الفصل الثانى
دور الثقافة الإسلامية فى تحقيق الأمن الفكرى فى المجتمع
وبه خمسة مباحث
1- العقيدة الصحيحة منطلق الأمن فى حياة الإنسان
2- بناء العقل والتفكير السليم
3- التأكيد على فضل العلم النافع وضرورة بذله وطلبه
4- تفعيل مقررات الإسلام عمليا فى حياة المجتمع
5- بيان آفات الأمن الفكرى والتحذير منها
مدخل .
تتنوع فوائد الثقافة الإسلامية وتتعاظم أهميتها للفرد والمجتمع المسلم على حد سواء، ويتلخص دورها عامة في بناء الفرد والمجتمع ، فهي تبني الفرد عقلياً فينضبط فكره ويتحرر من الجمود والأوهام ، وسلوكياً فتحميه من الانحراف والإجرام ، وشخصياً فتعزز لديه الانتماء لدينه ومجتمعه ،وتحقق شخصيته وتكسبه التميز والتفرد ، وتفتح لديه الآمال والطموحات والغايات النبيلة التي يستشعر بإنجازها ما يسمى بالسعادة النفسية ، وتبنيه بدنياً ببيان ما ينفعه وما يضره في بنية جسده واستثمار طاقاته ، وتبنيه روحياً بما يكسبه الهدوء النفسي والشعور بالأمن والاتزان بما يعرفه ويطبقه من مقررات الإيمان .
والثقافة الإسلامية بهذا البناء المتكامل إنما تخلق في الإنسان روحاً وثابة، وإرادة وقادة وعزيمة راشدة في مواجهة التحديات التي تواجهه، والمشكلات التي تعترض طريقه، ومن ثم فهو أبعد الناس من الجبن والهروب والتبعية والكسل، أياً كانت هذه التحديات والمشكلات فكرية أو مادية، وعلى ذلك يعرف المسلم مكانه ومكانته وسط التيارات الفكرية والثقافات المختلفة التي يموج بها عالم اليوم بذاتيته التي يحققها بعزة وكرامة نفس.
والثقافة تبني المجتمع في مجالات البناء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وهي أكبر عون في بناء المجتمعات الإسلامية ودفعها نحو النهضة والتحضر والرقي بما تحققه من درجات وعي،وشمول معرفة، وحسن إدراك لمعنى الأخوة الإيمانية والعدالة الاجتماعية، وضرورة العمل لتنمية المجتمع ونهضة البلاد في إطار من أخذ الحقوق وأداء الواجبات في مسئولية أمام الله عز وجل قبل أن تكون أمام أي جهة أخرى.
ومهما تعددت أدوار الثقافة الإسلامية في بناء الفرد والمجتمع فإن أخص أدوارها في هذا البناء هو ما يتعلق بالبناء الفكري الذي يحقق الأمن الفكري لدى الفرد والمجتمع وهو أعز ما يطلبه الفرد وتنشده المجتمعات.
فالأمن الفكري حلم كل قائد لشعبه، وأمل كل راع لرعيته، إذ من شأنه أن يضبط التفكير فيبعد عن الشطط ، ويتزن به العقل فلا يعرف التخبط، وتفقه به الأفهام فتنأى عن الزلل، ويترتب على حسن التفكير والإدراك حسن التطبيق والسلوك، وحسن التعامل والتفاعل بين الأفراد والمجموع.
والأمن الفكري في الإسلام مرجعيته ربانية، وضوابطه مستقاه من الكتاب والسنة، ومن ثم فمرجعيته منزهة عن الهوى والميل، ولا تحكمها شهوة أو أنانية، لا تعرف التخبط، وأبعد ما تكون عن الجهل.
وأصل الأمن طمأنينة النفس وعدم الخوف، والأمن للإنسان هو الطمأنينة والسكينة واتقاء الخوف عن نفسه مما يجعله مقبلاً على الحياة بروح معنوية عالية وثقة بالنفس" ([23]).
"وهو حياة الفرد والأسرة والمجتمع حياة طبيعية في الدنيا لا يخافون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ودينهم وعقولهم ، وتسلم من أن يعتدى عليها أو على ما يصونها ويكلمها أحد بدون حق، وفي ذلك اطمئنانهم بالسعي في كل ما يرضى الله سبحانه حتى يتم لهم الأمن في الآخرة بنيل رضا الله وثوابه والنجاة من عقابه"([24]).
