جوني منصور: حيفا قبل النكبة لؤلؤة بلاد الشام
جوني منصور: حيفا قبل النكبة كانت مركزا اقتصاديا وصناعيا وثقافيا (الجزيرة)
حاورته بيسان العمري
من زار مدينة حيفا الفلسطينية الساحلية شمال فلسطين قبل نكبة عام 1948 كان يجدها تحتضن المصري والشامي والتونسي والعراقي, وهي مدينة صغيرة تسترخي عند التقاء جبل الكرمل بالبحر الأبيض المتوسط مما أعطاها تميزا بين مدن بلاد الشام، عززه تنوعها اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا.
يقول جوني منصور المؤرخ وابن المدينة -الذي أرخ لها في جهد امتد عشرين عاما وقدمه في كتاب حمل اسمها- إن حيفا قبل النكبة تميزت بنعيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
حول مضمون الكتاب الذي سيوقعه منصور -المولود عام 1960- يوم 14 مايو/أيار 2016 ضمن فعاليات معرض فلسطين العاشر للكتاب في رام الله، كان الحوار التالي:
من المعروف أن حيفا كانت واحدة من أهم مدن فلسطين وكانت قبل النكبة مركزا تجاريا إلى جانب كونها حاضرة صناعية وثقافية وفنية. حدثنا عن حقبة ما قبل النكبة في حياة المدينة؟
ما قبل النكبة, تميزت مدينة حيفا بأنها هي مركز لثلاثة مرافق اقتصادية مركزية. أولا خط سكة الحديد الذي تأسس بالفترة العثمانية عام 1905. هذا الخط الذي بدأ من دمشق إلى المدينة المنورة لكن كان فيه خط فرعي يخرج من درعا جنوبي سوريا إلى مدينة حيفا، أعطى انتعاشا اقتصاديا لأنه ربط المناطق الداخلية بسوريا مع الساحل الفلسطيني. المرفق الثاني الهام هو الميناء, ميناء حيفا الحديث كان بوابة لفلسطين لسوريا والأردن وحتى للعراق عندما صار هناك سكة حديد. المرفق الثالث هو المنطقة الصناعية التي تم بناؤها بفترة الانتداب البريطاني للجهة الشرقية من مدينة حيفا, معامل تكرير البترول, الصناعات البتروكيميائية والصناعات الثقيلة.
هكذا أوجد الميناء سبعة آلاف فرصة عمل، وأوجدت منطقة معامل تكرير البترول عشرة آلاف فرصة عمل، وأوجدت سكة الحديد حوالي أربعة آلاف فرصة عمل. لذلك بدأ الكثير من العمال بالقدوم إلى حيفا من لبنان وسوريا والعراق وشرق الأردن وحتى من اليمن ومن شمال أفريقيا. هؤلاء عملوا في المدينة وبنوها… أنا لا أتحدث فقط على بناء المرافق الاقتصادية إنما بناء الحياة الاقتصادية. وأضف إلى ذلك بناء العائلات. هذا الشخص الذي أتى من مصر لا يعود كل أسبوع أو كل شهر إلى بلدته. وبذلك هو يضطر لإحضار عائلته ويبدأ ببناء العائلة، وبعد ذلك هناك احتياجات للمؤسسات الخدمية مثل المدارس والنوادي والمرافق المختلفة. وبهذه الطريقة انتعشت مدينة حيفا اقتصاديا واجتماعيا.
مبنى قديم مشرف على ميناء حيفا
بالإضافة إلى الحياة الاقتصادية، كانت هناك منافسة بين حيفا وبيروت -كما نعلم- في مجال الحياة الثقافية والفنية. أليس كذلك؟
-نعم, أولا كمدينة اقتصادية اجتماعية من الدرجة الأولى بدأت تصل الكثير من الفرق التمثيلية والمسرحية والغنائية من مصر باتجاه لبنان وكان لها محطات في يافا وفي حيفا. حيفا كانت تستقطب ليس فقط سكان حيفا بل أيضا من المناطق المجاورة مثل قرى الجليل الغربي, الناصرة وشفا عمرو إلى آخره. على سبيل المثال, عميد المسرح العربي يوسف وهبي, كان يأتي إلى حيفا مع فرقته رمسيس. فريد الأطرش قدم ستة عروض. أم كلثوم قدمت عرضين بحيفا واكتسبت لقبها كوكب الشرق من مقهى اسمه مقهى كوكب الشرق في حيفا. لذلك كل هذه الحياة المسرحية والغنائية والتمثيلية بدون أدنى شك أثرت حياة المجتمع في المدينة وأضافت لها زخما.
وكان إلى جانب ذلك, 35 جريدة وصحيفة بهذه المدينة كانت أسبوعية وشهرية وفصلية. في حين كانت بيروت تأتي بالصف الثاني. وجاء انتعاش بيروت بعد عام 1948, ويمكن الاستناد إلى ما كتبه الباحث اللبناني الفلسطيني السوري المعروف سمير قصير الذي قال في كتابه (تاريخ بيروت) "ما كان لبيروت أن تصبح عاصمة الثقافة العربية إلا بعد سقوط مدينة حيفا".
