التقدير الرشيد بينة على التوحيد
إعداد فضيلة الدكتور محمد دودح
طبيب وباحث إسلامي في الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن في مكة المكرمة
في عام 1859 نشر تشارلز دارون Charles Darwin كتابه: أصل الأنواع Origin of Species؛ وفيه أن الإنسان ثمرة سلسلة طويلة من التطور Evolution بدأت بنشأة كائنات بسيطة في البحار الأولية, فخالف معتقد الكنيسة وفقا للأسفار من نشأة الإنسان الأول مباشرة من التراب والماء بلا تمهل ولا أطوار وفقده لأحد أضلاعه كي تنشأ منه زوجته؛ في سفر التكوين (إصحاح 2 فقرة 7): "وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً", وفي سفر التكوين (ح3 ف21و22): "فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا, وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ", فرفضت الكنيسة نشأة الإنسان في أطوار؛ وإلا شككت في التدوين. وفي عام 1871 نشر دارون كتابه الثاني مؤكدًا أن الإنسان منحدر من أسلاف حيوانية أسبق بعنوان: أرومة (أصل) الإنسان The Descent of Man, وافترض أيضا وجود تراكيب كان لها وظيفة في الأسلاف Ancestors ولم تُعرف وظيفتها في الإنسان فسُمُّوا بالأعضاء الضامرة Vestigial Organs أو الأثرية Rudimentary؛ منها الزائدة الدودية Appendix والعصعص Coccyx والغدة الصنوبرية Pineal gland, فلم يكن معروفًا بعد أن الزائدة الدودية عضو في الجهاز المناعي أول الأمعاء الغليظة يحميها من العدوى؛ ومثلها اللوزتين Tonsils أول الزور, وأن العصعص يقوم بتثبيت بعض عضلات المقعدة, ولم يكن معروفًا كذلك بعد أن الغدة الصنوبرية هي إحدى الغدد الصمَّاء التي تفرز هرمون الميلاتونين Melatonin استجابة للضوء فتنظم الإيقاعات الحيوية بالجسم كدورات النوم والاستيقاظ, وتنبأ دارون بالمثل بوجود أعضاء ناشئة Nascent organs بهيئة بسيطة في الأحياء الأدنى في سلم التطور اكتملت في الإنسان الأرقى نوعا, ولكن لم يثبت لها وجود؛ كما لم تثبت نبوءته في وجود بقايا متحجرة Fossils لحيوانات قد اندثرت تمثل الحلقات الوسيطة في سلم التطور. وفي عام 1895 بلغ ما أحصاه عالم التشريح الألماني روبرت ويدرشيم Robert Weidersheim 186 عضوا أثريا, واليوم قد استنفذت كل لائحة الأعضاء الأثرية المفترضة وعرفت وظيفة كل تركيب وفقدت الداروينية ركائزها الأساسية, فمن المخجل حاليا الإدعاء بأن الغدة الصعترية Thymus gland زائدة ضامرة بلا وظيفة, والمعلوم حاليا أنها العضو الأهم في جهاز المناعة وإنضاج الخلايا اللمفاوية Lymphocytes, وهي تقع أسفل الرقبة وتقوم بنشاطها في الحماية من العدوى بالكائنات الدقيقة الدخيلة خاصة أثناء الطفولة؛ وإذا أزيلت مبكرا فشل تطور جهاز المناعة, وقد افترض أن الغشاء الرامش Nictitating membrane (الجفن الثالث) في الحيوان بقي أثره بطرف عين الإنسان بهيئة طية Plica؛ لكنها تقوم بتيسير حركة العين وترطيبها, وبالمثل لم يعد مستندًا القول بتنامي المخ في الحجم دليلا على التطور؛ وإلا كان إنسان نياندرثال Neanderthal الجد المفترض للإنسان الحالي أكثر تطورًا لأن مخه أكبر, وكان الكلب أكثر تطورًا من الإنسان لأن كفاءة جهاز الشم عنده أفضل, وبالمثل لم تعد فرضية البقايا الضامرة مستندًا؛ كعضلات الأذن وهي بطانة واقية, وضرس العقل وهو للطحن, وصمامات الأوردة وهي تمنع رجوع الدم, ناهيك عن الغدة الدرقية Thyroid gland والنخامية Pituitary gland, وهكذا انحسرت لائحة الأعضاء الأثرية المزعومة في الإنسان من 186 تركيبا عام 1895 حتى تلاشت تماما عام 1999, فكل التراكيب التشريحية في الحيوان والإنسان تؤدي وظيفة ملائمة ومن الغفلة عن الحقيقة الإدعاء بوجود عضو بلا وظيفة.
