وفي أنفسـكم أفــلا تبصــرون الأعصـاب
الدكتور منصور أبو شريعة العبادي
أستاذ الهندسة الميكانيكية في الجامعات الأردنية
إن مما يثير الاستغراب أن تجد شخصا متعلما لديه إلمام ولو بشكل مبسط عن تركيب الجهاز العصبي وغيره من أجهزة الجسم ثم لا يوقن بأن هذا الجهاز قد تم تصميمه من قبل مصمم لا حدود لعلمه وقدرته وهو الله سبحانه وتعالى.
إن الإنسان لتعتريه رجفة وتصيبه قشعريرة عندما يدرس تركيب الأعصاب والطرق التي استخدمت لتمديدها بين الدماغ وبين أعضاء الجسم. فهل يمكن لأي إنسان عاقل أن يصدق أن عشرات الملايين من الألياف العصبية يمكنها أن تحدد مساراتها من تلقاء نفسها لتنقل إشارات عصبية بالغة الأهمية من مراكز الدماغ إلى ما يرتبط بها من أعضاء! بل إن الأعجب من هذا أن كل ليف من هذه الألياف قد نما من خلية واحدة في الدماغ أو في الحبل الشوكي وبدأ يشق طريقه بين آلاف البلايين من خلايا الجسم ليصل إلى هدفه المنشود في أحد الأعضاء ولمسافة قد تزيد عن المتر. ومن العجائب في هذا النظام أن الألياف التي تذهب إلى عضو معين أو مجموعة من الأعضاء المتجاورة تتجمع مع بعضها البعض لتكون حزم يتم تغليفها بعدة عوازل لتخرج على شكل كيبلات يحتوي بعضها على ما يزيد عن مليون ليف عصبي. وعندما يصل أحد هذه الكوابل إلى أحد الأعضاء تتفرع منه الألياف الخاصة به فقط بينما تكمل بقية الألياف مسيرها حتى تصل إلى الأعضاء التي تخصها. إن مهندسي الاتصالات الذين يعملون في مجال تمديد وربط الكوابل الكهربائية الخاصة بالهواتف يدركون جيدا تعقيد هذه العملية فهم يعانون من مشاكل جمة عند ربط أسلاك الكوابل بالأجهزة الطرفية فيعملون على تلوينها أو ترقيمها رغم أن عددها لا يتجاوز عدة مئات في الكيبل الواحد. وفي المقابل نجد أن العصب البصري لوحده يحتوي على مليون ومائتي ألف ليف يتم ربط أطرافها بالخلايا الحساسة للضوء في الشبكية من جهة وبالخلايا الموجودة في مركز الإبصار في الدماغ من الجهة الأخرى وبحيث يقابل كل خلية في الشبكية خلية مقابلة في الدماغ لتظهر الصورة بشكلها الصحيح وقلما نجد أي خطأ في عملية الربط هذه رغم أنها تكررت وتتكرر بعدد ما خلق الله عز وجل من كائنات حية مبصرة. وعلى الإنسان الجاحد الذي لا يؤمن بوجود خالق لهذا الكون أن يتساءل عمن قام بعملية الربط هذه والتي يعجز البشر عن القيام بها ولا يتبجح فيقول أنها تمت بمحض الصدفة. وسيتبين للقارئ من الشرح التالي أن جميع مهندسي العالم لو اجتمعوا ليقوموا بتوصيل وربط الأعصاب بين مراكز التحكم في الدماغ وبين أعضاء الجسم المختلفة لما أمكنهم ذلك بل إنهم أعجز من أن يقوموا بإعادة ربط عصب واحد إذا ما انقطع وصدق الله العظيم القائل "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)" الطور.
