضاري الراقي في إطار شامل هادف ومخطط يسانده الوعي الحضاري([79]) لأمة من الأمم بحيث تتعرف على واقعها وترتبط بذاكرتها الحضارية الحية وتستشرف مستقبلها ضمن رؤية واضحة وفكر متجدد مستندة في ذلك إلى مبادئ فاعلة.
إن استعداد شعوب الأمة لتقبل الإصلاح والتجاوب معه هو المدخل الأساسي لنجاحه وتحقيق أهدافه، والإصلاح بهذا الاعتبار عملية حضارية مستمرة ومتصلة لا تتوقف، ذلك أن التجدد من أهم سماته وهو في ذلك يرتبط بالتغيير كسنة من سنن الحياة من جهة والتجديد كضرورة تعبر عن استيعاب المتغيرات والقدرة على صياغة الفكر والحياة ضمن مثلث مهم هو التغيير والإصلاح والتجديد؛ هذا المثلث الذي يشكل معادلة حضارية مهمة هو الذي يؤدي إلى نهوض حقيقي فعال.
وللإصلاح قاطرته وآلياته وتقع القيادة في مقدمة روافع الإصلاح بما تملكه من قدرة على تشكيل العلاقات والمجتمعات وبناء السياسات والمؤسسات، ومن هنا تبدو تلك الفرضية التي انطلقنا منها في سياق الحاكم المفكر تدلنا على وثاقة العلاقة بين الوعي والسعي وبين قدرة القيادة وفاعليتها على الأرض، إلا أنه وجب علينا أن ننظر إلى الإصلاح ضمن سنن التغيير الأساسية (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:12) ليعبر عن الوصل بين تغيير ما بالقول وتغيير ما بالنفس، والتغيير الإلهي، هذه السنة الموصولة تجعل القيادة في مقامها ومكانها في عملية الإصلاح بحيث ترشد المعاني التي قد تتسرب إلى وعي الناس من أن الإصلاح دائما يتأتي من الفرد ويأتي من أعلى، فليس من مقصود هذا البحث وهو يعالج هذه الفرضية أن ينزلق إلى هذه المعاني ولكنه يضع كل ذلك ضمن معمار الرؤية الإصلاحية الجماعية والفردية النفسية والجمعية، القيادة وامتداد الأمة الحضاري.
بين هذا وذاك تقع عملية الإصلاح التي تأتي في الغالب ضمن مبادرات قيادية لا ينكر قدرها ولا مقام تأثيرها، ومن ثم فهي معادلة تأتي في إطار تشكيل وعي القيادة كمقدمة للتمكين للوعي الجمعي للأمة، ولا شك أن هذه الخبرات الثلاث التي أشرنا إليها؛ خبرة علي عزت بيجوفيتش، ومحاضير محمد، ومحمد خاتمي، لتعبر عن أهمية منظومة الحاكم المفكر في عملية الإصلاح غير مقتصرين عليها ولا منكفئين فيها، وهو أمر قد يشير إلى قضايا أساسية واحدة تتعلق بالحكم وواحدة تتعلق بالفكر، أما تلك التي تتعلق بالحكم المستندة إلى مقولة "لا يصلح الشرق إلا مستبد عادل" إنما تعبر عن تناقض بين الاستبداد والعدل، ولكن العدل قد يؤتي ثماره مع الحزم لا البطش ولا التعسف في استخدام القوة، منظومة القيم التي تحدد الحكم الراشد لا يمكن أن تفعل إلا في إطار يحرك قيم العدل والمساواة والحرية (الاختيار)، أما القضية الأخرى التي تتعلق بالفكر فإنها تعني بشرط وظيفي يؤكد أن القيادة لا بد وأن تملك فكرًا عميقًا ووعيًا مستنيرًا تؤسس من خلاله رؤية إستراتيجية للحكم والنهوض معًا، الحاكم بهذا الاعتبار لا يمكن أن يكون جاهلاً أو متجاهلاً، بل إن من أهم شروطه حينما نستدعي من منظومة الشروط العلم المفضي إلى الاجتهاد والتدبير، لقد كانت هذه هي البؤرة التي ارتكز عليها هذا البحث حينما أراد أن يربط بين الإصلاح والسياسة والفكر ضمن هذه النماذج الإصلاحية.
ذلك أنه في اعتقادنا بأن عملية الإصلاح عملية شاملة لا تقوم على أكتاف فرد، فإنه من الضروري أن نؤكد أن إشارتنا للحاكم المفكر ضمن أهم حلول تتعلق ببناء الحكم الراشد تجعل من هذا الطريق ليس بالطريق الأوحد، ولكنه أحد المسالك المهمة في عملية الإصلاح الممتدة والشاملة، وإن كان يعني أن الفكر من طرق الإصلاح سواء للمفكر أو الحاكم أو الشعوب، ويكون للتفكير دور في الحكم والمبادأة وبناء الحكم الراشد، ومن ثم فإن تزكيتنا لمفهوم الحاكم المفكر لا تتجاهل المجتمع المفكر وصياغة شبكة علاقاته والفاعلية وإدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وكذلك فإننا قد نشير إلى الحاكم المفكر لا بالاعتبار الذي يشير إلى فرد يتسم بسمات قيادية أو بصفات فكرية بل إن هذا تأشير إلى معاني مؤسسية يجب أن ترسخ في هذا الإطار ضمن علاقة أساسية بين جهازي الفكر والحكم، فإلا نستطع أن يكون ذلك في إطار جهاز جامع فلنحرص أن تكون تلك العلاقة الوثيقة السوية بين أجهزة الحكم وأجهزة الفكر، وهو أمر قد يشير إلى المعاني التي رددها البعض حينما تحدث عن أولي الأمر باعتبارهم العلماء والأمراء، ليؤكد بذلك على ضرورة ألا تنفصل النخبة الفكرية عن النخبة السياسية أو تستبعد أو تقصى لمصلحة تتعلق باستبداد السلطان وتعظيم شوكته.
إلا أن العلاقة السوية بين الحكم ورشادته بين جهازي الحكم والفكر لا يضمن بأي حال من الأحوال أن يتحول كل من المفكر والحاكم إلى حالة استبدادية، وذلك حينا يمد الحاكم سلطانه ببطشه، وينسى المفكر أو العالم جوهر وظيفته ومناط كفاحيته في تمثيله للأمة لا للسلطة، وهنا يقع الحكم رشيدًا وسديدًا وصالحًا، ومن هنا ليس من مقصودنا أن نزكي تلك العلاقة بصورة مطلقة ولكنها علاقة ترجى لمقاصدها في التجديد والتسديد والترشيد، فيتحول جهاز الفكر من جهاز يرشد ويسدد ويجدد إلى جهاز يحمي سلطانه ويبرر طغيانه ويسوغ سياساته، فيتحول إلى جهاز دعائي للسلطة وتبريراتها أكثر مما يشكل جهاز فكري يضبط السلطة ويرشد مساراتها.
وإذا خرجنا عن المعاني الحرفية والرسمية لمفهوم السلطة والسلطان إلى معاني النفاذ والتأثير فإننا يمكن أن نكون أمام نموذج للحاكم المفكر ضمن شرعية تضفيها الأمة على علمائها، ولا أدري تفسيرا لتسمية أحد علماء هذه الأمة بسلطان العلماء([80]) إلا تذكيرًا وتأشيرًا على هذه المعاني التي يمكن أن نؤكد فيها على أن ذلك السلطان الذي يستمد من الأمة هو الأبقى والأرسخ في هذا المقام وربما هذا يحيلنا بشكل أو بآخر إلى نموذج الشيخ فتح الله كولن.
إن هذا النمط من النفاذ والتأثير يجب أن يشكل مثالاً مهما لأن يقوم عليه أو يؤسس سلطان من يتولى السلطة العامة في هذا المقام، إن البعد الرسالي القائم على نفع الأمة الحاشد لكل طاقاتها المتصل بكل آلامها وآمالها هو أمر يرسخ معنى الحكم الراشد في انتشار معاني السلطة في كيان الأمة دولة ومجتمع؛ بحيث يشكل ذلك رافعة للأمة ويصب في مسار نهوضها.
من المهم أن نسترد معاني السياسة إلى محضنها الإصلاحي؛ (القيام على الأمر بما يصلحه)، والإصلاح كمنظومة تتأبى على الاغتصاب والتزوير، والفكر الراشد كأساس للحكم الصالح في إدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع.
 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 11:58 am

******
التعقيب
د. زينب الخضيري([81])
التعقيب بالنسبة لي مشكلة كبيرة؛ لأن البحثين لعالمين مدققين يعرفان قضية الإصلاح وآلياته جيدًا، وهما رائدن في هذا المجال، وهذا حظي في أن أعلق على هذين البحثين العظيمين.
بالنسبة للدكتور أبو يعرب المرزوقي، عنوان بحثه فيه نوع من الإلغاز شيئًا ما "الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية" -وهو في معالجاته كان أحيانًا يتعمد الإلغاز- وأتمنى أن يكون موجودًا ليوضح دلالة كلمة "العلاج" وهو قد أوضح في البحث معنى الوثنيات، وهو لا يتصور أن تتحقق الفوضى الخلاقة في العالم الإسلامي في القريب العاجل.
انطلق -كما انطلقت الدكتورة هبة رؤوف في عرضها للورقة- من مقولة د. أبو يعرب "الإصلاح هو عمل العمران على علم بقوانينه". وحقيقة الأمرأن قارئ الورقة يتبين أن أستاذنا أبا يعرب المروزقي ينطلق من ابن خلدون؛ كأنه يبدأ من حيث انتهى ابن خلدون. فالعلم -المعرفة العلمية الدقيقة- هي أساس الإصلاح؛ ولهذا يستخف بالمشروعات الورقية التي تعول على الخيال الأدبي. ويقول إن أي مشروع إصلاحي لا بد أن يكون به إبداع، والإبداع يتطلب خيالاً علميًا؛ بمعنى أنه لا يشطح وله ضوابط توفرها المعرفة العلمية الدقيقة. ومن أجل هذا أرى أن هناك توافقًا بين مشروع مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات وبين تصور أبي يعرب المرزوقي للإصلاح.
والدليل أيضًا على أنه ينطلق من ابن خلدون هو أنه ينطلق من الواقع؛ فابن خلدون انطلق من الواقع ودراسته للواقع هي التي تمكنه من معرفة التاريخ، وهذه المعرفة لا تتحق إلا بعلم هو علم العمران: علم بقوانين الواقع. وبالتالي يقيس التاريخ الغائب على الشاهد فيما يبدو، ولكن حقيقة الأمر هو يقيس التاريخ على الواقع وفي نفس الوقت يقيس الواقع على التاريخ؛ بمعنى أن علم التاريخ أو علم العمران هو معرفة القوانين المتحكمة في المجتمع، إذا ما امتلكنا هذه المعرفه نستطيع أن نفهم الواقع ونستطيع بالقياس أن نتأكد ما إذا كانت هذه الرواية التاريخية صحيحة أم لا. عملية القياس هنا تتم بواسطة المعرفة الدقيقة.
وتعويلاً على هذا، يقلب أبو يعرب المسألة كلها رأسًا على عقب، ولا ينطلق من قاعدة قياس الغائب على الشاهد ولكن من قياس الشاهد على الغائب ويعطي لهذا المنحى دلالة جديدة بمعنى أن هذا القياس يفترض أو يهدف إلى الانفتاح على المطلق، على كل الاحتمالات على طرح الأسئلة والإجابات المتعدة المختلفة.
وهذا ماجعله يتصور أن الإصلاح لا بد أن يكون ذاتيًا، وأنه لا يمكن أن يكون مستوردًا أو أن يكون جزئيًا. ذاتي بمعنى استنفار الطاقة الخلاقة في الذين يبغون الإصلاح والإمكانيات الكامنة لتحقيق هذا الإصلاح. وهو يرى أن محاكاة التجارب أو الاستفادة منها غير مستحبة فلكل مجتمع إصلاحه ولكل هوية إصلاحها.
ويحرص أبو يعرب المرزوقي على تقديم مجموعة من التعريفات ليكون خطابه خطابًا متسقًا، وهو حرص علمي دقيق. ونتيجة لهذا رأى أن الإصلاح يمر بأزمة؛ ولذلك يتحدث دائمًا عن شروط الإصلاح وليس عن المواقف من الإصلاح. وهذه نقطة انطلاقة جديدة عند أبي يعرب المرزوقي، ونفس الشيء عند د. سيف الدين عبد الفتاح فالاثنان ينطلقان من أن الأساس لا بد أن يكون من المطلق. وبالنسبة لهما المطلق هو العقيدة ويبدو المفهوم بسيطًا جدًا لو تابعنا المعالجة عند الاثنين.
وهذا ما يدفعنى للتوقف عند مصطلح التجديد الذي نستخدمه كثيرًا جدًا في حديثنا عن الإصلاح بحيث نتكلم دائمًا عن الإصلاح والتجديد، ونقول عن تجربة محمد عبده "إصلاح الفكر الديني" و"تجديد الفكر الديني".
ولرد الفضل لصاحبه استدعى المرحوم الدكتور أحمد صبحي أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الإسكندرية العظيم الذي توفي منذ سنوات قليلة، وكان متخصصًا في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام وتحديدًا الفكر الشيعي، والذي قدم للفكر العربي الإسلامي ولتلاميذه على أثر النكسة كتابًا عظيمًا جدًا في فلسفة التاريخ. يقدم في هذا الكتاب مشروعًا للإصلاح من خلال دراسته لكل الرؤى التاريخية من تونبي وشبنجلر وغيرهم منطلقًا من أن المطلق (أي العقيدة) هي الأساس. ومن هنا يرفض كلمة التجديد لأن التجديد يعني أن هناك شيئًا موجودًا وأنت تصلح فيه بعض الشيء.
ونحن نستخدم مفهوم "الريفورم" لوصف مشاريعنا الإصلاحية وهذا أمر غريب جدًا. تأول الغرب مشروع محمد عبده على أنه مشروع إصلاح ديني (Réforme) بالفرنسية أو (Reform) بالإنجليزية، وهو في الحقيقة مشروع إصلاح مجتمعي أو اجتماعي وليس إصلاحًا دينيًا. و(Réforme) "الريفورم الديني" هو نوعية الإصلاح في الغرب نتيجة للظرف التاريخي والمسيرة التاريخية. لكن محمد عبده عمل شيئًا آخر ولم يجدد. لا يصح أن نقول "تجديد الدين". الدين مطلق، نحن الذين نقرأه قراءات مختلفة. لا تجديد للمطلق، المطلق مستمر إلى الأبد وهو خارج الزمان. ولكن لو لدينا بصيرة، نقرأه معولين على معطيات الواقع. لكن في نهاية الأمر ما مرجعيتك؟ هي الغائب المطلق، فتسعى لاستلهام الغائب.
ومشروعات الإصلاح -وهذا واضح من أطروحات أستاذنا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح- تنطلق من فلسفة للتاريخ وفلسفة للوجود ورؤية للصيرورة وللتطور؛ من أجل هذا أرفض فكرة التجديد لأن الجديد إضافة. وهذا ما انطلق منه ديكارت، يقول إذا أردت أن تعمل شيئًا صالحًا جديدًا فلا تجدد بل أقم بناء، فالتجديد ترقيع، بل أضف جديدًا وتجاوز دائمًا الموجود. نعم، أنت تنطلق منه؛ لأن الجديد الذي ستأتي به تعاملٌ مع الموجود الذي تريد أن تتجاوزه، وقد يكون الجديد قطيعة وإطاحة بكل التراث.
والأطروحتان تقدمان كل إشكاليات ومشاكل ومعوقات الإصلاح وأهم عائق ما ختم به د. سيف كلمته عن عنق الزجاجة، ونسبة كل الايجابيات لشخص واحد. العائق الأساسي لكل مشروعات الإصلاح في رأيي هو السلطة، سواء سلطة التراث البشري أو السلطة الدينية البشرية التي رفضها محمد عبده، والتي نعاني منها حاليًا، فنحن نعاني من سلطتين دينيتين، ومصر فيها دينان فهي صاحبة دينين. لا توجد سلطة دينية بشرية. السلطة الوحيدة هي سلطة النص ونتعامل معها على هذا الأساس. وقد رخص لنا ربنا أن نقرأ النص ونجتهد ونحاول دائمًا أن نكتشف جديدًا فيه ولا نجدده.
 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:03 pm

*****
المناقشات
د. سيف الدين عبد الفتاح
سؤال: نرجو الإيضاح في نقطة قدرة الحاكم المفكر على الاختفاء عن المسرح السياسي طواعية.
أؤكد على ذلك، فقد كان لهم تصريحات محددة تتعلق بمغادرتهم للمسرح السياسي لأنه لا يستطيع أن يعطي أكثر مما أعطى. وعلى الآخرين أن يقوموا بمواصلة عملية الإصلاح حتى لا تتوثن عملية الإصلاح فتقترن بشخصه أو تقترن بفرد فيكون ذلك مقدمة للاستبداد؛ لأنني أظن أن الشعوب هي التي تصنع الاستبداد. من المسائل شديدة الأهمية في هذا الإطار أن نقرأ كتاب "كيف تفقد الشعوب مناعتها ضد الاستبداد"، واضح جدًا أننا نفقد مناعتنا ضد الاستبداد بسرعة كبيرة.
سؤال: أين ترى تجربة حزب العدالة والتنمية في الإصلاح انطلاقًا من تجربة كولن وفلسفته؟
 أظن أنك ستستمع إجابة لهذا السؤال. عليك أن تحضر بقية المؤتمر وتستمع جيدًا من أساتذة كرام هم أفضل مني كثيرًا في التعامل مع قضية الإصلاح.
سؤال: هل يتطلب مشروع الإصلاح تطبيق النموذج الديمقراطي بحذافيره؟
هذا من هواجس الإصلاح، أو أننا لا نتعامل مع قضية الإصلاح باعتبارها مسارًا حضاريًا متراكمًا ولكن غالبًا ما نحاول أن نحرف قضية الإصلاح إلى قضايا جانبية. المسألة ألا يكون هناك مستبد يصادر ويؤمم عملية الإصلاح التي تتعلق بالمجتمع والحكم والدولة والعلاقة فيما بينهما. والعلاقة السياسة بين الحاكم والحاكم هذه هي القضية. أما هذا الشأن فله بحوث تتعلق بالاستفاضة في المقارنة ما بين الديمقراطية والأنظمة الأخرى التي يمكن أن تتبنى رؤى مختلفة أو متمايزة.
سؤال: قلتم سيادتكم إن العائق الأساسي للإصلاح هو السلطة، ألا يجدر بنا إصلاح السلطة أساسًا وإصلاح السياسة من جذورها؟
ما أؤكده هو أن من إعادة الاعتبار للسياسة، ألا نحصرها في السلطة ولا نحاصرها بالسلطة. كل مشروع إصلاحي يمكن أن يُصادر لو ظللنا ضمن هذه الدائرة الضيقة، فالسلطة دائمًا دائرة ضيقة. وقد ذكرت د. زينب أن السلطة بتنوعاتها وبأشكالها المختلفة معوق لعملية الإصلاح.
سؤال: نريد مزيد من التفصيل عن نظريات الإصلاح الأربعة.
كل هذه النظريات مستمدة من هدي النبي عليه الصلاة والسلام: نظرية الفسيلة، ونظرية الرباط والثغر، ونظرية لا تحقرن من المعرف شيئًا، وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، والنظرية التي تتعلق بالفأس؛ لأننا نقول إننا نريد أن نعالج قضية الفقر لكن نؤكد على معنى زيادة الفقر وليس إصلاح حال الفقراء حين نعطيه مباشرة. لا بد أن تعطيه الفأس "أذهب فاحتطب": سعىٌ فعال وعملٌ متصل مستمر.
سؤال: عن العلاقة بين الإصلاح والسياسة
لقد كتبت تفاصيل ذلك في الورقة.
سؤال: بالنسبة لمصر باعتبارها مفتاح نهضة العالم الإسلامي، ما جوهر المشروع الإصلاحي الذي يلزمها في هذه الفترة؟
أنا من كتيبة يمكن أن تسهم بلبنة في هذا الإطار ونحن نستمع لأساتذتنا الدكتور محمد عمارة والمستشار طارق البشري ونحن دائما نتعلم عليهم. لعل الله يغير ما بالنفس وما بالقوم.
سؤال: هل يمكن أن يأتي الإصلاح من الأفراد بمعزل عن الزعامات؟
دعونا نجرب الحاكم المفكر، فالأمر ليس معضلة كبيرة. فقد فوجئت أن الاثنين وعشرين طالبًا في الفصل كلهم يتحفظون على حكم الفيلسوف، فهل يحكم الجاهل؟! وقد كان من شروط الإمامة العلم المفضي إلى الاجتهاد. هذه مسألة مهمة وإلا حكمنا أسـوأ أنواع الاسـتبداد وهـو المسـتبد الجاهل.
سؤال: ذكرتم أن الإصلاح يبدأ بالفكرة وليس السلطة ثم ذكرتم بعد ذلك أشهر ثلاثة مصلحين وهم حكام؟
نعم، و لكن الشرط هو أن يكونوا مفكرين. العنصر الثالث الذي أدخلته على معادلة الإصلاح والسياسة هو الفكر، هذا فقط ما أردت أن أقوله. وهذه الأطروحة قد تجد من يناقضها أو ينازعها وطبعًا من حق الجميع ذلك.
ألا يوجد تبنٍّ لتجربة إصلاحية تنهض بالعالم الإسلامي من تخلفه؟
علينا بتعلم درس الفسيلة.
سؤال: إذا كانت كل تجربة لا بد أن تشمل السياسة في طياتها بكل معانيها ومن ضمنها السلطة، فأين ذلك من تجربة كولن؟
استمع إلى تلك الورقات الطيبات إن شاء الله التي ستكون في بقية هذا المؤتمر.
د. علي رمضان أبو زعكوك يسأل عن تجربة المفكر المصلح السوداني حسن الترابي في السودان، لماذا تعرضت للانتكاسة؟
بلا شك أنك استطعت أن تهدي إليَّ مثالاً؛ لأني كنت في الصباح أفكر: من هو المفكر الذي يعتلي عرش السلطة أو يسهم فيها، ثم يستبد؟
سؤال: ما حاجة الحاكم للاستبداد؟
قصة الاستبداد شرحها يطول ونحن اليوم مشغولون بهذا المؤتمر.
د. زينب الخضيري
سؤال: الله تعالى كلفنا أو حثنا على البحث والاجتهاد في فهم النص شريطة امتلاك أدوات فهم النص وليس على سبيل العموم؟
طبعًا هذه بدهية.
السؤال الثاني: ما قصد سيادتكم بأن السلطة الوحيدة للإصلاح هي سلطة النص، و ما هو النص في نظركم؟
النص هو المطلق الوحيد الذي له أن نمتثل له، ونستطيع التعامل معه بقراءات جديدة، منطلقين من معطيات الواقع ومن ضمن هذه المعطيات أسئلة ملحة في الواقع نطرحها -ربما لأول مرة لأن لكل عصر أسئلته- على النص وسنجد الإجابة قطعًا.
 وانطلق هنا من نموذج قدمه لنا محمد عبده لما فسر القرآن، وللأسف لم يكمله. وفي رأيى أن هذا العمل أهم من رسالة التوحيد؛ لأنه نموذج لتوظيف وتفعيل وتحديث قراءة النص الديني الذي هو المطلق الذي يحكمنا ويحكم تصوراتنا وأعمالنا وأفعالنا ومشروعاتنا، وسنجد شيئًا مبهرًا. وأتمنى أن يكون من النصوص التي يدرسها الطلاب الصغار في المرحلة الإعدادية والمرحلة الثانوية بدلاً من النصوص العقيمة التي ليس لها معنى التي يدرسونها والشعر الجاهلي..إلخ؛ لأنه نص إصلاحي خطير وفيه جرأة كبيرة. ولا أدري لماذا هناك نوع من التعمية عليه رغم أن د. عمارة وضعه ضمن الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده في الجزئين الرابع والخامس، وأظن أن د. عمارة عزل تعليقات رشيد رضا لأنها تخل بعض الشيء برؤية محمد عبده في رأيي.
النص يمثل بالنسبة لنا سلطة وهي سلطة متاحة له لقدسيته ولإطلاقه وهنا أعود لكلمة (Réforme) وتفسير د. أحمد صبحي للمصطلح، فقد ترجمه بكلمة "تشكل"؛ أي إعطاء صورة جديدة للموجود. في كل عصر يمكنك أن تشكل، تقرأ وتدرك وتتعامل مع النص.
د. محمد عمارة (رئيس الجلسة)([82])
د. سيف أشار في مداخلته إلى المدن الفاضلة: حكم الفيلسوف والمدن الفاضلة عبر التاريخ لم يحدث أنها فُعِّلت في أرض الواقع، ظلت مثالاً. وأشار أيضًا إلى حكم أبي العريف أي حكم الجاهل. فلدينا مفارقة بين حكم الفيلسوف الذي لم يطبق وحكم الجاهل الذي ابتلينا به ونبتلى به.
 لاحظت أن ابن خلدون بعبقريته عقد في المقدمة فصلاً عنوانه غريب" فصل في أن العلماء لا يحسنون السياسة". لكن عبقرية ابن خلدون أشارت إلى أن السياسة لا تحتاج لمفكر نظري، يجرد الأمور تجريدًا ويصنع واقعًا من خلال تجريداته النظرية. طبعًا المقابل المطلوب ليس هو أبا العريف الجاهل، لكن عبقرية النظرة الإسلامية هي تنزيل الحكم على الواقع، فقه الواقع وطلب الحكم لهذا الواقع. فنبحث عن علامات استفهام ثم نبحث عن إجابات لعلامات الاستفهام في الفكر؛ أي العلاقة الجدلية بين النص والواقع في الفكر الإسلامي. ليس هناك وقوف عند النظر وعند النص وفقه النص وحده، وليس هناك انغلاق على فهم الواقع فقط.
 لكنا ابتلينا بفصام فكري، عندنا فقهاء لا عقول لهم وعندنا خبراء لا قلوب لهم، فنحتاج لفقه الواقع وطلب الحكم الذي يضبط حركة الواقع في الفكر النظري وفي الوحي: الكتاب والسنة هذا الفصل الذي عقده ابن خلدون يحتاج إلى إعادة قراءة وإعادة تفقه.
سؤال: كيف نربط سياسية الإصلاح اليوم مع سياسة الإصلاح في العهد النبوي؟
المرجعية، فوقائع وتجارب الإصلاح في العهد النبوي ليس مطلوبًا أن نطبقها اليوم وهذه قضية أشار د. أحمد الطيب إليها في كلمته، عندما أشار إلى موضوع السنة النبوية، أيها تشريع وأيها ليس تشريعًا. وهذا مبحث كبير كتب فيه عدد كبير من العلماء: الإمام القرافي في كتابه "الإحكام في التمييز ما بين الفتاوى والأحكام وتصرفات القاضي والإمام"، وكتب ولي الله الدهلوي عنها أيضًا في كتابه "حجة الله البالغة". وكتب عنها أيضًا الشيخ شلتوت، والشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ عبد العزيز جاويش، وابن عاشور، والشيخ على الخفيف، وقد جمعت تراثنا في هذا المبحث في كتاب "حقائق وشبهات حول السنة النبوية".
سؤال: ما رأيكم في مقولة إن مصر رائدة العالم الإسلامي، إذا صُلحت صلح العالم الإسلامي؟
مصر لها دور رائد ولها عمق حضاري وعمق تاريخي، وهذا يفسر التركيز الإمبريالي والتغريبي على تعويق دورها، لأن في تعويق مصر تعويقًا لأدوار المحيط العربي ودورها في العالم الإسلامي، ولذلك أشرت في كلمة خاطفة في بداية الجلسة إلى انفتاح تركيا على الشرق. وإذا حدث تفاعل مع هذا الانفتاح التركي فستنشط الأدوار التي حوصرت في الدول العربية ومنها الدور المصري.
وأشرت إلى انفتاح مرقد صلاح الدين (سوريا) مع مرقد محمد الفاتح (تركيا)،([83]) وتنبأت واستشعرت البشرى أن يأتي فيه اليوم القريب الذي تنفتح فيه عاصمة عمرو بن العاص وصلاح الدين الأيوبي على كل عواصم العالم الإسلامي.
سؤال: هناك مشاريع إصلاحية، ومنها مشروع إسلامية المعرفة الذي تبناه المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وطلب تفعيل هذا الدور.
هذا مطلب صائب وصحيح.
سؤال: في إطار دعواتها للإصلاح، في رأيك ما الأخطاء التي وقعت فيها جماعة الإخوان المسلمين، وخاصة أنها تدعو للأصلاح من منطلق الدين؟
جماعة الإخوان المسلمين هي كبرى حركات وجماعات ودعوات الإسلام في عالمنا المعاصر. وأنا أقول دائما قد تكون هناك أخطاء كثيرة في هذه الحركة. لما قابل جمال الدين الأفغاني السلطان عبد الحميد ورأى طموحه وفكره ورؤيته، ولكنه تحفظ على بعض الأشياء فقال عبارة طريفة: "لكن عيب الكبير كبير". نحن أمام حركة كبيرة ومباركة وبذرة أنبتت نباتًا طيبًا، ولها أثر وثمار في كل بقعة من بقاع العالم. لا توجد مدينة لا يوجد بها آثار وثمار وأوراق للبذرة التي بذرها حسن البنا، لكن هذا ليس موضوع هذا المؤتمر، ولذلك مجالات أخرى.
سؤال: لماذا يوجه الحديث عن الإصلاح إلى الحاكم والحكومات والنخب ولا يتم توجيهه إلى من يعنيهم ذلك الإصلاح وهم الجماهير؟
هذا مطلوب، ولكن أريد أن أقول إن الفكر فيه مستوى نسميه صناعة ثقيلة، ومستوى نسميه صناعة متوسطة، ومستوى نسميه صناعة خفيفة؛ ولذلك عندنا رؤى تحتاج لمن يتناولها بالتبسيط لجمهور المثقفين والقراء، ونحتاج لمن يبسطها للعامة في المساجد وأماكن الوعظ. نحن نحتاج إلى حركة ثقافية لا تقف عند النخبة فقط بل تتناول جمهور الأمة. وهذا يرتبط بالحديث عن خطاب حركة الأستاذ فتح الله كولن، وهو خطاب له مميزاته. ارجعوا إلى ابن رشد عندما تحدث عن تنوع الخطاب بتنوع المخاطبين، هناك أهل البرهان وأهل الجدل وأهل الموعظة والخطابة. إذن نحن نحتاج في خطاب الإصلاح إلى مستويات تتناول مختلف شرائح الأمة.