وكل خلية في جسم أي كائن حي قاعدة بيانات حية Living database؛ هكذا كانت الضربة القاصمة لأوهام الداروينية باكتشاف توريث سمات Traits كل نوع حي وفقا لبرنامج مُقَدَّر تحمله المُورِّثَات Genes بما يحفظ خصائصه, وفي محاولة يائسة افترضت الطفرة Mutation عام 1941 باسم الدارونية الجديدة New Darwinism بديلا عن افتراض تزايد عنق الزرافة Giraffe مع محاولتها مده نحو الأغصان المرتفعة واستبقاء الطبيعة للزرافات الأطول عنقا وإبادة سواها, ولكن ثبت أن الطفرة لم تأت بكائن أصلح وإنما بمسخ عقيم لأنها تخرب المنظومة السويَّة للمورثات في الحامض النووي DNA, وكشف علم التشريح المقارن أن الأنواع Species التي يفترض أنها تطورت ببطء من بعضها البعض تتسم بسمات عضوية بعيدة الاختلاف مما يستبعد الانتقال التدريجي, ولذا استبدل بفرضية التطور بقفزات كبيرة متفرقة في بداية السبعينيات, فاقترح بعضهم مثلا أن أول طائر خرج من بيضة إحدى الزواحف كطفرة هائلة؛ أي نتيجة صدفة ضخمة حدثت في التركيب الجيني, ولكن الطفرات لا تؤدي سوى إلى تلف المعلومات الوراثية ومن ثم فإن الطفرات الكبيرة لن ينتج عنها إلا تلفيات كبيرة، ولو صح جدلا الانتقال التدريجي أو الفجائي في نشأة منظومة الأحياء فلن يكون ذلك مصادفةً؛ بل كعمليات خلق مقدر رشيد. وكل الآليات المفترضة لتفسير التطور الذاتي العشوائي كالطفرة والانتخاب الطبيعي تقف عاجزةً مشدوهةً أمام حشرات مُؤَهَّلَةً بذكاء للتخفي عن الأعداء بهيئة أزهار يانعة أو أغضان ذابلة أو أوراق شجر خضراء, فهل حرمت الصدفة سواها من الحيل فبادت ووهبتها وحدها الخداع فسادت, أم هل ألبستها طفرة عابرة تلك الحلل البديعة لتبدو كزهرة وغصن وورقة شجر شكلا ولونا ولم تهمل حتى العروق واللطع والتجاعيد؛ أم أن تلك النوابغ تقمصت بهيئات استوحتها بدهاء!, أم أنها مصنوعة لتنطق بالتدبير والتوجيه بحكمة منذ الابتداء؛ وأن عناية الله تعالى الذي أحسن كل شيء خلقه تتجلى ساطعةً أمام كل فطين!.
وكيف تفسر وجود النباتات آكلة اللحوم Meat-eating (Carnivorous) plants, فأي ذكاء لها حتى تبلغ بها الحيلة صنع مصائد للحشرات من ورقة أو زهرة وتجذب الفرائس وتصيدها وتذيبها بعصارات سابقة التجهيز لتسد حاجتها للبروتين بلا علم منها بالكيمياء العضوية ولا إدراك بوجود الحشرات؛ فمن أمدَّها بالحيل البارعة!, ولم يكن الخفاش Bat على علم بفيزياء الرادار حتى يصنع لنفسه جهازا لإرسال واستقبال الموجات فوق الصوتية يُعينه على الطيران في أحلك الليالي وصيد فرائسه ويُوَرِّث حيلته للأجيال؛ فمن وهبه تلك البراعة!, وزهرة تتأنق لفراشة وتتزيَّن وتتعطَّر وتتمايل في دلال تدعوها لارتشاف حلو الرحيق؛ وما هي إلا حيلة لنقل حبوب اللقاح وحفظ النوع!, وحشرة تخدِّر فريسة وتطمرها مع بيضها حتى تجد اليرقات لاحقًا طعاما طازجًا, فكيف سبقت الحدث!, إن التَبَصُّر Prevision والسلوك الذكيIntelligent behavior والكائن غافل؛ لا تُفَسِّرُه صدفة وإنما تدبير وتقدير Predestination, والانتخاب الطبيعي Natural selection؛ أي الذي اختارته الطبيعة Nature, تفسير خاطئ أو مغالطة لأن كل حي مؤهل جسديًّا وموجه وظيفيًّا ومقدر سلوكيًّا بما يناسب بيئته ويحفظ وجوده بلا علم منه؛ فكيف تَحِيك الطبيعة علمًا وهي بلا إرادة أو علم!, فهل هي حقًّا مهارة الثوب أم حنكة الحائك!.