يقدر العلماء عدد الألياف أو الشعيرات العصبية التي تربط مراكز الدماغ بجميع أعضاء الجسم بأكثر من عشرة ملايين ليف عصبي حيث يربط كل واحد من هذه الألياف خلية عصبية محددة في أحد مراكز الدماغ أو في العقد العصبية مع خلية عصبية مناظرة لها في أحد أعضاء الجسم. ويجب أن تتم عملية الربط هذه بدقة متناهية لا مجال للخطأ فيها وإلا سيترتب على هذه الأخطاء عواقب وخيمة تؤدي إلى فشل العضو في القيام بوظيفته. وبما أن معظم المراكز العصبية موجودة في القشرة المخية والمخيخ فإن الألياف العصبية المنبثقة منهما تنزل هابطة إلى الأسفل باتجاه الحبل الشوكي. وتمر هذه الأعصاب قبل ذهابها إلى أعضاء الجسم المختلفة بمراكز تحكم مختلفة موجودة في المخ البيني وجذع المخ ومن أهمها المهاد الذي يعتبر البوابة الرئيسية التي تمر من خلالها معظم الألياف العصبية إلى القشرة المخية. وتقوم هذه المراكز بوظائف متعددة أهما ترتيب الألياف العصبية ووضعها في حزم أو مسارات (Tracks) مختلفة كل حزمة منها تحتوي على ألياف عصبية من نفس النوع أو أنها تخدم نفس المنطقة من الجسم. بينما تقوم مراكز تحكم أخرى بتنظيم حركة الإشارات العصبية الخارجة والقادمة من وإلى المخ وذلك حسب المعطيات القادمة من مختلف مراكز الدماغ فتقوم بحجب بعضها والسماح للبعض الآخر بالمرور حسب ما يتطلبه الموقف. وتعمل بعض المراكز كمحطات ترحيل أو تقوية حيث يتم ربط الخلية العصبية القادمة من القشرة المخية بخلية عصبية جديدة لها محور عصبي طويل تمكنه من الوصول للأعضاء البعيدة في الجسم. وفي النخاع المستطيل يتم نقل معظم الألياف العصبية القادمة من الشق الأيمن للمخ إلى الشق الأيسر لتذهب إلى أعضاء الجسم في اليسار وكذلك العكس بينما يبقي على بعض الألياف دون تبديل. وقد تم تقسيم الألياف العصبية من حيث الوظيفة إلى ثلاثة أنواع فالنوع الأول هو الألياف الحسية التي تنقل الإشارات العصبية التي ترسلها المستقبلات الحسية المختلفة المنتشرة في مختلف أعضاء الجسم إلى الدماغ أما النوع الثاني فهي الألياف الحركية الجسدية والتي تنقل الإشارات العصبية من الدماغ إلى العضلات والغدد بمختلف أنواعها أما النوع الثالث فهي الألياف الحركية الذاتية والتي تنقل الإشارات العصبية الخاصة بالنظام العصبي الذاتي إلى العضلات والغدد. وقد تم أيضا تقسيم الألياف العصبية من حيث مكان خروجها إلى قسمين فالقسم الأول يخرج من الجمجمة وعددها اثنا عشر زوجا وتسمى الأعصاب الجمجمية أو الدماغية ويذهب معظمها إلى حواس البصر والسمع والشم والذوق وكذلك العضلات الموجودة في الرأس والوجه والرقبة. أما القسم الثاني فيتفرع من الحبل الشوكي وعددها واحد وثلاثين زوجا ولذلك تسمى الأعصاب الشوكية والتي تخدم بقية أعضاء الجسم. تخرج الأعصاب الدماغية أو القحفية (Cranial Nerves) على شكل أزواج من جذع الدماغ حيث يخرج من النخاع المستطيل ستة منها ومن الجسر أربعة ومن الدماغ الأوسط اثنان وهما الشمي والبصري. وتتكون الأعصاب الدماغية الأثنا عشر من عصبين حسيين وخمسة أعصاب حركية وأربعة أعصاب مختلطة تحتوي على أعصاب حسية وحركية. فالعصبان الحسيان هما العصب الأول (الشمي Olfactory Nerve) وهو المسؤول بالكامل عن حاسة الشم حيث يقوم بنقل الإشارات العصبية من عشرة ملايين خلية شمية موزعة على رقعتين من النسيج الشمي موجودتين في سقف التجويف الأنفي ويوجد ما يقرب من ألف نوع من خلايا الشم الحساسة لمختلف أنواع المواد الكيميائية قادرة على تمييز ما يزيد عن عشرة آلاف رائحة مختلفة.