"ويرجع خبراء الأمن إلى أن الأمن حالة ذهنية ونفسية وعقلية"([25]).
فالأمن من أجل نعم الله على عباده، وهو محرك الحياة نحو العمل والإنجاز ولا عجب أن يمن الله به على عباده قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (سورة قريش 3، 4).
"فالأمن يدفع الإنسان إلى القيام بواجبه نحو ربه ودينه ومجتمعه، الأمر الذي يجعله يطمئن على نفسه ومعاشه وقوته"([26]).
والأمن هو غاية الشرائع السماوية وهدفها الأسمى ، وقررت الشرائع الأمن ببيانها الحقوق والواجبات والحلال والحرام، وإرسائها قواعد الحدود والعقوبات وغير ذلك، وجعلت مقاصدها حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل ، وبين الرسول r أن الاستقامة تحقق الأمن، وحسن السلوك علامة الإسلام والإيمان فيقول r "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم"([27]).
ويؤكد القرآن على أن الإيمان منبع الأمن قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (سورة الأنعام 82).
وتختلف تقسيمات الأمن منها ما هو دنيوي وأخروي ومنها ما هو داخلي وخارجي ومنها ما يتعلق بالفرد وما يتعلق بالمجتمع، ومنها ما يتعلق بالجوانب والأنشطة الحياتية للإنسان فهناك الأمن الفكري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي، إلى غير ذلك من تقسيمات.
وتهتم الدراسة بالأمن الفكري وهو ما يتعلق بتحقيق الطمأنينة والاستقرار لدى الإنسان في إعمال عقله وتنميته والمحافظة عليه ، وانضباط تفكيره وعدم انحرافه، واتزان إدراكه وعدم اضطرابه، وسلامة فهمه ، وعدم تهديد هذا العقل والتفكير الإدراكي بأي مخاوف.
فتحقيق الأمن الفكري بهذا المعنى هو نقطة انطلاق نحو استقامة السلوك وصلاح العمل، وتحقيق الإنجاز والتخطي للعقبات وحل المشكلات.
ويتلخص دور الثقافة الإسلامية في تحقيق الأمن الفكري في جانبين:
الأول: الدور التأسيسي، وهو دور بناء مقومات الأمن الفكري، ووضع أسسه، والاهتمام بمرتكزاته والعمل على إشاعة هذا الجو الآمن بين جنبات المجتمع ببناء الفرد الصالح صاحب العقلية الواعية والفهم المستنير وهذا الدور يعد دوراً وقائياً في مواجهة الانحراف الفكري داخل المجتمع تقوم به الثقافة الإسلامية.
الثانى : الدور العلاجى ، وهو دور تقوم فيه الثقافة الإسلامية بمعالجة الانحراف الفكرى الواقع فى المجتمع ، وذلك برصد مظاهره وأسبابه ومخاطره وآثاره وتقديم السبل المناسبة لمواجهته 0
المبحث الأول
العقيدة الصحيحة منطلق الأمن في حياة الإنسان.
إن فطرة التدين في حياة الإنسان تلح عليه إلحاحاً شديداً ، يندفع من خلالها باحثاً عن إلهه الذي يعبد ، وربه الذى إليه يتوجه ، وهو دائم البحث عن الخالق الذي خلقه ، والرازق الذي يرزقه ، والمنعم الذي ينعم عليه ، وتختلف مشارب البشر في بحثهم ، وتتباين مسالكهم للإجابة عما يلح في فطرتهم من أسئلة عن الخالق وماذا يريد ، وعن الكون ورسالتهم تجاهه.
وتاريخ البشر يحكي ألواناً من بحث الإنسان واجتهاده في هذا الإطار ، مابين تفكير عقلي ، وتصورات ذاتية ، ومتابعة عادات وتقاليد ومسايرة وموروثات... وصور أخرى من صور تفاعل الإنسان مع فطرة التدين التي تشغل عقله ، وتملأ عليه نفسه. وماجنى الإنسان من وراء ذلك إلا ضلالاً وتيهاً وجهالة وظلمات بعضها فوق بعض.
