في ظل المبادرات المتكررة لإعلان الدولة الفلسطينية
المفقود فلسطينياً.. وطن أم مواطن؟!
هل يستعيد الفلسطيني فلسطينيته؟ سبعون عاماً مضت على صدور الكتاب الأبيض، فقد توصل وزير المستعمرات البريطاني آنذاك -وبعد جملة من التطورات، أهمها انطلاق مجموعة من الثورات الفلسطينية في وجه الانتداب والوجود الصهيوني-إلى صيغة كتاب جديد تحدد سياسة بريطانيا بخصوص أرض فلسطين، لم يكن هذا الكتاب سوى تعبيرا عن أزمة الخيارات التي عاشتها بريطانيا في ظل اشتداد الرفض الفلسطيني لما تكرسه على الأرض. تطرق الكتاب إلى جملة من القضايا، أهمها الهجرة اليهودية، ونقل الأراضي، والكيان السياسي المتوقع تأسيسه حال انتهاء ما عرف بالانتداب البريطاني. وشكّل هذا الكتاب حينها مفترق طرق للعصابات الصهيونية، فقد تحولت بريطانيا من الأم الرؤوم إلى العدو اللدود بين ليلة وضحاها. اشتاظ حاييم وايزمان غضبا من صديقه ماكدونالد، واستهدفت عصاباته مقار الانتداب في فلسطين. أبرز ما أثار رموز الصهيونية آنذاك، هو وعد بريطاني رأوه جبّ ما سبقه –بلفور-، حين نفت بريطانيا نيّتها إقامة دولة يهودية، وأكدت ضرورة إقامة دولة فلسطينة خلال عشر سنوات. ورغم غضب الصهيونية، واعتبار البعض لمثل هذا الكتاب تطوراً سياسياً لموقف بريطانيا، إلا أن الشق الثاني من القرار المتعلق بإقامة الدولة الفلسطينة، هو ما دفعنا للتذكير بهذا الكتاب، ومحاولة الانطلاق منه لتوضيح التتشابه، بل التطابق بين كل أطروحات إقامة الدولة الفلسطينية من قبل القوى المسيطرة في العالم، أو من يتبنى مواقفها.
الشروط المتبدلة لنضوج الفلسطيني
الشق الثاني، ووفقا لماكدونالد: أن يصبح الفلسطيني قادرا على حكم نفسه بنفسه، هو شرط إقامة الدولة وإنهاء الانتداب، مع نقاط أخرى تتعلق بضمان مشاركة اليهود وحفظ حقوقهم. بمعنى أن مقبولية فكرة إقامة دولة فلسطينية مشروطة بنضوج الفلسطيني، منطق كهذا؛ يعني أن المفقود هو المواطن الفلسطيني وليس الوطن، وهذا حق لا يمكن إنكاره، فلسفياً على أقل تقدير؛ إذ إن غياب الكيان السياسي لا يعني فقدان الوطن، وإنما فقدان المواطن القادر على حماية أو بناء كيانه السياسي، لكن ما أريد من وراء هذا الطرح البريطاني باطل دون شك.
من ماكدونالد إلى أوباما، مرورا بالعديد من المشاريع والخطط التي قدمت لإقامة دولة فلسطينية، ضمت شخصيات عربية وفلسطينية وأمريكية وبريطانية، ولنعدد من أصقاع العالم ما شئنا، سنجد أن هناك من أدلى بدلوه لإقامة الدولة. يقال: "يخلق من الشبه أربعين"، ومن أشباه كتاب ماكدونالد، خُلقت مئات الكتب والمبادرات والمشاريع، كلها تنشد الدولة الفلسطينية المستقلة، واتفقت دوما على شرط أساسي، هو نضوج الفلسطيني.
نضوج الفلسطيني من وجهة نظر ماكدونالد يتطلب:
• ضمانه استقرار مصالح بريطانيا في المنطقة،
• حمايته لليهود ومصالحهم،
• ضمانه مشاركتهم، واستيعابه المزيد من مهاجريهم، رغم تحديد العدد.
وإلا.. فإن قرار التأجيل سيظل حاضراً.