أما العصب الحسي الثاني فهو البصري (Optic Nerve) وهو المسؤول عن حاسة البصر حيث يبلغ عدد الخلايا الحساسة للضوء في شبكية كل عين ما يقرب من 130 مليون خلية منها خمسة ملايين من المخاريط الحساسة للألوان الأساسية الثلاث والبقية من العصي الحساسة لشدة الضوء. وتجتمع الألياف الخارجة من الشبكية بعد مرورها بالعقدة العصبية الشبكية لتخرج على شكل كيبل يتكون من مليون ومائتي ألف ليف عصبي وهو أكبر الألياف العصبية في الجسم. وأما الأعصاب الحركية فهي العصب الثالث (البصري الحركي Oculomotor Nerve) وهو المسؤول عن حركة عضلات العين الداخلية والعضلة الرافعة للجفن العلوي وحدقة وعدسة العين والغدد الدمعية وهو يتكون من ثلاثين ألف ليف والعصب الرابع (البكري Trochlear Nerve) وهو المسؤول عن حركة العضلة المائلة العلوية لكرة العين ويتكون من ثلاثة آلاف ليف والعصب السادس )المبعد Abducent Nerve) وهو المسؤول عن حركة عضلة العين الوحشية المستقيمة ويتكون من أربعة آلاف ليف والعصب الحادي عشر (العصب الشوكي الإضافي Spinal Accessory Nerve) وهو المسؤول عن حركة بعض عضلات الرقبة والعصب الثاني عشر (تحت اللساني Hypoglossal Nerve) وهو المسؤول عن حركة اللسان. وأما الأعصاب المختلطة فهي العصب الخامس (ثلاثي التواؤم Trigeminal Nerve ) وهو المسؤول عن حركة العضلات الماضغة والغشاء المخاطي للفم والأنف وفيه جذر حسي ينقل
أحاسيس الوجه والأسنان ويتكون من ثمانية آلاف ليف والعصب السابع (العصب الوجهي Facial Nerve) وهو المسؤول عن حركات عضلات الوجه وفروة جبهة الرأس والغدة اللعابية وفيه جذر حسي لحاسة التذوق في مقدمة اللسان ويتكون من عشرة آلاف ليف. وفي حاسة التذوق يوجد عشرة آلاف برعم تذوق غالبيتها موجودة على سطح اللسان والبقية في اللهاة وجوانب الفم ويوجد ما بين 50 و 150 مستقبل تذوق على كل برعم وهي مقسمة إلى أربعة أنواع تستجيب للحلاوة والملوحة والحموضة والمرارة. والعصب الثامن (السمعي Vestibulocochlear Nerve ) وهو المسؤول عن كل من حاستي السمع ونظام توازن الجسم حيث يبلغ عدد الخلايا الشعرية الحساسة لحركة سائل القوقعة ما يقرب من 20 ألف تمر الألياف الخارجة منها على عقدة عصبية تقع بجوار القوقعة ثم تخرج في كيبل يحتوي على 30 ألف ليف عصبي. والعصب التاسع (اللساني البلعومي Glossopharyngeal Nerve) وهو المسؤول عن حركة إحدى عضلات البلعوم وحاسة التذوق في الثلث الأخير من اللسان. والعصب العاشر (الحائر Vagus Nerve) وهو العصب الجمجمي الوحيد الذي يخدم منطقة تقع خارج الرأس والرقبة فهو يذهب إلى القلب والرئتين والحنجرة وبقية الأحشاء الداخلية وهو أحد الأعصاب اللاودية. أما الأعصاب الشوكية فيبلغ عددها 31 زوجا ًوهي تتفرع من جانبي الحبل الشوكي من بين فقرات العمود الفقري حيث يخرج من جانبي كل فقرة عصب يخدم منطقة الجسم المجاورة لها وهي ثمانية أزواج عنقية واثنا عشر زوجا صدريا وخمسة أزواج قطنية وخمسة أزواج عجزية وزوج واحد عصعصي. وجميع الأعصاب الشوكية من النوع المختلط حيث يتفرع من الحبل الشوكي