وفي خضم هذه الرحلة الطويلة من تاريخ البشر ما اهتدى الإنسان إلى الإجابات المقنعة التي خضع لها عقله ، واطمأن إليها قلبه ، إلا في رسالات السماء والتي تدارك بها الله البشر رحمة منه وفضلاً ، وتكريماً وعطفاً ، فما سعدت الأنفس إلا مع دعوات المرسلين ، وما أمن مجتمع إلا مع هدايات السماء ، ولا استقر عيش إلا في ظل دعوة التوحيد التي هتفت بها أنبياء الله ورسله.
جاء وحي الله عز وجل يهدي الناس إلى صراط الله المستقيم ، فعرف الإنسان إلهه وخالقه ، وربه ورازقه ، أرسى قواعد التوحيد الخالص ، والتوجه الصادق.
وجاءت رسالات السماء متخذة من العقيدة الصحيحة نقطة انطلاقها ، ودعامة ركائزها ، وذلك لما تمثله العقيدة الصحيحة من أهمية ومكانة في بناء الدين ، وإصلاح الإنسان ولذا فلا نعجب أن يعلن كل رسول من المرسلين منطلق رسالته في إعلان ( لا إله إلا الله ) والتي أولى ثمراتها في نفس الإنسان هدوءاً داخلياً لاتساقها مع الفطرة ، وأماناً وسعادة نتيجة مواءمة مضمونها مع تكوين الإنسان ، فيها عرف الإنسان ربه ، وتعرف على غاية خلقه ، أدرك كيف يتعامل مع ماسخر له ، وعلم مآل حياته ومماته ، فما عاد الجهل يتخطفه ، ولا الضلال يحتويه ، وعندئذ استشعر الإنسان معنى الأمن الداخلي ، ومن ثم شع خلقاً حسناً ، وتعاملاً كريماً ، وأدباً مع بني مجتمعه بعد أن استقام على أمر الله ، ونظم له الدين الصحيح حياته مع نفسه ومجتمعه ، وكل ذلك بفضل العقيدة الصحيحة.
وبافتقاد الإنسان العقيدة الصحيحة تغلبه المخاوف ، وتخطفه المفازع ، ويسيطر عليه القلق والتوتر ، وفاقد الشيء لا يعطيه ، فلن يعطي أمناً لغيره طالما لم يشعر به في نفسه ، وما أعظم تصوير القرآن حال المشرك الذي فقد كل عناصر الأمن النفسي والبدني ، والعقلي ، والاجتماعي ،... وذلك بافتقاده الإيمان وخلوه من العقيدة الصحيحة قال تعالى { فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } (سورة الحـج 31) فافتقاد المعتقد الصحيح يجعل الإنسان عرضة لشرور العقل ، وجنوح الفكر ، وسيطرة الوساوس والأوهام ، وتحكم العادات والموروثات ،... ومع ذلك لا ينعم إنسان باستقرار ، ولا يستشعر هدوءاً ، إنما هي مفازع تحوطه ، ومخاوف تتكالب عليه ، كمن أصابه الهلع من جراء سقوطه من قمة شاهقة بلا حماية ولا سند ، وتأكدت عنه نهايته المفزعة ، تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق.
ألا ما أعظم نعمة الإيمان ، وما أعظم دورها في تأمين الإنسان ، عندما يؤمن بربه فيعلم أن الأمر بيده وحده فيستعين به وحده ، ويتوكل عليه في كل أمره ، يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، يعلم أنه يركن في أموره لمن بيده الأمور ، فلا يخشى مخلوقاً بعد ما أيقن بمعية الخالق ، ولا يرهب مخاوف بعد أن دخل في رحاب الله. فتأمن نفسه ويسعد قلبه،ويأمن على عقله بإيمانه برسل الله – عليهم السلام – بأنهم قد جاءوا بالحق والصدق ، معهم الدلالات والبراهين ، ومعهم الحجج الدامغة على صحة الرسالة ، فاطمأن عقله ، واستقر تفكيره ، ورشد رأيه ، بعد أن علم وجهته وغايته ، وبعد أن أدرك واجباته وحقوقه بعد أن اتخذهم قدوة وأسوة في أقواله وأفعاله.
ويأمن على فكره بإيمانه بكتب الله والتي يثق بخلوها من التناقض والتعارض والتي ماجاءت إلا لصلاحه واستقامة أمره ، وتستقر نفسه بين الخوف والرجاء بإيمانه بملائكة الله عز وجل والذي يعلم عنهم وعن عظمة خلقهم وأعمالهم ومدى خضوعهم وخشوعهم لله تعالى فتتعالى عنده الخشية من الله ، ويستقر عنده الخضوع والتواضع لله بالعبادة ، وكلما تعرف عليهم أكثر ازداد يقيناً بإيمانه ورجاءً في الله بأن يكتبه من السعداء.