سؤال: كيف يخرج مؤتمرنا اليوم إلى نتائج نراها ونستشعرها، وما دورنا نحن الشباب؟
الشباب دورهم القراءة... القراءة... فالقراءة؛ أي التكوين الثقافي، نحن نريد أمةً تطبق أول فريضة نزلت على رسول الله ، وهي فريضة اقرأ، لكن إذا كانت أمة اقرأ لا تقرأ فهذه هي الكارثة التي نعاني منها اليوم. نريد من الشباب أن يقرأ أبحاث هذا المؤتمر، وأن يقرأ ما كُتب عن الإصلاح، ولدينا ثراث كبير في حركة الإصلاح من القرن التاسع عشر حتى الآن.
سؤال: هل للإصلاح مراحل، وما هذه المراحل؟
نعم، التدرج سنة من سنن الله. الشريعة نزلت بالتدرج، التطبيق كان بتدرج، التراجع الحضاري حدث بتدرج، إعادة الإصلاح تتم بتدرج. وعلينا أن نقرأ تجربة عمر بن عبد العزيز في التدرج في الإصلاح عندما قال له ابنه: "يا أبي لم لا تحمل الناس على الحق دفعة واحدة. والله ما أخاف أن تغلي بك وبي القدور". فقال له: "يا بني إني أخشى أن أحمل الناس على الحق دفعة واحدة، أن يتركوه دفعة واحدة، فتكون فتنة". بل قال عبارة شديد الغرابة فحواها أنه عندما يخرج للناس مشروعًا إصلاحيًا يقدم لهم شيئًا يحببهم في هذا المشروع.
التدرج سنة من سنن الله، كتب عن هذا أبو الأعلى المودودي عندما قال إن الإنجليز ظلوا قرنين ليغيروا الواقع والقانون. فإذا أردنا أن نتحدث عن تطبيق الشريعة الإسلامية فلا بد أن نكوّن القاضي الذي يحكم بالشريعة، والمحامي الذي يترافع بالشريعة، المواطن الذي يتقبل الشريعة. إذن موضوع التدرج سنة كونية وسنة اجتماعية وسنة فكرية وتشريعية.
سؤال: من هو صاحب السلطة الأكبر: الحركة الإسلامية ذات الأصول المتجذرة في نسيج الشعب، أم لماذا نتحدث كثيرًا عن أن لدينا مؤسسات تمثل سلطة قابضة على العقل والبعض يتحدث عن الأزهر وعن الرقابة ومن فيهم القادر على تغيير الآخر؟
مشكلتنا هي أن الاستبداد يفكك كل مؤسسات المجتمع، ليست مشكلتنا فقط مع الأحزاب السياسية بل حتى مع مؤسسات المجتمع الأهلي. عافية المجتمع التركي، رغم العلمانية المتوحشة، كانت في الحرية والديمقراطية التي سمحت بوجود مؤسسات المجتمع الأهلي من الطرق الصوفية والأوقاف. المشكلة ليست في الحركات ولا في الأحزاب. المشكلة في الاستبداد الذي يضعف وجود هذه المؤسسات في المجتمع، فيجعل المجتمع فردا يستدعيه بالميكروفون ويصرفه بالميكروفون.
وعبقرية الحضارة الأوروبية هي المؤسسات وبلادنا في غيبة المؤسسات، وكان الإمام محمد عبده يقول: "الباطل يعيش بالنظام والحق لا يعيش بدون نظام"؛ لأن النظام في حد ذاته حق. فالباطل إذا توسل بالنظام فهو توسل بحق وهو النظام. ولذلك مطلوب أن نركز تركيزًا شديدًا على المؤسسات والنقابات والجمعيات والحركات؛ لأن هذا هو الذي يجعل للمجتمع عمودًا فقريًا يستطيع أن يتحرك به.
سؤال في فلسفة التجديد وإعادة النظر في الدين: كيف نستلهم من الغائب حل المشكلات؟
يتمثل ذلك في فكرة القراءة وإعادة القراءة وقد أشارت د. زينب إلى تفسير محمد عبده، هو لم يفسر كل القرآن؛ فسر جزء عم، ثم من أول الفاتحة إلى جزء من سورة النساء. لكن المهم هو المنهج الذي وضعه في تفسير القرآن. وأنا أيضًا لا أقلل من قيمة رسالة التوحيد؛ لأنها نموذج لتخليص العقائد الإسلامية من شغب المتكلمين القدماء. هذا نموذج في التعامل مع التراث. هذه هي قيمة رسالة التوحيد؛ كيف أنه اكتشف مساحة من الأرض المشتركة بين تيارات الفكر الإسلامي في القضايا العقدية التي غطت عليها حزازات الفرق القديمة التي تماثل القبائل والأحزاب في عصرنا.
سؤال: ما سبب نجاح حركة فتح الله كولن في تركيا رغم العلمانية المتوحشة؟
رغم العلمانية المتوحشة التي صنعها الكماليون، كان هناك صندوق اقتراع وبالتالي لم تزور إرادة الأمة، وأرى أن تزوير إرادة الأمة من أعظم البلاءات التي يعيشها كثير من مجتمعاتنا. ديننا يعلمنا أنه من يشهد زورًا سيهوي في النار سبعين خريفًا، فما بالكم بمن يزور إرادة الأمة؛ ملايين الشهادات الزور. كان هناك إيجابيات في التجربة الأتاتوركية استفاد منها الشعب التركي والتوجهات الإسلامية.
سؤال: حول الإسقاط على الواقع والسبيل إلى المأمول؟
لا نريد استخدام مصطلح الإسقاط، ولكن نريد فقه الواقع، وعقد القران بين الواقع وبين الحكم. هذا هو المنهج الإسلامي في التفكير والإصلاح.
سؤال: حددت معظم النماذج الإصلاحية الناجحة حدًا أدنى من مؤشرات قياس الحكم لعملية الإصلاح فهل توجد لدينا مؤشرات وهل وصلت إلى هذا الحد الأدنى؟
لا ليس لدينا ضوابط في هذا الموضوع حتى الآن ونرجو من مركز الدراسات الحضارية والكوكبة الموجودة فيه أن تهتم بهذا الموضوع.
سؤال: لماذا لا تتم دعوة بناءً على هذا المؤتمر تدعو إلى تأسيس حركة مصرية تركية تعمل على الإصلاح في الدول الإسلامية يقودها قادة وعلماء؟
نحن نريد أن نتدرج في الصعود على السلم، لا نبدأ بجماعات ومنظمات تقود وتصلح في العالم الإسلامي، ولكن أقول إننا أمام انعطافة تاريخية مبشرة. انفتاح تركيا على الشرق هو إصلاح لخلل حدث ودام ثمانية عقود. وأعتقد أن التجاوب مع انفتاح تركيا -بما فيها من حيوية وطاقات فكرية فاعلة- التجاوب مع هذه الطاقات والإمكانيات يؤدي إلى تفعيل الإصلاح وإلى خلق نموذج بين العالم الإسلامي والعالم العربي، وهذه ثمرة من ثمرات مثل هذا المؤتمر الذي نحن فيه وغيره من هذه المؤتمرات.
في النهاية أقول إن دعوة الإصلاح هي دعوة كل النبوات. الإصلاح يعني الإحياء وليس مجرد مشروع فكري أو مجرد كلام نظري. الإصلاح لا يكون إصلاحًا حقيقيًا إلا إذا أحدث إحياءً في المجتمع. ولذلك ليس صدفة أن إسلامنا الذي هو أعظم تجارب الإصلاح في تاريخ الإنسانية يمكن التعبير عنه بكلمة واحدة، هي كلمة الإحياء (اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ)(الأنفال:24).
 
 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:04 pm

[sup][1][/sup]مفكر وأستاذ فلسفة - متخصص في الفلسفة اليونانية-العربية – تونس.
[sup][2][/sup]    لن أجادل أحدًا في شرعية هذا التعيين، لذلك فسأعتبره مجرد فرضية عمل، لكني شبه واثق من أن ما عليه الأمر في بلاد الإسلام، جلها إن لم يكن كلها، لا يختلف كثيرًا عما يجري في البلاد العربية. ولعل البعض يستثني ماليزيا ظنا منه أنها تختلف عن البلاد الإسلامية الأخرى. وهو استثناء لا أوافق عليه لعلتين: أولاهما مبدئية وهي أنه لا يمكن أن يكون الأمر مختلفًا من حيث المبدأ إلا إذا كانت الحجة هي خلو ماليزيا من تعقيدات الإسلام في البلاد العربية لبعدها الجغرافي والتاريخي عنها. لكن ذلك يعكس الأمر لأنه يجعلها دون الحال التي عليها العرب وليست فوقها. أما العلة الظرفية فهي لمعرفتي القريبة بهذا البلد. فهو أشبه بأي إمارة خليجية. أهلها الأصليون ليسوا العلة الأولى في ما يجري فيه بل غيرهم (الصينيون والهنود) ممن بيده آلة الإنتاج ولا حاجة للمزيد.
[sup][3][/sup]    ما يغفل عنه الكثير هو أن مؤسسات المادة بوجهيها ونخبتيها هي المؤثر الأول وهي ذات بُعْد كوني بالجوهر حتى وإن بدت تابعة لمؤسسات الصورة.
[sup][4][/sup]      يمكن تعريف مفهوم الإصلاح بصورة فلسفية نسقية لها الكثير من المؤيدات القرآنية والتاريخية عند جل الأمم التي كان لها دور في التاريخ الكوني المعلوم: فالإصلاح هو بالأساس صلح في ذات الإنسان وجوديًا بين العقل والإيمان، وهو معرفيًا الصلح بين النظرية والتجربة، وجماليًا بين الطبيعي والخلقي وسياسيًا بين القوة والشرعية. لماذا فشل إصلاح الغزالي مثلاً؟
     1- الصلح بين الظاهر والباطن الشخصي: إحياء علوم الدين أو فضائح الظاهرية لأن البديل من التوظيف الذي جعل الدين ينفصل عن عمل التاريخ لم يكن إلا إطلاقه بتأسيس اللامبالاة بالأمر الواقع.
     2- الصلح بين الظاهر والباطن الجمعي: فضائح الباطنية أو إحياء أعمال الدين لأن البديل من التوظيف الذي جعل الدين ينحصر في عمل التاريخ لم يكن إلا بإطلاقه بتأسيس الموقف القابل للأمر الواقع.
     مثالان مفيدان: الفاعلية الرمزية الحقيقية (ألمانيا والولايات المتحدة غربًا، واليابان والصين شرقًا) والفاعلية الرمزية الخادعة والفاعلية المادية الحقيقية والفاعلية المادية الخادعة. في الحاضر: توحيد أوروبا ودور النخب ذات السلطان على الفاعليات الخمس: مقومي صورة العمران ومقومي مادته، والأصل في ذلك كله الفكر المتعلق بنظريات الوجود أصلاً للقيم الخمس.
[sup][5][/sup]    إنه الموضوع الجديد الذي اكتشفه ابن خلدون وكان عدم وضعه علة الهوة المعرفية الفاصلة بين العلوم النظرية والعلوم العملية في الفلسفة القديمة والوسيطة قبل تأليف المقدمة. وقد بين ابن خلدون مقومات هذا الفعل وكيف يجعل التاريخ ينتقل من منزلة الفن الأدبي إلى منزلة العلم الفلسفي
. ولفاعليته مستويان:

     - مستوى يتحدد خاصة بالتساكن من أجل سد الحاجات المادية ويغلب علية الوجه المادي الاقتصادي أعني استمداد معين الحياة من الطبيعة
     - والتساكن من أجل الأنس بالعشر لسد الحاجات الروحية ويغلب عليه الوجه الرمزي الثقافي أعني استمداد معاني الحياة من الاجتماع. ولهذه العلة سمى علمه باسم مضاعف: فهو علم العمران البشري (التساكن من أجل سد الحاجات المادية) والاجتماع الإنساني (التساكن من أجل الأنس بالعشير).
     ولما كان كلا التساكنين مقتضيًا نظامًا يساعد على تحقيق الغرضين بطريقتين: إحداهما تنظيم الفعلين (سد الحاجات المادية والروحية) ومنع العدوان بين المشاركين فيهما بعضهم على البعض (الأمن الداخلي والخارجي)، بات من الضروري أن تكون السياسة شرطًا في الفعل العمراني ولها وجهان هما التنظيم المادي للعمل وللأمن. لكن هذا التنظيم لا يمكن أن يكون ذا تأثير إذا اقتصر على وجهه المادي. لذلك لا بد للدولة =التي هي سلطة مادية بالأساس من سند معنوي يضفي عليها البعد المعنوي، وهو دور التربية أو السلطة الروحية التي هي بالأساس خلقية. وبذلك يصبح لفعل العمران خمسة أبعاد، اثنان يمثلان صورته (الدولة والتربية)، واثنان يمثلان مادته (الاقتصاد والثقافة)، والأصل فيها جميعًا حيث تتطابق الصورة والمادة، هو بالأساس المعتقدات العامة وهي بالأساس دينية.
[sup][6][/sup]    وبهذا المعنى فإنه يحق لنا أن نقول إن المسلمين قد شرعوا في إدراك معنى الإصلاح باستقراء معانيه القرآنية. لكن الوعي بمفهومه الحقيقي يبقى غائمًا ما لم ينتقل الفكر من مدلوله المقصور على الوجه الديني منه إلى مدلوله الذي يضيف وجهه العلمي. ولم يتحقق ذلك إلا بالتدريج ولعله قد وصل الذروة عندما وضعت أسس فلسفة الوجود وفلسفة التاريخ المستندتين إلى القرآن الكريم والمستقلتين عن مجرد المحاكاة لضربيهما اليوناني. وقد حصل ذلك حسب رأيي في غاية الفلسفة العربية الوسيطة خلال القرن الثامن للهجرة في سعي ابن تيمية لتجاوز ما بعد الطبيعة الأرسطية وسعي ابن خلدون لتجاوز ما بعد التاريخ الأفلاطوني.
[sup][7][/sup]    من هنا مثلاً غلبة العلاج الأمني، أعني العلاج الذي يعامل فيه الإنسان بوصفه بدنا آليًا أفضل طرق التعامل معه التعذيب والسجن بل القتل حتى يكون بحق جثة هامدة لا يبقى فيها إلا الوجه الآلي المادي. كل المشكلات ترد إلى مشكلات العلاج الأمني بدل العلاج السياسي والتربوي.
[sup][8][/sup]    من هنا مثلاً غلبة الآليات العضوية في التداول: التوريث والانقلاب الذي يصفي فيه اللاحق السابق بدنيا والحكم مدى الحياة.
[sup][9][/sup]    فالإطلاق الذي يستند إليه العنف والتعصب علته الضمنية هي الظن بأن التصورات الإيديولوجية علم بل وعلم محيط يخول لصاحبه أن يفرض رأيه على غيره وأن يجبره على القول به بما في ذلك حق محاربة المقاصد التي أشرنا إليها باعتبارها أسس كل شرعية، ومن ثم شرط الفاعلية الإصلاحية في فعل المؤسسات والنخب.
[sup][10][/sup]  سندنا الأول هو فلسفة التاريخ عند ابن خلدون وفي فلسفة الدين عند ابن تيمية. لكن العلمين كلاهما يقبل أن يكون مدخلاً في الوجه الذي اخترنا فيه نديده. فكيف فهم ذلك ابن خلدون وابن تيمية على الرغم من أن المنطلق مختلف؟ ولِمَ اعتمد الإصلاح عليهما دون أن يدرك مغزى حلولهما، حتى وإن كان له شيء من الحدس الغائم بها، فكان بسبب ذلك ما حصل من نكوص في حركات الإصلاح التي وثنت الماضيين وأهملت معنى المسافة الفاصلة بين المثال وأعيان تحقيقه في التاريخ الفعلي من حيث هو علاقة متوترة بين التاريخ وما بعده أو فلسفة التاريخ وفلسفة الدين؟
     وفهمنا للقضية بوجهيها الفلسفيين التاريخي والديني يعتبر الصراع الحالي غير جديد، بل هو جوهر الحرب الأهلية الإسلامية منذ ما يسمى بالفتنة الكبرى، وهو كذلك لأنه عين الإشكالية كما تحددت في الوجود الإنساني عامة وكما تحدده:
     كما يتبين دينيا من الفهم العميق لآية خلق آدم واستخلافه كما نبينه إن شاء الله في أحد هوامش هذا البحث.
     وكما يتبين فلسفيا من الفهم العميق لكل محاولات التصور المثالي لإصلاح الشأن الإنساني من أفلاطون إلى كل الفلسفات السياسية الحديثة.
[sup][11][/sup]  نفس ما جاء في الهامش السابق.
[sup][12][/sup]  وليس من المصادفة أن أصبح بعض الصحفيين الإسرائيليين أعلم باللسان العربي من جل حكام العرب. حتى إني رأيت مرة أحد كبار رجال الدولة في ندوة صحفية مع ممثل إنجلترا في فلسطين فظننت هذا عربيًا لسلامة لسانه وذاك إنجليزيًا في الكلام العربي لفرط ما وقع فيه من أخطاء لغوية.
[sup][13][/sup]  عدم الإطالة في تحديد طبيعة المعارك المناسبة وأثره في إفساد سبل الإصلاح مقصود لأنه شبه معلوم للجميع: في التجربة الفائتة مسألة القومية والصراع الطبقي قبالة مسألة الإسلام والوحدة الوطنية. وفي ما يجري الآن: مسألة الدولة القطرية والدولة القومية.
[sup][14][/sup]  لا بد هنا من الإجهاز النهائي على خرافة طالما أسمعها فيقشعر لها بدني: فجل المتفاقهين بغير علم في ما يسمى بالإعجاز العلمي يتصورون أنفسهم يرفعون من منزلة القرآن عندما يزعمون أنهم وجدوا فيه بعض القوانين الطبيعية مستدلين بذلك على صحة النبوة وألوهية القرآن. وهذا لعمري عين الحط من شأن القرآن. والعلة في هذا الحط هي خرافة المعطيين النص والعالم. فيكون القرآن نظير العالم. وهو خلط علته عدم التمييز بين الطبيعي والخلقي في العالم وهما المعطيان، أعني عالم الربوبية وعالم الألوهية، والقرآن فوق العالمين وليس مناظرًا لأي منهما بل هو فوق عالمين آخرين هما أثر العالم الطبيعي في العالم الخلقي أي مراحل التاريخ الروحي للبشرية كما يقصها القرآن، أعني العالم الواصل بين فطرة البداية (إسلام آدم) وفطرة الغاية (إسلام محمد صلعم) وأثر العالم التاريخي في العالم الطبيعي أي مراحل التاريخ المادي للبشرية أعني العالم الواصل بين الإنسان في بداية الاستخلاف واستعمار الأرض والإنسان في غايتهما. والتطابق بين التاريخين الروحي والمادي هو الذي يحدد لنا معنى ختم الرسالة: فما كان مجرد قيم روحية يسعى إليها الإنسان بوصفها شبه أحلام أتت الرسالة الخاتمة لتجعله قيما واجبة التحقيق في التاريخ الفعلي وهو معنى أن الإسلام إصلاح دائم غايته تحقيق القيم الدينية وأداته السياسة التي تخضع لهذه القيم والمحررة من السياسة المنافية للقيم الروحية.
[sup][15][/sup]  قانون تدرج الفاعليات واختلاف أنساق تدرجها:
     1- الفاعلية المادية نوعان يغلب عليهما القانون الطبيعي بتفاوت: الفاعلية الاقتصادية والفاعلية السياسة.
     2- الفاعلية الرمزية نوعان يغلب عليهما القانون الخلقي بتفاوت: الفاعلية الثقافية والفاعلية التربوية.
     3- الفاعلية السياسة أسرع أثرًا وأقل ديمومة من الفاعلة الاقتصادية.
     4- الفاعلية الثقافية أسرع أثرًا وأقل ديمومة من الفاعلية التربوية.
     5- المعادلة الأساسية لحاصل الفاعليات: تحددها فرضيتان بمقتضى عمل قانون إيقاع الفاعلية وحرية تركه يفعل أعني عدم التدخل المفسد لمجراه بمقتضى طبيعته:
     فالسياسي والتربوي يمثلان صورة العمران، وأولهما قصير مدى فعله والثاني طويل.
     والاقتصادي والثقافي يمثلان مادة العمران، وأولهما قصير مدى فعله والثاني طويل.
     فإذا عملت كل واحدة منها بمنطقها من دون سيطرة غيرها عليها كانت الحالة حالة سوية وإذا عملت كل واحدة منها تحت سيطرة غيرها عليها كانت الحالة حالة غير سوية.
     ذلك أن السياسي يمكن أن يتدخل في الاقتصادي بمقتضى النزوات أو بمقتضى الأخلاق، وهذا هو دور حرية الطبقة الاقتصادية. والاقتصادي يمكن أن يتدخل في السياسي بمقتضى النزوات أو بمقتضى طبائع الاقتصادي، وهذا هو دور حرية الطبقة السياسية. ونفس الأمر يقال عن علاقة التربوي والثقافي. والحرية في هذه الحالات كلها تعني أن الهيئات التي تدير هذه الوجوه من العمران ينبغي أن تكون مستقلة بعضها عن البعض والمراقبة الاجتماعية هي التي تحافظ على هذا الاستقلال فيكون الطابع السوي للعمران أو هي لا تحافظ عليه فيزول هذا الطابع السوي ويصبح العمران مريضًا لكونه يعود إلى الفاعلية الطبيعية، إذ يسيطر الثقافي والاقتصادي المتحكمان في النزوات السياسية والتربوية، أعني في ما هو خاضع للقانون الطبيعي من سلوك الإنسان ومتحرر من القانون الخلقي: وذلك هو المقصود بالطابع غير السوي.
[sup][16][/sup]  عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر: سيرة غير ذاتية غير موضوعية، القاهرة، دار الشروق، 2006.
[sup][17][/sup]  ممدوح الشيخ، عبد الوهاب المسيري: من المادية إلى الإنسانية الإسلامية، ضمن سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي(7)، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 2008.
[sup][18][/sup]  عمر عبيد حسنة، الشاكلة الثقافية: مساهمة في إعادة البناء، بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1993.
[sup][19][/sup]    ماريا لويزا برنيري، المدينة الفاضلة عبر التاريخ، ترجمة: د. عطيات أبو السعود، مراجعة: د. علد الغفار مكاوي، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، ربيع الثاني 1418هـ، سبتمبر 1997.
[sup][20][/sup]  أفلاطون، الجمهورية، فؤاد زكريا، ومحمد سليم سالم (ترجمة وتحقيق)، القاهرة، دار الكاتب العربي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف، 1968.
[sup][21][/sup]    انظر: الأسد والغواص: حكاية رمزية عربية من القرن الخامس الهجري، بدون مؤلف، تقديم: رضوان السيد، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، مارس 1992، الماوردي، الأحكام السلطانية، مطبعة الحلبي، 1973، وكذلك انظر: محمد بن الوليد الطرطوشي، سراج الملوك، تحقيق: جعفر البياتي، لندن، رياض الريس للكتب والنشر، أغسطس 1990، عز الدين العلام، الآداب السلطانية: دراسة في بنية = وثوابت الخطاب السياسي، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، فراير، 2006.
[sup][22][/sup]  ماكس فيبر، رجل السياسة ورجل العلم، نادر زكري (ترجمة)، بيروت، دار الحقيقة للترجمة والنشر، 1982.
[sup][23][/sup]  عبد الرحمن ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، نشر وتحقيق وتقديم: علي عبد الواحد وافي، لجنة البيان العربي، 1965.
[sup][24][/sup]  انظر بحثنا: العالم والسلطان: نماذج تراثية وخبرة بحثية، كتاب تحت الطبع.
[sup][25][/sup]  حامد ربيع، خطابات إلى الأمة، تحقيق وتقديم: حامد عبد الماجد، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2007.
[sup][26][/sup]    تفسير المنار، الجزء الخامس، بيروت، ص 147.
[sup][27][/sup]  بيدبا، كليلة ودمنة، عبد الله بن المقفع (ترجمة)، القاهرة، وزارة المعارف العمومية، المكتبة الأميرية ببولاق، 1937.
[sup][28][/sup]  جورج أرويل، مزرعة الحيوانات، ترجمة: نبيل راغب، القاهرة، دار غريب، د. ت. (ألفت عام 1945).
[sup][29][/sup]    الفارابي، المدينة الفاضلة، علي عبد الواحد وافي (تحقيق وترجمة وشرح)، القاهرة، نهضة مصر، د.ت، حورية توفيق مجاهد، الفكر السياسي من أفلاطون إلى محمد عبده، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، الثانية، 1992.
[sup][30][/sup]  ابن الجوزي البغدادي، تلبيس إبليس، القاهرة، دار الكتب العربية (الحلبي)، 1986، ص 110، وما بعدها.
[sup][31][/sup]  سيف الدين عبد الفتاح، العالم والسلطان، مرجع سابق.
[sup][32][/sup]    انظر وقارن: حامد ربيع، مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، سيف الدين عبد الفتاح (تحرير وتقديم)، القاهرة، الشروق الدولية، 2007.
[sup][33][/sup]  جرامشي، مذكرات السجن، وانظر: جوردون مارشال، موسوعة علم الاجتماع، ترجمة محمد الجوهري وآخرين، المجلد الأول، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص 538.
[sup][34][/sup]  حامد ربيع، خطابات إلى الأمة، مرجع سابق.
[sup][35][/sup]  سيف الدين عبد الفتاح، المؤامرة وتفسير التاريخ..بين المدخل السفني والتفسيرات الليبرالية، ضمن ندوة عن المؤامرة نضمها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 2006.
[sup][36][/sup]    علي خليفة الكواري (تحرير)، الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة، ضمن مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، يوليو، 2005، انظر: سالم القمودي، اغتصاب التطبيق، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الثانية، 2003، ص38، وما بعدها، وكذلك: محمد الحوراتي، أقنعة الاستبداد وأزمة التحديث في البلاد العربية، دمشق، مركز الراية للتنمية الفكرية، الطبعة الأولى، 2005.
[sup][37][/sup]    لفضيلة الشيخ العلامة أ.د. عبد الله بن بيه، صناعة الفتوى وفقه الأقليات، الكويت: المركز العالمي للوسطية، د. ت، ص 7.
[sup][38][/sup]  الراغب الأصفهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة، أبو اليزيد أبو اليزيد العجمي (تحقيق ودراسة)، القاهرة، دار السلام، 2007.
[sup][39][/sup]    الفارابي والمغربي وابن سينا، مجموع في السياسة، تحقيق د. فؤاد عبد المنعم أحمد، تحقيق د. فؤاد عبد المنعم أحمد، الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة، د.ت.
[sup][40][/sup]  ابن القيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، بيروت، دار الكتب العلمية، الجزء الثالث، 1991.
[sup][41][/sup]  انظر: نادية مصطفى، سيف الدين عبد الفتاح (تنسيق علمي وإشراف)، مدحت ماهر (مراجعة وتحرير)، العلاقة بين الديني والسياسي مصر والعالم: رؤى متنوعة وخبرات متعددة، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى، 1429هـ، 2008م.
[sup][42][/sup]  انظر: سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، القيم: إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1996، سيف الدين عبد الفتاح، "إشكاليات دراسة الظاهرة السياسية في المنظور الإسلامي: النموذج المقاصدي: حالة بحثية"، بحث مقدم إلى الندوة المصرية - الفرنسية التاسعة للعلوم السياسية والاجتماعية: الآفاق والمعوقات، القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية بالتعاون مع مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية الفرنسي 19-21 فبراير 2000م.
[sup][43][/sup]  نصر محمد عارف، نظريات التنمية السياسية المعاصرة، دراسة نقدية مقارنة في ضوء المنظور الحضاري الإسلامي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا- الولايات المتحدة الأميركية، ط1، 1992، ص113-182.
[sup][44][/sup]  إدجار موران، مقدمات للخروج من القرن العشرين، ترجمة أنطوان حمصي، دمشق، منشورات وزارة الثقافة، 1993، ص 9 وما بعدها.
     - إدغار موران، الفكر والمستقبل مدخل إلى الفكر المركب، ترجمة: أحمد القصورا ومنير الحجوجي، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2004، وانظر كذلك رؤى متنوعة لموران: إدغار موران، ثقافة أوروبا وبربريتها، ترجمة:محمد الهلالي، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2007، وانظر كذلك: إدغار موران، تربية المستقبل: المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل، ترجمة: عزيز لزرق ومنير الحجوجي، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، فرنسا، منشورات اليونسكو الطبعة الأولى، 2002.
[sup][45][/sup]    سيف الدين عبد الفتاح، المدخل السُّفُنِيّ في تحليل الأسرة: دراسة في عمليات التنشئة الاجتماعية والسياسية، سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، الثقافة الدينية والبنيان القيمي بين مدخل المقاصد الكلية والمدخل السفني: رؤية إسلامية، بحث مقدم إلى مركز الدراسات المعرفية، القاهرة. (تحت الطبع).
[sup][46][/sup]  انظر مداخلتنا في سيمنار قسم العلوم السياسية حول إعادة تعريف السياسي، تحت عنوان: إعادة تعريف السياسي من منظور النظرية السياسة: مقدمات لابد منها، سيمنار قسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، العام الدراسي 2000-2001. أنظر كذلك: نادية مصطفى (إشراف وتحرير)، علم السياسة: مراجعات نظرية منهاجية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، سلسلة محاضرات الموسم الثقافي، 2001-2003.
[sup][47][/sup]  انظر: عماد الدين شاهين، الشرق الأوسط الكبير... أصداء الرؤى الغربية، ضمن كتاب أمتي في العالم، كتاب غير دوري يهتم بقضايا العالم الإسلامي، 2003-2004، القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2005، ص209، وما بعدها، وكذلك انظر عوني فرسخ، الإصلاح بين الطروحات الأمريكية والطموحات العربية، ضمن كتاب أمة في العالم، كتاب غير دوري يهتم بقضايا العالم الإسلامي، 2003-2004، القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2005، ص243 وما بعدها، انظر كذلك: محمد والي، سقوط الأقنعة: المشروع الصهيوني الأمريكي للسيطرة على العالم، د.ن.، 2003، حامد عبد الماجد قويسي، المشروع الإمبراطوري الأمريكي وإستراتيجية مقاومته في المنطقة، تقديم: عبد الله فهد النفيسي، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى، 2009.
[sup][48][/sup]  سيف الدين عبد الفتاح، مدحت ماهر، حازم ماهر، "تجديد الخطاب الديني من الحملة الفرنسية إلى الحملة الأميركية... قراءة في قرنين: خطاب الهوية وهوية الخطاب"، في: نادية مصطفى وإبراهيم البيومي غانم (تحرير)، حال تجديد الخطاب الديني في مصر، المجلد الأول، ط1، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006.
[sup][49][/sup]  محمد بريش، مفهوم الإصلاح أو نحو إصلاح لفهم المصطلح، ضمن العدد السابع: أمتي في العالم- كتاب غير دوري يهتم بقضايا العالم الإسلامي (1426-1427هـ/2005-2006م): الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2007، ص49، وما بعدها، وكذلك انظر وقارن أبحاث الندوة الهامة: كمال المنوفي، يوسف محمد الصواني (تحرير)، ندوة الديمقراطية والإصلاح السياسي في الوطن العربي، والتي عقدت بجامعة القاهرة، يونيو 2006، ليبيا، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، الطبعة الأولى، 2006.