وصف تشاندرا كراماسنغي الحقيقة بقوله: "تعرض دماغي لعملية غسيل.. كي أعتقدَ أن العلوم لا يمكن أن تتوافق مع أي نوع من أنواع الخلق المقصود.., (ولكني الآن) لا أستطيع أن أجد أية حجة عقلانية تستطيع الوقوف أمام وجهة النظر المؤمنة بالله.., الآن ندرك أن الإجابة المنطقية الوحيدة للحياة هي الخلق وليس الخبط العشوائي غير المقصود", إن انسجام كل حي مع بيئته وتكامل كل عضو مع مثيله وتناسب كل زوج مع نظيره هو عند النبيه شاهد عدل على الخلق والتقدير مهما كانت الكيفية؛ وهذا ما يعلنه القرآن بجلاء: ﴿سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَىَ. الّذِي خَلَقَ فَسَوّىَ. وَالّذِي قَدّرَ فَهَدَىَ﴾ الأعلى 1-3,وقد جاء في فتاوى الأزهر ( ج7 ص399): "ورد أن اللّه خلق الإنسان نوعًا مستقلا لا بطريق النشوء والاشتقاق من نوع آخر؛ وإن كان كلا الأمرين من الجائز العقلي الذي يدخل تحت قدرة اللّه تعالى، قال بعض العلماء: إنه لا يوجد فى النصوص أن الله خلق الإنسان الأول من تراب دفعةً واحدةً أو بتكوين متمهل على انفراد, فسبيل ذلك التوقُّف وعدم الجزم بأحد الأمرين حتى يقوم الدليل القاطع عليه فنعتقده؛ ما دام أن الذي فعل ذلك كله هو الله تعالى, ثم إن النواميس المذكورة فى مذهب داروين ظواهر واضحة في الكون, ولا حرج في اعتقادها؛ ما دام أن الله هو الذي خلقها ووجهها, فهي لا تحقق وجودها من نفسها: ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لآ إِلََهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ﴾ الأنعام 102، فهو خالق المادة والنواميس", ولكن (ج7 ص412): "قولهم أن المخلوقات خُلقت عشوائيًّا بغير تدبير سابق وعلم محكم يرده قول اللّه سبحانه: ﴿إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ القمر 49".
والتَّكَيُّف Adaptation يعني أن كُلٍّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له؛ فهو مواءمة كل حي لبيئته وتناسب كل تركيب مع وظيفته؛ كتنويع أشكال المناقير والمخالب بما يناسب بيئة التغذي, وكالوسائل الدفاعية في الأسماك البحرية, وتلون الحيوانات بألوان بيئتها تخفيا من الأعداء ومثاله الحرباء، وكوجود حوافر للخيل لتلائم الجري السريع وخف للجمل ليمنع الغوص في الرمال, وكإحاطة أوراق نباتات الصحراء بطبقة عازلة تحافظ على الماء تجنبا للجفاف, والداروينية محاولة لتفسير الكيفية بتخيل تواجد كم هائل من الأشكال قبل تغير البيئة واستبقاء الانتخاب الطبيعي ما يوائم الظروف الجديدة وبقية الأشكال تبيد, وهو افتراض مطعون فيه لأن الظروف القديمة لن تبق على أشكال غير ملائمة حتى ينتخب منها الأصلح في الظروف الجديدة, والفوضى Chaos لا تصنع نظام Order، والتنويع مع التماثل يعارض الإلحاد Atheism, ولو كانت التغيرات عشوائية كما تفترض الداروينية؛ فلم كانت دائما في اتجاه الأصلح!, وكل كائن بلا استثناء متكيف مع بيئته وموجه لما يحافظ على بقائه؛ مما يقتضي مشيئة الصانع وسبق علمه وقدرته ورعايته للمخلوقات, فللبط غشاء للقدمين ينشأ منذ فقس البيض؛ وليس نتيجة لمحاولة العوم, ويسبق إعداد الضرع أثناء الحمل ليستقبل الوليد عند قدومه, وقبل الشتاء يسقط ورق النبات حفاظا على الغذاء وتكنز أجسام الدببة القطبية الدهون منعا للتجمد, وكل الوجود مرتب في منظومات؛ كما هو جدول العناصر, وهو لا يعني بالضرورة أن العنصر الأعقد تطور من آخر أبسط, وعلى فرض صحة التطور كآلية لتفسير التماثل والتنويع والتدرج فهو التطور المُقَدَّر الرشيد Rational directed evolution, والقرآن الكريم يكشف عن وجود سجلات للماضي تتطلب البحث ويلح بالسؤال عن كيفية بدء الخلق بلا سابق مثال؛ قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ العنكبوت: 20, وقال تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ الطور: 35, فالقدرة الخلاقة المبدعة لا يعجزها أن تخلق كل حين أشكالا وتنوعات لا يحصيها الخيال يوحدها التماثل في الإتقان والوحدة في التصميم؛ ولتكن ما تكون الكيفية؛ فالقضية الجوهرية التي غفلت عنها الداروينية هي طلاقة قدرة الصانع مهما كانت آلية تكون الصنعة, قال تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ 36 يس: 81و82, وقال تعالى: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ آل عمران: 47, والتنويع والتدرج يمكن تفسيره بخلق كل نوع من الأحياء بانفراد مع وحدة في التصميم؛ ويمكن تفسيره بتطور الأنواع المُقَدَّر الرشيد, وفي الحالتين لابد من خالق فريد الصفات, ولكن التطور الذاتي تخمين وليس علمًا؛ فكل حي مُقَدَّر الكيان ينطق بالإيمان, وزعم الخلق الذاتي انتكاسة نحو الوثنية Paganism؛ والتماثل والوحدة في التصميم Design رغم التنويع شاهد عدل على وحدانية الصانع وقدرته, وكل ما في الوجود يردد مع القرآن الكريم: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ طه: 50.