ويأمن على مآله ومصيره بإيمانه باليوم الآخر ، فيوقن بأنه لن يترك سدى ، كما لم يخلق عبثاً ، ومن ثم يعلم مصير المؤمنين من السعادة ، ومآل المشركين إلى الشقاوة ، فيعلم أنه لن ينتقص حقه ، ولا يضيع جهده ، فيأمل حسن المصير ، ويدعو بحسن الخاتمة حتى يحظى برضى ربه في الآخرة.
ويدخل واحة الأمن بالرضا والتسليم بقضاء الله وقدره ، ويتلقى في النعمة والبلية الأجر ، أجراً في شكر الأولى وأجراً في صبر على الثانية ، ليهنأ بالخير في جميع أحواله.
والملاحظ في بناء الإسلام للعقيدة الصحيحة في نفس الإنسان أنه قد سلك مسلكين يتم كل منهما الآخر :
الأول : مسلك الهدم وفيه يترصد الإسلام كل معالم الشرك والجهالة في نفس الإنسان يهدم بنيانها ويقوض دعائمها ، وهو ماسلكه النبي r في تعامله مع المشركين بهدم بناء الشرك في نفوسهم بشتى السبل والوسائل تارة بتحريك العقول وتارة بدفعها نحو ضرورة التعقل والتفكر ، وأخرى ببيان قيم ماهم عليه من تصورات وفساد ماهم عليه من معتقدات وتارة بالترهيب من اعتماد التقليد الأعمى واتباع الموروثات ، بالتخويف من العقوبة وتحديد المسئوليات.
الثاني : مسلك البناء وفيه يبني الإسلام في نفس الإنسان التصورات الصحيحة ، ويقيم بناء المعتقد السليم ، ليكون البديل عما تم هدمه ، وتتنوع الوسائل والأساليب في هذا البناء أيضاً من خطاب للعقول ، والأنفس والقلوب والأرواح، خطاب الفرد والمجموع ، خطاب الصغير والكبير ، الرجل والمرأة .
المبحث الثاني
بناء العقل والتفكير السليم
خلق الله سبحانه الإنسان في أحسن تقويم، وسخر له الكون بما فيه وأسبغ عليه النعمة ظاهرة وباطنة، وأوضح له من خلال الرسالات السماوية أن رسالته في هذه الحياة تقوم على أساسين: العبودية الحقة لله، وتعمير الكون الذي سخر له حسب توجيهات الله عز وجل، وحتى تتأتى هذه الرسالة من الإنسان لابد من عقل واع بها، وتفكير سليم يدرك قيمتها، وفهم راشد لمعناها ومبناها، ولن ننتظر قياماً بهذه الرسالة ممن ضل عقله أو ممن تخبط فكره، أو ممن كان في فهمه عور، وفي إدراكه عوج، ولذا فإن من أجل نعم الله على الإنسان نعمة العقل والتفكير، وهو ما امتن به الله تعالى على الإنسان قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (سورة الإسراء 70).
وتتحكم في عقل الإنسان جملة من المؤثرات تحمله على اتباع سبيل الانحراف، وتغلبه على طريق التخبط والذي يصل به أحياناً لما فيه هلاك الإنسان ، ومن هذه المؤثرات: غلبة هوى ، وتحكم شهوة، وسيطرة آخرين من أفراد وأنظمة، وجهالة، ونحو ذلك، الأمر الذي يؤكد افتقاره لضوابط الشرع الحنيف، ومقررات الدين الإسلامي حتى يستطيع فهم رسالته والقيام بها على أتم وجه، ومن ثم يحدث التوافق بين الإنسان والكون، وبين الإنسان ومجتمعه وبين الإنسان ونفسه، وهذا التوافق هو عين الأمن الذي يشعر فيه الإنسان بالسعادة والاستقرار، الأمن الذي يجعل رسالته مع الكون إيجابية تقوم على التعمير لا التدمير، ومع المجتمع تقوم على التفاعل والتعاون لا على الأنانية والانطواء، ومع نفسه تقوم على الرضا والإنجاز، لا على السخط والفشل.
