جهاد جبارة - اعتلى العابر اجنحة اشواقه للبيداء، وحلّق مبتعداً عن ضوضاء المدنة، قذفته الرياح نحو الجنوب ثم راحت تشرّق به الى ان غاص بصره بتلك الأمواج الأرجوانية من حبات الرمل التي نعست ما ان لامست صدر الصحراء، فنامت عند المغيب، لتصير كثباناً تقضي ما تبقى من ليلها هناك!.
اصطدمت اجنحة اشواق العابر بكثيب كان يغفو وحيداً مبتعداً عن باقي الكثبان، فهبط لدى سماعه حِداء حزيناً تردّد صداه تلك السفوح التي طوّقت المكان، بينما الابل عائدة يقودها الطرب الذي متّعها به ذلك الراعي الكهل وهو يضع على كتفيه عباءة من وبر كان قد تساقط عن اجساد قطيعة طوال رحلات شقاء البحث عن الكلأ والاشواك!.
وما ان تجمعت الإبل راحت تَبرُك فوق الرمال الناعمة استعداداً للنوم الذي ستقضيه تحلُم برحلة الصباح التالية، هنا راح العابر يبحث في مكتبة ذاكرته عن تلك الاساطير التي كان قد قرأها عن الجِمال، كيف، ومن اين اتت لتستقر في تلك الصحراء المترامية الاطراف، تذكّر انه قرأ كتاباً للمستشرق «موزل» بعنوان: MUNNERS AND CUSTOMS وفيه ينقل المؤلف ما كان قد سمعه من عرب «الرولة» من ان الجمال كانت بحوزة احدى القبائل غير العربية ولكنها خسرتها ذات غزو من قبل قبيلة عربية وكانت بداية لقاء عرب الصحراء، وبدوها بهذا الكائن فأحبوه، ودجنّوه، ثم عاد العابر وتذكر انه قرأ كتاباً كان عنوانه THE CAMEL أي الجمل لمؤلفه ARTHER LEONARD وفيه بأن الجِمال قد سارت من موطنها الاصلي في اميركا فعبرت بر «الاسكا» ومنه اتجهت نحو آسيا حينما كان ذلك البر متصلاً بها ابان العصر «البليستوني» والذي رواه ايضاً كتاب «تاريخ العرب» في صفحته 50، لكنه أي العابر عاد فتذكر بأن بقايا متحجرة من هيكل الجمل العظمي وجدت في تلال «السوالك» في الهند، وايضاً في كشمير، بالاضافة لبقايا اخرى وجدت في شمال افريقيا وتحديداً «الجزائر» ويعود عمر تلك الهياكل للعصر «الميوسيني».
وحين اقترب العابر من واحدة من النوق اللواتي بركت قريباً من حوارها تذكر ان اقدم رسم للجمل وُجد محفوراً على قطعة حجر يعود لأزمنة العصر الحجري، وتذكّر ان اقدم ذِكر ورد عن الجَمَلِ في الكتب كان قد جاء في التوراة، وهو ما ورد عن سيدنا «ابراهيم» حينما كان في مصر هو وزوجته «فصنع الى ابرام خيراً بسببها وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء واتُنُ وجمال» تكوين 12:16.
ولما هبطت عتمت الليل واشتد برد كوانين في تلك الليلة كانت واحدة من النوق تتململ، فقامت متثاقلة لتبتعد عن صاحباتها، وتنزوي في مكان لا يراها فيه احد، قال الراعي: انها توشك على الولادة وهذه عادة اناث الابل عندما يأتيها المخاض، فتبعها مختفياً في ذلك الظلام الذي عم الارجاء.
وديعة الى حد الجبن
الراعي الذي عاد قبل الفجر بقليل وقد امتلأ قلبه سروراً لان ناقته «الوضحا» قد انجبت بسلام, قال حين سأله العابر عن معنى «الوضحا» ان للابل الوان مثل الملحاء, الحمراء, الشهباء, الوضحاء, الزرقاء, الدخناء, الغبشاء, البيضاء, الشقحاء, ونلفظها نحن البدو مخففة دون الهمزة, وفي بعض الاحيان مصغرة مثل «البويضا, الحميرا, الغبيشا.. وهكذا.
ويستطرد الراعي في حديثه عن الابل فيصفها بأنها مسالمة, وديعة الى حد الجبن, وهي من اكثر الكائنات حنوا على مواليدها, حتى اننا حين نعرف بأن ناقة كانت قد فقدت وليدها فإننا نحاول التخفيف عن حزنها بأن نقوم بحشو جلد وليدها الميت بالهشيم أوالتبن الجاف ونضعه على مقربة منها فتقوم هي بشمّه فتستذكر رائحته من خلال رائحة جلده فيخفت حزنها ونسمي ذلك بـ»البو».