[sup][50][/sup]    سيف الدين عبد الفتاح، النظرية السياسية من منظور حضاري إسلامي: منهجية التجديد السياسي وخبرة الواقع العربي المعاصر، طبعة منقحة من رسالة الدكتوراه، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، سبتمبر 2002.
[sup][51][/sup]    سيف الدين إسماعيل، النظرية السياسية من منظور حضاري إسلامي: منهجية التجديد السياسي وخبرة الواقع العربي المعاصر، المركز العلمي للدراسات السياسية، سبتمبر 2002، سيف الدين عبد الفتاح، النهضة على غير الطريقة الأوروبية، موقع إسلام أون لاين.
[sup][52][/sup]  عبد اللطيف المتدين، إمارة التغلب في الفكر السياسي الإسلامي، رسالة ماجستير، يناير 1999، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1999، وكذلك انظر: محمد محمد أمزيان، في الفقه السياسي: مقاربة تاريخية، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، 2001.
[sup][53][/sup]    محمد المهدي، علم النفس السياسي: رؤية مصرية عربية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى، 2007.
[sup][54][/sup]  سيف الدين إسماعيل، النظرية السياسية من منظور حضاري إسلامي: منهجية التجديد السياسي..، مرجع سابق.
[sup][55][/sup]    ورد ذلك التحفظ على ذهننا عند تساؤل من أحد الحاضرين (وهو الأستاذ الدكتور علي رمضان أبو زعكوك) حينما أشار بسؤال: هل هناك حتمية في تعلق الفكر بالحاكم أن يجعل من مفرداته الإصلاح بصورة تلقائية، ولا شك أن هذه ملاحظة قيمة، التدبر فيها يعني بعض النماذج في خبرات مختلفة، ولعل نموذج الخبرة السودانية (نموذج الدكتور الترابي وتحالفاته مع النميري والبشير) في تعلق بعض المفكرين بالعسكر وفيما يسمى بالعلاقات المدنية العسكرية مما أدى إلى تبرير الفكر لعناصر قوة وتبرير القوة بعناصر فكر، وهو أمر يضع الحدود على هذه الفكرة في العلاقة بين الفكر والسياسة والإصلاح بحيث لا يجعلها علاقة ميكانيكية أكثر من كونها علاقة جدلية تفاعلية تزن المعادلات بين عناصر هذا المثلث في عمليات النهوض والإصلاح.
[sup][56][/sup]  ولد خاتمي عام 1943 في أطراف الصحراء الإيرانية وفي منطقة عرفت بكثرة منافذها الهوائية وغناها وتمسكها بالعقائد الدينية الأصيلة، وهوابن آية الله روح الله خاتمي

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:07 pm

[sup][56][/sup]  ولد خاتمي عام 1943 في أطراف الصحراء الإيرانية وفي منطقة عرفت بكثرة منافذها الهوائية وغناها وتمسكها بالعقائد الدينية الأصيلة، وهوابن آية الله روح الله خاتمي
     جمع خاتمي أطراف الثقافة الإيرانية بقطاعيها الحوزوي والجامعي.. ولم يتخل في هذا الطريق عن دراسة ومطالعة مؤلفات المفكرين الغربيين، فاطلع على التيارات الفكرية والنظرية الغربية في مختلف المجالات الفلسفية والمعرفية والاجتماعية والسياسية.
     وكان وجوده في مدينة هامبورج الألمانية لعدة سنوات كان فرصة ثمينة له للتعرف مباشرة على العالم الغربي، حيث سعى خلال تلك الفترة إلى إجراء تحقيقات معمقة حول مؤلفات المفكرين المسلمين وأسلوب تعاملهم مع أسس الفكر الغربي وإنجازاته إلى جانب اشتراكه في مقاومة الظلم والاستبداد الذي كان يحكم إيران آنذاك.
     =بعد انتصار الثورة الإسلامية قاد خاتمي الركب الثقافي في إيران لأحد عشر عاما، حيث سعى خلال سنوات تقلده منصب وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي لتعميق الثقافة الإسلامية الإيرانية في المجتمع. رغم العقبات الكثيرة والجفاء الذي قوبل به فقد سخر اهتماماته لنشر آرائه العصرية المتجددة فيما يخص العادات والتقاليد وطور رؤاه النقدية للحداثة والتجديد. رغم أن الجهود التي بذلها خاتمي في هذا الطريق أدت إلى إثاره المشاكل أمامه من قبل الناشطين السياسيين المناوئين له ، مما دفعه إلى تقديم استقالته من منصبه الوزاري إلا أن هذه الجهود أثمرت ثانية في الثالث والعشرين من آيار 1997، حيث إن ما تحقق لم يكن في الواقع انتصارًا لخاتمي فحسب بل انتصارا لأفكاره. ومن كتبه:
     - الدين والفكر في شراك الاستبداد: جولة في الفكر السياسي للمسلمين، ترجمة: ماجد الغرباوي، دمشق، دار الفكر، 2001.
     - التنمية السياسية التنمية الاقتصادية والأمن، ترجمة: سرمد الطائي، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، 2002.
     - الدين والدولة، تقديم: محمد كمال الدين إمام، القاهرة، الدار العالمية للكتب والنشر، الطبعة الأولى، 1998.
     - المشهد الثقافي في إيران: مخاوف وآمال، بيروت، دار الجديد، الطبعة الثانية، 1998.
     - مطالعات في الدين والإسلام والعصر، بيروت، دار الجديد، الطبعة الأولى، 1998.
     - الإسلام والعالم، تقديم: محمد سليم العوا، القاهرة، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1999.
[sup][57][/sup]  ثريا نفاع، خاتمي الإنسان... رؤية مختلفة، الدوحة، دار الشرق للطباعة والنشر، 2000، ص 10-13.
[sup][58][/sup]  سيف الدين عبد الفتاح، أمل حمادة، من الثورة إلى الدولة: دراسة في فكر الخميني وشريعتي وخاتمي، ضمن سيف الدين عبد الفتاح، السيد صدقي عابدين (تحرير)، الأفكار السياسية الآسيوية الكبرى في القرن العشرين، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مركز الدراسات الآسيوية، 2001، ص 356 ما بعدها.
[sup][59][/sup]    منال محمد أحمد، إيران من الداخل: تحولات القيادة السياسية من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، القاهرة، مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات، الطبعة الأولى، 2009.
[sup][60][/sup]  محاضير محمد، الإسلام والأمة الإسلامية: خطب وكلمات مختارة، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، 2002، محاضير محمد، خطابات محاضير محمد، ترجمة عمر الرفاعي، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2007.
[sup][61][/sup]  محمد السيد سليم، (تحرير)، الفكر السياسي لمحاضير محمد، الجيزة، جامعة القاهرة، برنامج الدراسات الماليزية، 2006، ص ج.
[sup][62][/sup]  علي عزت بيجوفيتش، هروبي إلى الحرية، ترجمة: إسماعيل أبو البندورة، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، 2002، علي عزت بيجوفيتش، الإعلان الإسلامي، تحقيق وترجمة: محمد يوسف عدس، القاهرة، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1999، علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة: محمد يوسف عدس، بيروت، مؤسسة العلم الحديث، الطبعة الأولى، يناير 1994م.
[sup][63][/sup]  المرجع السابق، ص 15، 16.
[sup][64][/sup]  المرجع السابق، ص 69-70.
[sup][65][/sup]  المرجع السابق، ص 153-155.
[sup][66][/sup]    انظر وقارن: جاري بيرتلس، وآخرون، جنون العولمة: تفنيد المخاوف من التجارة المفتوحة، ترجمة: كمال السيد، القاهرة، مركز الأهرام للترجمة والنشر، الطبعة الأولى، 1999م، وكذلك: عبد السلام المسدي، العولمة والعولمة المضادة، كتاب (6)، د.ت.، وانظر: عبد الحي يحيي زلوم، نذر العولمة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1999.
[sup][67][/sup]  سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، حول التحيز مفهوم النظام العالمي الجديد، مجلة مستقبل العالم الإسلامي، مجلة فصلية، مالطا، مركز دراسات العالم الإسلامي، العدد 8، أغسطس 1992م، وكذلك انظر: سيف الدين عبد الفتاح، "الدراسات المستقبلية في عالم المسلمين بين نهاية التاريخ: (عمر أمة الإسلام) وصدام النبوءات، دراسة نقدية من منظور السنن" (في) أ. د. نادية مصطفى، أ.د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام): الأمة في قرن، عدد خاص من أمتي في العالم (حولية قضايا العالم الإسلامي) 2000- 2001، الكتاب السادس، 2002م
[sup][68][/sup]    عمر عبيد حسنة، حضارة النبوة رحمة للعالمين، بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، يناير، 2007، وانظر أيضا: برغوث عبد العزيز مبارك، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، كتاب الأمة (43)، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1995م.
[sup][69][/sup]  محمد فتح الله كولن، روح الجهاد وحقيقته في الإسلام، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، القاهرة: دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الخامسة، 2009، محمد فتح الله كولن، التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح (1)، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، القاهرة: دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 2006، محمد فتح الله كولن، حقيقة الخلق ونظرية التطور، ترجمة: أورخان محمد علي، القاهرة: دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2004، محمد فتح الله كولن، القدر في ضوء الكتاب والسنة، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، القاهرة: دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الرابعة، 2009، محمد فتح الله كولن، أضواء قرآنية في سماء الوجدان، ترجمة: أورخان محمد علي، القاهرة: دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2003.
[sup][70][/sup]  أحمد داود أوغلو، العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية، ترجمة ومراجعة: إبراهيم البيومي غانم، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى، 2006، ص200.
[sup][71][/sup]    المرجع السابق، ص 202.
[sup][72][/sup]  المرجع السابق، ص 203.
[sup][73][/sup]    إسراء عمران أحمد عبد الكافي، دور القيادة في الإصلاح: دراسة في العلاقة ما بين الفكر والممارسة مع التطبيق على نموذج عمر بن عبد العزيز، رسالة ماجستير، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، 2009.
[sup][74][/sup]    سالم القمودي، التغيير، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الأولى، 2004، ص 40.
[sup][75][/sup]    المرجع السابق، ص 42.
[sup][76][/sup]  المرجع السابق، ص 62.
[sup][77][/sup]  سالم القمودي، التغيير، المرجع السابق، ص 87.
[sup][78][/sup]  سالم القمودي، التغيير، المرجع السابق، ص 105.
[sup][79][/sup]  محمود بن محمد سفر، الإصلاح رهان حضاري، بيروت، دار النفائس، الطبعة الأولى، 2005، ص 5-8.
[sup][80][/sup]  علي سالم النباهين، سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام، مجلة الأمة، العدد 25، المحرم 1403 هـ.
     -انظر أيضًا: محمد الزحيلي، العز بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الملوك، سلسلة علماء المسلمين (39)، دمشق: دار القلم للنشر والتوزيع، د. ت.
[sup][81][/sup]    أستاذ الفلسفة بكلية الآداب - جامعة القاهرة.
[sup][82][/sup]  المفكر الإسلامي المعروف.
[sup][83][/sup]  يشير د. عمارة إلى إلغاء تأشيرة الدخول بين سوريا وتركيا في سبتمبر 2009.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:08 pm

الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق
د. رضوان السيد [sup][1][/sup]
أولاً: ثلاثة نماذج طغت على علاقة الدولة الإسلامية بالحركات الإسلامية
يدور منذ عقود صراع على الإسلام، كان الظاهر فيه قبل 11 سبتمبر 2001 أنه صراع داخلي بين رؤى ومشروعات، وتحول بفعل التطورات إلى صراع على السلطة بين الأنظمة القائمة، والحركات والتنظيمات الإسلامية. فهمت السلطات خطابات وتصرفات التنظيمات الإسلامية باعتبارها مشكلة أمنية. بينما أصرَّ الإسلاميون من جانبهم على أنهم أصحاب مشروع، وأن العنف عارض، ولا علاقة به إلا لشرذمة ضئيلة يشجُبُها التوجه الأكثري في تلك الحركات. وقالت السلطات إن هؤلاء يتهددون الاستقرار، ويريدون الاستيلاء على السلطة باسم الدين، ولا يؤمنون بالديمقراطية في الحقيقة.
وقد غصت السجون في بعض الفترات بالإسلاميين، كما تجرأ الطرفان على الوصول إلى حافة الحرب الأهلية. وأقدمت عدة دول عربية وإسلامية على الاعتراف بالمعتدلين وأشركتهم في المجالس النيابية، ومجالس الوزراء. وهكذا نشأت ثلاثة نماذج لعلاقة الدول الإسلامية بالحركات الإسلامية في العقود الثلاثة الأخيرة: التقاطع والصراع، أو انفراد الإسلاميين بالسلطة، أو المشاركة المتفاوتة الفعالية والأهمية. وهناك نموذجان لانفراد الإسلاميين بالسلطة هما السودان وإيران. وما أحاط أحد الانقلاب السوداني عام 1989 بأي آمال، بعكس الثورة الإسلامية في إيران، والتي حدثت قبل عشر سنوات 1979، وأحدثت هزة في العالم كله:
الكاتب الفرنسي أوليفييه روا قال عام 1996 إن الإسلام السياسي فشل؛ لأنه لم يمتد خارج إيران والسودان، ولأنه يعاني من مشكلات أساسية في البلدين. بيد أن للنجاح والفشل مقاييسهما التي تختلف من باحث لآخر. والسلطة في السودان اليوم تكاد تتخلى عن كل شيء بما في ذلك وحدة البلاد، للبقاء في السلطة. بينما المعروف أن الدعوى الأولى للإسلاميين أن أحقيتهم بالسلطة لا تنبع فقط من مركزية الشريعة في مشروعهم، بل تأتي أيضا من أنهم أحرص وأقدر على حماية المصالح الوطنية.
ونعرف منذ سنوات أن محافظي الشيوخ المتنفذين في السلطة، يتهمون الذين يعارضونهم مباشرة بالنقص في وطنيتهم. وإذا ما كان ممكنا موافقة أوليفييه روا وجيل كيبيل على آراء وانطباعات الفشل، بدون تحفظ من نوع ما، فلا شك أن الإسلاميين في السلطة ما أظهروا تفردًا لا في الفكر ولا في السلوك، بعد وصولهم للسلطة. وما نجحوا النجاح الذي كانوا يؤملونه أو تؤمله الجماهير التي رحبت بهم. ولا شكَّ أن الأوضاع بإيران كانت أسهل منها في السودان. فهي دولة قومية كبيرة ومستقلة وعندها موارد بترولية. لكنهم يستطيعون الاعتذار بحرب العراق عليهم، وبحصار أمريكا لهم. على أن أكبر أعذار الإسلاميين في السلطة، أن الدول العربية والإسلامية الأخرى ليست أنجح منهم بكثير في مسيرتها السلطوية، رغم أن ظروفها مع المجتمع الدولي أفضل بما لا يقاس.
ومرة أُخرى هناك النموذج الثاني، أو الشكل الثاني من أشكال العلاقة بين الإسلاميين والسلطات، وهو نموذج المشاركة. فقد شاركوا في لبنان والأردن واليمن. وبشكل موارب في مصر والمغرب. ويمكن الحديث عن تميز لهم في الاهتمام بالشأن الوطني والقومي والإسلامي. ويبدون أحيانًا في توترهم وخطابيتهم ونضاليتهم مثل قوميي ويساريي الستينيات. وحتى لا يصطدموا بالسلطات، فإنهم كثيرًا ما يلقون باللائمة على إسرائيل وأمريكا. وقد صار ذلك ممكنًا الآن وسهلاً بعد اندلاع حرب أمريكا على الإرهاب، وتصرفات إسرائيل إزاء الانتفاضة. لكن يبدو أنه لا مستقبل كبيرًا لهؤلاء المشاركين، لعدم تميزهم بالمبادرة، ولا بالأطروحات الجادة. ثم إنهم يأنفون من الأساليب البرلمانية والسياسية لاتسامها بالمراوغة، أو بعدم المبدئية.
والمشكلة الكبرى هنا في علاقة السياسة بالأخلاق، كما يقولون، وفي الحقيقة في علاقة العقائد وسياسات الهوية بتدبير الشأن العام. فالحركات الإحيائية الإسلامية كلها حركات هوية، والهوية مرتبطة بالعقائديات والشعائريات والرمزيات. والسياسة عمل أخلاقي رفيع لأنه متعلق بتدبير شؤون الناس، فلا يمكن الزعم أن أساليب العمل السياسي الرامية للوصول إلى تسويات عن طريق النقاش والتفاوض، هي أعمال غير أخلاقية. لكنهم إذا رفضوا التسوية، يحافظون على عقائدية الهوية ويخسرون الناس، وأن قبلوها تخلوا عن شعائر الهوية، وفقدوا مرجعيتهم في نظر أنفسهم! وقد انتقل حسن الترابي من النقيض (المتشدد) إلى النقيض (التحالف مع جون قرنق). وهكذا تقود العقائدية إلى الانكسار والتحطم باتجاه التشدد أو التحلل، وفي كلتا الحالتين لا يتحقق برنامج الإسلاميين المشاركين، إن كان لهم برنامج. ثم إنه يكون علينا ألا ننسى أنهم يعتبرون أنفسهم ممثلي الإسلام الحقيقيين، فيؤثر ذلك سلبًا على علاقاتهم بالسلطات، وبالأحزاب والحركات السياسية الأخرى.
وتبقى كلمة عن النموذج الثالث، نموذج القطيعة، وهو النموذج السائد في عدة بلدان عربية رئيسية حتى الآن. وقد أنتج عنفًا وعنفًا مضادًا، وما يعرف بالجماعات المتشددة منذ مطالع السبعينيات. ولا شك أن الأجزاء التي لجأت للعنف من الحركات الإسلامية صغيرة، لكنها مؤثرة جدًا. ويكفي القول إنها تسببت في الحرب الدائرة الآن على الإسلام والمسلمين. بيد أن أظهر وجوه خطورتها طبيعتها المغامرة والتي لا تشعر بالوجل أمام احتمال الحرب الأهلية، التي جرؤ عليها العسكريون بالجزائر وبادلهم الجرأة الإسلاميون. وقد تراجعت أطراف رئيسة من الإسلاميين عن العنف تحت وطأة فجائع المجازر، دون أن يتراجع الانطباع عنهم بشأن هذا "الإقدام" المعروف عن المتسلطين، وغير المقبول شعبيًا من خصومهم العاملين باسم الإسلام. وما كانت لتراجعهم آثاره الإيجابية، من جهة ثانية، لأن القاعدة، والسلفية الجهادية المنبثقة عنها أنست بعنفها الشامل والعدمي حتى عنف الاستئصاليين بالجزائر. ما علاقة هذا كله بالصراع على الإسلام، وبالإصلاح الإسلامي؟ العلاقة واضحة، فالإسلاميون على اختلاف فرقهم يعتبرون أنفسهم الخيار الإصلاحي أو أن الحل الإسلامي هو الضرورة والفريضة، كما يقول الشيخ يوسف القرضاوي 1974. بيد أن حدث 11 سبتمبر الهائل، أدخل عنصرًا جديدًا وحاسمًا في مطالب الإصلاح، وفي الصراع على الإسلام، على حد سواء.
ثانيًا: عمليات "القاعدة" حولت صراعات الحركات الإسلامية إلى مواجهة عالمية
أدت عمليات "القاعدة" بين العامين 1998 و2001، إلى تغيير المشهد، حيث لم يعد الصراع بين الحركات الإسلامية المتشددة والسلطات في البلاد العربية والإسلامية هو المجال الرئيس، بل صار الصراع عالميًا، ويتركز فيما بين الولايات المتحدة والإسلاميين المتشددين على مدى العالم، فيما عرف ويعرف بالحرب على الإرهاب. والواقع أن الحرب على الإرهاب احتاجت في حصولها إلى تحقيق شرطين: المتغيرات الاستراتيجية لدى حركات التشدد الإسلامي، والمتغيرات الشعبية والسلطوية في الولايات المتحدة وأوروبا. أما الشرط الأول فظهر في الإعلان عن جبهة القتال ضد اليهود والصليبيين عام 1998، ومن جانب بن لادن (زعيم تنظيم القاعدة)، وأيمن الظواهري (زعيم تنظيم الجهاد المصري).
وكان هذا التطور جديدًا إلى حد كبير. فمنذ سيد قطب (1964)، وحتى عمر عبد الرحمن (1988)، كانت وجهة نظر الإسلاميين المتشددين أن الحكومات العربية والإسلامية متغربة أو تعتمد في بقائها على الغرب (بشقيه الشيوعي والرأسمالي)، وأن المسلمين غافلون. لكن الاستنتاج من هذا التحليل للموقف، ظل دائمًا لدى سائر أطراف الحركة الإحيائية الإسلامية: ضرورة التغيير، وإزالة تلك الحكومات، بالتدرج لدى المسالمين، وبالقوة لدى المتشددين وكان هذا هو التطور الرئيس في عملية تبلور الإسلام السياسي، أي اعتبار "الجهاد الداخلي" مشروعًا، بخلاف الرؤية التقليدية التي تعتبر كل نزاع داخلي أو استعمال للعنف في الداخل فتنة تحرم مباشرتها أيًا كانت الأسباب. وكان القول بإحلال التمرد الداخلي، واستخدام العنف، هو الذي فصل بين التيار الرئيس في الحركة الإحيائية الإسلامية (الإخوان المسلمون والتنظيمات القريبة منهم)، وبين أولئك الذين قادوا نزاعات مسلحة بمصر، وغيرها منذ السبعينيات (ومنهم الجماعة الإسلامية، وتنظيم الجهاد) وبعد منتصف التسعينيات حدث التطور الذي سبق الحديث عنه، حين اعتبر المتشددون المشاركون في حروب أفغانستان والبلقان وآسيا الوسطى والقوقاز، أن التغيير في عالم الإسلام -وإن استخدم العنف- عسير جدًا إن لم تجر مواجهة "الكفر العالمي" الذي يحمي تلك الأنظمة. وشجعهم على ذلك ما اعتقدوا أنهم نجحوا فيه بهزيمة الروس في أفغانستان والشيشان. كما اعتقدوا أن القول بمجاهدة "الكفار والمشركين" إنما هو عودة إلى الأصول، وإلى المفاصلة والمنازلة بين دار الشرك ودار الإسلام، ومن هنا مقولة الفسطاطين لدى بن لادن وأشياعه.
ونعلم الآن من مذكرات أولبرايت (وزيرة الخارجية أيام كلينتون)، ومذكرات هيلاري كلينتون، أن الأجهزة الأمريكية وبعض الأوروبية تنبهت إلى هذا التطور لدى المتشددين، حتى قبل نسف السفارتين الأمريكيتين في تنزانيا وكينيا وضرب المدمرة كول، على أن الشرط الثاني، الذي تحدثت عنه، لتحول تلك المواجهة إلى مشهدية عالمية، هو وصول الرئيس بوش الابن إلى السلطة بالولايات المتحدة عام 2000 استنادًا للدعم المنقطع النظير من الإنجيليين الجدد (40 إلى 50 مليونا في الولايات المتحدة)، والوجود القوي للمحافظين الجدد في إدارة بوش، وهم الذين يملكون أيديولوجيا حول الدور الأمريكي الفريد في العالم، والاتجاه لتحقيقه عن طريق الحروب الاستباقية، وفي المناطق الاستراتيجية والضعيفة التي يمكن اجتياحها وإسقاطها دونما خطر نشوب حرب عالمية.
هكذا صار المسرح معدا: أيديولوجيا الجهاد العالمي أو مجاهدة الكفر العالمي من جانب المتشددين الإسلاميين، وأيديولوجيا التغيير العالمي لدى المحافظين الجدد لضرب الشر وفرض الخير والديمقراطية، حيث لا افتراق بين قيم أمريكا ومصالحها. وما اقتصر التضاد بين الأصوليين على التناقض الأيديولوجي الكاسح، بل كان هناك بالإضافة لذلك موضوع اليهود وإسرائيل. فالإسلاميون المتشددون يعتبرون إسرائيل (ومن ورائها يهود العالم) العامل الرئيس فيما أصاب العرب والمسلمين من ضعف وهوان. والإنجيليون الجدد فأكثرهم يعتبر إسرائيل إنجازًا للوعد الإلهي، وتمهيدًا لعودة المسيح بعد معركة هرمجدون التوراتية والنشورية. في حين يعتبر المحافظون الجدد -وأكثرهم من اليهود الصهاينة- أمن إسرائيل وازدهارها هدفًا رئيسًا ضمن الحملة لنشر رسالة أمريكا في العالم.
بدأت إدارة بوش الابن تعد للحملة منذ اللحظة الأولى، وعلى مستوى العالم: تصفية الحساب مع الأمم المتحدة، واستهداف فرنسا وألمانيا والمزيد من الإرعاب لروسيا، والحرب على العراق، ولا علة للحرب على العراق غير تحريك المستنقع الشرق أوسطي تدليلاً على تفوق الولايات المتحدة، وتفردها، وأن ذلك يخدم إسرائيل، بدفع العرب المرعوبين للتخلي عن كل شيء في مقابل عدم تعرض أمريكا لأنظمتهم، ورجوا أن تحدث تلك التداعيات المرغوبة والمطلوبة، بمجرد ضرب العراق واحتلاله. ولهذا قال الرئيس بوش منذ البداية إنه لن يتدخل في النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي (وكانت الانتفاضة على أشدها) لأربعة عشر شهرًا، بحجة أن إدارة كلينتون أهانت نفسها حين لم تستطع فرض الحل على عرفات، فيستطيع شارون سحق الفلسطينيين خلال تلك الأشهر الحاسمة، التي يكون فيها الأمريكيون يعصفون ويعسفون في العراق وجواره. وقد بلغ من ثبات هذه القناعة لدى صقور المحافظين الجدد هؤلاء، أن أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 ما غيرت في البداية من أولوية ضرب العراق لديهم، بدلا من أفغانستان، حيث تتمركز القاعدة، ويتمركز جهاديوها، كما يشير لذلك بوب وودورد في كتابه: "بوش محاربًا". على أن بوش، ورجالات وزارة الخارجية وجنرالات الجيش الأمريكي الكبار، ما أخذوا برأي ولفويتز ورفاقه، إذ لا علاقة لصدام حسين بالقاعدة وبضربات 11 سبتمبر من جهة، ثم إنه من المنطقي القيام بضرب أولئك الذين هاجموا أمريكا في عقر دارها قبل الالتفات للساحات الأخرى. وكان ما كان، مما بات معروفًا الآن: ضربت أفغانستان، وسلمت السلطة للميليشيات الأخرى (تحالف الشمال) من خصوم طالبان، ولوحق الجهاديون السلفيون على مدى العالم، ثم جرى احتلال العراق.
كان الأثر الرئيس لضربة 11 سبتمبر الهائلة استحداث المدخل الملائم لتحقيق أيديولوجيا المحافظين الجدد، والعولمة الأمريكية الفريدة، تحت عنوان "الحرب على الإرهاب". بيد أن التداعيات الأخرى لم تحدث، فشارون ما استطاع سحق الفلسطينيين، رغم الفرص الإضافية التي أتاحتها له حروب الإرهاب. والعرب الضعفاء ما سارعوا لخطب ود إسرائيل. وصحيح أنهم استجابوا لأكثر مطالب الولايات المتحدة، لكنهم لم يسقطوا، ويحتاج إسقاطهم إلى حروب أخرى. والإدارة الأمريكية التي حرصت منذ البداية على استيعاب الآسيويين المسلمين لفصلهم عن العرب، فهم كثير منهم الحرب على الإرهاب، باعتبارها حربًا على الإسلام والمسلمين. والصراع على الإسلام، الذي كان صراعًا بين الأنظمة والحركات الإحيائية الإسلامية، صار صراعًا ذا أفق عالمي. فالولايات المتحدة تتحدث عن إسلامين: أحدهما متطرف وجهادي تريد مواجهته، والآخر معتدل لكنه ضعيف أو غير موجود، وهي تريد استحداثه، أو اتخاذ غيابه ذريعة لاستكمال الحرب على الأنظمة العربية وإيران.
ما علاقة هذا كله بالإصلاح الإسلامي؟ ضربات 11 سبتمبر حولت الإسلام (الذي يقارب عدد معتنقيه الآن المليار ونصف المليار) إلى مشكلة عالمية. ومصائر الإسلام التي كانت موضع نزال بين الإسلاميين والأنظمة العربية والإسلامية، يشارك في تحديدها أو يحاول ذلك، كل من يعتبرون أنفسهم متضررين من المتشددين المسلمين، في العالم. ولهذا فالرهان على التغيير مشترك لدى سائر الأطراف، وإن اختلفت المفاهيم بسبب اختلاف المصالح.
ثالثًا: معنى استنقاذ الإسلام من خاطفيه أن يسيطر المعتدلون على الساحة الإسلامية
فتحت أحداث 11 سبتمبر المجال واسعًا للحديث عن "الإصلاح الإسلامي". وقد طالبنا الأمريكيون ابتداء من 20 سبتمبر 2001، على لسان الرئيس بوش وآخرين بأن نستعيد أو نستنقذ الإسلام من خاطفيه من المتطرفين، لكن لم تكن هناك رؤى تفصيلية إلا فيما بعد، ففي نفس الفترة أو بعد قليل من ذلك تحدث رئيس الوزراء البريطاني توني بلير عن ضرورة العودة إلى إسلام التيار الرئيس أو الـ(Main Stream)، وقد فهم الكاتب المصري المعروف جميل مطر أن تلك مؤامرة على الإسلام، في حين يبدو أن ما قصده بلير -الذي كتب له أحد المستشرقين خطابه ولا شك- العودة إلى الإسلام التقليدي، إسلام المؤسسات والمذاهب الفقهية. بعد ذلك بدأ الحديث عن الإسلام المتطرف والآخر المعتدل، وصار معنى استنقاذ الإسلام من خاطفيه أن يسيطر "المعتدلون" و"المتنورون" على الساحة. والمعتدلون والمتنورون -كما ذكرت كارين أرمسترونغ وأسبوزيتو، وهما من أصدقاء المسلمين- هم الذين لا يقولون بالجهاد في مواجهة الغرب.
وازدادت المطالب على "المعتدلين" فيما بعد، ووضع لهم جدول مفصل من المساواة بين الرجل والمرأة، بإعادة تأويل النصوص الدينية، وإلى إقرار مبدأ المواطنة إسلاميًا والخروج نهائيًا من مسألة أهل الذمة ومن البُنى الفقهية الأخرى مثل الأحكام الشرعية والحدود والأمور المتعلقة بالشأن العام. ومضى المتطرفون من بينهم لتذكيرنا بالمقولات المتنورة لمحمد أركون ولآخرين، لكن تأكيدهم على أركون سببه تعرضه الدائم للنص القرآني، في البداية من أجل إعادة التأويل، وفي السنوات الأخيرة من أجل تفكيك بنية النص وكشف تاريخيته.