والإنسان في سبيل تحقيق ذلك يحتاج إلى عقل مدرك وتفكير سليم من الآفات التي تعود على الإنسان بالتخبط والضرر كآفات الكبر والهوى والظن والجمود وغيرها...
وقد سلكت الثقافة الإسلامية مسلكاً منفرداً في بناء العقل والتفكير السليم تميز بالتكامل والواقعية وأهم معالمه ما يلي:
1- تعظيم نعمة العقل وفرضية التفكير:
أوضحت الثقافة الإسلامية في جميع مصادرها وميادينها تعظيم نعمة العقل وضرورة التفكير، وكيف ميز الإنسان عن كثير ممن خلق الله تعالى بنعمة العقل وإعمال الفكر، وبينت أن من أخص أدوار رسالات السماء الحفاظ على الضروريات الخمس ومنها نعمة العقل وما ذلك إلا اهتماماً بشأنه،وإزكاءً لمكانته، وتقديراً لدوره، وما للتفكير من دور ومكانة يتميز بها إنسان عن آخر.
وقد ورد التنويه بنعمة العقل وإعمال الفكر في العديد من آيات القرآن الكريم وفي توجيهات الرسول الكريم r ونقرأ في ذلك قوله تعالى:{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }(سورة النحل 78) {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}(سورة الملك 23) وكثيرة هي الآيات التي قدمت الدعوة لإعمال العقول والتفكير في آيات الله الكونية والإنسانية في كتاب الله المنظور والمسطور، دافعة نحو التفكر في آلاء الله ونعمه، والاعتبار بما قدم من مواطن العظة والاعتبار، وأوضحت أنه لا ينتفع بذلك إلا أصحاب العقول الواعية،والألباب المدركة والتفكير الراشد ومن هذه الآيات نقرأ قوله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }(سورة النحل 12)، وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(سورة الروم 24)،{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة الرعد 3) {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة الروم 21){اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة الزمر 42) {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة الجاثية 13) {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (سورة الأنعام 50) وقد شنع الله عز وجل على أولئك الذين عطلوا عقولهم وبصائرهم وأفكارهم، فلم يستدلوا بها على خالقهم ورازقهم
-سبحانه- ولم ينتفعوا بما يشاهدونه من آيات الله سبحانه في الآفاق وفي الأنفس، ولم يتدبروا آياته المتلوه وما فيها من النور والهدى والشفاء قال الله -عز وجل- عن هؤلاء المعطلين لعقولهم {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (سورة الأعراف 179) وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (سورة الحـج 46) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}(سورة الأعراف 182) وقال تعالى في الحث على إعمال العقل في تدبر القرآن {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (سورة محمد24) {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ} (سورة المؤمنون 68)([28])
وأول ما نزل من القرآن هو الدعوة للقراءة، والقراءة تحرك الفهم وإعمال العقل وتحقق الإدراك فقال تعالى: { اقرأباسم ربك الذى خلق *خلق الإنسان من علق *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (1-4) سورة العلق.
ونلحظ التأكيد الشديد على إعمال العقل بتكرار اقرأ مرتين، وذكر القلم ونعمة التعلم به ، وتكرار علم مرتين ويعلم مرة، وذكر الإنسان محور التعلم والفهم والمدعو لإعمال العقل والتفكر مرتين،وكذا الدعوة إلى بيان مجال القراءة الواسع المتمثل في كتاب الله المسطور والمنظور من آياته في القرآن وآياته في الإنسان.
بين القرآن في مواضع أخرى أن القرآن ما نزل إلا لتدبره وتذكره والتفكر فيه والعمل بما فيه، قال تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} (سورة ص 43) {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (سورة النحل 44).
وقد ورد التنويه بنعمة العقل وضرورة إعمال الفكر في العديد من أحاديث النبيr ومنها قوله: ( تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله)([29]) وقوله r "لقد نزلت على الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} (190) سورة آل عمران وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله ذكر r "ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" ([30]).
وجاء عن صلاته r في الليل "وأنه r كان يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بآية فيها سؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ"([31]).
والأحاديث الواردة في بيان نعمة التفكر وفضل العلم والانتفاع به وثوابه في الدنيا والآخرة أكثر من أن تحصى في هذا البحث .
وتعددت الآثار الواردة عن السلف الصالح في بيان نعمة التعقل والتفكر ومنها قول الحسن البصري "تفكر ساعة خير من قيام ليلة"([32]) وقال الفضيل: قال الحسن: الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك([33]) وقال وهب بن منبه: ما طال فكرة امرئ قط إلا فهم وما فهم امرؤ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل([34]).