نعود لموضوع الاقتصاد، كانت حيفا تشكل المدينة الفلسطينية الأولى وكان الهدف ربما الأول للحركة الصهيونية هو تدمير التطور وهدم المجتمع الفلسطيني, وكانت حيفا ويافا نموذجا لذلك. وما كان للمشروع الصهيوني أن ينجح -كما يقول البعض- دون تدمير مجتمع حيفا ويافا. ما تعليقك؟
– طبعا كان المخطط الصهيوني واضحا، أولا إلحاق ضربة قوية ومباغتة بالمدن الفلسطينية, أولا مدينة حيفا لأن مركباتها الاقتصادية وموقعها الإستراتيجي وميناؤها, وثانيا حيفا هي أيضا مدينة تجارية من الدرجة الأولى. إذا أخذنا مدينتي حيفا ويافا اللتين سقطتا بوقت مبكر قبل الإعلان عن إقامة إسرائيل, فنحن نتحدث عن 25% من النكبة الفلسطينية. كانت الخطة إبادة المدينة وبالتالي تحويل السكان المدنيين الفلسطينيين إلى سكان أرياف.
ونحن نعلم أن من يتحول لسكان الأرياف هو بالتالي سيخدم المدن الجديدة التي ستقام. من ناحية أخرى, بتدمير المدينة يُدمر الاقتصاد والثقافة ويتم تدمير الحياة الاجتماعية، وبالتالي فأنت تقوم بعملية إبادة ثقافية وليس فقط إبادة المكان. دفعت كل هذه المركبات الحركة الصهيونية لتدمير المدن الرئيسية في مقدمتها حيفا ويافا, اللد والرملة, وصفد وطبريا وبيسان وبئر السبع. عندما أُبيدت هذه المدن بعدها جاءت عملية إبادة القرى والأرياف وكان الحديث عن مليون لاجئ فلسطيني.
إبادة مدينة حيفا أدت إلى فقدان الطاقة الاقتصادية والقدرة الاقتصادية التي كان يتمتع فيها المجتمع الفلسطيني، لأن الأرياف طبعا كان لها هي الأخرى الثروات والخيرات الطبيعية والزراعية, لكن لم يكن لديهم القوة الاقتصادية كما كانت في حيفا.
مبنى قديم في حيفا
ماذا كان ذلك يعني بالنسبة للحركة الصهيونية آنذاك؟ طبعا كان سهلا عليها الاستيلاء على هذه المدينة, والانقضاض عليها بليلة واحدة بين 22 و23 أبريل/نيسان 1948. وسقطت المدينة وكل ما تهوّلُ له الرواية الصهيونية بأنها واجهت مقاومة شديدة وصعوبة غير صحيح, لأن المواقع الاستيطانية التي كانت على قمم جبل الكرمل انقضت على المدينة بسهولة. ثانيا, قضى الإنجليز على الثورة العربية الفلسطينية في الثلاثينات ولم يجرؤ أي فلسطيني على حمل السلاح إلا سرا. أضف لذلك, تمكن اليهود من السيطرة على المواقع المركزية ليس فقط داخل المدينة بل أيضا في محيط مدينة حيفا. وهذا ما أهلّ للحركة الصهيونية وتنظيماتها العسكرية الاستيلاء على مدينة حيفا عسكريا واقتصاديا.
ربما الأهم في كل ما جرى في حيفا أن إسرائيل الفتية في حينه التي كانت تتبلور كدولة حصلت على اقتصاد جاهز من مصانع وتجارة ومعامل وميناء ومؤسسات وكل شيء. السيطرة على اقتصاد مدينة حيفا كان له أهمية في بناء الخزينة الفارغة. ما أهمية هذا الموضوع بدفع عجلة اقتصاد إسرائيل وبنائها اقتصاديا في حينه؟
عام 1948, لم تكن هذه البلاد فارغة، فهذا واضح. كان هناك مؤسسات اقتصادية وشركات ومعامل ومؤسسات بنكية ومصرفية ومؤسسات تعليمية, قطاع خاص وقطاع عام. البنية التحتية الاقتصادية لفلسطين كانت موجودة. صحيح أن اليهود كانوا يمتلكون قطاعات ومؤسسات اقتصادية في المستوطنات، لكن القطاع الأكبر كان لدى المواطنين الفلسطينيين العرب. وكل هذه القطاعات تمكنت إسرائيل من السيطرة عليها وأصبحت في حوزتها, مما أهل إسرائيل في بداية عهدها على أن يكون لديها اقتصاد ثابت وقوي مبني على ما خلّفهُ وما تركه الفلسطينيون هنا جراء النكبة عام 48. وهذا أعطاها مصدر قوة لتنطلق. نحن نعلم أنه في السنوات العشرة الأولى لإسرائيل كانت هناك عملية تطوير ما هو قائم. وأهلت سيطرة إسرائيل على القطاعات الاقتصادية المختلفة، في مدينة حيفا وفي سائر لأنحاء فلسطين, دولة إسرائيل التي تأسست عام 1948 إلى أن تتطور وتُنمي ما كان موجودا, مما بناه العرب في فلسطين وفي مدينة حيفا. جاءت إسرائيل واستفادت من هذا المخزون من هذا الموروث, وهو ليس ماديا فقط بل البنية التحتية الاقتصادية التي كانت موجودة واستمرت في عملية التطوير، وهذا وفّر عليها مبالغ طائلة وساعد إسرائيل على تطوير قدراتها الاقتصادية في المستقبل.