وفي منتصف عام 2002 خطت مطالب "الإصلاح الإسلامي" لدى الأمريكيين من المسؤولين الرسميين ولدى المستشرقين الجدد والاستراتيجيين في أوروبا وأمريكا خطوة أخرى. طالب هؤلاء جميعًا المسؤولين العرب والمسلمين (والعرب على الخصوص، وفي السعودية بالذات) بتغيير برامج المعاهد والجامعات الدينية، وتغيير برامج الدين في مدارس التعليم العام، وتغيير المدرسين المتشددين. وتحدثوا أخيرًا عن الجهاز الديني، لكن بدون تفصيل. وكانت حجة المسؤولين للمطالبة بهذا التغيير الديني الكبير، في الفكر وفي البرامج، أن أكثرية المتشددين من حركة طالبان ومن أتباع بن لادن، إنما تخرجوا في المدارس الدينية المتشددة، كما أن الفكر الذي يحملونه هو فكر سلفي جهادي يستند أيضًا إلى هذه الكتب والتفسيرات الحرفية للنصوص والبرامج المحافظة أو الأصولية.
والواقع أن صعود حركة طالبان وممارساتها فاجأتنا نحن المسلمين أكثر مما فاجأتهم هم، إذ رعوا بداياتها مع الباكستانيين، رجاء أن تساعدهم في إخماد الفوضى والاقتتال الذي استشرى بين المجاهدين بعد الاستيلاء على كابل. وصحيح أن بعض قادة طالبان، شاركوا من قبل في الثمانينيات في "الجهاد" الأفغاني، لكن "جسم" الحركة من طلبة العلوم الدينية، وعلى المذهب الحنفي التقليدي، بينما توزع المجاهدون على تيارات إحيائية متنوعة من الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية بباكستان، وإلى السلفيين وأهل الحديث، لكن كما فوجئنا نحن بصعود طالبان وقوتها وتقليديتها الفظيعة فوجئ الأمريكيون والباكستانيون على حد سواد بإيوائها لابن لادن، ثم بسيطرة بن لادن على قرار الحركة، في علاقاتها الخارجية على الأقل. واعتقدت وقتها أن هذا التحالف لا يمكن أن يكون إلا مؤقتًا بسبب الاختلاف العقدي الشاسع بين الأحناف والسفليين، لكن يبدو أن هذه الشكليات ما لعبت دورًا كبيرًا، بسبب احتياج كل طرف للآخر، لكنني ما زلت أرى أن بن لادن والسلفين والإحيائيين الآخرين معه (من جماعة الجهاد بزعامة الظواهري) ليسوا أحبابًا للتقليد الإسلامي، وأن أعداء طالبان من أمثال عبد رب الرسول سياف وحكمتيار وحتى رباني هم الأقرب إلى القاعدة من الناحية الفكرية.
وفوجئنا جميعًا، نحن والأمريكيون، بقدرة القاعدة على تنفيذ هجمات 11 سبتمبر 2001، ثم بذلك الخطاب المصمت البالغ التشدد والعنف لابن لادن وصحبه، وخاصة بن لادن وسليمان أبو الغيث والظواهري، فحتى الفكر الإحيائي الأصولي للإخوان والجماعة الإسلامية، تجاوز أطروحات الفسطاطين والدارين، وحتمية الصراع المسلح بين الإيمان والكفر، بينما كان هو المضمون الوحيد لفكر القاعدة.
ومع أن أكثرنا وقف ضد الأطروحات والمطالب الأمريكية (لا أذكر عالمًا مسلمًا أيَّد تغيير البرامج والكتب باستثناء عبد الحميد الأنصاري عميد كلية الشريعة بجامعة قطر)، لكن كان ينبغي الاعتراف بحق الولايات المتحدة في اعتبار هذا الفكر خطرًا على أمنها، ومع نشوب "الحرب على الإرهاب" صار واضحًا أن الإسلام صار مشكلة عالمية، وأن الصراع عليه صار مزدوجًا كما سبق القول: الصراع بين الأنظمة وجماعات الإسلام السياسي، والصراع بين الولايات المتحدة والقوى الأخرى المتضررة من جهة والمتشددين من جهة ثانية، لكن "الحرب على الإرهاب" كما هو معروف لا بداية لها ولا نهاية ولا حدود، ولذلك صارت عمليا حربًا ضد الإسلام، منذ دخل فيها الإنجيليون الجدد، ومنذ صار كل مسلم مشبوهًا ومطاردًا في الصراع ضد الإرهاب وفي النزاع بين الحضارات.
ويكون علينا أن نعترف أيضًا أن هناك مشكلة كبرى في الفكر الإسلامي وفي أفكار الجامعات الإسلامية وأن العنف في العمل الإسلامي وإن يكن من صنع قلة، لكنه ذو دلالة ويشكل خطرًا، ليس على علاقتنا بالعالم وحسب، بل على العلاقات الداخلية بين العرب والمسلمين، لكن كما كان الصراع الذي لا يهدأ بين السلطات والإسلاميين قيدًا على حركة المفكرين من أجل التغيير، حدث قيد آخر مع اشتداد "الحرب على الإرهاب"، إذ ما عادت الإشكاليات دينية أو ثقافية أو حتى سياسية، بل صارت وطنية وقومية وعقائدية: كيف نستطيع المشاركة في "الحرب العادلة" على الإرهاب، ما دام الأمريكيون (والآن الأوروبيون أيضًا) يعتبرون التنظيمات الإسلامية المقاتلة لإسرائيل تنظيمات إرهابية، مع أنها لا تفعل شيئا غير الدفاع عن النفس؟! وأين هو مزاج الناس للتغيير الديني وسط الاحتلالات والتهديدات العسكرية والأمنية والخوف على الاستقرار؟ لقد عاد بعض من أدانوا أحداث 11 سبتمبر، لاعتبار القائمين بها أبطالاً! وإذا قيل إن هذه الظروف عابرة، والمسألة الأساسية: هل نحن بحاجة إلى إصلاح ديني أم لا؟ ولا شك أن الإجابة ستكون: نعم، نحن بحاجة إلى إصلاح ديني، لكن أين قواه وإمكانياته؟ ثم ما هي مفاهيمه، وقبل ذلك وبعده: هل هناك محاولات إصلاحية سابقة، وما تفاصيلها ومصائرها؟ وماذا يمكن أن نتعلم منها؟ ثم أين نحن الآن في أوضاعنا السياسية، وأين نحن الآن في أوضاعنا الدينية؟
رابعًا: المخاوف التي بثها الإسلاميون بتصرفاتهم بطأت من التحرك تجاه الديمقراطية
صارت مفردة الإصلاح على كل شفة ولسان، منذ حوالي عقدين من الزمان. وقد شهد العقدان على المستوى السياسي حركية باتجاه ارتفاع شأن تيارات الإسلام السياسي، بحيث صارت الحياة السياسية العربية، إن وجدت، مراوحة بين محاولات الاستيعاب أو التصدي لتلك الحركات، وليس بالوسع الآن التصدي لتحليل هذه الظاهرة بالتفصيل، لكن في الوقت الذي قُفل فيه المجال السياسي العربي، تصدت الحركات السياسية الإسلامية لهذا الانقفال، بوجوه من المعارضة والتمرد.
وما كانت الوسائل دائمًا سياسية سلمية أو مقبولة، بل اتسمت بالكثير من العقائدية، وواجهتها السلطات بعقائدية مشابهة، وبالتصدي باعتبار الظاهرة خطرًا أمنيًا. والطريف أن السلطات كثيرًا ما اتهمت تلك الحركات بأنها غير ديمقراطية، أو أنها تتوسل الديمقراطية للاستيلاء على السلطة. والواقع أن السلطات ما كانت ديمقراطية، كما أن خصومها من الإسلاميين ما كانوا كذلك. وهناك من يريد الذهاب إلى أن المخاوف التي بثها الإسلاميون بتصرفاتهم بطأت من التحرك باتجاه الديمقراطية، في حين يرى الإسلاميون أنفسهم عكس ذلك تمامًا، فالتحدي الذي شكلته جماهيريتهم هو الذي فرض الاتجاه نحو تجديد التجربة الحزبية، وتجارب الانتخابات الحرة، والخروج على سيطرة الحزب الواحد والقائد الأوحد.
وبغض النظر عن صحة هذا الادعاء أو ذاك، فإن أمامنا الجزائر والسودان ومصر وتونس.. إلخ. وهي تجارب تحفل بشتى الدلالات، وستظل شواهد للإسلام السياسي وعليه، حسبما يريد الخصوم أو الأصدقاء النظر إلى المسائل. ومع أن العودة للتاريخ قد تكون مفيدة هنا، فالذي نريده ليس التأريخ لظاهرة العمل من أجل الديمقراطية، بل التعرف على دلالات هذا الخمود والجمود الذي يطال الأزمة والمأزق. فقد كنا نأخذ على بعض الزملاء أنهم وضعوا على أحد مؤلفاتهم عنوان: "ديمقراطية من دون ديمقراطيين"، ثم تبين لنا أن الأمر قد يكون صحيحًا. فكما لم يشتهر الحزبيون من القوميين واليساريين بالنضال من أجل الديمقراطية، بل بإرادة الاستيلاء على السلطة، كذلك فعل الإسلاميون، وإن كانوا قد تعرضوا لضغوط لم يتعرض لها الحزبيون الآخرون.
ولهذا فإن أطروحة الثقافة السياسية، والثقافة الديمقراطية قد لا تكون بعيدة عن الواقع، لكن إدراكاتها تختلف من فئة لأخرى، وينبغي التدقيق فيها. فمسعى أي حزبي للوصول إلى السلطة بالانقلاب، وليس عن طريق الجمهور، أمر جرَّبه القوميون والاشتراكيون قبل الإسلاميين، وما قصر الإسلاميون في المحاولة أيضًا. وإن دل هذا على شيء، فعلى قلة ثقة بالناس وبالجمهور من جانب سائر الحزبيين، واستسهال الفوز بالسلطة بالقوة، من أجل قيادة الجمهور نحو الأهداف المحددة من دون تردد.
والحديث عن الثقافة السياسية والثقافة الديمقراطية هنا له أسباب محددة. فالفئات كلها تتحدث الآن عن ضرورات الديمقراطية، بل إن الأمريكيين يريدون فرضها علينا، ولا يخلو الأمر من نزوع نضالي من أجلها لدى بعض جمعيات المجتمع المدني. لكن لا حماس حقيقيًا لها لدى أي من الفئات التي تريد المشاركة في العمل السياسي، وتريد المشاركة في القرار، ولذلك، فإن السلطات القائمة لا تتحرك باتجاه الديمقراطية، ولا باتجاه التداول السلمي للسلطة، وهو الأساس الأول للحراك السياسي، وللانتخابات الحرة والمنتظمة. ويحار المراقبون السياسيون في تعليل إعراض الجمهور عن الحراك من أجل مباشرة الأمور بنفسه، على الرغم من الأزمة الخانقة اقتصاديًا وسياسيًا، ورغم الجراح التي نعانيها قوميًا وإسلاميًا. وقد حاول أحد الزملاء فهم ذلك بضرب المثل بصنع الله إبراهيم، وسعد الدين إبراهيم، كان سعد الدين إبراهيم. وهو عالم اجتماع معروف، وصاحب مركز ابن خلدون للأبحاث قد قدم كتابات، وقام بمشروعات نضالية من أجل الديمقراطية. فتصدت له السلطات، وحولته للمحاكمة، واتُّهم بالخيانة، وسجن ثم برأته المحكمة، وإن يكن قد عانى في السنوات الماضية كلها من إعراض المثقفين وتوقف كل الناس عن الدفاع عنه. أما صنع الله إبراهيم، فهو روائي مصري يساري معروف، وحصل على جائزة الرواية، فرفضها في خطاب مشهور، بحجة أن الدولة المصرية مقصرة قوميًا، وفاسدة داخليًا، ومع أنه لا شأن للدولة بحصوله على الجائزة، وإن تكن هي التي تدفعها، لكن صفَّق له الجميع أو الأكثرية، لاتصال ما قام به بالموضوع الوطني القومي.
وما يريده جهاد الزين، الذي كتب عن هذا الفارق بين الحالتين. إن الوعي الجماهيري، ووعي المثقفين يركز على الوطني والقومي دون الديمقراطية، ولذلك كان هناك اعتزاز بما قام به صنع الله إبراهيم، وإعراض عما حاول سعد الدين إبراهيم القيام به! ولست أدري إذا كان يمكن فهم المسألة على هذا النحو، لكن لا شك أننا لا نسير باتجاه نهوض ديمقراطي، بسبب إصرار الحاكمين، ولا مبالاة الجمهور، وضغوط الأمريكيين.
فكما يصر الحاكمون على السير بعكس ما يتوقعه الناس منهم، كذلك يتسبب الأمريكيون بضغوطهم العلنية من أجل الديمقراطية في تأخير أو تعطيل إمكانيات التقدم نحو الديمقراطية والحريات. فهم يحتلون ويهددون بالاحتلال، ثم يقولون إنهم يقومون بعمليات تحرير وحريات، ثم هم يفصلون بين الوطني والديمقراطي بطرائق تجعل كل عربي يأبى تلك الديمقراطية. ففي فلسطين يصر الأمريكيون على أن مشكلة الفلسطينيين الفساد والإرهاب. والفساد والإرهاب المفروض أنهما مرضان، يتسبب بهما الفلسطينيون ضد أنفسهم! وبعد هذا يقال لهم: تخلوا عن الإرهاب (أي المقاومة)، والفساد (رئاسة عرفات) تقم الدولة الفلسطينية، في حين يدعمون شارون بطرائق لا تدل على تقدم باتجاه الدولة. والشيء نفسه فعله الأمريكيون ويفعلونه في العراق. وليس هناك ما يدل على أنهم يستحثون الدول العربية الأخرى على الانتخابات الحرة، والتداول السلمي للسلطة.
ثم هناك الأمر الآخر الذي يعيدنا إلى سؤال الإصلاح الديني. فهناك حديث كثير منذ أحداث 11سبتمبر، على أن الإصلاح الديني، وتجديد الخطاب الديني، ينبغي أن يتقدمًا على الإصلاح السياسي، باعتبارهما يشكلان العقبة دونه حتى اليوم. ويتضمن ذلك اتهامًا للجمهور بأن الانفتاح السياسي غريب عنه لأنه متدين، ولا بد من حركة تنويرية في الدين، من أجل أن يكون ذلك مقدمة للتنوير السياسي، وأنا أرى أن ذلك غير صحيح على الإطلاق. فالإصلاح الديني عملية طويلة ولها جوانب أكاديمية وعلمية، وأخرى ثقافية، وآلياتها غير آليات الإصلاح السياسي. والإصلاح السياسي عملية معروفة البدايات والآليات والآفاق. وقد جربت ذلك أكثرية الشعوب العربية، ونجحت التجربة. ولهذا لا أرى علاقة تعاقبية بين الأمرين، وأعتقد أن الإصلاح السياسي أسهل وأنجع، بل إنه قد يفيد في التقدم نحو الإصلاح الديني وليس العكس. فلا حاجة للتهرب من العمل السياسي الإصلاحي، بحجة إصلاح الأمر الديني.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:09 pm

خامسًا: الطهطاوي كان يملك رؤية للإصلاح تعتمد على دولة حديثة التنظيم
أحسبُ أنَّ أولَ من ذكر الإصلاح في المجال العربي كان رفاعة رافع الطهطاوي، في كتابه: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، (1830-1831). وكان الإصلاح عنده يتناول شؤون الصناعة والزراعة والتجارة، كما يتناول مسائل التنظيمات الخاصة والمدنية. وقد عُنِيَ بالتنظيمات الخاصّة الشركات، وبالتنظيمات المدنية الجمعيات الخيرية الأهلية. وهو يعتبر أنّ حالتنا ليست على قدْرٍ كبيرٍ من السوء، فالمسافةُ بيننا وبين أوروبا ليست كبيرة، ويمكن تجاوُزُها برعاية تلك الأمور الخمسة السالفة الذكر، التي تقع ثلاثة ميادين منها تحت إشراف الدولة، ويقع مجالان في الحيّز الذي يمكن أن يُسهمَ فيه المجتمع.
ويتصور الطهطاوي طريقة الإصلاح بإنشاء دواوين (وزارات) للشؤون الصناعية والزراعية والتجارية؛ باعتبار أنّ الدولة تملكُ القسم الأكبر في تلك المجالات. أمّا الشركات فأهميتُها أنها تؤمّنُ الاستمرار، وتدعمُ الاستثمار، وقد كانت من أعمدة الازدهار الإسلامي القديم، وهي عمدة النشاط الحديث في سائر المجالات. وهو يرى أنَّ النشاط الخيري الإسلامي، سواءً في الزكاة والصدقات، أو الأوقاف، ضخمٌ وهائل. ولذلك يستغربُ ضآلةَ آثاره، وتماديه في الانحطاط بعد ازدهار جيلٍ أو جيلين؛ ولذلك يرى استعارة النموذج الفرنسي في الجمعيات الخيرية أو جمعيات الخير العامّ تُتَمِّمُ عملَ الدولة، وهي تُرضي دوافع المواطنين للتطوع والتصدق، وممارسة النشاط المُفيد.
والغريب أو الطريف أنّ الطهطاويَّ (1873) لم يكن يرى ضرورةً للقيام بإصلاح دينيٍ، بعكس شيخه حسن العطار، شيخ الأزهر (1835). فنموذج الطهطاوي العائد من فرنسا بعد أربع سنواتٍ فيها (1826-1830) للنهوض على مستوى الدولة والمجتمع هو نموذجٌ فرنسي؛ لكنه ما كان يرى في فرنسا بالذات أيَّ نموذجٍ للاقتداء في الشأن الديني. فأهلُ الكنيسة من وجهة نظره عديمو التأثير، وهم مع النظام الملكي، وضد الحريات والحِراك الاجتماعي. ثم إنّ الدين المسيحي نفسَه عنده ليس من أسباب النهوض الأوروبي؛ بل اضطُرّت أوروبا من أجل النهوض إلى أن تنفصلَ عنه وبعنفٍ في توجهاتٍ علمانيةٍ لا يحبذها الطهطاوي أيضًا. فالطهطاوي أزهريٌّ تقليديٌّ، ينفصلُ في وعيه التاريخي الدينُ عن الدولة دونما تنظيرٍ كثيرٍ للأمر. والدولة عنده إسلاميةٌ، لأنّ أَولياء الأُمور يعتـبرون الإسلام مرجعيتَهم العليا، والناس في الأعمّ الأغلب مسلمون متدينون، ويستندون في حياتهم إلى اعتقادٍ صلبٍ بعصمة الإسلام وتفوقه. والهزيمةُ أمام الفرنسيين (1799-1803) لا علاقةَ للدين بها؛ بل أسبابُها دنيوية: التراجع في الشؤون العسكرية، والتراجع في الصناعة والزراعة والتجارة؛ وكلُّ ذلك أمكن تجاوُزُهُ في جيلٍ واحدٍ أو أقلّ من جانب والي مصر محمد علي، دونما مشكلةٍ من جانب الإسلام الذي تنصُّ الآيةُ القرآنيةُ المشهورةُ فيه على إعداد القوة (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)(الأنفال:60). وقضى الطهطاوي حياته عاملاً على الترقّي المدني في الشؤون الدنيوية بالذات (إنشاء ديوان المدارس، ومدرسة الترجمة). ولستُ على بينةٍ بشأن رأيه في الإصلاح أو النهوض السياسي. فقد ترجم الدستور الفرنسيَّ الجديد (1830) الذي يتأسسُ على دستور الثورة الفرنسية، لكنه لم يَعُدْ للحديث عنه في كتاباته اللاحقة طوالَ ثلاثين عامًا أو أكثر. وعمل في ستينيات القرن التاسع عشر على ترجمة القوانين الفرنسية، دون أن يُحسَّ أيضًا تناقُضًا بين تلك القوانين الوضعية، ومواضعات الفقه الإسلامي. وألّف في آخِر حياته (وكان قد قرأ وقتَها مقدِّمة أقوم المسالك لخير الدين التونسي) رسالةً في الاجتهاد، تركّز اهتمامُهُ فيها على أمورٍ تقنية، وعلى ضرورة الاجتهاد، وعدم انسِدادِ بابه، وليـست هناك في أعماله غير شكوى خفيفة من تقليدية الأزهريين، الذين دعاهم أحيانًا للتعرف على العلوم العصرية (مثلما أُتيح له هو أن يفعل).
ولا يبدو الطهطاوي مطّلعًا على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب، الذي كانت دولة محمد علي وأحفاده تُعاديها، بعد أن خاضت حربًا (1814-1818) لحساب الدولة العثمانية من أجل القضاء على دولتها الفتية. لكنْ عندما كان الطهطاوي منفيًا في السودان (1850-1854) كانت الدولة العثمانية تشهدُ حركةً إصلاحيةً كبرى في الشأن السياسي والمدني، بلغت ذروتَها في صدور التنظيمات (1857). وإذا كانت القوانين الوضعية والمدنية (وعلى رأسها قانون التجارة، وقانون الطابو أو ملكية الأرض) قد بدأت بالصدور في مصر والدولة العثمانية في أربعينيات القرن التاسع عشر؛ فإنّ التنظيمات استحدثت أنظمة إدارية؛ والأهمّ من ذلك أنها قالت بالمواطنة العثمانية، التي عنت مساواةً بين المواطنين، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم. ولا نعْرف موقف الطهطاوي والأزهريين من تلك المستجدات؛ على الرغم من سطوة غير المسلمين في إدارة محمد علي وأحفاده.
وتزداد مشروعيةُ هذا التساؤل عندما نلاحظ أنّ أربعةً من شيوخ الإسلام، ومن الصدور العظام المتدينين، رافقوا وقادوا عمليات الإصلاح في الدولة العثمانية منذ العام 1837 وحتى صدور الدستور عام 1876. فكانت الفتاوى تُرافقُ القوانين أو تصدر القوانينُ واللوائحُ وفي مقدمتها رأي شيخ الإسلام بالموافقة عليها. ولا شكَّ في أنّ السلاطين الإصلاحيين كانوا يضغطون على شيوخ الإسلام. لكننا نعرفُ أنّ بعضهم اعترض، أو اعتزل أو حاول تنظيم انقلابٍ على السلطان. فالأمرُ لم يكن ذا اتجاهٍ واحدٍ؛ بمعنى أنّ المؤسسة الدينية (مشيخة الإسلام) في حقبة انحطاط السلطنة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ما كانت مستتبعَةً بالكامل؛ وإنْ تكن لها مصـالحُ كبرى (عشرات ألوف الوظائف والمراتب والمرتبات) مع السلطنة تحولُ في كثيرٍ من الأحيان دون المُضيّ في التمرد أو الاعتراض.
وعندما أَلغى السلطان عبد الحميد الثاني الدستور عام 1878 ما وافقَه شيخُ الإسلام على ذلك واعتزل في بيته. في حين آثَرَ قدري باشا أن يبقى في الإدارة لإتمام مشروعه المُهمّ في مجلة الأحكام العدلية (إعادة تدوين الفقه الحنفي في صيغة قانون).
إنّ ما أُريدُ الوصولَ إليه أنّ الطهطاويَّ كان يملكُ رؤيةً للإصلاح تعتمد على دولةٍ حديثة التنظيم، وعلى مجتمعٍ مدنيٍ متناغمٍ مع السلطة صاحبة المشروع. ولم يكن الإصلاح الدينيُّ من همّه؛ كما لم يكن من همّ الدولة، التي أَهملت الأزهر، وأنشأت نظامًا موازيًا للتعليم الحديث. في حين شعر الإصلاحيون العثمانيون بضرورة الحصول على دعم المؤسسة الدينية (مشيخة الإسلام). ولهذا انقسم كبار رجال الدين العثمانيين في وقتٍ مبكّرٍ إلى داعمين للإصلاح أو معارضين له. لكنْ ليس من الواضح هل كان الشيوخ الإصلاحيون يملكون مشروعًا آخر لعلاقة الدين بالدولة، أو لإصلاح المؤسسة الدينية. إنما الواضحُ في الأمر كلّه أنه في عصر الإصلاحات والتنظيمات للدولة والشأن العامّ، صار لرجال الدين العثمانيين رأيٌ واضحٌ في تلك الأمور، أحيانًا بإذن السلطان، وأحايين بدون إذنه.
سادسًا: التجديد الديني في الدولة العثمانية يهدف إلى تسريع الإصلاح السياسي والمدني ويتحول إلى ضرورة حياتية لمسلمي الهند
تسيطر أجواء وبيئاتُ الإصلاح العثماني على رجل الدولة الكبير خير الدين التونسي (1889)، والذي عمل وزيرًا أولَ في تونس، ثم لفترةٍ قصيرةٍ صدرًا أعظم في إسطنبول. ونعرفُ عنه أنه كان إداريًا كبيرًا، ورجلَ ماليةٍ ناجحًا، وعسكريًا متوسط الموهبة. وقد ترك مذكراتٍ بالفرنسية؛ لكنّ أهمَّ أعماله المدوَّنة كتابه الضخم: أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك. والكتاب ذو الألفَيْ صفحة يتضمن تتبُّعًا تفصيليًا لبُنى الدول الأوروبية المعاصرة له، وتجاربها النهضوية. وهو مثل الطهطاوي (الذي اطّلع على أعماله) يملك أيديولوجيا للتقدم، عرضَها في مقدمة أقوم المسالك، فيما يشبه مقدمة ابن خلدون. ذاك أراد أن يعرِضَ فلسفةً للتاريخ، وهذا أراد أن يعرضَ فلسفةً للنهوض والتقدم على الطراز الأوروبي. وتقوم فلسفة التقدم عنده على تجديد المشروع السياسي أو مشروع الدولة في عالم الإسلام، وعلى دعامتين: الوعي بالمصالح (عند الطهطاوي: المنافع) العمومية، وإقامة التنظيمات أو المؤسَّسات. على أنَّ الجديدَ عنده -إضافةً للرؤية الشاملة للنهوض بالدولة- الدور الذي يتطلع إلى أن يؤديه الإسلام في هذا المشروع الجديد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:10 pm

خير الدين ليس من العلمـاء أو خريجي الزيتونة، بل إنّ معرفته بالعربية الكلاسيكية ليست على ما يُرام. ولذا فكما اتخذ من ابن خلدون (في نشرة كاترمير([sup][2])[/sup] لمقدمته) نموذجًا له في فلْسفة التاريخ ورؤية التقدم، اتخذ من الشيخ محمد بيرم الخامس -وهو فقيهٌ حنفيٌّ معروف- (دولة البايات في تونس تركية تتبع المذهب الحنفي، مذهب الدولة العثمانية، بينما الجمهور التونسي مالكي) مُرشدًا له بشأن الاقتباس من المصادر الفقهية. وقد زوَّدهُ الشيخ باقتباساتٍ مالكيةٍ وحنفيةٍ في أمرين اثنين: ضرورة فتح باب الاجتهاد، وضرورة مُراعاة المصالح، في التفكير الفقهي، وفي الاجتهاد والاستنباط، وفي النظر لأمور الشأن العام. ومع أنّ المصالح المرسلة، مصدرٌ من مصادر التـشريع الفرعية عند المالكية؛ مثلما هو الاستحسان عند الحنفية (وقد أورد التونسيُّ اقتباساتٍ بشأنهما من مصادر المذهبين)؛ فإنّ التونسيَّ ما اكتفى بذلك؛ بل ذكر نصوصًا من عند الفقيه الحنبلي المعروف ابن قيم الجوزية (751 هـ)، تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية. وما كانت كتب ابن القيمّ مطبوعةً وقتَها؛ لكنّ التونسيَّ رجع (بالواسـطة في الغالب) إلى مخطوطتي الفقيه الحنبلي: إعلام الموقّعين، والطُرُق الحكمية في السياسة الشرعية. والسياسةُ الشرعيةُ عنده هي تدبير الأمر بما يُصلحُه، أو بما يجعلُهُ أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد. وحسبما ينقل ابن القيم عن ابن عقيل الحنبلي أيضا؛ فإنّ المصلحة (العامة طبعًا هي بمثابة الشرع؛ إذ حيثما تكونُ المصلحةُ يكونُ شرعُ الله).
إنّ الواضحَ أنّ خير الدين التونسي يرمي إلى شرعنة المؤسَّسات الحديثة باعتبارها مصالح للمسلمين أو باعتبارها تحقيقًا لمصالح عامة لهم؛ بغضّ النظر عن أصلها أو اقتباسها؛ فحسب ابن عقيل: كلُّ ما يحقّقُ مصلحةً للناس يمكنُ اعتبارُهُ شرعـيًا. لكن: مَن المُخاطَبُ بذلك؟ بالتأكيد ليس رجال الدولة التونسية أو العثمانية، الذي كانوا يقومون بمحاولاتهم الإصلاحية الكبرى، ولا يُعانون من مشكلاتٍ كبرى (أو هكذا نفترض) مع الناس أو مع رجال الدين! بيد أنّ دافيسون مؤرّخ الإصلاح العثماني يخبرنا أن الإصلاحات ما لقيت ترحيبًا كبيرًا من المسلمين أو المسيحيين. المسلمون لاعتقادهم أنّ تلك القوانين فرضها الغربيون، والمسيحيون لأنها رتّبت عليهم التزامات في الجندية وأمام المحاكم، كانوا في حِلًّ منها بعد أن تخلصوا عمليًا من وضع "الذميّة" بمعاونة القناصـل الأجانب.
لكن، يبدو في الغالب، أنّ الحُجَجَ السالفة الذكر، أوردها التونسي على سبيل التوعية، ثم لأنّ معارضةً متنـاميةً ظهرت من جانب رجال الدين المسلمين. وهكذا، بعكس الطهطاوي، الذي ما أزعجته التقليدية الدينية، ولم يعتبرها عقبةً في طريق مشروع النهوض؛ رأى التونسيُّ أنّ الإصلاح الدينيَّ ضروريٌّ من أجل نجاح الإصلاح السياسي. وبسبب عدم توافر معرفةٍ عميقةٍ لديه بالنصوص الدينية، وبمواقع الاجتهاد في النصوص؛ فقد اعتقد أنّ ذاك الإصلاح يمكن أن يتمَّ من طريق تجديد التقليد، أو ممارسة انتقائية في تأويل النصوص، وفي الاقتباس من القُدامى. على أنَّ التجديدَ الدينيَّ الذي كان يتحول في أقطار الدولة العثمانية من مطلبٍ لدى النُخَب بعد خمسينيات القرن التاسع عشر من أجل تسريع الإصلاح السياسي والمدني؛ كان بالنسبة للمسلمين بالهند ضرورةً حياتيةً، يتوقفُ عليها استمرارُهم أو استمرارُ جماعتهم. فمنذ القرن الثامن عشر، بدأَ فقهاؤهم يتساءلون عن مشروعية وجودهم البشري، وهل الهند ما تزالُ دار إسلام أم صارت دار شِرْكٍ بسبب ضعف السلطنة المغولية، واستيلاء البريطانيين على أكثر أُمورها. وقد رجع كثيرٌ من فقهائهم وهم أحنافٌ متشددون إلى النصوص الفقهية الحنفية يستشيرونها؛ في حين لجأت قلةٌ في مطلع القرن التاسع عشر إلى نصوص ابن تيمية التي اكتشفوها في مكتباتهم.