وقال عمر بن عبد العزيز: "الكلام بذكر الله عز وجل حسن والفكرة في نعم الله أفضل العبادة ([35]).
وعنه أنه بكى يوماً بين أصحابه فسئل عن ذلك فقال: "فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتنا تنقضي حتى تكدرها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ذكر([36]).
وقال الحسن عن عامر بن قيس قال سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم يقولون "إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر([37]).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "بينما رجل ممن كان قبلكم كان في مملكته فتفكر فعلم أن ذلك منقطع عنه...([38])
وعن عباد بن عباد الخواص الشامي قال: "اعقلوا والعقل نعمة فرب ذي عقل قد انشغل قلبه بالتعمق فيما هو عليه ضرر عن الانتفاع بما يحتاج إليه حتى صار عن ذلك ساهياً([39]).
وسأل رجل أم الدرداء بعد موت أبي الدرداء عن عبادته فقالت: "كان نهاره أجمعه في بادية التفكر ([40]).
وقال الحسن "إن أهل العلم لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر والفكر على الذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة ([41]).
ومن كلام الشافعي "استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكرة ([42]).
ومن وصايا عمر بن الخطاب رضي الله عنه "الفهم الفهم".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية "من تدبر القرآن طالباً للهدى منه تبين له طريق الحق ([43]).
ولما كان ن الإجماع والاجتهاد وتراث السلف وعلماء الأمة من مصادر الثقافة الإسلامية فذلك كله دليل على تقديرهم نعمة العقل وإعمال الفكر، وبرهان على مدى ما بذلوه من جهد حتى قدموا للأمة تراثاً عظيماً من العلم والحضارة ما زال حديث الدنيا ويملأ سمع الزمان.
2- تربية العقل:
لقد نظرت الثقافة الإسلامية لتربية العقل على أنه مطلب يتكامل مع بناء الإنسان كلياً، فلا تنفصل أنواع التربية التي يتطلبها الإنسان عن بعضها، فالإنسان يحتاج في بنائه إلى التربية الجسدية والعقلية والنفسية والروحية وجميعها في درجات واحدة من الأهمية والمكانة، ومن ثم جاء اهتمام الإسلام ببناء الإنسان في جميع مراحل حياته بل وقبل وجوده ،وتأتي توجيهات الإسلام بضرورة تخير الزوج للزوجة والزوجة للزوج من بيئة الصلاح والاستقامة خطوة هامة في بناء الإنسان وتربية عقله، فبيئة الصلاح والاستقامة محط إرشاد العقول، وصواب الفهم وحسن الإدراك، بما تتميز به هذه البيئة من حس إيماني وجوانب هداية، ويوصي الإسلام بتعهد المرأة الحامل بالرعاية الصحية الكاملة لتتكامل بذور التربية بأشكالها للإنسان فيخرج معافى قوياً، وما أن ينزل من بطن أمه حتى يضع الإسلام مقررات الاحتفاء بالمولود من آذان في أذنه اليمنى وإقامة في اليسرى ، وتحسين اسمه ، وحلق شعره ، والتصدق بوزنه ذهباً في سابعه، وعمل العقيقة ، وغير ذلك من صور شكر نعم الله على أبويه، وهذا يعود بجو البشر والسرور وتذكر النعم الذي فيه إشارة إلى سلامة العقول واستقامة القلوب الأمر الذي يهيئ أرضية بناء العقل الراشد للمولود، ويأتي الأمر بتحفيظه القرآن الكريم منذ صغره وربطه بمعالم الدين ومظان العلم الشرعي أهم الخطوات في بناء العقل لدى الصغير، ليجمع بين العلم والإيمان، وتنشط لدى الصغير الذاكرة فيما علا وغلا ،لا فيما تفه وسخف.
فيتعلم الطفل منذ صغره مجالسة أهل العلم والفضل، ومدارسة القرآن وعلومه والسنة وعلومها، والشريعة وأصولها الأمر الذي يحصل به النفع الغزير وينأى به عن عوامل الشطط العقلي والجنوح الفكري.