جذران أحدهما حسي وهو الجذر الظهري أي من جهة الظهر وآخر حركي وهو الجذر البطني ثم يتحدان بعد خروجهما ليكونا عصبا واحدا يخرج من بين فقرات العمود الفقري ثم يتفرقان عند وصولهما إلى العضو أو الأعضاء التي تخدمها. وتصنف الأعصاب الشوكية إلى نوعين فالنوع الأول هي الأعصاب الجسدية (Somatic nerves) وهي مكونة من أعصاب حركية مسؤولة عن حركة العضلات الإرادية والتي تنتشر في عضلات هيكل الجسم ومن أعصاب حسية والتي تنتشر في جميع أنحاء الجلد. أما النوع الثاني فهي أعصاب النظام العصبي الذاتي أو اللاإرادي (Autonomous Nervous System) وهي مسؤولة عن العمليات اللاإرادية في أعضاء الجسم الداخلية كتحريك عضلات القلب والرئتين والحجاب الحاجز والمعدة والأمعاء والأوعية الدموية والأعضاء التناسلية والتحكم بإفرازات الغدد بمختلف أنواعها. والنظام العصبي الذاتي ينقسم بدوره إلى نوعين وهما النظام العصبي الودي (Sympathetic Nervous System) وهو الذي يستثير الأعضاء لتعمل بأقصى جهد ممكن عند مواجهة الأخطار كزيادة دقات القلب وزيادة إفراز السكر من الكبد والأنسولين من البنكرياس وبعض أنواع الهرمونات وتوسيع شرايين القلب والرئة والدماغ وتضييق شرايين الجلد وبقية الأعضاء وتوسيع حدقة العين والشعب الهوائية وتقليل إفرازات اللعاب والمعدة وزيادة الانتباه. وأما النوع الثاني فهو النظام العصبي غير الودي (Parasympathetic Nervous System) وهو على عكس النوع الأول يعمل على تهدئة الأعضاء المثارة لتعود لتعمل بشكل طبيعي فتقل دقات القلب ويزيد إفراز الغدد اللعابية وتزداد حركة الأمعاء و توسع الأوعية الدموية في الجلد ويرتخي صمام المثانة البولية وتضيق حدقة العين. وتخرج الأعصاب الودية أو ما يسمى بأعصاب ما قبل العُقدة الودية (Preganglionic Sympathetic Nerves) من القرن الجانبي للحبل الشوكي ابتداء من الفقرة الصدرية الأولى وينتهي خروجها عند الفقرة القطنية الثانية. وبعد خروج الأعصاب الودية من الحبل الشوكي فإنها ترتبط بعُقد عصبية متصلة ببعضها البعض على شكل سلسلتين تقعان على جانبي العمود الفقاري تسميان السلاسل الودية (Sympathetic Chains) ومن هاتين السلسلتين تنشأ أعصاب ما بعد العقدة الودية (Postganglionic Sympathetic Nerves) والتي تغذي كامل أعضاء الجسم.
ويبلغ عدد عقد السلسلة الودية الواحدة 22 عقدة منها ثلاثة عنقية وإحدى عشرة عُقدة صدرية وأربعة قطنية وأربعة عجزية. وتتحد السلسلتان مع بعضهما عند أسفلهما أمام العصعص مكونتان عقدة مشتركة تسمى العقدة (ganglion impar).
إن اختيار هذا الموقع للعقد اللاودية لم يأتي اعتباطا فإلى جانب حمايتها بعظام الفقرات فإن الألياف الخارجة منها والداخلة إليها يتم دمجها داخل الأعصاب الشوكية وذلك لتقليل عدد الأعصاب الذاهبة والقادمة من أعضاء الجسم كما هو واضح في الشكل المرفق.
أما الأعصاب اللاودية فتخرج من الحبل الشوكي عند الفقرات العجزية الثانية والثالثة والرابعة و كذلك توجد في الأعصاب القحفية الثالث و السابع و التاسع و العاشر كما هو واضح في الشكل المرفق.