يواصل راعي الابل حديث عنها فيقول, انها صبورة عن الماء فتستطيع ان تبقى نحو خمسين يوماً في فصل الشتاء دون ان ترد الماء خلالها, وقد تبقى لخمسة ايام في فصل الصيف دون ان ترده خلالها, لكنها ان كانت «عازبة», بعيدة في البيداء عن مواقع الماء فإنها تعطش ان طال عليها امد الورد فتدمع عيونها, وتعاف المرعى, وتأخذ في الحنين, وهنا تذكر العابر ما كان قد قرأه في «فتوح البلدان» لمؤلفه «البلاذري» وفيه ان خالد بن الوليد لما امره ابو بكر رضي الله عنه ان يسير من العراق نحو سوريا لاغاثة جند المسلمين فيها انطلق ابن الوليد الى ان بلغ «سوى» لكنه خشي على جيشه ان يهلك عطشاً خلال اجتيازه الصحراء فعمد الى رواحله فأعطشها, ثم سقاها وقطع مشافرها حتى لا تجتر, وبعدها اكمل مسيره ثم راح ينحر هذه الرواحل, راحلة, راحلة ويشرب وجنده الماء من أكراشها.
الراعي و غريق لذاكرة
اما الراعي الذي لاحظ ان العابر يكاد يغرق في الذاكرة, فقد راح يروي له المزيد عن الابل فيقول: انه اذا اشتد حر الصيف, فإن بعض الابل المحرورة تلجأ للتمرغ في الرمل الارجواني, فإن مرت بأرض ذات رمل ناعم املس, بركت عليه وراحت تتمرغ على ظهورها ذات الشمال واليمين وكأنها بهذا تحاول ان تستحم, وكثيراً ما تتزاحم الابل على مرّاغة واحدة الى ان تتسع رقعتها.
يواصل الراعي وصف الابل, فيصف الكريمة منها بأن لسنامها ضمورة ثابتا فوق جسدها باتزان واعتدال, ذات فخدين ملتفين, واسعة الصدر, وبارزة المنكبين, صغيرة المناسم والزور, ومفتولة العضدين, منتصبة العنق, متقدة العينين لامعتهما, مؤللة الاذنين حادتهما.
وحينما اشتد برد ما قبل بزوغ الشمس قام راعي الابل بجمع ابعارها ليوقدها ناراً يستدفئ عليها هو وضيفه العابر بينما كان يروي له اننا لا نشرب حليبها, ونأكل لحومها فحسب بل اننا نصنع من جلودها رواء لحفظ الماء, وسفاء لنشل الماء من الابار, واحذية تقينا حرارة رمال الصحراء صيفاً علماً ان بعضنا يضعون من جلودها سقوفاً لخيامهم, اما وبرها فننسج منه اكياساً لخزن الحبوب والطحين, وشققاً لاروقة الخيام, واغطية لسروج الخيل, ونصنع منه العباءات ايضاً.
العابر الذي امتعه الحديث عن الابل سأل راعيها عن اسماء اعضاء الواحد منها فقال الراعي نحن نطلق على قبة ظهر البعير او الناقة «سنام» وعلى الكتف «غارب», وما فوق الركبة نسميه «عضد» والقدم «فرسن» واسفل القدم «خُف» وعلى قصبة الانف «عرنون» وعلى الانف «خشم, والمشفر برطم».
اما منطقة ما فوق العين فنسميها «حَجَاج» واسفل العُنُق «منحر» والثدي «ضَرع»، اما رأس الذيل فنسميه «شبيب».
مواليد الابل
واستطرد في شرحه فقال اما مواليد الابل فلها ايضاً اسماء تتعلق بأعمارها فنطلق على مولودها ان كان بعمر عام واحد «حوار» ونقول عن صاحب العامين «لَبني» اما صاحب الاعوام الثلاث «هج» والاربع «جذع» والخمس «ثني» وصاحب الاعوام الستة فنقول عنه «ربعي».
وبينما كانت شمس ذلك النهار تكابد كي تفتح لها نافذة في جدار غيم كوانين كان الراعي قد حمل وعاء ليملأه بحليب ناقته «البويضا» وبينما كان ينزع عنها «الشملة» تمهيداً لحلبها، كان العابر المولع في الجِمال والجَمال يُرددّ بيت شعر «الكسائي»:
فهي جملاءُ كبَدر ٍطالعٍ
بذّت الخلقَ جميعاً بالجمالِ