القرآن وتربية العقل:
يتنوع دور القرآن وتأثيره على المسلم ليشمل ألوان التأثير كلها، ويقوم القرآن ببناء المسلم روحياً وعقدياً، نفسياً وعقلياً، خلقياً وسلوكياً([44])، يفيض القرآن بالخير في شتى المجالات والنشاطات على صاحبه ومتعلمه، ويبرز دور القرآن في تربية العقل فيما يلي:
1- إثارة عقل الإنسان ووجدانه للتفكير في النعم التي أنعم الله بها على الإنسان ومن ثم التفكير في عظمة الله تبارك وتعالى، ومن ثم يدفعه ذلك نحو الشكر والطاعة ([45]).
2- دفع العقل والفكر نحو المنهج الصحيح في التفكير وإعمال العقل، وسد منافذ الانحراف الفكري والشطط العقلي، فنبذ التعصب الأعمى والكبر والعناد والجمود والأفول وحارب التبعية العمياء، وأقام الفكر الصحيح على حسن النظر والاستدلال، وأقام القرآن منهج الإقناع العقلي الذي يرقى بالفكر ويحرر العقل من براثن الجهالة والتخبط.
ونقرأ من آيات القرآن في ذلك ما يلي قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}(سورة الأنبياء 22){وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}(سورة البقرة 170){وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ}(سورة غافر 81){لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}(سورة الأنبياء 22){أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ }(سورة غافر 82) {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (سورة النمل 59) {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (60) سورة النمل .
والآيات في ذلك أكثر من أن تحصى والتي تحمل دلالة الإقناع العقلي، وتحرير الفكر من الجمود والآفات التي تعوق عن طريق الاهتداء، "ويسلك القرآن في ذلك أسلوباً رائعاً ومزايا فريدة في تربية الفرد على الإيمان بالله ووحدانيته وباليوم الآخر... إنه يفرض الاقناع العقلي مقترناً بإثارة العواطف والانفعالات الإنسانية فهو بذلك يربي العقل والعاطفة جميعاً، متمشياً مع فطرة الإنسان في البساطة وعدم التكلف، وطرق باب العقل مع القلب مباشرة ([46]).
3- تكريم أولى العقل دافع نحو التعقل والتفكر:
فقد وصف القرآن الكريم أصحاب العقول والتفكر بها بعلو المكانة وسمو المنزلة ، وفي ذلك استثارة العقول نحو العمل والإبداع وعدم التعطل حتى تحظى بمنزلة المكرمين، وتهنأ بمقام الفائزين وفي ذلك نقرأ قول الله تعالى:{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (سورة الرعد 19) وذكر الله مقام المتذكرين والمتفكرين في خلق الله سبحانه المؤمنين به تمام الإيمان أنهم أهل الله المقربين منه يجيب دعاءهم ويفرج كربهم. چ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب *الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار*ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار *ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار*ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولاتخزنا يوم القيامة إنك لاتخلف الميعاد *فاستجاب لهم ربهم ... }(آل عمران 190-195) ، ويبين القرآن أن أهل العلم والنهى هم المعتبرون بآيات الله {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28) سورة فاطر.
4- ازدراء الجهل وتعطيل الفكر:
وفي خطوة لتربية العقل وتنمية طاقاته يشنع القرآن على الجاهلين والمعطلين لأفكارهم ومن ألغوا عقولهم ويأمر الرسول r بالإعراض عنهم {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) سورة الأعراف ويبين أن تعطيل عقولهم تسبب في سوء المصير {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} (سورة الأعراف 101) {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (سورة الأعراف 179)
ويقول الإمام الشافعي عن أثر القرآن وفهمه في الدنيا والآخرة مع تحقيق الأمن الفكري "إن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل لما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريب، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة، فنسأل الله المبتدئ لنا بنعمه قبل استحقاقها المديم بها علينا مع تقصير منا في الإتيان على ما أوجب من شكره لها الجاعل لنا في خير أمة أخرجت للناس أن يرزقنا فهماً في كتابه، ثم سنة نبيه صل الله عليه وسلم قولاً وعملاً يؤدى به عنا حقه، ويوجب لنا نافلة مزيده، فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبل الهدى فيها قال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (سورة النحل 89)([47]).
المبحث الثالث
التأكيد على فضل العلم النافع وضرورة بذله وطلبه
" إن العلم من المصالح الضرورية التي تقوم عليها حياة الأمة بمجموعها وآحادها فلا يستقيم نظام الحياة مع الإخلال بها بحيث لو كانت تلك المصالح الضرورية لآلت حال الأمة إلى الفساد وحادت عن الطريق الذي أراده لها الشارع([48]).
