رابعاً - حكم القصاص
فرض الإسلام القصاص حتى لا تنتشر الفوضى والاضطرابات في المجتمع، ولإبطال ما كان عليه الجاهليون قبل الإسلام من حروب بين القبائل يموت فيها الأبرياء الذين لا ذنب لهم ولا جرم، فجاء الإسلام وبيَّن أن كل إنسان مسئول عما ارتكبه من جرائم، وأن عليه العقوبة وحده، لا يتحملها عنه أحد.
يأخذ القصاص في الشريعة الإسلامية حكم الفرض الثابت فقد جاء في القرآن الكريم (كتب عليكم القصاص) فهو في منزلة الصيام والجهاد من حيث الحكم فقد جاء في القرآن الكريم (كتب عليكم الصيام) (البقرة:183) و(كتب عليكم القتال)البقرة 216) وقال تعالي في سورة النساء الآية(103) (إن الصلاة كانت علي المؤمنين كتابا موقوتا) أي أنه من الفروض الثابتة.
تتضمن الآية (179) من سورة البقرة (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)) الحكمة من القصاص في معان بلاغية هي:
1 – جعلت فائدة القصاص عامة تشمل المجتمع كله ولم تقصره علي ولي الدم وحده ( المجني عليه) بدليل قوله تعالي في بداية الآية (ولكم) فالقصاص ليس انتقاما لفرد ولكن للمحافظة علي حياة الجماعة والمجتمع المسلم كله.
2 – أطلاق لفظ (القصاص) علي العقوبة فيه حكمة أبلغ من العدالة لأن القصاص يتضمن المساواة بين الجريمة والعقوبة، مما يعد معه القصاص مانع قوي وسدا منيعا للجريمة، وبذلك يحيا المجتمع حياة هادئة هانئة مستقرة وتنعدم الجريمة في المجتمع، وهذه غاية لم تصل إليها النظم القانونية الوضعية حتى الآن، فالسياسة العقابية في أي نظام قانوني تهدف للمساواة بين الجريمة والعقوبة.
3 – يتبين من الآية أن حياة الجماعة في القصاص، لأن عدم وجود القصاص يؤدي إلي أهدار الدماء وكثرة القتل في المجتمع، مما يؤدي إلي الفوضى في المجتمع، مما يهدد حياة الجماعة ويهددها بالفناء.
4 – تشير الآية أن الحياة التي تستحق أن يطلق عليها حياة هي الحياة الهادئة المستقرة وهي التي تتحقق بالقصاص، والدليل علي ذلك أن كلمة (حياة) جاءت في الآية نكرة والتنكير هنا للتفخيم والتعظيم.
5 – أن هذه الحكمة البالغة والغاية العظيمة لا تدركها إلا العقول النيرة السليمة التي تعرف جيدا مصلحة الجماعة، فالخطاب في الآية الكريمة لأولي الألباب فقال تعالي (يا أولي الألباب) وهم أصحاب العقول التي خلصت وبرأت من الأهواء والشهوات.
6 – تعتبر هذه الآية ردا بليغا علي دعاة إلغاء عقوبة الإعدام، وتعضدها وتساندها وتؤكدها الآية(32) من سورة المائدة، لأن إلغاء هذه العقوبة يعني كثرة القتل في المجتمع وانتشار الفوضى مما يأتي إلي انهيار هذه المجتمعات، فلا خوف من الحرمان من الحياة وبذلك تنتشر الجرائم الخطيرة التي تهدد كيان المجتمع كله.
ننتقل إلي الآية (32) من سورة المائدة : (( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ))
هذه الآية نزلت في حادثة قتل قابيل علي يد أخيه هابيل أبني آدم، والعلاقة بينها وبين القصاص بيان الداء والعلاج معا فالداء هنا في حادثة القتل الحقد والحسد وفقد العواطف الإنسانية النبيلة عند القتل، مما يعني أن القاتل قطع كل الروابط التي تربطه بالجماعة بإقدامه علي القتل، مما يجعله عنصر تدمير وفساد في المجتمع، لذلك ينبغي أن يكون الدواء من جنس الداء عن طريق إبعاده عن المجتمع وحرمانه الحياة كما حرم المقتول من الحياة، لذلك يجب بتره من المجتمع.
والآية الكريمة تبين أن الاعتداء علي النفس هو الجريمة بدون تفضيل في الأنفس سواء أكانت نفس طفل أو رجل أو امرأة، كما لا يهم اللون أو المكانة أو الوظيفة أو الحسب والنسب، فمناط الحماية في الآية الكريمة هي النفس الإنسانية ذاتها، مما يدل علي أن الشريعة الإسلامية تحمي النفس الإنسانية ولا تهدرها بدون حق أو سبب، وتأكيدا علي ذلك جعلت الآية قتل نفس واحدة مساوية لقتل الناس جميعا فقال تعالي(الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) التشبيه هنا يدل علي اهتمام الإسلام بالنفس الإنسانية وعظم جريمة القتل، فحق الحياة مقدس وهو حق ثابت لكل فرد في المجتمع بقدر متساوي، لذلك عدت الآية قتل نفس بمثابة قتل كل الأنفس وتعادل قتل الناس جميعا لأنه تعدي علي الإنسانية كلها.