وتحتوي العقد الموجودة في الجهاز العصبي الذاتي على برامج عصبية تعمل بشكل مستقل ومتواصل دون الحاجة لأوامر من الدماغ في الوضع الطبيعي.
فعلى سبيل المثال فإن القلب يتم التحكم به بشكل رئيسي من إشارات تصدر من عدة عقد موجودة في جدرانه (Heart Ganglia) ولكن يتم ربطه بالنظام العصبي المركزي من خلال النظام العصبي الذاتي وذلك لكي ينم التحكم به جزئيا بما يتماشى مع حالة أجهزة الجسم الأخرى من خلال الأعصاب الودية وغير الودية.
وكذلك هو الحال مع الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي فهي تعمل تحت سيطرة البرامج المخزنة في العقد العصبية المزروعة في جدرانها ولا يتدخل النظام العصبي المركزي إلا في الحالات الطارئة فقد يوقف النظام العصبي الودي حركة المعدة وإفرازاتها في حالة تعرض الإنسان للخطر ويوجه الطاقة إلى عضلات الجسم والدماغ وذلك لمواجهة الخطر.
ونأتي الآن على شرح التركيب الداخلي للحبل الشوكي وتبيان مدى الإبداع والإتقان في طريقة توزيع الألياف العصبية المختلفة في داخله وكذلك طرق إخراجها منه وتوزيعها على أعضاء الجسم.
فالحبل الشوكي جسم أسطواني طويل يبدأ من جذع المخ ويبلغ معدل طوله في الإنسان 44 سم ويزيد قطره قليلا عن السنتيمتر الواحد أي بحجم الإصبع أما وزنه الكامل فهو 35 غرام تقريبا.
ويحتوي الحبل الشوكي إلى جانب ما يزيد عن ستة ملايين ليف عصبي على ما يقرب من ألف مليون عصبون. وقد تم تغليفه بنفس الأغشية الثلاث التي تغلف الدماغ ومحاط كذلك بنفس السائل ولذلك اعتبره العلماء أحد أجزاء الجهاز العصبي المركزي.
ولقد تم حماية الحبل الشوكي بفقرات العمود الفقري بشكل بالغ الإتقان فهو موجود في داخل مجري مبني من عظام متحركة وذلك على عكس الدماغ المحمي بعظام الجمجمة الثابتة.
وفي هذا الحال يتطلب تصميم فقرات العمود الفقري بشكل بالغ الدقة لكي لا تقطع الحبل الشوكي أو تضغط على الأعصاب الخارجة منه عند تحرك هذه الفقرات أو عند تعرضها للضربات والصدمات والحركات العنيفة. وكما هو واضح من الشكل المرفق فإن الحبل الشوكي محمي من جهة الظهر بالأشواك العظمية الموجودة في كل فقرة ومحمي من الجهة البطنية بجسم عظمة الفقرة وكذلك بالقرص (Disk) الموجود بين الفقرات والذي يستخدم لتسهيل حركة الفقرات وكذلك لامتصاص الصدمات بسبب مرونته.
وإذا ما تفحصنا مقطع الحبل الشوكي نجد أنه يتكون من مادة رمادية لها شكل الفراشة محاطة بمادة بيضاء مما يعني وجود أجسام العصبونات في المادة الرمادية ومحاور العصبونات أو الألياف العصبية في المادة البيضاء.
والمادة البيضاء في الحبل الشوكي هي حزم أو مسارات الألياف العصبية التي تربط الدماغ مع بقية أعضاء الجسم وقد تم تقسيمها إلى نوعين النوع الأول حزم الألياف الصاعدة (Ascending tracts) وهي تنقل المعلومات الحسية من أعضاء الجسم إلى الدماغ والنوع الثاني حزم الألياف النازلة (Descending tracts) والتي تنقل الأوامر الحركية من الدماغ إلى أعضاء الجسم.
