فوضى الطريق.. فوضى العقل!
سألتُ أجنبياً مقيماً في الأردن عما يعجبه هنا وما لا يعجبه. كان مما لا يعجبه نظام المواصلات -أو "لانظام" المواصلات. قال إنه ليس في الأردن أي ترتيب يمكن أن يوفر وقتك المهدور على الطريق. ليس هناك حافلات أو وسائل نقل تتوقف في أماكن معروفة، في أوقات مخصوصة، بحيث تعرف كيف ترتب يومك. هنا الخارج إلى عمل ما، بلا مركبة خاصة، يمشي على باب الله، على التساهيل وتقلبات الطالع.
الخارج إلى الطريق سائقاً أيضاً يكون بين يدي الكريم. وقد أصبح الكثيرون منا يعترفون بأنهم يكرهون القيادة في الشوارع المجنونة -أو ربما أنا الذي أسأل وأستدرج الجواب، لأطمئن إلى أنني لست الوحيد الذي يخرج ويعود قلقاً مما قد تخبئه الطريق. وفي الحقيقة، أصبح لا مستخدم المواصلات العامة مرتاحاً، ولا الذي يقود سيارة مرتاحاً، وصار مجرد ارتياد الطريق سبباً للقلق اليومي -ومَن يستغني عن استخدام الطريق؟!
يقال إن الأردنيين يُعتبرون من أمهر السواقين. ما شاء الله! سمعة طيبة، لكنها تنطوي على مصادرة كبيرة. إنهم يعتبرون الأردني سائقاً ماهراً، لأنه يستطيع أن يتحايل للوصول بسيارته سالماً حيث يصعب على الناس "الطبيعيين" أن يفعلوا. ولأن طريقة السياقة في الأردن تشكل مثالاً متطرفاً على الاستهتار بقواعد السلامة والأخلاق والذوق، فإن الملاحة في هذا الخضم تعد مهارة. لكن هذا يعني أيضاً أن حاصل جمع سياقة مستخدمي الطريق بالغ السوء ومقفر تماماً من المهارة، بحيث يحتاج الإفلات من كثرة فخاخ الطريق إلى مهارة. فأي مهارة يقصدون؟!
ما تزال في شوارعنا -مثلاً- نفس ظاهرة الحافلات "المجنحة" التي لا نعرف ما إذا كانت مركبات أرضية أو طائرات أُجبرت على الهبوط. فإذا سرت إلى جانب واحد من "الكوسترات" النفاثة، تلبسك الخوف من أن يميل عليك وهو يطير ليتجاوز زميله ليخطف راكباً. حتى الحافلات الكبيرة لا يعصمها ثقلها من الخفة، فتناور في الطريق المزدحمة السيئة أصلاً وتزدري العربات الصغيرة بفضل "العضلات." ربما كان هذا كله سيتغير لو أن الحافلات مملوكة للحكومة، أو لشركة ذات سمعة تلزم سائقيها بيمين الطريق والحكمة والذوق، وليس لمالكين يحاسبون سواقيهم على حجم "الغلة" التي يجلبونها بالفهلوة الخطيرة وانتهاك حق الطريق.
هنا قطع الإشارات حمراء ممارسة عادية، نكاد نراها كلما توقفنا على إشارة تقريباً. يأتي السواقون مندفعين، فتمرق خمس أو سبع عربات على الأحمر. وإذا كنت منضبطاً -أو خوّافاً- فتوقفت، فإنك لا تأمن المندفع خلفك، أو تكاد تسمع شتائمه لأنك عطّلته عن عمله العظيم. وهنا محترفو "التخميس" في الحارات السكنية بلا رقيب ولا وازع، و"البتونة" المرعبة قليلة الحياء بين المركبات في الشوارع المزدحمة. هنا الذين يصدمون سيارتك وهي مصطفة، وينسلون كاللصوص وكأنهم لم يفعلوا أي شيء، ويتركون لك القهر وتدبر كلفة إصلاح ما خربوه. هنا الذين لا يجدون حرجاً في إيقاف عرباتهم في عرض الطريق، ويترجلون ليصرفوا شؤونهم على أقل من مهلهم، وينظرون إليك بمنتهى العدوانية إذا ألمحتَ إلى احتجاج. هنا سكان البيوت الذين يطوبون الشارع لحسابهم (ولو أن لديهم كراجات)، فيصفون حجارة على طول الرصيف لمصادرة فرصتك في الوقوف، أو يثقبون عجلاتك ويشوهون طلاءك بمسمار. هنا فشلت كل التقنية في وضع مسارب تدوم على الطريق، وفرض قانون يُلزم الناس بحيزهم الذي يأمنون فيه، ويمنعهم من اجتياح حيز الآخرين.
الطريق هي أوضح مكان لعرض أي شيء وكل شيء. إنها الواجهة التي تعرض مكان الأمم المادي، والحضاري والأخلاقي. إنها الكتاب المفتوح الذي يُقرأ منه فكر الدول، بساستها ومواطنيها ومخططيها ومربيها. إنها المكان الذي يلخص ماهية الحياة الجمعية: هدوءاً أو صخباً؛ أماناً أو مجازفة؛ التزاماً أو انسراحاً؛ استقراراً أو اضطراباً؛ تحضراً أو تخلفاً، نظاماً أو فوضى.
الطريق هي التجلي النهائي لفكرة الحركة والحياة. فإذا أفضت مختلف الأسباب إلى أن تكون الطريق عرضاً متواصلاً لمطلق الفوضى وأسباب القلق، وأصبح ارتيادها منطوياً على احتمالات التعرض للأذى والاعتداء، فإن هناك خللاً كبيراً لا بد أنه يعتور طبيعية الحياة. هناك فوضى عدمية عُصابية لا بد أن تكون قد خالطت العقل الشخصي والجمعي!