وترتّب على هذا النزوع السلطوي بروزُ أحد مخرجين: الجهاد أو الهجرة. وقد ثارت جماعاتٌ صغيرةٌ لعقود، وحاولت جماعاتٌ أُخرى الهجـرة إلى أفغانستان، التي لم يحتلّها المشركون! لكن المخرجين فشِلاً، إلى أن صار هناك إجماعٌ على التمرد عام 1857، وانتهى ذلك بمذابح ضدَهم سقط فيها عشراتُ الألوف، وفقدت جماعاتٌ كاملةٌ في المدن والأرياف أولادها وأملاكَها. وفي حين مالَ فقهاء التقليد للعزلة أو الهرب من البلاد للمجاورة بمكة أو الاستقرار في بلدٍ إسلامي آخر، ظلَّ السلفيون مُصِرِّين على متابعة الجهاد أو الهجرة أو يكون المتجاهلون لأحد المخرجين مرتدين. في هذه الظروف ظهر السيد أحمد خان الذي دعا المسلمين بالبلاد إلى إقامة المؤسسات الحديثة لكي يستطيعوا حفظ وجودهم وتطورهم، وأنشأ هو جامعة عليكره. لكنه ما اكتفى بذلك بل تصدّى بقوةٍ للسلفيين وفقهاء التقليد في الوقت نفسه.
كتب الرجل تفسيرًا جديدًا للقرآن، كما دعا للاجتهاد والتجديد في الفقه. وقال بضرورة التوقُّف عن كلٍ من الجهاد والهجرة. فالهجرةُ دمار، والجهاد انتحار، وسط ظروف الاستضعاف وشروطه. فتكليف المسلمين بالجهاد بعد هزيمة العام 1857 هو تكليفٌ بما لا يُطاق. ثم إنّ الدار دار إسلام ما دام الناس يستطيعون أداء عباداتهم بحرية. ولا بد من خوض التجربة الحديثة في بناء المؤسسات والتعليم العصري، لكي يستطيع المسلمون صَون هويتهم ومصالحهم، وإلاّ صاروا رهائن الكثرة الهندوسية، والاستعمار البريطاني. وكما يحدُثُ عندنا اليوم لدُعاة الإصلاح الراديكالي والليبرالي؛ فإنّ الرجل اتُهم بمحاباة البريطانيين؛ بل التآمُر معهم. وظلّت هذه التهمة (الردة بسبب إبطال الجهاد) تترددُ على مدى أكثر من خمسين سنة؛ إذ كررها أحمد أمين في أربعينيات القرن الماضي، في كتابه: "زعماء الإصلاح في العصر الحديث"، وصار الرجل علَمًا على التغريب الذي هاجمه من أجله شباب وكهول الجيل التالي من أمثال أبي الحسن الندوي، وأبي الأعلى المودودي. والانقسام الذي حصل بالهند (هجرة أو جهاد من جهة، وحياة من الممانعة لصون الهوية والانتماء، باكتساب العلوم الحديثة، من جهةٍ ثانية) حصل مثله في الجزائر عندما احتلها الفرنسيون عام 1830. فالتأزم الذي أحدثه الاستعمار، أفضى في بعـض نواحي العالم الإسلامي، إلى نُصرة التيار الجهادي من أجل التحرير، وإلى بروز تيار إصلاحي تتفاوت قوته، رغم كثرة الناطقين باسمه.
سابعًا: جمال الدين الأفغاني جاء من إيران وأفغانستان والعراق بوعي مؤداه أن لمشكلة المسلمين قطبين دينيًا وسياسيًا
تتميز حركة جمال الدين الأفغاني (1879) ومحمد عبده (1905) وجيلهما للإصلاح والنهوض بعدة أُمور؛ أولها أن الرجلين كانا من علماء الدين. فإن قيل: والطهطاوي كان فقيها؛ فالإجابة أنه لم يعتبر نفسه كذلك، بل كتب وخاطب باعتباره مبشِّرًا بالثقافة الحديثة. وعندما حاول في آخِر حياته أن يكتب في الاجتهاد، جاء كتابُهُ شـديد التواضـع، ومنقـولاً في أكثره عن عصورٍ مضت بمشكلاتها وإشكالياتها. نقل الطهطاوي عن السيوطي (من القرن العاشر الهجري)، وزكريا الأنصاري (من القرن الحادي عشر)؛ وكانت مشكلتهما إثبات أنـهما مجتهدان مطلقان (إلى جانـب الشعراني الذي ادّعى الأمر ذاته)، وليس من ضمن المـذهب الشافعي. وما أقصدُهُ من وراء التأكيد على علمهما الدينـي: ثقتهما بنفسيهما من حيث المعـرفة العميقة بالموروث الإسلامي (الفلسفي والروحي لدى جمال الدين، والكلامي والفقهي لدى محمد عبده)؛ وثاني تلك الأمور أو الميزات استقلاليتهما النسْبية طبعًا؛ إذ لم يعمل أيٌّ منهما موظَّفًا إبّان تطويرهما للمشروع الإصلاحي؛ وبذلك فقد جاء المشروع شاملاً أكثر مما قدَّرا، واستقطب من أجل ذلك مئات من النُخَب على مدى العالم الإسلامي. وثالث تلك الأُمور أنهما ملكا على مدىً معتبر، وسيلةً إعلاميةً للمشروع؛ من العروة الوثقى بباريس، وإلى المنار بالقاهرة (فضلاً عن الوقائع المصرية إبان الثورة العرابية). فكانا بين أوائل من أفاد من تلك الأداة الثقافية الحديثة في الدعاية لأفكاره؛ وأعني بها المجلة.
وصحيحٌ أنّ "العروة الوثقى" و"المنار" تبدوان لنا الآن كأنما هما كتابان وعظيان؛ لكنهما (وبالذات المنار) كانا وسيلةً حديثةً لنشر الأفكار والتوجهات؛ وبخاصةٍ المنار التي استمرت ستةً وثلاثين عامًا، ورابع تلك الأمور معرفة الرجلين بأوروبا وسياساتها الاستعمارية عن كثب؛ لكنّ معرفتهما، (وبخاصةٍ محمد عبده)، شملت أيضًا أوروبا الحديثة، ووسائل وآليات تقدمها وقوتها. ما كانت القاهرة فارغةً عندما أتى إليها جمال الدين الأفغاني، ذلك الرجل الغامض في سبعينيات القرن التاسع عشر. صحيح أنّ مشروع محمد علي كان قد انكسر، لكنّ التغييرات التي أحدثها ما كانت قد نسيت، والعشرات الذين أرسلهم إلى أوروبا صاروا مئات، وحركة الإصلاح العثماني كانت ما تزال تمضي نحو الذروة، وتجربة إسماعيل التحديثية (بما في ذلك استحداث حكومة، ومجلس شوري) تترك آثارها الهائلة على فئاتٍ واسعة من المجتمع.
ويكفي لمعرفة أهمية ما كان يجري أنّ القاهرة كانت تصدر فيها عدة صحفٍ ومجلات، وكذا الإسكندرية، وأنّ المثقف والسياسيَّ على حدٍ سواء كانا يشهدان بداياتهما. ومجيء جمال الدين للقاهرة ما كان أمرًا فريدًا من نوعه. فقد سبق للقاهرة أن شهدت إقبالاً أجنبيًا، ثم من جبل لبنان وسائر أقطار الدولة العثمانية للإفادة من حركة محمد علي لبناء الدولة الحديثة، واستمر هذا الإقبال بعد توقفٍ طفيفٍ أيام عباس الأول وسعيد، للعمل من جهة، وهذه المرة أيضًا بحثًا عن أُفقٍ جديد، تجنبًا للسلطة العثمانية ومضايقاتها في الشام كما في البلقان. ولا نعرفُ عرضًا مشهديًا للقاهرة الاجتماعية والثقافية فيما بين الستينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر، يشبه ذاك الذي نعرفُهُ لها إبّان الاحتلال الفرنسي (الجبرتي، وجومار)، ثم في الربع الأول من القرن العشرين، من خلال قصص نجيب محفوظ.
بيد أنه كان بين أبرز متغيرات النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهور المقهى وازدهاره. وما كانت المقاهي مكشوفة، كما أنها لم تكن مجالس لعلية القوم -في نمطها الراقي- بعد. كان المقهى الناشئ هو البيئة الجديدة لصغار الموظفين، وللغرباء الذي يلتمسون الاتصال بالمجتمع المصري؛ وهذا الجديد في البيئة التي نشر فيها جمال الدين دعوته ما كان يمكن له أن يبدأ في أحد المساجد، لأنه لم يكن يتحدث في الدين بالتحديد، وما كان يمكن له ذلك أيضًا لأنّ الذين يحضرون في المقهى كانت بينهم في البداية كثرة غير مسلمة، وما كان يمكن الذهاب إلى المسجد أخيرًا لأنّ جزءًا كبيرًا من الحديث كان سياسيًا. ويتنبَّه أبو المعاطي أبو النجا في كتابه "العودة إلى المنفى" إلى عاملٍ آخَرَ لظهور بيئة المقهى التي تشي بالمتغيرات، فالمصريون الذي كانوا يأتون إليه أيضًا بينهم ريفيون أتوا للقاهرة للتعلم أو للوظيفـة، ثم زلّت أقدامهم فوجدوا أنفسهم يهيمون على غير هدى، ويتحولون إلى فئةٍ عاجزةٍ عن التلاؤم والتأقلم؛ تملكُ ذلك القلق الذي نعرفُهُ عن المثقفين في باريس في تلك الفترة.
كانت أولى موضوعات الجلسات في المقهى ذات طابعٍ فلسفيٍ عام. ويبدو أنّ ثلاثةً أو أربعةً من أبناء الطبقة العليا كانوا يحضرونها، إلى جانب عشرةٍ أو أكثر من الفئة المتنوعة التي وصفناها.
ومعنى الحديث الفلسفي وقتها الحديـث النهضوي أو العلمي، بالاستناد إلى الترجمات عن تـطور العلوم والصنـاعات، والتي كانت تنقلها عن الفرنسية غالبًا المجلات التي كـان اللبنانيون يُصدرونها بالقاهرة والإسكندرية. ويُضافُ لذلك الحديث عن حروب الدولة العثمانية، وعن وقائع حركة الإصلاح فيها. ثم كيف يمكن تخليصُ الدولة العلية والمسلمين (كانوا يقولون: الشرقيين مراعاةً لغير المسلمين بينهم) من إطباق الأوروبيين عليهم، بالاستعمار المباشر وغير المباشر. ولا ندري متى وجد الأزهريون (من أمثال محمد عبده) طريقهم إلى تلك المجالس. والذي يبدو على أي حال أنهم لم يكونوا كثيرين. إذ ما كان الأزهري وقتها يجلس في المقهى لأنّ ذلك يمسُّ هيبته ورؤية الناس له. ثم إنّ الجلوس إلى غُرَباء وغير مسلمين دونما مناسبةٍ غير التواصل ما كان أمرًا محمودًا. ويقال إنّ محمد عبده تنبه إلى أهمية جمال الدين عندما كان الأخير يتحدث إلى مجموعة صغيرة بالأزهر بعد صلاة العصر، لفت انتباهه بثقافته العقلية (العلوم العقلية: الفلسفة والكلام)، والتي كانت قد أُهملت بالأزهر لصالح الفقه وعلوم النقل. وعلى أيّ حالٍ؛ فقد وجد محمد عبده نفسه حوالي عام 1875م في حلقة جمال الدين بالمقهى، يجلسُ إلى أُناسٍ متنوعين، يجمعهم أمران: النَهَم المعرفي، واستكشاف سُبُل الخروج من التخلف والاستعمار.
كان جمال الدين قد جاء من إيران وأفغانستان والعراق بوعيٍ مؤداه أنّ لمشكلة الشرقيين (المسلمين) قطبين اثنين: ديني وسياسي. وقد استخدم ثقافته العقلية في البداية للسيطرة على حلقة المقهى، التي كانت المعارفُ الفلسفيةُ والحديثةُ تُهمُّها، باعتبارها أساسَ النهوض. على أنّ دخولَ محمد عبده على الحلقة أحدث روحًا جديدة لا من حيث ذكاؤه وحماسه وحسْب؛ بل من حيث وعيه بانحطاط التعليم في الأزهر من جهة، وسُخْط الأزهريين لإهمال دولة محمد علي وأحفاده له. وبتأثير من الأخبار التي كانت تأتي للقاهرة عن حروب الدولة العثمانية التي كانت تنهزم فيها دائمًا تجاه روسيا والنمسا أو في البلقان، وبتأثير أيضًا من أخبار الإصلاح السياسي العثماني الذي وصل عام 1876 إلى إعلان الدستور، اتسع حديثُ الحلقة الجمالية ليشمل الموضوعين الديني والسياسي، وبدون حرج -لأنّ المتحدثين في الدين كانا جمال الدين ومحمد عبده وهما مسلمان- ولأنّ المتحدثين في السياسة كانوا من المصريين الذين يستمع إليهم جمال الدين، ويُسارع إلى عقد مقارنـاتٍ مع الدول الإسلامية الأخرى. ويقال إنّ جمال الدين كانت له علاقةٌ بتوفيق، ولي عهد إسماعيل، وأنّ توفيق كان شديد السخط على الأوضاع، وكان يتوق لتولي السلطة من أجل الإصلاح. وقد ظلَّ الإصلاحيون المسلمون ثم القوميون ينتظـرون طويـلاً "المستبدَ العادل"؛ إذ كان محمد علي قد تحول إلى أمثولةٍ ونموذج.
ثامنًا: محمد عبده كان يؤيد إقامة حكومة دستورية تتولى الأمر فيها نخبة واعية
طردت الحكومة المصرية جمال الدين عام 1879، على الرغم من أنّ توفيق ابن إسماعيل (المفروض أنه صديق لجمال الدين) كان قد تولّى السلطة، بعد عزل والده ونفيه. وفي حين لا يمكن تمييز مرحلتين في فكر جمال الدين وممارسته السياسية، لا بد من القيام بهذا الأمر بالنسبة لمحمد عبده.
فبعد الثورة العربية والاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، حوكم محمد عبده ونفي فذهب إلى تونس وبيروت، ثم التقى بجمال الدين بباريس، حيث أصدرا "العروة الوثقى" قُرابة السنة، ليعودا إلى الافتراق نهائيًا: محمد عبده إلى مصر بعد عودةٍ قصيرةٍ لبيروت، وجمال الدين إلى الطواف الذي انتهى به -بعد أن ضاقت به السُبُل- في أحضان السلطان عبد الحميد. ما كانت عند جمال الدين أفكارٌ واضحةٌ في الإصلاح؛ لكنْ كان همُّه توحيد المسلمين والشعوب الشرقية إن أمكن في مواجهة الاستعمار (البريطاني بالدرجة الأولى والروسي بالدرجة الثانية)، واستحداث وعي لدى المسلمين حكامًا ومحكومين بضرورات النهوض السياسي أولاً، والديني ثانيًا. وعلى الرغم من أنّ حلوله كانت ثورية (تحمَّسَ لثورة المهدي في السودان، وحرَّض على اغتيال شاه إيران)؛ فإنه ما كان يمانعُ في ظهور "مستبدٍ عادل" -وإن لم يثبت أنّ هذه العبارة جرت على لسانه- ويقصدُ به: حاكم يقيم نظامًا للعدالة في الداخل، ويعي ضرورة مصارعة الاستعمار.
ويبدو أنه حتى في مرحلة التوافُق مع جمال الدين، كان محمد عبده يؤيد -شأن المثقفين الذين كان يجتمع بهم في قهوة متاتيا بالقاهرة مع جمال الدين- إقامة حكومةٍ دستورية تتولى الأمر فيها نخبة واعية، تحدُّ من سلطات الحاكم وصلاحياته، باتجاه المساواة بين المواطنين (عرب وأتراك وشركس)، وتخصيص موارد الدولة لخير الناس، والتخلص من الهيمنة الأجنبية على مصر من طريق إدارة الدّين (مصر للمصريين). وقد تبينتْ ميوله هذه عندما تولّى رئاسة تحرير الوقائع المصرية، جريدة الدولة الرسمية، في فترة سيطرة العُرابيين على الأمور. ولا يمكن التمييز بين أفكار الرجلين في العروة الوثقى، التي يبدو أنهما كانا يشتركان في كتابتها وتحريرها. ويقال إنّ الصياغة كانت لمحمد عبده، لكنها لا تشبه أُسلوبَهُ الذي عرفناه في العقد ونصف العقد الأخير من حياته.
وتسودُ العُروةَ الوُثْقى لهجةٌ خطابيةٌ تتركز في أمرين: التوعية السياسية بالاستعمار ومخاطره وطرائق مكافحته، ودعوة المسلمين لنبذ الفُرقة الناجمة عن الصراعات الإقليمية والسياسية والمذهبية، أو الناجمة عن الممارسات الدينية التي سادت في عصر الانحطاط. وقد تكررت هذه الآراء من جانب جمال الدين في إسطنبول (في الخاطرات التي نشرها عن مجالسه محمد باشا المخزومي). ويعني ذلك أنّ هذه الآراء هي في الأساس له، أو أنّ محمد عبده كان ما يزال يشاركُهُ إيّاها. وليس في تلك الآراء شيءٌ خاصٌّ لافت للانتباه، باستثناء ذلك الوعي الإسلامي العامّ، وأنّ المسلمين أمةٌ واحدةٌ تتعرض لمشكلةٍ رئيسية هي الاستعمار، وأنّ المنقذ من ذلك مجيء حكام واعين يقدّمون مصلحة بلادهم على كلّ أمرٍ آخر، ويتوحدون مع شعوبهم من أجل النهوض، ومقارعة الغُزاة.
ولأنّ كتابات جمال الدين قليلة؛ فقد يكونُ مُفيدًا العودة (خارج مقالات العروة الوثقى والرد على الدهريين) إلى مناقشـاته في الصحافة الفرنسية مع إرنست رينان وهانوتو، والتي شارك فيها محمد عبده. أما رينان فهو من كبـار علماء الساميّات، وله دراسـةٌ مشـهورةٌ عن الرشـدية اللاتينيـة (ترجمها عادل زعيتر إلى العربية في الخمسينيات). وكـان له رأيٌ في قصور العقـلية الساميـّة (العبرية والعربية)، وفي انحطاط الشرقيين.
وقد ردَّ عليه جمال الدين أو ناقشه في ذلك؛ فأوضح أنّ الانحطاط ليس ناتجًا عن القصور العقلي أو الدين، وأن مشكلة المسلمين والشرقيين في سوء حكامهم، وفي الاستعمار القاعد على أنفاسهم. وذكر شاهدًا على إمكان نهوض المسلمين عبر دولة محمد علي، والتي ضربها البريطانيون والفرنسـيون على حـدٍ ســواء.
أما هانوتو فهو سياسي وكاتب فرنسي، رأى أن للاستعمار رسـالةً تمدينيةً، لأن المسلمين منحطّون، وحكّامهم غير صالحين. وقد ناقشه كل من جمال الدين ومحمد عبده في أن الإصلاح لا يأتي من الخارج، وأن التمدن الأوروبي الزاهر سيفشل لدى الشرقيين إن كان مفروضًا من الخارج. وهكذا فقد كان الأفغاني ثوريًا محترفًا، تتقدم لديه الاعتبارات السياسية على كلّ ما عداها. وقد كان أكثرما يقلقُهُ تكالُبُ الأوروبيين على استعمار الشرق وبلاد المسلمين، وعدم تنبه السياسيين المسلمين لذلك بحيث يتوحدون في مواجهته. وقد وضع أملَهُ في آخِر حياته في الجامعة الإسلامية، التي كان السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909م) يتزعم الدعوةَ إليها، باعتباره رمزًا لوحدة الإسلام، والشرعية السياسية للأمة التي هو خليفتها.
ونعرفُ مما انكشف من وثائق ورسائل وتقارير استخبارية في الثلاثين سنةً الأخيرة، أن الرجلَ ما كان أفغانيًا بل إيرانيًا. وأنه قضى فترة الشباب بين إيران وأفغانستان والعراق. وأنه أخفى ذلك كلَّه حتى لا يتأثر تحركه في العالم السُنّي. وأنه ربما تكونُ له علاقات ببعض الأجهزة والسلطات في فرنسا وبريطانيا وروسيا. ويريد خصوم قدامى، وباحثون معاصرون، التشكيك في إيمانه، وفي أمانته للقضايا التي قضى حياته يعملُ من أجلها.
بيد أن الثابت والظاهر من انطباعات مُعاصريه عنه، أنه كان يعتبر نفسَهُ سيّدًا (من سُلالة النبي)، وأنه كان عميق الاقتناع بقدرة الدين على استنهاض المسلمين. ولذلك؛ فإن اهتمامه ما كان منصبًا على القيام بإصلاح ديني (حتى لا تتفرق الكلمة)؛ بل الاعتماد على عواطف الجمهور ونوازعه الإيمانية لمُجاهدة المستعمرين، ومكافحة الظَلَمة والمستبدين. ولو كان انتهازيًا وضعيف الدين -كما اتهمه مفكرو الصحوة الإسلامية، وسخر منه من أجل ذلك المستشرقون- لاستطاع الاطمئنان إلى جوار هذا الحاكم أو ذاك، أو هذا الوجيه أو ذاك، أو هذا الطرف الاستعماري أو ذاك. بينما الواقع أنه قضى حياته متنقلاً قلقًا معذَّبًا في كل مكانٍ قصده، دون أن يخطر بباله اعتبار نفسه ضحية. وقد كان مقتنعًا بإمكان تهييج العامة والخاصة على المستعمرين وعلى الحاكمين، وفي كلّ الحالات بواسطة الإسلام. وما كان الرجل من الحنكة والصبر بحيث يعملُ كالجيل الذي أتى بعده، على الفتنة بين المستعمرين أو الحكام، رغم أنه حاول ذلك.
وأرى أنَّ أهمَّ ما تركه من آثار في الحقيقة، تسييس الإسلام، وتحويله إلى عامل مؤثّرٍ في السياسات الدولية. وأعتقد أنّ هذه الحملات الاستشراقية والاستعمارية والتي توالت منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، ضد فرضية الجهاد (سمَّوها الحرب المقدسة)، وقع في أصلها ما تنبهوا إليه من خلال كتابات جمال الدين، الذي كان مُصِرًّا على أنَّ المسلمين إنما يدافعون -شأن سائر البشر عندما يتعرضون للغزو والسحق- عن أنفُسهم بهذه الطريقة.
وتذكر تقاريرُ هندية وبريطانية أنّ جمال الدين، كان شديد السُخْط على السيد أحمد خان، الذي كان يُحاجّ في فرضية الجهاد، خوفًا منه على مسلمي الهند أن يتعرضوا للإبادة إن ثاروا. وكانت وجهة نظر جمال الدين أنه لا يمكن اعتبار الهنود مسلمين وغير مسلمين، مستضعفين. لكن حتى لو كانوا كذلك؛ فيمكن إقامة العذر لهم، دونما إلغاءٍ لفرضية الجهاد عندما تتوافر القدرة.
تاسعًا: محمد عبده لم ينج من التقليد أو إشكاليته فهو يلجأ للتأويلات
تغيرت أمور أساسيةٌ في شخصية محمد عبده ودعوته بعد مغادرته باريس وجمال الدين عام 1887م. وما كان ذلك مفاجئًا في الحقيقة لمن يتتبع اهتماماته بدقةٍ منذ العام 1884. ففي ذلك العام كتب في بيروت "رسالة التوحيد"، ثم صدرت له في آخِر حياته حاشيته على شرح الدواني للعقائد العضدية (1904). وهكذا فمحمد عبده يُعطي أولويةً للإصلاح الديني. ولا يرجع ذلك لاعتقاده ضرورةَ ذلك وحسْب؛ بل لاعتباره أنّ هذا مجالٌ يمكنُهُ السيطرة عليه، وقول جديدٍ في نطاقه. ولا شكَّ أنّ تفسيره للقرآن (الذي عُرف فيما بعد بتفسير المنار، لأنه نُشر أولاً على حلقات بمجلة المنار) هو أهمُّ النصوص التي يمكنُ تتبع آرائه في الإصلاح من خلاله؛ لكنّ نصَّيه الكلامين (الرسالة، والحاشية) تشير إلى الخطوات التي رأى إتّباعَها للانطلاق في الإصلاح والتغيير الإسلامي.
لقد رأى أنّ الإصلاح العَقَدي له أُولوية. فالعقائد العَضُدية هي النص السنّي الأشعري الرئيس في العقائد لدى المتأخرين، ولذلك كثُرت عليها -إلى جانب العقائد النَسَفية- الشروحُ والتعليقات. ركّز الشافعيةُ بالمشرق على العقائد العَضُدية (نسبة لعضُد الدين الإيجي الذي عاش في القرن الثامن الهجري)، بينما ركّز الأحناف على العقائد النَسَفية (نسبة للنَسَفي من القرن السادس الهجري).
بيد أنّ العقائد العضُدية ظلّت أهمّ لدى الأزهريين، رغم ميل العثمانيين الحاكمين للنَسَفي الماتريدي.
تمثَّل التجديد العَقَدي لدى محمد عبده بالتركيز على ثلاثة أفكار -والاستغناء في الاستدلال عليها عن الموروث المنطقي والفلسفي والجدالي، الذي جعل من المباحث العقدية أُحْجيةً تستعصي على التفكيك والفهم- الفكرةُ الأولى: وجودُ الله ووحدانيتُهُ استنادًا إلى العقل والفطرة معًا، وليس انطلاقًا من مقولات الوجوب والإمكان، والقِدَم والحدوث. والفكرة الثانية: النبوة باعتبارها رسالةَ هدايةٍ وإصلاح أخلاقي، تتدرج بها دعواتُ الأنبياء والرُسُل وصولاً لخاتم المرسَلين محمد - صل الله عليه وسلم -. والفكرة الثالثة: الشرائع باعتبارها مُرشدًا للسلوك البشري، وتواصُل الناس، وعيشهم معًا؛ بالهداية الإلهية، وبإصغاء البشر العقلاء لأخلاق النبوة، ولمقتضيات العقول والمصالح.
وقد حار الباحثون الذين حاولوا تحديد مقاصد الشيخ عبده من وراء بدئه بالعقائد، وبخاصةٍ أنّ رسالة التوحيد، تبدو أكثر تحررًا من حاشيته على العقائد العضدية وشروحها. فقال البعض إنه يبدو أميل للاعتزال في بعض المباحث (مثل الحُسْن والقبح وهل هما عقليان أم شرعيان)، وقال أستاذنا الشيخ سعاد جلال في الستينيات إن الأصالة ضئيلةٌ في رسالة التوحيد، وفي حاشية العقائد العضدية. وحاول أستاذنا الآخر الشيخ سليمان دنيا (في كتابه عن محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين) التدليل على أنّ الإمام أراد الخروج من إسار اللاهوت (علم الكلام) إلى الفلسفة بتأثيرٍ من شيخه جمال الدين. ويبدو لي أنّ إشكالية الشيخ عبده كانت جديدةً تمامًا، وأشبه بما دعا إليه شبلي النعماني المفكر الهندي فيما بعد.
أراد الشيخ عبده الخروج على التقليدية السنية ليس باتجاه الاعتزال أو الفلسفة؛ بل باتجاه ما عُرف فيما بعد بعلم الكلام الجديد. وطبيعي أن لا يمتلك الحرية نفسها في حاشيةٍ على نصٍ مدرسيٍ سابق (مثل العقائد العضدية). لكنه في الحالات كلّها (مثل تعليقاته على آيات الكون والطبيعة في تفسير المنار) ما كان يدعو لإنتاج منظومةٍ عقديةٍ بديلة؛ بل الخروج من المنظومة القديمة باتجاه نظامٍ أخلاقي أو نظام يستند إلى الأخلاق باعتبارها قيمًا مطلقةً أصلُها الإطلاقيةُ الإلهية؛ بحيث تكونُ الخطوةُ الثانية اعتبار القرآن والإسلام نهجًا للحياة، يبعثُ معناه الأخلاقي الكبير الروح في التشريع الإسلامي أو الفقه الإسلامي.
ولا مهرب من التعرف هنا على الخلفيات الدينية والثقافية التي كانت تحفلُ بها البيئات في مصر وأقطار الدولة العثمانية، حتى قبل ذهاب الشيخ إلى باريس ولندن. كان السلطان عبد الحميد مهتمًا بالتجديد الديني والسياسي على طريقته. وعندما كان عبده في بيروت، كانت أكثر الكتب العَقَدية انتشارًا الرسالة الحميدية، ثم الحصون الحميدية للشيخ حسين الجسر، وهي تمزج الأشعرية بالتصوف والروحانيات القديمة المستمدَّة من الغزالي. وهكذا جاءت رسالة التوحيد ردًا على "تجديد التقليد" الذي حاوله علماءُ الدولة. وعاد الشيخ عبده فدرّس رسالة التوحيد بمصر في التسعينيات؛ لكنه عندما رأى أنها لن تتحول إلى نصٍ مدرسيٍ بالأزهر، كتب حاشيته على الدواني والعقائد العضدية، وقال فيها الأشياء نفسَها؛ لكنْ بلغة المتكلمين ومصطلحاتهم.
ولا يعني ذلك أنّ عبده نجا من "التقليد" أو إشكاليته مطلقًا. فهو يلجأُ كثيرًا للتأويلات، ووجوه التشكلات الكلامية؛ لكنه يفعلُ ذلك ليس احتيالاً أو خوفًا من العامّة؛ بل لوضع المنظومة كلّها في سياقاتٍ جديدةٍ تخدمُ عمليات تجاوُزِها بالاتجاه الذي يريده (كما هو شأن كلّ المجتهدين المسلمين الكلاسيكيين في تغييراتهم)، دون أن يستعمل في ذلك النقد الجذري العنيف الذي استخدمه آخرون مثل رفيق العظم أو السلفيين (مثل جمال الدين القاسمي) فيما بعد، أو التحديثيين السذّج (مثل الشيخ طنطاوي جوهري). والملاحَظ أنه بخلاف شيخه جمال الدين شديد التأثر بالعلوم التي كانت متداوَلةً أيامه، وعلى رأسـها التطورية الداروينية، كما آلت إليه على يـد هكسلي وسـبنســر.