أمّا نضوج الفلسطيني من وجهة نظر، أمريكا ورؤسائها وأصحابها وأتباعها، وحجارة الشطرنج خاصتها:
• اعتراف بدولة إسرائيل وحقها في الوجود،
• نبذ العنف،
• الالتزام بالاتفاقيات الموقعة،
نضوج الفلسطيني من وجهة نظر نفس الجهات السابقة، لكن بعد إجراء التحديثات التي تطلبتها مواءمة حالة الضعف والتراجع في الإقليم، وانخفاض مستوى الشعور بتأنيب الضمير، تضمّنت تعديلا لصيغة البنود؛ فأضحى الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل أحد معايير النضوج الفلسطيني، فيما نبذ الإرهاب والتعهد بمحاربته ثانيها، على أن يحفظ الفلسطيني التزامه بما خطت يدا من وقع عنه في أوسلو.
ها نحن على بعد 70 عاما من أول طرح رسمي لإقامة دولة فلسطينية. لم تقم الدولة، ولم تنته المبادرات، لكن متطلبات النضوج تغيرت وتطورت ليصبح تحقيقها إنهاءً كاملاً لفكرة الدولة حتى في إطارها النظري.
وحتى لا نطيل في الطرح التاريخي، لنا في كذبة أنابوليس التي اختتم بها بوش ولايته الثانية خير برهان على أن كل الوعود ستبقى قائمة، لن تنفذ، وشروطها تتبدل، ومع كل عهد جديد لنا وعد جديد، فها هو أوباما يستفرغ مبادرة أخرى، فلنصفق للتغيير القادم، ولنضع خططاً تتواءم مع الوعد الجديد، فعلينا أن نستعد في غضون عامين للدولة القادمة! مؤسف حقاً، أن يصبح الإعداد لإقامة الدولة مختصر في تعريب يافطات الطرق. يقال: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.. فما بالكم بألوف اللدغات من ذاك الجحر، أفلا يعقلون.
أما زالت حيلة تأجيل الدولة وشروطها أمر تستسيغه العقول؟ وهل سيفضي تحقيق تلك الشروط إلى إنشاء دولتنا العتيدة؟.
استعادة الفلسطيني لفلسطينيته
دعونا من أمر تأجيل إعلان الدولة، ولنفترض جدلاً، أننا سنصبح متابعين لخبر توافق كل القوى المسيطرة في العالم على إقامة الدولة الفلسطينية، وأن إسرائيل قد رضخت لذلك. تخيلوا معي دولتنا، كيف وأين ولمن؟ عن أي دولة نتحدث؟ وهل ضاعت الدولة حتى نعلنها، وهل سلب الوطن حتى نستعيده؟
فليعلم كل من أجّل إقامة دولتنا، أننا نحن المؤجلون، لو تركونا لإقامتها لما استطعنا إلى ذلك سبيلا. أقول بملء الفيه أنني أتفق مع كل من وضع شرط إقامة الدولة نضوجنا. أتفق مع ماكدونالد وبوش وغيرهم، لكن لي رأي آخر، في ماهية النضوج.
نضوج الفلسطيني أبسط من أن يحيّر الساسة في صياغة بنوده، هو فقط أن يستعيد الفلسطيني فلسطينيته لا أكثر من ذلك ولا أقل. حينها، لن يكون الكيان السياسي الفلسطيني أمر يقتضي ترتيب، أو إنشاء مؤسسات، سيكون قيامه تلقائيا بعودة الفلسطيني، فما فقدت فلسطين يوما، وإنما فقدت فلسطين أهلها. تتبعوا نظريات نشوء الدول تاريخيا، ستجدوا أن شعبا تجمع أولا، وقبل كل شيء، على هدف مادي واحد، أو دين، أو فكرة أو طموح.
قد تجد أن البعض يجادل بأن إسرائيل خالفت نظريات نشوء الدولة؛ فيقول إنها دولة أوجدت مجتمع، وهذا ليس بالقول المتّزن، فالصهيونية عملت بانتظام قبل عشرات السنين من قيام الدولة، وتوحدوا على هدف أساس، وانطلقوا مسخرين كل مقدراتهم لأجله، وقبل أن تصبح إسرائيل دولة لها ثقلها في العالم، كان شلومو حامل شهادة الدكتوراة في الهندسة ورفاقه يعيشون في كيبوتسات على جبال فلسطين، يزرعون ويأكلون من خيرات الأرض، فقد آمنوا بهدف واحد مثّل "هويتهم"، ومن ثم بوصلتهم.