وقد تم تقسيم الحبل الشوكي على مدى طوله إلى واحد وثلاثين منطقة بحيث توجد منطقة واحدة في داخل كل فقرة من فقرات العمود الفقري ويتفرع من كل منطقة عصبان شوكيان يخدمان منطقة الجسم المجاورة لها. وعندما قام العلماء بدراسة تركيب الحبل الشوكي وجدوا أن له نصفان متناظران كما هو الحال مع الدماغ حيث يخدم كل نصف منها الأعضاء الموجدة في أحد نصفي الجسم.
وقد تمكنوا من رسم خرائط مفصلة لمقطع الحبل الشوكي تحدد مسارات الألياف العصبية الصاعدة والنازلة وكذلك المراكز العصبية الموجودة فيه. ويوجد في المادة البيضاء ستة أزواج من المسارات العصبية النازلة وهي أعصاب حركية بالكامل حيث يوجد في كل نصف ستة مسارات كما هي موضحة باللون الأحمر في الشكل المرفق.
ويوجد كذلك في المادة البيضاء سبعة أزواج من المسارات العصبية الصاعدة وهي أعصاب حسية بالكامل حيث يوجد في كل نصف سبعة مسارات كما هي موضحة باللون الأزرق في الشكل المرفق. ويحتوي كل مسار من هذه المسارات الصاعدة والنازلة على ألياف عصبية تحمل نفس النوع من الإشارات العصبية وترتبط بنفس المركز العصبي في الدماغ.
فمن المسارات الحسية الصاعدة على سبيل المثال المسار الشوكي المخيخي ( Spinocerebellar Tract) والذي يحمل معلومات حسية عن وضعية الجسم إلى المخيخ لضبط توازن الجسم وكذلك المسار الشوكي المهادي (Spinothalamic Tract) والذي يحمل معلومات عن درجة حرارة الجسم إلى المهاد لتنظيم حرارة الجسم.
ومن أمثلة المسارات الحركية الهابطة المسار القشري الشوكيCorticospinal Tract)) والذي يحمل الأوامر الحركية من القشرة الحركية إلى عضلات الجسم. وقد تم ترتيب الألياف العصبية في كل مسار على شكل طبقات بحيث يسهل إخراج الأعصاب الشوكية من الحبل الشوكي عند كل فقرة فأعصاب الفقرات العنقية تكون في الطبقة الأقرب من المادة الرمادية تليها الأعصاب الصدرية ثم القطنية وأخيرا العجزية.
وقد يتساءل القارئ عن سبب وضع الأعصاب التي تخرج أولا في عمق الحبل الشوكي وكان الأولى أن توضع أقرب للسطح والجواب على ذلك أن الأعصاب لا بد أن تدخل المادة الرمادية قبل خروجها من الحبل الشوكي كما سنشرح ذلك بعد قليل. وكما أن المادة البيضاء مقسمة إلى مناطق فكذلك هو الحال مع المادة الرمادية فهي مقسمة إلى مناطق متعددة وهي عبارة عن مراكز عصبية تقوم بمهام مختلفة.
والمراكز العصبية تنقسم إلى نوعين رئيسين نوع حركي ترتبط به الألياف الحركية القادمة من الدماغ ونوع حسي ترتبط بها الألياف الحسية القادمة من الجسم. وكذلك يوجد في المادة الرمادية مركزان متماثلان واحد في كل نصف منها يخدمان نصفي الجسم.
ومن أهم هذه المراكز المركز الحركي (Motor Nuclei) والذي يحتوي على أجسام الخلايا العصبية للألياف الحركية التي تخرج من الحبل الشوكي لتحرك العضلات والغدد. ومنها المركز الذي يربط الألياف العصبية القادمة من الدماغ بالعقد العصبية الذاتية (Autonomic preganglionic).
أما المراكز الحسية الموجودة في المادية الرمادية فهي مقسمة إلى مراكز بعضها يرتبط بالألياف الناقلة لإشارات الألم وبعضها لإشارات اللمس وكذلك الضغط والحرارة وغيرها.
أما المعجزة الكبرى في النظام العصبي الطرفي فهي الطريقة التي يتم من خلالها توزيع هذه الملايين من الألياف العصبية الموجودة في الحبل الشوكي على جميع أنحاء الجسم بحيث يصل كل ليف عصبي إلى هدفه المنشود.