جمال الديـن بدأ نشاطه الكتابي المعروف بالرد على الدهرييـن (التيار الإلحادي في الداروينية الاجتماعية). بينما أخذ محمد عبده عن الداروينيين فكرة السُنَن، وطبّقها على السُنَن الإلهية الواردة في القرآن. ذكر محمد عبده ومُعاصروه وتلامذته نوعين من السنن: السنن الطبيعية (في النظام الكوني)، والسنن الاجتماعية (تطور الأُمم والمجتمعات والدول). وأنا أرى أنّ هذه هي الفكرة الرئيسة الأولى في تفسير المنار. أما الفكرةُ الثانية في التفسير عنده، فهي فكرةُ المصالح والمقاصد. وقد استخدمها في قراءة الأحكام الشرعية، كما استخدمها في تسويغ الاجتهاد. أمّا مسألة السُنَن فقد قرأ من خلالها عوامـل النهوض والانحطاط، باعتبار أنه لا عجائبَ ولا معجزات بعد خاتم الأنبياء. ثم إنّ النصَّ القرآنيَّ لا يترك مجالاً لغير القول بالارتباط بين الأسباب والمسبّبات في العوالم الحضارية والأُممية والاجتماعية. فللنهوض سُنَنُهُ التي اتبعها المسلمون الأوائل، والغربيون المعاصرون، فأفضت إلى هذا الظهور الحضاري الكبير في الحالتين. وللانحطاط عللُهُ وأسبابُهُ التي لا تتخلَّّفُ نتائجُها إذا استتبّتْ أسبابُها.
وفي حين كان محمد عبده (حتى إبّان صحبته لجمال الدين) مقتنعًا تمامًا بهذه الفكرة، كان جمال الدين (ربما لاختلاف الأَولويات لديه) يرى أنّ تحرر المسلمين من الاستعمار بالعمل السياسي الوحدوي يؤدي إلى التقدم، وفي حين كان عبده يرى (ما أوضحه مالك بن نبي بعد أكثر من نصف قرنٍ على ذلك) أنّ الاستعمار نتيجةٌ وليس سببًا، وأنه لو لم تكن هناك أسبابٌ ذاتيةٌ لدى المسلمين لما نجح الاستعمارُ في الاستيلاء على ديارهم. ولذلك يُروى أنّ جمال الدين، كان يقولُ له عندما يرى تشاؤمه ويأسه: إنما أنت مثبِّط! وبَيْن فكرة السُنَن الحاكمة، ومقاصد الشريعة، يقعُ مشروع محمد عبده للإصلاح الديني بالتمام والكمال.
عاشرًا: الشاطبي فقيه مالكي أبدع نظرية في المصالح
لا نعرفُ بالضبط متى عثر محمد عبده على مخطوطة كتاب الشاطبي (790هـ/1388م): الموافقات في أصول الشريعة. وربما نبَّهه إليها بعض التونسيين عندما زار تونس (1884-1885م) أو بعد ذلك. والشاطبي فقيهٌ مالكيٌّ كبيرٌ عاش في القاهرة في القرن الثامن، من أصولٍ أندلسية. وقد أبدع نظريةً في المصالح، باعتبارها أساسًا ممكنًا للأحكام الشرعية، ليس استنادًا إلى التعليل، على الطريقة القياسية للفقهاء؛ بل نتيجة استقراءٍ (كما قال) للقرآن والسنة وأعمال الفقهاء الأوائل. والمعروف أنّ المالكية تحدثوا في أصُولهم عن مصدرٍ أو دليلٍ فرعيٍ سمَّوه المصالح المرسلة، وهي التي تُدْرَكُ بالعقل وليس لها أصلٌ نصيٌّ في الكتاب أو السنة، كما أنها لا تُعارضُ نصًّا قطعيًا. وأقبل بعضُ فقهاء المالكية والحنابلة على التوسُّع في مسائل المصالح في القرنين الخامس والسادس للهجرة (بل هناك نصٌّ فريدٌ عند الجويني الشافعي نقله عنه تلميذه الغزالي يسير في هذه الوجهة أيضًا). وإلى هذه النصوص العامّة الحنبلية والمالكية (بل إلى كلام الحنفية في الاستحسان) استند خير الدين التونسي، السالف الذكر، في مقدمة كتابه: أقوم المسالك، ليذكر المصلحة باعتبارها الأساسَ الشرعي لاستحداث مؤسسات الدولة الحديثة، القادرة على دفع السيل الغربي عن المسلمين.
وما كان التونسي بحاجةٍ للمجيء بهذه النصوص غير المباشرة، لو أنه عرف -عندما كان يضعُ كتابـه- الفقيـه الشاطبيَّ الذي قال بوضـوحٍ وصراحةٍ إنّ الشـرائع كلَّها (وليس الشريعة الإسلامية وحسْب) إنما أُنزلت رعايةً لمصالح العباد التي تنحصر أصولُها في خمسة: حق الدين، وحق النفس، وحق العقل، وحق النسل، وحق المِلْك. وفي كلّ مبدأ من هذه المبادئ (إذا صحَّ التعبير) مستويات بين ضروري وحاجي وتحسيني.
بدأ محمد عبده يستعملُ هذا النصّ في تسعينيات القرن التاسع عشر، للاستدلال على ضرورة التغيير في المشروعين الديني والسياسي. فكُلُّ أمرٍ في عالَم أوروبا أو الإسلام تتبين فيه مصلحةٌ عامةٌ للمسلمين، أي أنه يُسهمُ في صَون الضروريات الخمس، يَحْسُنُ بل يجبُ اقتباسُه باعتبار المصلحة شرعًا من الشرع ولا حُجَّةَ لمن قال إن في ذلك تجاوزًا للنصوص أو مقتضياتها، أو للقياس وآلياته.
فالتعليم العامّ ما كان فرضًا في أول الإسلام، أو في عصوره الوسيطة، رغم استحثاث الإسلام على العلم، ورغم كثرة المدارس والمعاهد الموقوفة في تلك الأزمنة. لكنّ التعليم الآن صار ضرورةً من الضرورات لإنهاض المجتمع الإسلامي، والوصول إلى التقدم، ولأنَّ الأمر كذلك فلا داعيَ للاستدلال الكثير على جواز إنفاق المال العامّ، من أجل تحصيل "العلوم الدنيوية" المزدهرة بأوروبا. وكذا الأمر مع الجيوش ومؤسسات الدولة ونشاطاتها الأُخرى. لكنْ ليس هذا فقط؛ بل إنّ مسألةً حساسةً مثل تعليم المرأة، تدخُلُ ضمن "المصالح العمومية"، أو الضروريات، باعتبارها نصف المجتمع المعطَّل. وإذا قصَّرت مسائل المصالح في إقناع المتشككين من المتدينين والأزهريين؛ فهناك مسألة السُنَن الاجتماعية، ذات التنصيص القرآني، والتي تجعلُ لكل مسبَّبٍ سببًا أو علّة. والمعروف في أصول الفقه أنَّ المعلولَ يدور مع العلة وجودًا وعدمًا. والتعليم العامّ وحرية المرأة وحكم القانون والعدالة؛ كل ذلك أسبابٌ وعلَلٌ للتقدم، أو أنّ النهوض لن يتحقّق بدونها.
عندما رجع محمد عبده لمصـر جرى تعيينُهُ في مجلس شورى القوانين، وفي المجلس الأعلى للأوقاف. ثم صار مفتيًا لمصر. بيد أنَّ الأهمَّ فيما نشط فيه، كان إطلاقه لحركةٍ شاملةٍ علمية ونقاشية ونشْرية. فقد أوى إليه المتعلمون الجُدُد من أبناء الطبقة الوسطى الجديدة، وبعض عِلْية القوم رجالاً ونساءً. فحرَّك من حوله مجموعةً من الشباب للتأليف في الموضوعات الجديدة. وآخرين لنشر النصوص القديمة المفيدة. وبعض نُبهاء الأزهريين لإطلاق دعوةٍ من أجل التجديد بالأزهر. وانصرف هو للمشاركة في هذه النشاطات كلّها، وفي الإشراف على ما لم يستطع القيامَ به بنفسه. وبسبب السُمعة التي انتشرت له، قَصَدَهُ رشيد رضا من طرابلس عبر بيروت، وأنشأ بمعاونته مجلة المنار، التي أقبلت منذ أعدادها الأولى على نشر مقالاته ودروسه في التفسير. وكما نشر قاسم أمين (مُريد محمد عبده) بإشرافـه ومعاونتـه كتابيه في تحرير المرأة، والمـرأة الجديدة، جاء عبد الرحمن الكواكبـي (1903م) إلى القاهرة، وكتب ونـشر المقـالات (بالمنار والمؤيَّد) والتي ظهرت في صورة كتابين فيما بعد: أُمّ القرى، وطبائع الاستبداد.
ومع أنّ العمل السياسيَّ المباشر ما كان من أهدافه، فقد التفّ من حولِه كلُّ الإصلاحيين، الذين اعتنقوا فكرته حول التخلُّف الذاتي، وضرورات العمل الدؤوب والمتأني والطويل المدى من أجل النهوض. وكما كان له أنصـارُهُ الكُثُر، ظهر له خصومٌ كثرٌ أيضًا، من أَوساط التقليديين بالأزهـر، وأوساط الخديوي توفـيق، ثم عبـاس الثاني (1894-1913). وجاءت عداوةُ عباس الثاني له من تدخُّله لمنع الخديوي من الاستيلاء على الأوقاف، ومن استخدام الأزهر لمعارضة دعوات التجديد والإصلاح، على أنّ الذي أضرَّ بدعوته الإصلاحية بشدَّة، كان خلافُهُ مع مصطفى كامل (1906م) زعيم الوطنيين المصريين، حول الأَولويات: مكافحة الاستعمار البريطاني لمصر أم التركيز على التجديد والبناء والإصلاح الداخلي، وإنْ بمساعدة الإنجليز، أو بتجنُّب الاصطدام بهم. ولا نعرفُ لمحمد عبده موقفًا واضحًا من السلطان عبد الحميد وخلافته وجامعته الإسلامية. لكنّ الخديوي ومصطفى كامل كانا يريان ضرورة الاستعانة بالنفوذ المعنوي لأمير المؤمنين ضد الاحتلال البريطاني. كما يريان أنّ محمد عبده يُحابي المندوب السامي البريطاني، ويستعين به أحيانًا ضد تصرفات الخديوي. وليس هذا فقط فالوطنيون المناضلون ضد الاستعمار، ما كانوا يرون مصلحةً في الخروج على التقليدية الإسلامية التي يجتمع وعي الناس من حولها، ويمكن استخدامُ هذا الوعي في عمليات مكافحة الاستعمار؛ بدلاً من الدخول في حركةٍ تجديديةٍ يمكن أن تشقّ الصفوف، وتُلهي عن العدو الأجنبي.
والمعروف أنه اجتمع حول محمد عبده مثقفون وأرستوقراطيون وشـوام، كانـوا جميعًا يُعـادون عبد الحميد الثاني، إمّا لأنه ألغى الدستور وأعاد حكم الاستبداد، أو لأنهم يرون ضرورة إزالة العثمانيين لصالح دولةٍ عربية. وكان من هؤلاء الإصلاحيين رشيد رضا والكواكبي ورفيق العظم وقاسم أمين وولي الدين يكن. لكنْ عندما توفي الشيخ عبده فجأةً عام 1905، كانت الحركة الإصلاحية قد انطلقت، كما كان تلامذته ومريدوه قد صاروا ظاهرين في الحياتين الثقافية والعامة. وقد ظلَّ النهضويون والإصلاحيون المصريون والشوام يستندون إليه حتى ثلاثينيات القرن العشرين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:12 pm

حادي عشر: الشيخ محمد رشيد رضا نبّه الناس إلى وجود تيار سلفي يمكن أن يكون قويًا
ما ظهرت لوفاة محمد عبده (1905م) آثارٌ سلبية مباشرة على حركة الإصلاح. فقد تأسست الأحزاب المصرية عام 1906، وفي عام 1908 أُعلن عن إنشاء الجامعة الأهلية بمصر؛ وفي كلتا الحالتين أرجع أُناسٌ الفضل في ذلك لمحمد عبده. وبقيت هناك أمورٌ أُخرى بدا الإصلاح مستمرًا فيها: قضية المرأة كما ظهرت في كتابي قاسم أمين، وقضية الحرية في مواجهة الاستبداد، كما ظهرت في كتابي عبد الرحمن الكواكبي.
وحدث الانقلاب على عبد الحميد الثاني عام 1908، وتجددت آمالٌ كثيرةٌ بإمكان الإصلاح، في الدولة العثمانية كما في مصر. وذهب رشيد رضا إلى إسطنبول عام 1910، حيث قضى عدة أشهر، فعاد من هناك بمشاعر مختلطة، وبخوفٍ على العرب والمصالح العربية من موجة التتريك التي رآها تتصاعد في أوساط كهول الاتحاد والترقي، من ذوي المواقع المؤثرة في السلطة الجديدة.
وبدأت تتكون جمعياتٌ سريةٌ عربية بإسطنبول، وفي عواصم بعض الولايات العربية مثل بيروت وطرابلس وبغداد وحلب ودمشق. وكان أبرز تلك الحركات "حزب اللامركزية" الذي كان أعضاؤه يريدون البقاء ضمن الدولة العثمانية؛ لكن على أساس الحكم الذاتي أو الفيدرالية. وفي عام 1911 غزت إيطاليا ليبيا، وما استطاعت السلطنة الدفاعَ عنها، فعقدت صُلحًا مع الإيطاليين، وانسحب جنودُها عام 1912، تاركين بعض الضباط في صورة متطوعين، وقد كان من بين هؤلاء مصطفى كمال. وفي عام 1912 أيضًا نشبت أحداث تمرد بالبلقان، ففقد العثمانيون كل أراضيهم هناك، والتي بقوا فيها لما يزيـد على الأربعمائة عـام. وهذا الضعف المروِّع في السـلطنة، رغم الديمقراطية والدســتور، هو الذي دفع نخبًا عربيةً للّقاء بـبـاريــس في "المؤتمر العربي" عام 1913. وقـد كـان رشــيد رضـا من بين الحضـور، وطُرحت أفكار ومـشــروعـات تجاوزت اللامركزية باتجاهين: اتجاه الانفصال الكامل عن الدولة العثمانية لإنشاء كياناتٍ مستقلةٍ تمامًا، واتجاه البقاء مع الدولة حتى لو لم تعط العرب الحكم الذاتي أو اللامركزية. وجاءت الحرب العالمية الأولى فعصفت بالدولة العلية وبالعرب من رعاياها على حدٍ ســواء. وزاد الطين بلّةً خوض الدولة الحرب إلى جانب النمسا وألمانيا في مواجهة بريطانيا وفرنسـا الدولتين الاســتعماريتين الكبيرتين في الـشــرق آنـذاك.
وكانت عواطف العرب مع الدولة، لكنّ بعضَ النُخَب بالشام والحجاز سعت للتخلص من نير العثمانيين من طريق اللجوء إلى فرنسا أو بريطانيا. والمعروف أنّ الهاشميين الحاكمين وقتها بالحجاز تفاوضوا مع البريطانيين طويلاً على دولةٍ عربيـة في بلاد الشام، تكونُ عاصمتُـها دمشق. بيد أنّ مفاوضـات سايكس (البريطاني) وبيكو (الفرنسي) حول المستقبل بعد الحرب أظهرت الرغبة في أن تأخذ فرنسا لبنان وسورية، وبريطانيا فلسطين والعراق؛ حيث تعهدت للمنظمة الصهيونية العالمية بأن تُساعد في إقامة كيانٍ يهوديٍ على أرض فلسطين.
وعلى أي حال؛ فقد وقعت الهزيمة، وسيطر الجنرال مصطفى كمال فألغى الخلافة، وأقام دولةً قومية الميول، وما لبث أن تخلّت عن الأراضي العربية؛ باستثناء الإسكندرون التي ضمها إلي تركيا (1937) بموافقة بريطانيا وفرنسا. أما البريطانيون والفرنسيون فقد حصلوا من عصبة الأُمم عام 1920 على قرارٍ يسمح لهم بالانتداب على سائر البلدان العربية تقريبًا. وليس المهمّ هنا متابعة التطورات السياسية بعد الحرب. فقد فهم الناس أنّ هؤلاء مستعمـرون، وأنهـم قد يحكّمون الصهاينة في رقابنا (1931). وفي الوقت نفسه صارت هناك هجمةٌ على الجبهة الثقافية تجلّت بإعلان علي عبد الرازق، أنه لا يعرف للإسلام نظريةً سياسية. كما قال طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي"، كلامًا معناه أنه إن لم تكن الوقائع التاريخية والأثرية تؤيد النصَّ الدينيَّ، فهو ليس مستعدًا لقبول وجود إبراهيم التاريـخي. وانطلقت حركـةٌ نقديةٌ قويةٌ ضد علي عبد الرازق. لكن في الوقت نفسه كانت الخلافة كلها قد أُلغيت، وأُقيمت المؤتمرات من أجل إعادتها، في الهند والقاهرة ومكة، وانتهى الأمر بعد ردودٍ كثيرةٍ من وجهة نظر أدبية، بتغلُّب اتجاهات المحـافظة والتشدد تجاه الغرب. رأى الناس الخلافة تسقط. كما رأوا أنّ ديار أمتهم يحتلها الأجنبي. والإسلام يتعرض لهجماتٍ في عُقر داره. ولذلك فقد انتشر وعيٌ بالخطر، وخوفٌ على الوجود والمستقبل. ووسط هذه الأجواء بدأت معالم الفكر الإسلامي المعاصر بالظهور.
يعتبر الإحيائيون المسلمون أنّ الإسلام في خطر، ولذلك لا بد من الحفاظ عليه بكل الوسائل. أما الأخطار فتتمثل في الاستعمار القائم، وفي تحوله إلى غزوٍ ثقافي (التغريب). فالمطلوب الآن أتباع سياسات هوية لحفظ النفس والأرض والدين؛ من المدارس وإلى الكشافة وسائر النشاطات، لأنّ الإصلاحيين أسرفوا في التغريب. ثم إننا نقتبس من الغرب منـذ حوالي الـ100 عام؛ وما حدث تحسنٌ ملحوظ. بل الذي حدث زيادة التغريب، ومدارس الإرساليات، والاستخفاف بديننا وكرامتنا. وسرعان ما تحول نزوع الهوية هذا إلى سياساتٍ واستراتيجيات، وتكونت أحزاب إسلاميةٌ للعمل على المشروع؛ وبخاصة في مصر وسوريا والعراق. وحلَّ تدريجيًا همُّ صَون الهوية والخصوصية محلَّ الهمّ الذي كان سائدًا لدى النهضويين، والذي يقولُ بالتقدم. وقد كان موقف رشيد رضا حاسمًا لهذه الناحية. فقد ظلَّ رضا على احترامه الشديد الظاهر لعبده وذكراه، لكنه تراجع تدريجيًا عن أكثر ما كان يكتبه عندما كان عبده حيًا. دافع عن الخلافة وطالب بعودتها، على الرغم من أنه كان من أنصار الانفصال عنها بكيانٍ في بلاد الشام، أو بخلافةٍ عربية. وهاجم قضية المـرأة بعد أن كان قد رحّب بكتـابي قاسـم أمين في مجلته (1901).
وانحاز للملك عبد العزيز آل سعود في صراعه مع الهاشميين، لأنّ الهاشميين تآمروا مع البريطانيين ضد الدولة العثمانية قبل سقوطها. بيد أنَّ أبرز تأثيرات تغير موقف رضا وبعض أبناء جيله أمران اثنان: تنبيه الناس إلى وجود تيار سلفي يمكن أن يكون قويًا، وأنّ النظام السياسي في الإسلام نظامٌ مدنيٌ، لكنْ يكونُ عليه أن يطبِّق الشريعة بخلاف مقولات عبد الرازق، الذي يرى أنّ الإسلام لا يملك نظامًا سياسيًا. وقد كانت لدى رضا وأبناء جيله مجلةٌ مهمةٌ هي المنار التي استخدمها من قبل للتصدي لتيارات الغزو الثقافي، والتجديد في الدين، والنهوض، وهي اليوم (في مطلع ثلاثينيات القرن) بيئة نقاشٍ وفتاوى وتفسيرٍ للقرآن.
وهكذا انتهى محمد عبده وتأثيره فعليًا في الثلاثينيات. فقد تصاعدت أمواج السخط على الغرب وعلى الاستعمار، وصار الإصلاحيون التحديثيون، أو المعتدلون تُجاه المستعمرين، مضغةً في الأفواه. وبدأت الإحيائية التأصيلية تكسب الأرض، وظهر للسلفية الجديدة أنصارٌ ليس في مصر وحسْب.
ثاني عشر: الإحيائية الإسلامية الجديدة في حقبة ما بين الحربين العالميتين اتخذت استراتيجيات جديدة في قيام التنظيمات والجمعيات الحزبية
اتخذت الإحيائية (الأُصولية) الإسلامية الجديدة في حقبة ما بين الحربين العالميتين إستراتيجياتٍ جديدة، تمثلت في قيام التنظيمات والجمعيات الحزبية وشبه الحزبية، كما تمثلت في الإنتاج الثقافي والديني الغزير: في مكافحة التغريب (من خلال نقد الاستشراق والاستعمار والتبشير)، وفي بناء النموذج البديل. تمثلت مكافحة التغريب، سعيًا وراء الهوية النقية في إصدار مئات الدراسات في إدانة الحضارة الغربية، وبخاصةٍ في جنايتها على المسلمين والبشرية في الحربين العالميتين اللتين أهلكتا ما يزيد على المائة مليون من البشر في سائر أنحاء العالم. وصار الهجوم على التبشير والاستشراق موضوعين محبَّبين، وما يزالُ الأمران سائدين حتى اليوم. ففي تسعينيات القرن العشرين، وعندما ظهرت مقالة هنتنغتون عن صِدام الحضارات، تجددت حملاتُ الإسلاميين العرب على الحضارة الغربية، وعلى سياسـات الهيمنة الأمريكية، على أثر حرب الخليج الثانية. وما كان ذلك جديدًا؛ إذ بدأ الأمر في أربعينيات القرن، وتقدم فيه المودودي والندوي الهنديان، ثم تبعهم العربُ وعلى موجات طوالَ الخمسين سنة الماضية. أمّا الاستشراق فقراءته النقدية أقدم، وبدأ نقده جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وصولاً لمحمود شاكر ومحمد البهي ومصطفى السباعي. وقد كان هؤلاء يعرفون المستشرقين ومؤلَّفاتهم عن كثب، ويميّزون بين العدوّ والموضوعي والصديق. فلما ازداد الإسلاميون راديكاليةً لاصطدامهم بالأنظمة العربية والإسلامية، وارتفعت أمواج الحرب الباردة، صار الاستشراق كلُّه ملعونًا، وما عاد مهمًا متابعته بالنقد الموضوعي، بل بالنقض الكاسح. وهذا ما يبدو في مؤلفات أنور الجندي منذ الستينيات، وحتى لدى مفكرٍ بارز مثل مالك بن نبي.
بيد أنَّ الأهمَّ من النقد والهدم، ما صار إليه الإسلاميون من محاولاتٍ لبناء النظام الإسلامي الشامل والبديل، أو الطريق الثالث المفارق للرأسمالية والشيوعية. بدأ ذلك عبد القادر عودة عضو مكتب الإرشاد في الإخوان المسلمين عندما قارن بين التشريع الجنائي في الفقه الإسلامي، والتشريع الجنائي في القوانين الوضعية. وقد تبين له بعد مقارنةٍ طويلةٍ أنّ فقه الجنايات لدى المسلمين أفضل وأكثر إنسانيةً بما لا يقاس. وكذا فعل في الأوضاع الاقتصادية والسياسية. وشكّل المودودي وسيد قطب معًا ريادةً لهذه الجهة طوالَ الخمسينيات، عندما كتبا في مكافحة الرأسمالية، ومحاسن النظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي، كما كتب محمد الغزالي والسباعي في مكافحة الشيوعية، وفي القراءة النقدية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وبعد هؤلاء الرواد أنجز عشراتُ المفكرين (وهم في أكثريتهم -باستثناء محمد البهي- من الإخوان المسلمين المصرييـن أو السوريين) مئات الأعمال في صورة كتبٍ ومقالاتٍ، في رؤية ومشروع النظام الإسلامي الشامل والكامل. على أنّ ذلك كلَّه ما كان ليستقيم لولا الظروف السياسية والثقافية التي أحاطت بالموقف في الخمسينات والستينات من القرن العشرين. فبعد التحالُف في الحرب العالمية الثانية بين الدول الرأسمالية الغربية بزعامة الولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي ومعسكره المتكوّن في مواجهة النازية والفاشية واليابان، نشبت الحربُ الباردة بين الحليفين في حدود العام 1949 وكانت أولى تجلياتها الحرب الكورية. وفي مطلع الخمسينيات صار الاستقطاب عالميًا، وصار العالمان العربي والإسلامي من ساحاتهما.
وحصل الاشتباك بين الإسلاميين والأنظمة الوطنية والقومية والتقدمية البازغة في قلب الوطن العربي وعلى أطرافه. بدأ ذلك في مصر بين الإخوان المسلمين ونظام الرئيس جمال عبد الناصر، ثم امتد إلى بلدان المشرق، وبعد عقدين إلى بلدان المغرب أيضًا. ولأنَّ الأجواء كانت أجواء قطيعةٍ أيديولوجية وثقافية وسياسية؛ فقد تعملقت منظومات القطيعة التي لا ترى أي مشتركاتٍ فيما بينها. وفي هذه الظروف تبـلورت لدى الإسلاميين، وعلى يـد كلٍ من أبي الأعلى المـودودي (بباكستان) وسيد قطب (بمصر) نظـرية الحاكمية. وهي تقوم على ثلاث مقولات: مقولة سيادة الله عزَّ وجلَّ المطلقة على الكون، ومقولة الاستخلاف، استخلاف الله للإنسان في العالم، ومقولة التكليف، تكليف الله للمسلمين بإنفاذ شرعه وشريعته في هذا العالم. وفي أوساط الستينات من القرن العشرين تقريبًا، صارت رؤية الحاكمية العمود الفقري للفكر الإحيائي الإسلامي كلّه، وأرى أنها ما تزالُ كذلك، وإن اختلفت أنظار الإسلاميين في كيفية تطبيقها أو إنفاذها. فالأصوليون يرون أنَّ الأمر أمر التكليف، ولذلك لا بد من المصير إليها بشتى الوسائل بما في ذلك العنف. أمّا المعتدلون فما قبلوا مستلزمات تلك الرؤية (تكفير الأنظمة أو الأنظمة والمجتمعات)، وظلُّوا (وقد صاروا التيار الرئيسي منذ الثمانينيات) يقولون بالإنفاذ من طريق التحول بالتوعية والتربية والترشيد. ومن حول الحاكمية جرى نَسْجُ المنظومة أو النظام الإسلامي الشامل في الدولة والمجتمع، وفي العبادة والسياسة والاقتصاد والاجتماع.
وقد أسهم في تطوير وتوسيع وتفصيل هذه الرؤية في المجال العربي كثيرون أهمهُّم في الستينيات والسبعينـيات، كلٌّ من محمد المبارك (من سورية)، ومحمد الغزالي (من مصر)، ويوسف القرضاوي (من مصر). وامتدّ تأثيرها إلى الفكر الشيعي، فقاد السيد محمد باقر الصدر منذ أواخر الخمسينيات حزب الدعوة، الذي أشبه سيد قطب وأفكاره في كثيرٍ من الأمور.
ليست الإحيائيةُ الإسلاميةُ حركةً تقليدية، كما أنها ليست حركةً إصلاحية. إنها حركةُ هوية وخصوصية وطهورية. ولذلك فهي لا تريد تجديد المذاهب الفقهية الإسلامية السائدة في المؤسسات. كما أنها لا تقبلُ أطروحة الإصلاحيين المسلمين القائلين بالاقتباس من الغرب، واعتبار التقدم بالمعنى الغربي هدفًا. وقد تجنبوا طويلاً الاصطدام بالإصلاحيين، فلما اشتدَّ عودُهُم اكتسحوا الإصلاحية باعتبارها تغريبًا، وحملوا على جمال الدين ومحمد عبده والآخرين (باستثناء رشيد رضا) باعتبـارهم ماسونًا وعملاء سريين للغرب والتغريب (انظر كتب محمد محمد حسين). ومع أنّ الإصلاحيين والإحيائيين يدعون للاجتهاد، ويعتبرون ذلك أهمّ خلافٍ بينهم وبين التقليديين من أتباع المذاهـب السنية الأربعة، لكنّ الإحيائيين يتبعون نهج التأصيل، أي العودة المباشرة للكتاب والسنة، في حين يتردد الإصلاحيون بين مقاصد الشريعة، واعتبار المصالح، والطريقة القياسية، جميعًا. ثم إنّ أُصول ومنازع هذه الأطراف الثلاثة مختلفة. فالتقليديون، كلهم من خريجي المدارس والمعاهد الإسلامية القديمة مثل الأزهر والقرويين والزيتونة وديوبند. والإصلاحيون منهم من هو فقيه، ومنهم من هو مقبلٌ على الإسلام من خارج الإطار التقليدي. أمّا الإحيائيون الأوائل فالأزهريون والقرويون والديوبنديون بينهم قليلون جدًا. وقد كانت هناك مشكلات دائمًا بين الأزهر والإحيائيين، ليس بحكم وقوف الأزهر مع السلطات فقط؛ بل لاختلاف المناهج والأهداف. فالإحيائي الإسلامي يملك مشروعًا متكاملاً للاستيلاء على الدولة والمجتمع، ولا كذلك الإصلاحي والتقليدي. وحتى الأزهري من الإخوان المسلمين (من مثل سيد سابق والقرضاوي والغزالي) ليس من خريجي كلية الشريعة (الحافلة بتدقيقات الفقهاء وشكوكهم)، بل من خريجي كلية أصول الدين، وذات المنحى العقائدي والخطابي. والحديث هنا عن هذه الفروقات، ليس عن الظرف الراهن، بل عن الأوضاع بين الأربعينيات والسبعينيات، أما اليوم، بل منذ الثمانينيات فقد تكاثرت الظباءُ على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيدُ.
ثالث عشر: عقد الستينيات كان أقسى سني الانقسام والصراع داخل الوطن العربي
كان عقد الستينيات أقسى سنيّ الانقسام والصراع داخل الوطن العربي، بين الحكومات العربية، وبين الجبّارين على ولاء الدول العربية، ثم بين التيارات الفكرية العربية والإسلامية. وقد سمَّى مالكولم كير ذلك العقد (1958-1968) بالحرب الباردة العربية. ومن مظاهر هذا الصراع، وتأثيراته على الحركات الإسلامية، أنها بدأت وقتها تصطنع آلياتٍ للمواجهة مع الشيوعية من الناحية الفكرية. وقد كانت حتى مطلع الستينيات بشوشةً مع الاشتراكية، وشديدة العداء للرأسمالية. ولنتذكر كتاب سيد قطب (1951) معركة الإسلام والرأسمالية، وكتاب مصطفى السباعي (1959) اشتراكية الإسلام.