وتأكيدا علي أن القصاص حياة قال تعالي في هذه الآية (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) ويدل ذلك علي أن القصاص من القاتل يعني إحياء للحياة المجني عليه باحترام دمه وعدم ضياعه هدرا، وبالتالي تتحصن حياة كل نفس في المجتمع وتحمي وتحيى، لأن القصاص فيه ردعا عام للمجتمع فمن عرف أنه إذا قتل سوف يقتل فأنه يحفظ ويحافظ علي حياته وحياة غيره، وقد أشارت هذه الآية إلي الغاية الحقيقية من القصاص وهي المحافظة علي حياة الأفراد في المجتمع، هذا بشأن القصاص في القتل.
ولكن القصاص يوجد أيضا في الأطراف وليس في القتل وحده، وبينت ذلك ونصت عليه الآية(45) من سورة المائدة فقال تعالي ((وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)).
وقد أجمع فقهاء الإسلام من عهد الصحابة إلي عصر الأئمة المجتهدين وبإجماع الأمة علي أن القصاص فرض فيما دون النفس ومكتوب إذا أمكن، بدليل النص عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، لأن ما دون النفس(الأطراف) يجب المحافظة عليه والقصاص يحافظ عليه، والقصاص يجب في كل الأطراف وليس في الأطراف المذكورة صراحة في الآية(45) السالفة، بدليل قوله تعالي (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).
وقد أخذ بعض القانونيين علي القصاص فيما دون النفس بعض الانتقادات هي:
1 – يؤدي الأخذ به إلي كثرة المشوهين في المجتمع، مما يعيق العمل وينقص من القدرة البشرية في المجتمع.
2 – أنه ليس عقابا بل انتقاما، وغاية القوانين الإصلاح وليس الانتقام.
3 – لا يندر المساواة في قطع الأطراف، حيث يمكن قطع اليد القوية باليد الضعيفة.
هذه الانتقادات غير صحيحة بل هي مغرضة لما يأتي:
1 - أن القصاص في الأطراف لا يكثر المشوهين في المجتمع بل العكس هو الذي يحدث، لأن الإنسان إذا عرف أنه إذا أقدم علي قطع يد أخر فأن يده ستقطع، فأنه لن يقدم علي هذا الفعل، مما يتحقق معه منع الجريمة وليس زيادتها كما يدعي هؤلاء.
2- أن القصاص في الأطراف ليس انتقاما لأن الانتقام ليس فيه مساواة بين الجريمة والعقوبة بل مساواة حقيقية بينهما كما أن الانتقام يكون من المجني عليه وليس من ولي الأمر(الحاكم أو من ينوب عنه)، والقصاص يقوم به ولي الأمر وليس المجني عليه.
3 – مناط الحماية في القصاص فيما دون النفس أي في الأطراف والجروح هي سلامة الأعضاء وليس التساوي في القوي الطبيعة، أي قوتها، فقد تكون يد ضعيفة في نظر الناس ولكنها في نظر صاحبها قوية تؤدي دورها في حياته كاملة كما هو الحال مع الأقوياء الأصحاء، لأن أساس القصاص المساواة في الأنفس البشرية لأن الناس متساوية أمام التشريع الإسلامي.
وعلي ذلك لا يجب ولا يصح أن يكون هناك تفاوت بين الناس في القصاص، وقد أكد ذلك قول الرسول صلي الله عليه وسلم (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم) فالمساواة في القصاص تكون في الأنفس والأعضاء والدماء، فلا تفرقة بين الناس في الأوصاف سواء كانت أوصافا ذاتية فلا فرق بين لون ولون فقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم(كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي علي أعجمي ولا أبيض علي أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح) وقال أيضا (الناس سواسية كأسنان المشط).
يلاحظ عند القصاص في الأطراف تحقيق المماثلة وعدم الاعتداء أو النقص في أمور ثلاثة هي:
1 – التقابل بين الأعضاء فالأعضاء المتقابلة تقطع، فاليد اليمني باليد اليمني والصحيحة بالصحيحة فلا تقطع الصحيحة بالمريضة وهكذا.
2 – الأ تؤدي المقابلة إلي زيادة أو نقص، بمعني أن يكون التماثل ممكنا لا يزيد عن الجريمة، فإن كان التماثل غير ممكن فلا يوجد القصاص، التماثل في الوصف والتماثل في فقد المنافع.
3 – أن تكون المنفعة التي فقدت تقابل المنفعة التي تزول بالقصاص.
4 - لا يقام القصاص إلا بعد أن يشفي المجني عليه، فإن شفي وعاد لهيئته ولم يحدث نقصان فليس فيه قصاص، فإن كان هناك نقصان أقيم القصاص بحسب ما قطع.