أكتب سطوري هذه من ماليزيا، تلك الدولة التي تقدّمت إلى مصاف الكبار خلال أربعة عقود بعد إنهاء الاحتلال البريطاني، رغم ذلك فإن أهلها لا ينعتونها ببلد الصمود والتحدي، علما أنها الدولة الوحيدة التي رفضت معونات البنك الدولي حين شهد العالم أزمته الاقتصادية عام 1997، واعتمدت على جهد ذاتي بحت، أثبت حينها أن الشعوب قادرة على النهوض دون من ينتشلها. نحن أبناء الصمود والتحدي، لم يتحرك شارعنا بمثل الحماس الذي تحرك به حين قطع البنك الدولي معوناته عنّا، لأن إحدى حكوماتنا أقرت صموداً وتحدياً في برنامجها!
"في القدس" قصيدة لتميم البرغوثي يقول فيها: "فيها الزنج والإفرنج والقفجاق والصقلاب والبشناق والتاتار والأتراك أهل الله والهلاك والفقراء والملاك والفجار والنساك فيها كل من وطأ الثرى".. هذه الكلمات حقّا تصلح وصفاً لماليزيا، لكن لديَ ما أُكمل به؛ فرغم كل من فيها، لم أشهد ولم يشهد غيري أن أحداً عرّف نفسه بغير اسم بلاده، يختلفون في دينهم، وأفكارهم، ومأكلهم وملبسهم، وثقافتهم، وسلوكهم، لا يجمعهم لسان واحد، لكنهم متفقون على حمل هوية واحدة، هي الماليزية. في فلسطين، معظمهم أبناء دين واحد، لغتهم واحدة، وكذلك المأكل والملبس وكل مقومات الهوية الواحدة، لكنهم يختلفون في الهوية. لم يعد هناك هوية فلسطينية – والكلام مؤلم هنا، وربما يراه البعض مجحفا- لكنه قائم مشهود.
لو أن أحدا منا تجوّل في تلك الأودية التي تعلوها المستوطنات، هل كان ليسمع أيٌّ منها تنطق العبرية، لو أن أحداً منّا سهر ليلته على شاطئ يافا، هل كان ليرى أمواج المتوسط ترسم علم إسرائيل، لكن يكفينا التجول في الأزقة والشوارع، بين الإخوة والأبناء والخلان، سنجد من يمازح صديقه بالعبرية، ومن يطرب على صوت المطربة الذكر، دانا الإسرائيلية، وحين يكتب له أن يكون في بلاد أخرى، عاملاً أو طالباً أو تاجراً أو سائحاً، تساءلوا كيف يتصرف؟ بل راقبوا معي هذا المشهد، الذي يضم مجموعة من الطلبة الأجانب في ماليزيا:
الطلبة معرفين عن أنفسهم: أحمد من العراق، بهاء من مصر، سيرجيه من روسيا، ستيف من أمريكا، عبد الله من الصومال. وصل دورك يا حامل القضية، يا من ترتدي الكوفية، يا أخ الشهيد، وابن الأسير، وأب الجريح، فتقول: أنا ياسر من الضفة الغربية، أنا أحمد من غزة الأبية، ولا ينطق حتى اللحظة باسم الدولة الفلسطينية. هناك في آخر قاعة التعارف شاب ثارت دماؤه في العروق، وقال بصوت الواثق، أما أنا فاسمي فارس من فلسطين، يرد البعض متسائلا ببرود مستفز، (Which part?) من أي جزء في فلسطين؟ فيما آخرون رحبوا به كباكستاني نطق اسم بلاده بصعوبة.
يقول في قرارة نفسه، -وهذا (المونولوج) لفارس-: لم أسألهم إن كانوا من موسكو أو ريفها، من الصومال أم أرضها، لم أسألهم من تكساس كانوا أم من واشنطن، فلماذا هم مصّرون على تعريفي بغير اسم فلسطين؟ لا تسائل نفسك ولا تسألهم. اصمت، بل وابلع لسانك، ليسوا هم من عرّفوك بـ (ضفاوي وغزاوي وعربي إسرائيلي، أو أردني أو سوري).. أنت من لم تحفظ ذاتك، أنت من لم تكن أنت، أنت من لم تشهد يوماً بغير هويتك الحزبية، وأنت من تؤجل الدولة لا هم.
سؤالي هو ارجو من الجميع ابداء ارائهم
فلسطين المفقوده وطن ام مواطن؟؟