وأحسبُ أنّ هذا التحول يتصل بالاستقطاب الذي حصل بين معسكرين عربيين على خلفية الحرب الباردة: مصر والدول التقدمية، والمملكة العربية السعودية الدول المحافظة العربية والإسلامية. وكانت حملة النظام المصري الأولى (1954-1955)، والثانية (1965-1966) قد شردت ألوفًا من الإخوان المسلمين، ذهب كثيرٌ منهم إلى السعودية وبلدان الخليج الأخرى، والجزائر، حيث مارسوا التدريس والعمل، وصار منهم مستشارون وخبراء في الهيئات والمجالس والمصالح العاملة في الشؤون الإسلامية.
وهناك نضجت أُطروحة "الحلّ الإسلامي" التي خصَّص لها الشيخ يوسف القرضاوي عدة كتب بهذا العنوان، بعد كتابيه الهامَّين عن الزكاة، ومشكلة الفقر وكيف حلَّها الإسلام. بيد أنَّ أهمَّ ما حصل في "هجرة الإخوان إلى دار الإسلام" ذلك اللقاء بين السلفية والإخوان في إطار الصحوة الإسلامية. وكما سبق القول فإنَّ الإخوان ما كانوا سلفيين في إثارتهم للمشكلات، لأنهم أرادوا أن يجمعوا الناسَ من حولهم، والتركيز على مصارعة التغريب والأنظمة المغرّبة. ولا شكّ أنّ موضوعاتٍ مثل التوحيد والشِرْك، والولاء والبراء، والتدقيقات العقدية والفقهية؛ كلُّ ذلك أحرى أن يفرّق الناس لا أن يجمعهم. ويقال إنّ بعض قيادات الإخوان أيام حسن البنا، سُئلت من جانب أحد السلفيين المصريين عن هذا "الاستسهال" بالعقيدة، فأجاب هؤلاء: لو قلنا للناس إنّ زيارة الإمام الحسين أو السيدة زينب أو الإمام الشافعي شِرْكٌ وكفرٌ لرجمونا بالحجارة! ويبدو شيءٌ من ذلك في أصول الشيخ حسن البنا، في رسائله. وعندما ظهرت طهوريةٌ متشددة غير سلفية تمامًا في رؤية الحاكمية لدى سيد قطب، ردَّ عليه شيوخ الإخوان من السجون بالكتاب الذي صار معـروفًا الآن: دُعاة لا قُضاة. بينما نرى أنَّ كلَّ المنشقّين عن الإخوان أو المنشئين لجماعاتٍ جديدةٍ بمصر في السبعينيات، كلّهم من السلفيين. والرسائل التي ألَّفوها، والتي يشرحون فيها آراءهم، سواء لجهـة خلافهم مع الغرب والحكومة المصرية، أو للخلافات فيما بينهم، تلجأُ كلُّها للحجاج العقدي في قضايا التوحيد والشرك، والولاء والبراء، والشفاعة والتوسُّل، والقوانين الوضعية في مواجهة الشـريعة، والموقف مـن الانتـخـابـات والديمقراطيـة... إلخ.
ولا يعني هذا أنّ المصريين ما عرفوا السلفية قبل ذهابهم إلى السعودية، أو قبل بدء ورود السعوديين عليهم، في الثلاثينيات وما بعدها. لقد عرفوا ابن تيمية من طريق الهنود السلفيين الذين كانوا يمرون بمصر ويقيمون فيها بعض الوقت في سفرهم للحج والزيارة، كما كانوا يطبعون بعضَ كتبهم وكتب ابن تيمية وابن القيّم بالقاهرة. ويريد كومنز في دراسةٍ له عن الحركات الإصلاحية في مطلع القرن العشرين، ملاحظة لقاءٍ بين الإصلاحيين والسلفيين الشباب الشاميين، والذي انبثقت منه فكرة القومية العربية (!). لكنْ بمصر كما بالشام بقي السلفيون قلةً أقرب للطُرفة في عدائها المُبالَغ فيه لشيوخ الصوفية، ولزوار القبور، وللذين لا يشمّرون ثيابهم، ويربّون لِحاهم ويُعْفون شواربهم بالطرائق الصحيحة. ويقال إنّ شيوخَ السلفية التقليديين ما كانوا شديدي الحماس لتوجهات الإخوان العَقَديـة (أو عدم وجود توجهات لهم في الحقيقة) في الوقت الذي كان فيه الإخوان يرون أولويةً للموضوعات الصراعية السياسية مع الأنظمة التقدمية وحلفائها، وهو أمرٌ وافق السلطات آنذاك، فما اهتمت لتوجُّس شيوخ السلفية المتشككين في هذا التسييس الشديد للدين، وإهمال التربية السلفية.
على أنّ تسيُّس الإخوان، والسلفية العقدية، التقيا في الستينيات، فخرج ذلك المزيج الذي ينعكسُ فيه التشدُّدُ العقديُّ تشددًا سياسيًا. وقد بدا هذا التسيُّس لدى الشباب الخليجي السلفي بأجلى مظاهره في حرب أفغانستان، عندما كان المصريون والسعوديون هما الطرفان الرئيسان، سواءً لجهة العدد، أو للقيادة التنظيمية. لكنْ ليس من السهل تعليل تحول الإخوان إلى السلفية بذهابهم إلى المملكة أو دول الخليج. فقد تنبهْتُ منذ زُرتُ اليمن للمرة الاُولى عام 1980، إلى أن درّستُ بجامعة صنعاء (1988-1991) أنّ السلفية المتشددة منتشرةٌ ليس في صفوف الإخوان فقط، بل في صفوف جماعاتٍ أُخرى متشددة تشكُّ في طهورية الإخوان! وعندما طردت إسرائيل مئاتٍ من "حماس" و"الجهاد الإسلامي" إلى "مرج الزهور" بجنوب لبنان عام 1994، زرتُهم مرارًا، ولاحظتُ أنَّ أكثرهم سلفيون في العقيدة. وكذا أوساط واسعة من الإسلاميين (إخوانًا وغير إخوان) في الأردن وسورية ولبنان. فيبدو لي أنّ جاذبية السلفية لا تعودُ لارتباطها بصعود المملكة في السياسات العربية، وفي القدرات المادية، وحسب؛ بل لاتّباعيتها الشديدة، وقطعياتها المُريحة، وتضاؤل القلق الذي يُحدثُهُ التشدُّد المُرادُ به إرضاء الله.
ولنتذكر أنّ أكثر جمهور الحركات وبعض قادتها، ليسوا من ذوي الثقافة الفقهية؛ ولذلك تؤثّر فيهم ظواهر الآيات القرآنية التي لا تؤهّلهم ثقافتهم لتأويلها أو البحث عن ذلك. فضلاً عن أنّ التشدد والظواهرية مزاجٌ أكثر مما هو علم؛ ولذلك تجتذب الشباب ذوي العقلية التقنية، وليس أولئك الذين يميلون للجدال والسؤال، وأولئك الوادعين والمحبين للسلامة والحياة. والمتديـنون فيهم هذه الفئات كلّها. وقد كنتُ أسالُ شيخنا محمد خليل هراس، أستاذ علم الكلام (كان هو يسميه علم أصول الدين أو التوحيد) بالأزهر -وهو أولُ سلفيٍ عرفتُه، فعرّفني بابن تيمية- لماذا هذا الانشغال الشديد بمسائل مشكلة أو بسيطة في العقيدة، والتي تفرّقُ الكلمة، في حين عندنا قضايـا كثيرة مهمة؟ وكان يردد مرارًا بهدوء: تريدني أن أُقاتل بفلسطين، ولا فوزَ ولا شهادةَ إلاّ بالعقيدة الصحيحة، والذين يقاتلون الآن إنما يقاتلون في فتنة، وقتيل الفتنة ضائع! وهو الجواب نفسه تقريبًا الذي أعطاني إياه الشيخ عبد الله عزام، رائد الجهاد الأفغاني، بعد عشرين عامًا من جواب الهراس، عندما سألتُهُ في خريف عام 1988 بمسجد الجامعة بصنعاء: كيف تقول إنّ أفغانسْتان هي أرض الجهاد الوحيد اليوم! فأجاب مستنكرًا: وهل تـريدني أن أُقاتل مع الشيوعيين والعلمانيين والملحدين في فلسطين؟! ولذا فبالإضافة إلى المزاج المتشدد، يكون علينا أن نقدّر تمامًا عمق تأثير التجربة الأفغانية على الذين خاضوها. فقد شعروا بالاستقلالية، وبأنهم قادرون على اتخاذ قرارٍ وتنفيذه، وبأن القضية التي يقاتلون من أجلها صحيحة تمامًا. فإذا أضفنا انسداد الأفُق في وعـي هؤلاء (وهو واقعٌ لدى الكثيرين الذين عانوا من حصارات متعددة)؛ لا يكونُ صعبًا فهم ما حدث لهم، وأين كانوا، ثم أين صاروا.
رابع عشر: أين صار المشروع الإصلاحي الإسلامي في عصر الأصولية وبن لادن؟
أين صار المشروع الإصلاحي الإسلامي في عصر الإحيائية الإسلامية المتشددة، وفي عصر الأصولية، وبن لادن؟
كلُّ الإحيائيين يقولون بالاجتهاد، وعلى هذا الأساس يرسمون مشاريعهم أو مشروعهم الجديد. بيد أنّ منهجهم لا يترك غير مساحةٍ محدودةٍ للاجتهاد والتجديد. فالمنهج هو منهجُ التأصيل. ويعني ذلك العودة المباشرة للقرآن والسنة. وتتجاوزُ تلك العودة المذاهب الفقهية التقليدية طبعًا، كما تتجاوز القراءات القديمة والتقليدية للنصّ القرآني، ولنصوص السنة. وإذا عرفنا أنّ أكثر الإسلاميين ليسوا من ذوي الثقافة الدينية العميقة أو أنهم لم يتأسَّسوا فيها، يظهرُ لنا أنَّ الخروجَ على التقاليد الفقهية أو التفسيرية ما كان حريًا به أن يُنتج الكثير البناء، بل ربما أدى إلى عكس المُراد من الرجوع إلى تلك التقاليد. ثم إنّ الإحيائيين والأصوليين عقائديون. والعقائدية -كما هو فكر الهوية- تعني إصغاءً لحروف النص، وليس لمقاصده. فحتى أولئك الذين عرفوا منهم (أي من الثوار السلفيين في السبعينيات من القرن الماضي وما بعد) آليات عمل الفقهاء، وتدرج الأحكام على خمس مراتب بين الحلّ والحُرْمة، ما كانت عقائديتهم تمكّنُهُم من الأخذ بالكراهة أو بالاستحسان أو بالإباحة إذ كانت العقائدية تقولُ لهم إنّ ذلك كلَّه يُعتبر مساوماتٍ وتسْوياتٍ على حساب دين الله وشرعه.
ويمكن مراقبةُ ذلك في مبحثين أساسيين لديهم، أو في المبحثين الأساسيين في الحقيقة: مبحث الإيمان والكفر، ومبحث الجهاد. في المبحث الأول، ما احتاج الأمر إلى التطعيم السَلَفي، للوصول إلى التكفير. فنظرية أو رؤية الحاكمية بحدّ ذاتها والمستندة إلى آيات الحكم، المنزوعة من سياقها (وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة:44)، والتي اشترك في إنتاجها المودودي وسيد قطب، كفت لدى الكثيرين في الستينيات والسبعينيات للقول بجاهلية القرن العشرين، وضلال أكثر المسلمين وسط حنادس تلك الجاهلية الجهلاء. فالعقائدية الإحيائية لا تعرفُ غير الأبيض والأسود، والطهورية الشديدة، والتي لا يمكن الوصولُ إليها تقريبا؛ كلُّ ذلك لا يسمحُ حتى لدى الذين يعرفون فقه القرآن والسنة، باللجوء إلى التأويل، أو الاستعانة بآليات التعارُض والترجيح.
وإذا وجدْنا عذرًا لسيد قطب في عذاباته في السجن، وفي توجهه الأدبي البياني؛ فلا عذرَ لمحمد قطب، ولا لثوار السبعينيات، ولا حتى ليوسف القرضاوي في الستينيات وليس الآن، للقول بالحاكمية أو بالحلّ الإسلامي. إذ إنّ كلتا الرؤيتين تغيّب جماعة المسلمين أو تلغيها، حي لدى أولئك الذين لا يقولون بكفر المجتمعات الإسلامية، بل غفلتها. ويتبدى ذلك في مسألتين مهمتين، إحداهما فقهية، والأخرى عَقدية. المسألة العقدية تتمثّل في ذهاب سائر الإحيائيين (حتى المعتدل منهم) إلى أنّ أصل المشروعية في الإسلام يقوم على الشريعة، وليس على الجماعة.
وقد رأى الفقهاءُ المسلمون قديمًا أنّ الجماعة المعصومة التي تحتضن الشريعة هي الأصلُ في المشروعية. فقد آمنت بدين الله، وهي تعيشُه، ويعصمُها إجماعُها من الضلال، بل من الخطأ والخلط الكبيرين، من دون أن يشمل ذلك أفرادها طبعًا. أما القول بأنَّ الشريعة هي أصل المشروعية، فهذا يعني وضعَها خارج الجماعة، وارتهان جماعة المسلمين لحاكمٍ أو قلةٍ تزعم أنَّ الشريعة بيدها. وأحسبُ أنّ هذا كان السبب في الخلاف الكبير بين الخليفة المأمون، والإمام أحمد ورفاقه. فقد اعتقد الخليفةُ انَّ القرآن بيده باعتباره "خليفة الله"، وأنه يستطيع فرض تأويلٍ معيَّنٍ للقرآن وطبيعته (مخلوق أو غير مخلوق). وليس هذا المجال باللائق للتفصيل في آثار ذلك كلِّه، وفي تعليل لجوء الفقهاء والأصوليين إلى الإجماع باعتباره السلطة الحامية (رمزيًا ونظريًا للدين ولبقاء الجماعة التي تحتضنُ شرعَ الله). أما المسألة الفقهية فتتمثل في الاختلاف حول مفهوم الشريعة أو الأحكام الشرعية، وهل هي بمقاصدها أم بعللها؟ فقد اعتقد أكثر الفقهاء المبكّرين أنّ الإشكال ينحلُّ بالقول إنّ الأمر مشتركٌ بين العلل والمقاصد. وكان أن وصل فقه العِلَل إلى أُفُقٍ مسدود. ليس لأنّ الأحكام غير معروفة العلل أحيانًا؛ بل لتحرج كثيرين من العلماء في اللجوء إلى الاجتهاد المطلق عند عدم الوصول إلى العلل، وبالتالي صعوبة استخدام القياس أو استحالته، أو تحرجهم في توسيع منطقة الفراغ التشريعي التي تُعطي الاجتهاد أفقًا كبيرًا في ظلّ أوليات الشريعة وليس خارجها أو بسبب محدوديتها! والواقع أنّ فقه المصالح أو فقه المقاصد، جرى استكشافُهُ وتطويره من جانب المالكية والحنابلة بالذات، والذين كانوا الأكثر اعتبارًا لظواهر النصوص. قال المالكية بالمصالح المرسلة باعتبارها أصلاً فرعيًا أولاً. وقال الحنابلة بفقه المصالح من ضمن تحقيق المناط في مباحث العلة. وقد تبعهم في ذلك الشافعية (ابتداءً بالقرن الخامس) لأنّ الإمام الشافعيَّ ضيَّقَ المسألة من قبل عندما ردَّ على الأحناف بسبب أخذهم بالاستحسان. وبعد القرن السادس الهجري صـار فقه المقاصد شاملاً لدى كل الذين ظلوا يقولون بالاجتهاد، ويحملون على التقليد الذي استعلت دعوته بعد استتباب المذاهب الفقهية، واعتقاد كفايتها واستغنائها عن التجديـد والتغيير. وإلى فقه المصالح والمقاصد لجأ الإصلاحيون المسلمون منذ أواخر القرن التاسع عشر استنادًا إلى نصوص ابن قيم الجوزية (الحنبلي) ثم الشاطبي (المالكي، صاحب الموافقات).
هذه هي المسألة الأولى، مسألة مرجعية الشريعة مفصولةً عن الجماعة. والتي أدت إلى التكفير لدى الإسلاميين المتشددين، والتي بدت في رؤية الحاكمية في الستينيات والسبعينيات. أما المسألة الثانية، مسألة الجهاد فهي مترتبةٌ على المسألة الأولى إلى حدٍ ما. فالجهاد حسبما فهمه فقهاء المذاهب من القرآن، ومن مسالك تجربة جماعة المسلمين ودولتهم في عالم القرنين السابع والثامن للميلاد، علتُهُ العدوان (من جانب الأُمم الأخرى) أو خوفُه. فهو يُستخدمُ إذا احتل الآخرون أرضًا من أراضي المسلمين أو كان هناك تهديدٌ بذلك. وحتى الجهاد الابتدائي (الذي ما كان عليه اتفاق) إنما هو ضد الخارج أو لكسر شوكته. أمّا الإسلاميون المعاصرون، والذين ألغَوا عصمة الجماعة، أو مرجعيتها، فقد عمموا الجهاد ليصبح ضد الجمـيع، باعتبار أنّ الجماعة ما عادت قائمة. وتتضح خطورةُ ذلك من جهتين: الحرب الدائمة من جهة، واستئثار قلة بالسلطة أو بالحقّ في الإمـساك بزمام الشريعة، والجهاد، حتى في مواجهة أولئك الذين كانوا يُعتبرون مسلمين، أو معصومي الدم بالنطق بالشهادتين.
إنّ انتهاء مرجعية الجماعة يعني أنها صارت مقصودةً بالدعوة مثلها في ذلك مثل الخارج غير المسلم. إذ إنه حتى عندما يقال إنّ الحكومة هي الضالة، وليس الناس، لا تعود هناك تفرقةً أصلية، تحولُ دون مقاتلة الناس باسم الشريعة، لأنه لا مرجعيةَ لهم، ولا ضمان لعدم شمول الضلال والإضلال لهم أيضًا. إنّ الإسلام الإحيائي والأصوليَ، إسلام جديدٌ تمامًا. هو إسلام موضوعٌ بيد القلة من الفتيان "الذين زدناهم هدى" كما فهم سيد قطب، من النص الوارد في سورة الكهف. وهو أمرٌ مُرعبٌ ليس للذين يشنون الحرب على الإرهاب اليوم وحسْب؛ بل بالدرجة الأولى مرعبٌ لكل أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مسلمين، يريدون العيش العاديَّ ضمن جماعتهم، وضمن هذا العالم.
خامس عشر: من كان يظن أن شعبة من شُعب الأصولية ستكون السبب في صيرورة الإسلام مشكلة عالمية؟
قد لا يجـوز الحكم على الإحيائيـة الإسلامية بما أدت إليه، أو بما حدث في 11/9/2001. وأقصد بذلك أنّ الناظر لما كان يحدث في الثمانينيات، ما كان يظن أنّ شعبةً من شُعب الأصولية الإسلامية ستكون السبب في صيرورة الإسلام مشكلةً عالمية. ولا شكَّ أنَّ التطورات العَقَدية والقتالية (الساحة الأفغانية) ليست كافيةً لتعليل ما حدث، أو لفهمه بشكلٍ كامل. ففي الثمانينيات من القرن الماضي حدث تمايُزٌ واضحٌ بين التيار الرئيس في الحركات الإسلامية، وبين الأصوليين المتشدديـن. فقد نبذ التيار الرئيس العنف بشكلٍ كامل، وانصرف في مصر وغيرها لمحاولة الدخول في الحياة السياسية، والمشاركة في سائر العمليات الانتخابية وغيرها. وليس بالوسع الحديث عن خروجٍ من الفكر الإحيائي أو فكر الهوية.
لكنّ الحسم في مسألة العنف أمرٌ شديد الأهمية، حتى لو لم تُظهر الأنظمة العربية والإسلامية تقديرًا له، أو أنها في الأعمّ الأغلب لم تغيّر من سلوكها تجاه تلك الحركات، لجهة السماح لها بتكوين أحزاب سياسية مشروعة، أو الكف عن ملاحقة أعضاء تلك الحركات، باعتبار أنهم يقومون بنشاطات لا يوافق عليها القانون. فمَثَلاً أعلنت السلطات المصرية أنها لن تسمح للإخوان المسلمين بتشكيل حزب سياسي، لأنّ الدستور لا يُقِرُّ إنشاء أحزاب على أساس ديني. وكما سبق القول فإنّ نبذ العنف من جانب التيار الرئيس، يعني أنّ هؤلاء لا يقولون بجواز القتال داخل المجتمعات "الإسلامية" من أجل الوصول للسلطة، أو بالأحرى أنهم لا يكفّرون المجتمعات ولا الأنظمة، التي يرغبون في التفاوُض معها، وفي المشاركة في الحياة السياسية المحدودة إن أمكن. على أنّ هذا "الترشيد" أو "ترشيد الصحوة" ما ترك تأثيرًا كافيًا على المتشددين، بحيث يعيدون النظر في أطروحاتهم وسلوكياتهم. إذ إنهم في ذلك الوقت (1985-1995) كانوا منهمكين في النضال على عدة ساحات: في أفغانستان والجزائر والشيشان والبوسنة وألبانيا، مع نشاطٍ متزايدٍ في الجمهوريات الإسلامية، بآسيا الوسطى والقوقاز، والتي كانت حركتها الاستقلالية عن الاتحاد السوفياتي المتهاوي تتسارعُ دونما تغييرٍ كبيرٍ في البنية الداخلية؛ بل في العلاقات الدولية.
ولهذا يمكن القول بأنَّ الأوضاع المضطربة الناجمة عن ضعف الاتحاد السوفياتي ثم انهياره، أحدثت حالةً ثوريةً في جميع أنحاء العالم؛ لكنْ في البلدان الإسلامية بآسيا على الخصوص، حيث برزت الأطراف الإسلامية المتشددة باعتبارها العنصر الرئيس المستفيد من حالة الفوضى والقلق وعدم الوضوح والتأكد والتي سادت حوالي السبع السنوات بين 1988 (بدءًا بخروج السوفيات من أفغانستان)، و1995 (عندما بدأت محاكمة الشيخ عمر عبد الرحمن في المحاولة الأولى لتفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك). لقد شجعت الحالة الأفغانية والتطورات العقدية، واستمرار المواجهات، على ظهور ما عُرف فيما بعد بالجهاديين والقاعدة وأخيرًا السَلَفية الجهادية. فالأجواء النضالية، واحتمالات الانتصار، جعلت هذا الفكر يعتبر أنه ينجح ، وأنّ هذا النجاح دليلٌ على الصحة.
والحركيةُ النضالية المتشددة لدى التنظيمات الصغيرة، توازتْ معها حركيةٌ أخرى، كما سبق القول، لدى التيار الرئيس، باتجاه البعد عن العنف، وإرادة المشاركة، والنظر الفكري المستجدّ في المنطلقات والآثار. لكنّ حركة المراجعة هذه ما بلغت شأوًا بعيدًا. بسبب فكر الهوية القوي من جهة، وبسبب عدم التجدد أشخاصًا وتوجهاتٍ لدى التيار الرئيس، وقبل ذلك وبعده بسبب الأجواء المقبضة داخليًا وخارجيًا. فالإقبالُ على الاعتدال ما لاقى استجابةً كبيرةً من جانب السلطات، والتيارات الثقافية السائدة.
ثم إنّ الولايات المتحدة الأمريكية ازدادات صَلَفًا وعتوًا للانتصارية الظاهرة بالفوز على السوفيات. وكان من سوء الطالع قيام صدام حسين وقتَها بغزو الكويت، بعد الاستنزاف الهائل الذي أحدثه غزوه لإيران من قبل. وكان الحضور الأمريكي الذي بقي قويًا بعد تحرير الكويت، إشارةً إلى الموقع المهيمن للأمريكيين في "النظام العالمي الجديد" من جهة، وإلى أنّ الصدام بين الإسلاميين والأمريكيين حاصلٌ وحتميٌّ من جهةٍ ثانية. وهكذا انهمك الطرفان، المعتدلون والمتشددون، في مصارعة الولايات المتحدة. المعتدلون بالدخول في جداليات النظام العالمي، والعولمة، وصدام الحضارات، والرد على الخصومة المستشرية للإسلام، والمتطرفون بالكفاح المسلّح في ساحات القتال، وبالسيارات المفخخة ضد السفارات والمصالح وبالانتحاريين في كل مكان.
والواقعُ أنّ انسداد الأنظمة أمام الإسلاميين، وهجمة الغرب والولايات المتحدة عليهم باعتبارهم إرهابيين أو في الحدّ الأدنى أُصوليين، أسقط حتى لدى التيار الرئيس كلَّ رغبةٍ في الإصلاح والتجديد. فقد أعلن الإخوان المسلمون عام 1994 وثيقةً إصلاحيةً متميزةً، ثم ما لبثوا أن تخلَّوا عنها، بحجة أنَّ أحدًا لم يستجب لها. بالإضافة إلى أنّ الجمهور العامَّ الذي كان يصوِّتُ للإسلاميين، كلما أُتيحت له الفرصة، ما أبدى حرصًا قويًا على التحول والتغيير، أو أنَّ الأنظمة ما شعرت بضغوطٍ كافيةٍ من جانب الجمهور، من أجل التغيير.
والطريف أنّ الأمريكيين كانوا يطالبون الأنظمة العربية بالتوجه نحو التغيير الديمقراطي منذ أواسط الثمانينيات. ثم تراجعوا عن ذلك بين عامي 1994 و1995. ودأَبت الأنظمة منذ ذلك الحين على الشماتة بهم بالقول: لقد قلنا لكم إنّ هؤلاء غير مأموني الجانب! وقد كانت هناك فورةٌ جديدة ومطالبةٌ بالتغيير من جانب الأمريكيين قبل 11/9 وغزو العراق. وازدادت تلك المطالبة، وصارت من مبررات الغزو والهيمنة. لكنّ الأمريكيين يعودون من جديدٍ بالتدريج لدعم الأنظمة القائمة، باعتبار أنَّ الإسلاميين، معتدلين أو متطرفين، سيكونون هم البديل في حالة حصول تغييرٍ سياسي، وهذا أمرٌ ما عاد الأمريكيون يقبلونه بعد 11/9. هناك إذن مأزقٌ فكريٌّ وثقافيٌّ يتمثل في تعملق فكر الهوية، وتراجع الأطروحات الإصلاحية والمنفتحة.
وهناك الانسداد السياسي القاتل. وهناك الهجمة الأمريكية الشرسة. وهناك التطرف الذي يتنامى ويتلذذ بالبلاد معتنقوه، كالقط الذي يلحس المبـرد. وبين هذا وذاك وذلك، تنتشر حيرةٌ هائلةٌ بين الجمهور، تدفع على الانكماش، وتستجرُّ المعاناة؛ فيتقوقع الناس قابضين على الجمر بين الأسى واليأس والتحدي.
سادس عشر: المفكرون المسلمون اعتقدوا أن علة انحطاطهم وضعفهم تكمن في انهيار مشروع الدولة الإسلامية
المفكرون المسلمون اعتقدوا أن علة العلل في انحطاطهم وضعفهم إنما هي في انهيار مشروع الدولة في عالم الإسلام، وضرورة إحيائه وتجديده. ثم كان هناك من حَسِبَ أنّ التجديد الدينيَّ (فتح باب الاجتهاد، وإطلاق فقه المصالح) يعين على انتصار المشروع الجديد للدولة. ثم قيل إنّ التجديد الديني ضروريٌّ لأنّ التخلُّف له أسبابٌ ذاتيةٌ متعلقة بالأفكار والممارسات الدينية. ثم قيل إنّ كلَّ هذه الأفكار والمحاولات ما أدت إلى تقوية مشروع الدولة؛ فضلاً على أنها تهددت الدين، وتهددت الهوية، وهَدَمَتْ وعي المسلمين بالوحدة. ولذلك فالمطلوب ليس التجديد الدينيّ، بل الحفاظ بالوسائل والطرق الملائمة على الهوية الدينية والثقافية للناس.
ثم قيل إنّ أقوى الأسباب لحفظ الدين، تكون باستيلائه على الدولة، لكي تفرضه سلطةٌ شرعيةٌ على الناس من أجل خيرهم وسعادتهم. والآن ينقسمُ المثقفون والمناضلون إلى فُرقاء. يقول فريقٌ كبيرٌ إنه لا أمل في شيءٍ قريب، والأفضل الانصراف عن محاولة أي تغيير حتى لا يستفيد الخصوم من انكشافنا واعترافنا بالضعف. ويقول فريقٌ آخر إنّ الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة، هاجمٌ على الإسلام، ولا بد من الدفاع عن النفس، بالوسائل المتاحة: بيانية وثقافية وبالقوة المسلَّحة، حسب الإمكان في كل حالة. ويقول فريقٌ ثالث إنّ الإصلاح الدينيَّ ضروريٌّ للخروج من المأزق، الذي لا يقتصر على الهجمة الأمريكية؛ بل يتناول أيضًا الاتجاهات الأصولية والمحافظة في الفكر الديني، وفي الممارسة الدينية. ويُسَلِّمُ فريقٌ رابعٌ بأطروحات المصالح وضروراتها؛ لكنه يرى أنّ الإصلاح الدينيَّ عمليةٌ طويلةٌ ومعقَّدةٌ وتتطلب عملاً بعيد المدى وعلى مستويات عدة. بيد أنَّ المطلوب في المدى القصير والمتوسط، ولكي يكون الإصلاح الديني ممكنًا وناجحًا، الانصراف بكل الطُرُق والوسائل للإصلاح السياسي الذي يساعد ولا شكَّ في تسهيل الإصلاح والتجديد في الدين.
والواقع أنّ هذه الأُطروحات جميعًا مُشعرةٌ باليأس الذي يثور المثقفين والعرب والمسلمين، بشكلٍ عام. ولا علّة لذلك إلاّ هذان الأمرين الحاضرَان، واللذين يذكرهما الجميع وفي كل مناسبة: الحملة الأمريكية الشرسة على العرب وبالذات بعد 11/9/2001، وعجز الأنظمة عن التغير والتغيير للخروج من الضعف والاستضعاف. وأضيف هنا سببًا ثالثًا وهو ضعف إرادة التغيير لدى المثقفين والجمهور، بحيث صار الأمريكيون، وصارت الأنظمة، العذر في كل شيء.