وما أفاض القرآن الكريم والسنة المطهرة في بيان فضل وقدر شيء مثل العلم، وما رفعا منزلة أمر كالعلم، وليس العلم وحده هو ما حاز تلك الرفعة والمنزلة بل رفع معه كل باذل له وهم العلماء، وكل طالب له وهم المتعلمون، ولا تكف أطروحة في إحصاء ما للعلم من شرف وأهمية، وما للعلماء من مكانة وقدر ،وما لطلاب العلم من منزلة وكرامة، ونقرأ من الآيات التي تحدثت عن فضل العلم وشرف العلماء ومكانة المتعلمين، قوله تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة آل عمران 18) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (سورة المجادلة 11) وبالعلم يتمايز الخلق {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (سورة الزمر 9) {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة الأنبياء 7) {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (سورة النساء 83) فأهل العلم ملجأ الحيارى .
ومن أحاديث النبي صل الله عليه وسلم قوله: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"([49]).
وقوله صل الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ([50]).
وقوله صل الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له([51]).
وقوله صل الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين([52]).
وقوله صل الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها([53]).
وقد تعددت أسباب التفضيل للعلم والعلماء كما أوضحت الآيات والأحاديث وجاء من بينها تحقيق العلم النافع والعلماء الصالحين للأمن الفكري الذي يعود على صاحبه بالثبات وعدم الحيرة، وحسن النظر والإدراك، ودقة الفهم والفقه، وتجنب الزلل أمام الشهوات ووساوس الشيطان فقد بينت الآيات "أن العلماء هم الذين يخشون الله حق خشيته لكمال معرفتهم به، وامتلاء قلوبهم بتعظيمه ومحبته، ورجائه وخشيته، وتفكرهم في آياته الكونية والشرعية، وإدراكهم لمقاصد شريعته وغاياتها، وحكمها وأسرارها، فيزداد يقيناً بأن هذا الدين هو الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده.... والعلم النافع يعصم صاحبه بتوفيق الله من الانحراف والضلال،ويحميه من الوقوع في البدع والمحدثات، والشركيات، والضلالات، ويحمله على تعظيم الشعائر والحرمات، والتجافي عن المنكرات والموبقات، بخلاف العابد الجاهل، فإنه قد يقع في شيء من هذه المخالفات بسبب جهله..([54]).
"وعلى قدر علم الإنسان وفقهه وقوة بصيرته وسعة أفقه ومعرفته بواقعه يكون حكمه على الأحداث من حوله، وإدراكه لكيفية التعامل معها، ونظره إلى عواقبها ومآلاتها...([55]).
ولأهمية العلم وطلبه وبذله عاش له السلف الصالح من علماء الأمة الأجلاء، ومفكريها الأفذاذ، والتاريخ الإسلامي زاخر بتراث علماء الأمة، ومنهجهم في بذله وطلبه، وكان من الاهتمام بفضل العلم وطلبه وبذله أن أفرد علماء السلف الصالح للعلم كتباً وأبواباً في مؤلفاتهم خاصة في الحديث والعقيدة وغيرهما.
ويبرز دور الثقافة الإسلامية في تحقيق الأمن الفكري لدى المجتمع من خلال بيانها لفضل العلم ونشره فيما يلي:
1- رفع درجة الوعي بضرورة تحصيل العلم الشرعي:
تكفل الثقافة الإسلامية حال تفعيل نشرها بين أفراد المجتمع تحقيق درجات مختلفة من الإدراك والوعي حسب مؤهلات الفئات والشرائح الاجتماعية، فهي تقدم للشرائح البسيطة وعامة الناس الحد الأدنى على الأقل من الوعي بدينهم ودنياهم ، بما يتحصلون عليه من مقررات العلم الشرعي والذي يكتسبونه من الوسائل المختلفة لنشر هذا العلم في المساجد والمؤسسات الدعوية والإعلامية المختلفة.
إن كثيراً من الناس من تشغله لقمة عيشه عن تحصيل العلم، وتأخذه هموم البحث عن الرزق عن طلبه، وتذهب المشكلات الأسرية والاجتماعية بقاعدة عريضة من فئات المجتمع بمنأى عن البحث عن طلب العلم من مظانه وملازمة العلماء، وهؤلاء تقدم الثقافة الإسلامية