إنّ سوء الأوضاع الحالية، لا يعني أنّ شيئًا لم يحدث على الجبهات الدينية والثقافية والسياسية في عقود القرن العشرين. وكان الصحافي والكاتب المعروف غسان تويني قد ذهب في حوارٍ صدر في كتابٍ بالفرنسية قبل ثلاثة أشهر إلى أنّ القرن العشرين قرنٌ ضائعٌ ومأساويٌّ بالنسبة للعرب بالذات، أو كما قال في العنوان: قرنٌ للا شيء! وكيف يمكن الذهابُ لذلك، ونحن نملكُ ثقافةً عربيةً حديثةً واحدة. ونملك لغةً تعصرنت، وصارت بفضل جهود المثقفين قابلةً لمعارف العصر وجهوده وإنجازاته. ونملكُ في الفكر الإسلامي والممارسة الإسلامية إقبالاً على الروح الإسلامية (الصحوة الإسلامية) ما عرفناه منذ حوالي مائتي عامٍ وأكثر. وما يجري في المجال الإسلامي بالذات، مخاضٌ كبير. فقد حدث التحول من الإصلاحية إلى الإحيائية، على خلفية تحطُّم التقليد الإسلامي.
وأنا أرى أنه أُنجزت إنجازاتٌ كثيرةٌ في هذا المجال، حتى من جانب الإحيائيين. ولسنا الآن بين أحد خيارين، النجاح أو الفشل في المجال الإسلامي؛ بل الأَحرى القول إننا نواجه مشكلاتٍ كبرى، قابلة للحلّ، وإنه لولا الجهود السابقة لما أمكن أن تكونَ لهذه المشكلات حلول. فعلى سوء ما حصل ويحصُل، أرى أنّ هناك أوضاعًا جديدةً الآن، وما عـاد الرجوع للوراء ممكنًا. ولولا الهجمة الأمريكية لأمكن القول إنّ "العنف الإسلاميَّ" سيكونُ وارءنا قريبًا. وهناك في الحقيقة توجهان أساسيان: التوجه الذي يحاولُ تجديد التقليد -والمزاج الإسلامي العام قريبٌ من هذا التوجه- والتوجه الذي لا يرى أملاً في العودة للتقليد ولو بقصد تجديده، أو العودة للإصلاح، بالمعنى الذي عمل له محمد عبده ومدر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية   الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية Emptyالسبت 26 أبريل 2014, 12:13 pm

الإصلاح والتجديد: الأصول والفروع
أ.د. محمد سليم العوَّا ([sup][3])[/sup]
موضوع هذه الورقة هو "الإصلاح والتجديد: الأصول والفروع"، وينبغي أن نقف على معنى كل كلمة من هذه الكلمات الأربع:
فأما الإصلاح: فهو إقامة الشيء أو الأمر على ما يجب أن يكون عليه من حالٍ تغيرت أو فسدت، وأصل الإصلاح في اللغة الإتيان بالخير كله، وعكسه الإفساد؛ لأن الإفساد هو الإتيان بالشر كله؛ فلا يكون إصلاح إلا بعد فساد أو إفساد، ولا يمكن أن يبدأ الأمر بإصلاح لم يسبقه فساد؛ لأن الفطرة التي فطر الله الناس والأكوان والأشياء عليها، وبعث بها الرسل وأنزل بها الكتب، فطرة صالحة، ونحن لا نصلح الصالح؛ إنما تأتي الحاجة إلى الإصلاح إذا فسد بعض هذا الصالح. ويقول المعجميون: (صَلَحَ) و(صَلُحَ) بخلاف (فَسَدَ) ولا يزيدون؛ فتَعلمُ بمجرد التعبير بأنه خلاف فسد أنه شيء جيد حسن، لأن الفاسد شيء قبيح مستهجن، ولذلك جاء في التنزيل المحكم (إنَّ اللهَ لاَ يُصلِحُ عَمَلَ الْمُفسِدِينَ)(يونس:81)، وفي حكاية القرآن الكريم كلامَ موسى لأخيه هارون: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(الأعراف:142). فالصلاح يأتي في مقابلة الفساد، والإصلاح يأتي في مقابلة الإفساد؛ لأنهما ضدان ونقيضان لا يجتمعان.
 فإذا انتقلنا من الإصلاح إلى التجديد، وجدنا التجديد: هو إعادة الشيء أو الأمر إلى ما كان عليه فعلاً في أصل وجوده قبل أن يصيبه البلى والقِدَم. شيء موجود تغيرت أحواله، شيء قائم لم ينته ولم ينفد ولم يمت، ولم يخرج من حياة الناس، لكن تغيرت به الغِيرُ، وحولت معالِمَهُ الأيام والأفعال، أو شيء يصبح مجهولاً للناس بعد أن كان شائعًا فيهم معروفًا بينهم. فنجد في الحديث الصحيح: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"([sup][4])[/sup] ومعنى التجديد في اللغة هو المعنى الذي استعمله القرآن الكريم في قوله تعالى (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)(سبأ:7) وفي قول الكفار مستنكرين إعادة خلقهم كما كانوا (... أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...)(الرعد:5).
فيأتي المجدد أو المصلح فيعيد هذ الشيء إلى ما كان موجودًا عليه في أصل نشأته أو أصل إيجاده أو يعيد العلم به ويجدد العهد بمعالمه العلمية والفكرية والثقافية؛ إما بإحياء العلم به وإما بإعادة الدعوة إلى العمل على أساسه مثل: سلوك ينسى ويهمل، طريقة في الحياة، من الطرائق التي تؤدي إلى صلاح الأمة، تُجتنب، فيأتي المجدد ويحاول أن يحيي هذه الطريقة أو هذا السلوك أو ذلك العلم الذي أصبح قديمًا.
والقديم نوعان: نوع أصابه القدم فقط لكنه لا يزال قائمًا بين أعيننا، ظاهرًا لنا نلمسه ونحسه، ونوع دَرَسَ، كما يقول العرب، يعني خفيت معالمه يحتاج إلى أن نزيل عنه الغبار وتراكم السنين، وأن نعيد إحياءه من أول الأمر، كأنما ننشئه إنشاءً ونبتدعه ابتداعًا. والدخول في هذا الباب هو الذي أدى إلى أن يُرمى كثيرون من المجددين في العالم الإسلامي، على مر التاريخ، بما رموا به من اتهامات، بعضها بالغ الشناعة، كما سنذكر قريبًا.
هذه المنهجية، منهجية الإصلاح ومنهجية التجديد، مضت مع هذه الأمة منذ وفاة نبينا - صل الله عليه وسلم - وهي مستمرة فيها إلى يوم الناس هذا.
والأمة الإسلامية في خلال قرونها، التي نحن في خامس عشرها مضت منه الآن ثلاثون عاما، مرت بأطوار من القوة والرفعة، ومن الضعف والهوان، لأسباب لا مجال لتفصيلها ولا لذكرها، لكن المهم في مسألة الضعف والقوة أن الأمة الإسلامية بعد كل ضعف صارت إلى قوة، لم تمر بمرحلة ضعف تميتها وتفنيها وتقضي عليها وتقطع دابر الدعاة إلى نهضتها.
فكانت حضارة الإسلام ولا تزال حضارة متجددة دائمًا، عائدة أبدا، وكأنها على مر الدهور باقية جذورها في الأرض لا تموت، حافظة عوامل قوتها ونهضتها فهي لا تباد.
ولذلك وصف أحمد أمين -يغفر الله لنا وله- المصلحين والمجددين بعد الاستعمار الغربي بأنهم زعماء الإصلاح الذين "يشعرون بآلام شعوبهم أكثر مما تشعر، ويدركون الأخطار المحيطة بهم أكثر مما تدرك، ويفكرون التفكير العميق في أسباب الداء ووصف الدواء"([sup][5])[/sup] إلى آخر ما قاله في شأنهم من مديح ثم قال: "وكلٌ قد أبلى بلاءً حسنًا (في خدمة الأمة وخدمة التجديد) ولاقى من العناء ما لا يتحمله إلا أولو العزم، فمنهم من شُرِّد، ومنهم من قتل، ومنهم من رُمي بالخيانة العظمى؛ فمن نادى بالمساواة في العدل بين الرعية من غير نظر إلى جنس أو دين اتهم بمحاربة الإسلام. ومن نادى بتنظيم الجيش على الأساليب الحديثة (هذا طبعًا في القرن التاسع العشر وأوائل القرن العشرين) أتهم بالتفرنج والخروج على التقاليد. ومن نادى بتأسيس مجلس شورى أتهم بمحاربة السلطان والحض على الثورة والعبث بالنظام (جمال الدين الأفغانى) ومن نادى بإصلاح العقيدة (محمد عبده) والرجوع بها إلى أصل الدين أتهم بالإلحاد، وهكذا؛ وهم على هذا صابرون مجاهدون؛ أحبوا مبدأهم في الإصلاح أكثر مما أحبوا الحياة".([sup][6])[/sup]
هذا كله حسن، لكن الأحسن منه أنه ينتهي بعد دراسة العشرة المجددين الذين كتب عنهم في كتابه، زعماء الإصلاح إلى قوله: "....ظلت آراؤهم تعمل عملها في حياتهم وبعد موتهم، حتى تحقق إصلاحهم ونفذت أفكارهم وتقدم الشرق على أيديهم خطوات تستحق الإعجاب"،([sup][7])[/sup] وهي باقية إلى زمن لا يعلم إلا الله مداه يستفيد منها المستفيدون، ويبني عليها البناؤون حتى الآن.
هذه المعاناة لأهل الإصلاح وأهل التجديد ليست حادثة، ولا تقتصر على القرن التاسع عشر أو القرن العشرين.
ففي القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، نرى الإمام الغزَّالي يقول: إن العلماء في عصره زعموا أن "العدول عن مذهب الأشعري ولو في قيد شبر كفر، ومباينته ولو في شيء نزر ضلال وخسر"،([sup][8])[/sup] كان هذا الكلام يُقال للإمام الغزالي وأضرابه؛ وفي مقابله كان الإمام الغزالي يقول لمن يلومه على مخالفة العامة ويدعوه لمهادنتهم: "واحتقرْ من لم يُحسَدْ ولا يُقْذَفْ، واستصْغِرْ من بالكفرِ أو الضلالِ لا يُعرَف. فأي داعٍ (يقصد داعية إلى الحق) أكملُ وأعقلُ من سيد المرسلين - صل الله عليه وسلم -؟ وقد قالوا: إنه مجنون من المجانين!! وأيُّ كلامٍ أجلُّ وأصدقُ من كلام رب العالمين؟ وقد قالوا إنه أساطير الأولين!!....".([sup][9])[/sup]
هذه هي حال الإصلاح والمصلحين والتجديد والمجددين على مر العصور والقرون، لا تجد مصلحًا أو مجددًا أفلت من الاتهامات والانتقادات التي يوجهها إليه الناس بالباطل، في أكثر الأحيان، وبالصواب أو الحق في أقلها. وهذا الصواب والحق، الذي يرمى به المجتهد والمجدد، لا يقلل من شأنه؛ فإن أحسنَ الناس حظًا في هذه الدنيا هو الذي تُعَدُّ معايبه؛ لأن الذي له حسنات كثيرة تُغمرُ في بحرها سيئاته وسقطاتُ فكرِه وقلمِه ولسانِه، وهو كله مما يحسب له، لا مما يحسب عليه، فالعيب فيمن يرمونهم وليس فيهم.
هذا الإصلاح وذلك التجديد، هل يجوز في الفروع والأصول على السواء أم هو مقتصر على الفروع دون الأصول؟
نلاحظ أولاً أن العلماء الذين يمارسون الإصلاح والتجديد، على إخلاصهم الشديد وصدق توجههم وحسن نيتهم، يحرصون على أن يقولوا -لئلا يستثيروا مشاعر الجمهور- إنهم يجددون في الفروع لا في الأصول، وإنهم يمارسون التجديد في المتغيرات لا في الثوابت، وإنهم لا يقتربون من الأشياء التي ثبت أصلها بنص في القرآن الكريم أو السنة النبوية، إنما هم يؤدون دورهم في مواطن الاجتهاد التي يجوز لهم فيها أن يُعملوا رأيهم طلبًا للمصالح ودرءًا للمفاسد.
وهذا الحرص، على إعلان أنهم يعملون في المتغيرات دون الثوابت، ليس إلا نتيجة الخوف من أن يرموا بالخروج على أصول الإسلام إذا تكلموا عن تجديد فيما يعتبره الناس أصولاً، أو أن يرموا بالتحجر والجمود إذا لم يقولوا بالإصلاح والتجديد وهم مؤمنون به، فوازنوا بين الحالين وقدروا الضررين فاختاروا أقلهما، وهو أن يخفوا حقيقة الإصلاح الذي يقومون به، وحقيقة التجديد الذي يدعون إليه، وجوهر الفكر الذي يحملون الناس عليه بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والقلم والكلمة الطيبة.
فالمجددون ليس أمامهم إلا الاستتار بستار هذا التفريق بين الأصول والفروع، وبين الثوابت والمتغيرات. وهوستار شديد الرقة، وشعرة المجددين والمجتهدين، في تعاملهم مع الأمة وأهل الفكر فيها ومع خصومهم من أصحاب المدارس والاتجاهات الأخرى، شعرة أدق من شعرة معاوية، وغلالتهم التي تسمى التفريق بين الثوابت والمتغيرات والأصول والفروع غلالة بالغة الرقة. وقد زاد من حمل المجددين والمجتهدين على هذا الصنيع ظهور أولئك الذين ينادون بما يسمى العلمانية واليسارية والإلحاد، وحرصهم على هدم الدين، أصوله وفروعه، ومظاهره وجوهره كله، لا يتركون فيه قائمًا على ساق إلا ويبترونه.([sup][10])[/sup] فكان رد فعل المجددين والمصلحين، أو الإصلاحيين الإسلاميين، أن يقولوا نحن لا نقترب من الأصول إنما نريد إبقاءها كما هي، على النحو الذي ورثناها عليه، وإنما نتعامل مع الفروع لنصلح شأن الناس فيها ونقربهم للأصل التي كانوا عليه في الحال الأولى للإسلام. وأدَّى هذا المنهج دوره في انصراف الناس عن دعاوى خصوم الإسلام التي رأوها تنال من أصوله وثوابته لتصرف الناس عنها، في الوقت الذي يسعى دعاة الإصلاح الديني الصادقون إلى عودة الناس إلى أصول دينهم وإلى العمل بما تُرِك من أحكامه وتعاليمه في الأصول والفروع على سواء.
والمفرقون بين الأصول والفروع والثوابت والمتغيرات، فيما يتعلق بالتجديد والاجتهاد، جعلوا الثوابت هي: العقائد وما جرى مجراها من الأحكام المترتبة عليها، وأصول الفقه التي قالوا تبعًا للشاطبي، رحمه الله، إنها قطعية، وأصول الدين -أصول الإسلام الخمسة وأصول الإيمان الستة- التي لا يتم الإيمان عند المسلمين إلا بها.
ولكن للأمة ثوابت ثقافية تقوم عليها هويتها ويستمر بها وجودها، وفي الثقافة فروع تختلف فيها الأنظار وتتباين الآراء. وموقفنا في التجديد الثقافي كموقفنا في التجديد الديني. الثوابت المكونة للهوية والكيان، للمواطنة والعروبة والإسلام، للشخصية الوطنية في كل إقليم من الأقاليم التي تسكنها شعوب الأمة، هذه الثوابت لا مساس بها، ولكنها ليست وحدها التي تمثل المشكلة الثقافية بل المشكلة الحقيقية هي فيما استجد على حياتنا -ويستجد دائمًا- من قيم ثقافية نستمسك ببعضها ونقف ضد بعضها الآخر.
من ثوابتنا الثقافية اليوم أننا لانُطَبِّعُ مع العدو الصهيوني ولا نقبل أن يُطبَّعَ معه، ولا نرضى لأحد من المطبعين أن يصبح في زمرة القادة الوطنيين أو المفكرين المؤثرين، نهاجمه ونقاومه وننفر الناس منه وعنه؛ لأن التطبيع يذهب بنا كلنا. ولا يجوز أن نقبل من أحد أن يكون مطبعًا. هذا ثابت ثقافي جدَّ علينا لم يكن ذلك عندنا قبل اتفاقية السلام(!) مع العدو الصهيوني، وقبل ذلك لم نكن نعرف التطبيع أصلاً.
جد علينا هذا الثابت الثقافي، فأصبحت مقاومة التطبيع صورة من صور المقاومة الواجبة ضد العدو الصهيوني، لا تجوز فيه المهادنة ولا تصح عنه الغفلة ولو في لحظات عابرة، ولنا في أخينا الحبيب العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين -رحمة الله عليه- قدوة فقد حكى لي أنه تصادف وجود حاخام إسرائيلي في إحدى قاعات مطار، كان مسافرًا عن طريقه، فترك القاعة كلها إلى قاعة أخرى، فقلت له: لماذا؟ ماذا سيفعل لك؟ قال: يُسلِّم عليِّ فإذا سلمت عليه بلحيتي وأنا مرتدٍ عمامة، فإن مجرد سلامي عليه يعطيه مشروعية الوجود في بلادنا.
وأنا على هذا المنهج.
للأمة أيضًا ثوابت تشريعية كلية تتصل بمبادئ التشريع نفسه كالعدل، والمساواة، وورود الدليل على الدعوى وغيرها. وثوابت تشريعية جزئية تتصل ببعض الأحكام التفصيلية كعقوبة السارق والزاني والقاذف وكأحكام الميراث والزواج ونحوها.
فهل يمتنع في كل الأصول كل تجديد وإصلاح؟ وهل يجوز في كل الفروع كل تجديد وإصلاح؟
أم أن بعض الفروع لا تحتمل هذا، وبعض الأصول تحتمله، أو يجب علينا نحن أن نقوم به في شأنها؟
الحديث عن الثوابت، وهي التي يقال لها الأصول، هو حديث عن مواضع الاتفاق والإجماع وعن نصوص قطعية الورود لا تحتمل صحة وصولها إلينا -وليس صحة معانيها- خلافًا. فصحة المعاني لا يتوقف، ولن يتوقف الخلاف فيها إلى يوم القيامة مادام للناس عقول. أما صحة النقل فالخلاف فيها بالنسبة للقرآن معدوم، وبالنسبة إلى السنة محدود.
والحديث عن المتغيرات أو الفروع هو حديث عن مواضع الاجتهاد وموارده التي لا يجوز التضييق فيها على المجتهد. هل يستطيع أحد أن يقول إن تلك المواضع محلها هو الفروع دون الأصول؟
ألـم يجتهد النـاس في العقائد؟! ألـم يجتهدوا في الذات والصفات؟! ألـم يجتهدوا في الأسماء (أســماء الله)؟! ألم يجتهدو في الفعل والتأثير فيه، أهو كسبي أم جبري؟! كل ذلك كان، وهو كائن، فالعلماء لا يزالون مجتهدين ومختلفين في هذه المسـائل ونظائرها حتى اليوم. وفي مقدمة كتاب "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" للإمام الغزالي يجد القارئ قدرًا هائلاً من ذكر مواقف هي خلافات أصلية بين كبار علماء المسلمين في مسائل لا يُخرج بها أحد من الملة أحدًا، على الرغم من أنها ثوابت مما يقال لنــا إنــه لا يجـوز الاختـلاف فيها. وأضرب على ذلك مثلاً واحدًا: تكلم الغزَّالي في الإجماع وتعريفه الأصولي الذي نعرِفُه ثم قال: ..ثــم خالف النَظَّام فلم يعد الإجماع من محالِّ الإجماع..([sup][11])[/sup] والنَظَّام شخص واحد أنكر الإجماع والعلماء كلهم، أو جُلُّهم، يلومونه، وينتقدونه نقدًا قاسيًا، وبعضهم يكفره، لأنه منكر للإجماع. والغزَّالي نفسه في كـتـاب المسـتصفى يرد عليه ردًا طويلاً مفصلاً في هذه المسألة، لكنه في بـاب حرية الفكر يعتبر رأيـه كافيًا ليصبح الإجماع من مواضع الخلاف.([sup][12])[/sup]
إذن هذه العقول الكبيرة التي نهضت بالأمة، وأحيت الهمة، وأعملت العقل في النقل حتى توصلت بالإسلام إلى ما وجدناه عليه وورثناه منها، لم تَخَفْ من الاجتهاد في الأصول كما تجتهد في الفروع، اجتهدت في فهم الأصول، وفي مدى تطبيقها، وكيفية إعمالها، وما الذي تغطيه هذه الأصول وما الذي لا تغطيه، فأنتجت، مع الآراء في المسائل، منهجًا متحررًا من قيود التقليد والإذعان للسابقين، حريٌ بكل مَعْنِيّ بالتجديد والإصلاح أن يتأمله ويفيد منه ويبني عليه.
إن المجال الأرحب لهذا الاجتهاد -الذي لا يضيق به- هو المجال الذي نسميه مجال المعاملات؛ ويدخل فيه جميع ما تعرفه البشرية من نظم للحكم وللقضاء والاجتماع والسياسة والإدارة والتجمع الأممي، ومدى ملائمة هذه النظم لظروف العصر أو عدم ملائمتها لها. فالتنظيم الدولي أو المحلي ينبغي أن يتلاءم مع الوضع الاجتماعي والسياسي والبيئي.
إلا أن هناك بعض الأحكام المتعلقة بالحياة الإنسانية تدخل في نطاق الثوابت التي لا تحتمل التبديل، فلا يجوز أن يقول أحد سألغي مؤسسة الزواج، لا يجوز لأحد أن يقول سألغي الشورى -هي ملغاة في معظم البلاد الإسلامية، لكن إلغاءها معصية، وهذه المعصية لا تُحمل على الإسلام ولكن تُحمل على مرتكبيها- لا يجوز لأحد أن يقول سأتولى القضاء مع ولايتي الحكم السياسي؛ لأن ولايته القضاء مع الحكم السياسي مفسدة. كانت هذه الولاية للأمرين معًا جائزة في الزمن القديم، عندما كانت التقوى غالبة، وخوف الجور في الحكم يُقوِّمُ أهواء الرجال، والحرص على الآخرة يكفهم عن اتباع الشهوات؛ أما الآن، وقد ذهبت هذه المعاني عن النفوس أو كادت، فإن الجمع بين الولايتين القضائية والسياسية لا يجوز قطعًا لأنه مفسدة، بل هو مجلبة مفاسد عديدة، لا ريب فيها.
هذه الأحكام، ونظائرها، هي التي لا تحتمل تغييرًا ولا تبديلاً لأن تقريرها تترتب عليه مصالح الناس الدائمة، وهي الأصول التي لا يجوز أن يمسها الإصلاح؛ لكن يجوز أن يمسها التجديد، كلما دَرَسَت نجددها، كلما نُسيت نذكر الناس بها، كلما تركها الناس نحييها في أنفسنا وأنفسهم وممارستنا وممارستهم؛ حتى يرى الناس قدوة ومثالاً لإحيائها. وهي مع ذلك -مع ثباتها وعدم قابليتها للتغيير- تحتمل التأويل والاختلاف وتغيير الحكم الاجتهادي المتعلق بها بتغير الأحوال والظروف والأعراف والأزمان.
وقد غير الصحابة، رضوان الله عليهم، بعض الأحكام عند تطبيقها في عهدهم، وهم أقرب الناس عهدًا بالنبي - صل الله عليه وسلم -؛ فقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إن الله قد أعز الإسلام وأغنى عنكم". وأبطل بذلك سهم المؤلفة قلوبهم،([sup][13])[/sup] وهو نص جلي صريح في سورة التوبة ومصرف من مصارف الزكاة، وأوقف عمر نفسه قطع يد السارق في عام المجاعة، وقال "لولا أني أعلم أنكم تجيعونهم فيسرقون لقطعت أيديهم"،([sup][14])[/sup] وأمر بمنع توقيع العقوبات في الحرب لئلا يلحق من وقعت عليه العقوبة بالكفار، مرتدًا، فيكون عونًا على المسلمين أو عينًا عليهم([sup][15])[/sup] فعل عمر هذا مع أن الحديث الوارد في المسألة خاص بعقوبة السرقة وحدها، فعممه عمر - رضي الله عنه - -غير وجلٍ ولا هياب- على العقوبات كافة.([sup][16])[/sup]
هذا كله، وعشرات بل مئات، من الاجتهادات التي جرت في الأصول الثابتة بالنص القرآني الصريح الواضح، جرت، لأن أولئك المجتهدين لم يخشوا من يقول: إنكم تهدمون الإسلام بصنيعكم هذا. كما نخاف نحن، ولم يكن هناك ملحدون وعلمانيون وأعداء متغربون حريصون على هدم الدين. إنما كان الصحابة يعملون من أجل ما يحقق المصلحة. فالنصوص الأصلية، القرآن والسنة، تحتمل التأويل والاختلاف وتغيير الحكم، أو تغيره، كما يقول الشيخ علي الخفيف، حسب اختلاف الزمان والمكان والظرف والعرف.([sup][17])[/sup] كما يقول إخواننا الشيعة الإمامية: حسب تغير الموضوعات.([sup][18])[/sup]
ولنختر من هذه القيم بعض ما يظن ثباته المطلق لنتبين هل الأمر على هذا النحو أم لا؟ فأهم قيم الإسلام وأعلاها شأنًا هي التوحيد، الذي هو المقصود الأول من خلق الخلق، وبعثة الرسل، وإنزال الكتب، ليقرأ من شاء قول الله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)(الأنعام:161-164). هذه القيمة الثابتة قد تحتاج إلى تجديد وإلى اجتهاد.
فعندما تفشو في الناس البدع والخرافات، وعندما تعبد القبور أو الأشخاص عبادة ظاهرة أو باطنة، وعندما يقول ذوو الجاه والنفوذ والسلطان، ولو بلسان الحال وليس بلسان المقال، عندما يقول بعضهم أو كلهم أنا ربكم الأعلى، عندئذ يقتضي ذلك كله عملاً على إصلاح أصل التوحيد وتجديده وإعادة الناس إليه، لأن الإخلال به جاء من ذوي سلطان أو جاه أو نفوذ لا يمكن للناس أن يواجهوهم بأنفسهم، عندئذ يقتضي ذلك كله العمل على تجديد أصل التوحيد وإصلاح فهم الناس له ونفي الفساد الفكري والانحراف السلوكي عنه.
القيمة الثـانيـة، التي جعلها القرآن الكريم أهـم من الحيـاة، هي قيمة الحريـة قـال ربنا (وَالْفِتْنَةُ أَشَـدُّ مِنَ الْقَتْلِ)(البقرة:191) (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)(البقرة:217)؛ والفتنة هنا هي حمل الإنسان على تغيير معتقده. وصفه الله بأنها أكبر من القتل؛ فكانت الحرية أهم من الحياة. فعندما يقع القهر والاستبداد وحكم الفرد، وعندما تُهان كرامة الناس وتُسلب أموالهم تحت مسـميات لا تُحصى، عندئذ تحتاج قيمة الحرية إلى تجديد ويحتاج التفكير في الحرية، من منظور إسلامي، إلى إحياء؛ هذا الإحياء هو بعث معنى الحرية، وبسط الشعور به بين الناس، وحثهم على نيل حقهم منه بعدم الاستكانة للظلم وعدم الخضوع للطغيان ففي الحديث أن: "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".([sup][19])[/sup]
ومن قيم الإسلام المهمة الاعتراف بالآخر وقد صرح القرآن الكريم في غير موضع بأن أهل الأديان الأخرى لهم دينهم وشعائرهم وعقائدهم، وأن الصالحين منهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(البقرة:62) و(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(المائدة:69)، وفي سورة الحج أضاف الله - جل وعلا - المجوس والذين أشركوا، لم يقتصر على اليهود والنصارى والصابئين (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(الحج:17) وسورة الحج من أواخر القرآن نزولاً كما نعلم.
هذه القيمة الثابتة تجد حدَّها في أن يلتزم غير المسلم بمثل ما يلتزم به المسلم من احترام دينه وشعائره ومقدساته، وينهدم بناء هذا الحد عندما تُهدر قيمة الاعتراف بالآخر فيُعتدى على المسلم من غير المسلم، بأن يهان دينه وقرآنه وعقيدته ويُسب رموزه وعلماؤه ومفكروه وأعلامه، عندئذ، تحتاج قيمة الاعتراف بالآخر إلى إصلاح وتجديد في صورة عدم السماح للمعتدي بمجاوزة الحد، وفي صورة: إيقافه عند حدود ما ينبغي عليه من احترام الإسلام والمسلمين في دار الإسلام، من أراد أن يهين الإسلام والمسلمين فعليه أن يغادر ديارهم.
ومن عجيب الأمور -في بلادنا في هذا الزمان- جرأةُ من يعترضُ على شخص سيرشحه حزبه لرئاسة الدولة لأنه -كما يقول هذا المعترض- لديه توجه إسلامي، فهو لا يزور الكنيسة يوم عيد القيامة(!) يريده أن يزور الكنيسة يوم عيد القيامة الذي من آمن به، من المسلمين كفر. ثم إن القول بأن لديه توجهًا إسلاميًا فلا يصلح للرئاسة، يُعدُّ عدوانًا على الإسلام وعقائده وأهله لا يجوز السكوت عنه، ويجب التنبيه عليه ويجب على المسلمين عدم القبول به.
فأعياد إخواننا الأقباط ليست مثل بعضها البعض؛ هناك عيد ميلاد المسيح وكلنا نؤمن به، لكن عيد القيامة يفترض صحة واقعة قتل عيسى - عليه السلام - وصلبه، وهما باطلتان بنص القرآن الكريم (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ)(النساء:157) فهو عيد لهم لا يجوز أن يؤمن به مسلم.
العدل، والشورى، والمساواة قيم عظيمة لم يحدد الله تبارك وتعالى لممارستها طريقًا معينة، بل ترك الله - جل وعلا -، لنا أن نمارسها كما نشاء، كما ترك لنا تحديد كيفية مساءلة حكامنا إذا أخطأوا أو قصروا أو أساؤوا.
بالمرونة، التي ذكرت قليلاً جدًا من معالمها، تستوعبُ نظمُ الإسلام كل جديد في حياة الناس وتعطيهم حُكمًا تدل عليه ثوابت الشريعة بحسب اجتهاد المجتهدين في أزمانهم وأماكنهم، وبالثبات يستعصي المجتمعُ المسلمُ على عوامل التفكك والانهيار والفناء أو الذوبان في المجتمعات الأخرى.
هذه المرونة الهائلة في الاجتهاد، في القيم الأساسية التي لا تقبل تبديلاً ولا تغييرًا، تدل على أن الإصلاح والتجديد جائزان، وأحيانًا يكون أحدهما أو كلاهما واجبًا، في الأصول، وليس في الفروع وحدها. والعبء هنا يقع على أهل الاجتهاد في كل جيل ليوائموا بين أحكام الإسلام وبين مقتضيات العصر وحاجات أهله، فيحفظوا خلود الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، ويحولونهما من شعارين جميلين إلى حقيقتين قائمتين في دنيا الناس.
والحمد لله رب العالمين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
الإصلاح: العلاج العقلي وصراع الوثنيات أو في عواقب الفوضى الروحية والعقلية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث دينيه-
انتقل الى: