بذلك يكون الجميع أمام مسؤولياته في تجربة الصيام، ولكن العقلية البسيطة التي لا تستهدف أعماق أي تجربة روحية أو دينية تعتقد بأن رمضان شهر مستقل كلية عن بقية السنة، وأنه يتوجب عليهم تذكر مسؤولياتهم الاجتماعية خلال أيام شهر رمضان، وبعد أن ينقضي، فإنهم يعودون ببساطة ودون تأنيب من ضمير للتمركز في مواقع الصراع الاجتماعي الذي لا يراعي الضعفاء والفقراء.
الحقيقة أن قضية الفقر شغلت الديانة الإسلامية كما لم تشغل أي منظومة دينية أو عقائدية أو فكرية أخرى، فالإسلام لا يعترف بطبيعية أو منطقية التساوي المطلق بين البشر لأنه يخالف المنطق الإنساني وطبيعة النوازع البشرية، ولكنه يؤكد على دور الدولة و/أو المجتمع في المحافظة على فكرة الحد الأدنى اللائق للجميع، وهو الحد الذي يحقق الكرامة الإنسانية، ويضمن الفرص المتساوية لأبناء الفقراء والأغنياء على السواء، وفي عصور الخلافة التي شهدت ازدهار الحضارة الإسلامية، فإن مسألة الحراك و/أو الترقي الاجتماعي كانت مفتوحة أمام أبناء الفقراء والمستضعفين، فالنخب الإسلامية العسكرية والعلمية والفكرية والفقهية خرجت من أبناء العامة الذين وجدوا أمامهم سياقات ترعاها الدولة والمجتمع من أجل أن يحققوا التقدم والإبداع.
وطالما كانت الحاجات الأساسية التي تضغط على الوجود الإنساني مثل المسكن والمأكل والملبس، وأيضا الحاجات الضرورية لارتقاء المجتمع مثل التعليم والعلاج، متوفرة في ظل شروط منصفة وعادلة، فإن المجتمع يمكنه أن ينهض وأن يحقق وجوده الحضاري والتاريخي، وعدا ذلك فإنه سيعيش في مرحلة القلق الذي يؤدي إلى البلادة والخمول مع انغلاق أبواب الخروج الواحد بعد الآخر.
للإمام عبد الوهاب الشعراني مقولة حكيمة ووصية عابرة للأزمنة: اعلم أن الفقير ابن وقته ، لا نظر له إلى ماض ، ولا آت، ولذلك فإن أمة يتزايد فيها الفقر ويتوحش، فإنه لا يمكن النظر للمستقبل، لأن الغالبية العظمى من الناس ستكون منشغلة في تدبير أساسيات المعيشة، ولا يوجد لديها طاقة أو قدرة على ممارسة الحلم، عدا عن العمل على تحقيقه، هي تعيش يوما بيوم، وشهرا بشهر، وسنة بسنة، لا يمكن أن تلقي بنظرها ليعبر الأجيال، محاصرة بلقمة العيش ومراراتها التي تبقى في الحلق.
بغير تحريك وصيانة القدرة على التطلع للمستقبل، فإن نبوءات الشاعر صلاح عبد الصبور التي جاءت بعد الشعراني بقرون تصبح برسم التحقق في أي بلد وأي مكان:
في بلد يتمدد في جثته الفقر كما يتمدد ثعبان في الرمل لا يوجد مستقبل
لذلك فإن شهر رمضان الكريم لا يجب أن يتحول لمناسبة من أجل منح الفقراء هدية أو صدقة، لتذكرهم بصورة عاجلة وطارئة، هذا ليس كافيا، يجب أن ينصب تفكير المجتمع على مساعدة الفقراء للخروج من فقرهم، ليكونوا معنا وليس وراءنا، لأن اتساع الهوة بين المقتدرين والعاجزين اجتماعيا يولد كل أشكال الخلل والخراب، ويجب أن يفكر الناس في المصلحة العامة، فالصدقة يجب أن تكون جارية، ولكن لا أحد يفكر في ذلك بصورة حقيقية، جميع تصرفاتنا مرتبطة بالمناسبات، الصدقة الجارية تعني المساهمة في مشروع يفيد الفقراء، المشاركة في بناء مدرسة مهنية، الالتزام بالشراء من منتجات الفقراء البسيطة، الاقتصاد في الاستهلاك كيلا يتزايد الطلب بصورة مبالغ فيها فترتفع الأسعار بناء على نهم المقتدرين ليكتوي بنارها الفقراء، هذه صدقة مهمة لا يجب إغفالها، إن مجرد الاكتفاء بالحاجات الضرورية، ولنقل مع هامش بسيط من الرفاهية، من شأنه أن يمنح الفرصة لآخرين للاستفادة من العروض القائمة بشروط أفضل، ولا يثقل كاهلهم بنتائج انعدام العقلانية والرشد في النمط الاستهلاكي للطبقتين المتوسطة والعليا.
محاربة الفقر ليست مهمة مستحيلة، الإيطاليون كانوا أمة من الجائعين والمشردين مع صعود الفاشية في العشرينيات، وفي بداية الثلاثينيات وازدادت أحوالهم سوءا في مرحلة الحرب العالمية الثانية، والأسبان لم يكونوا في وضع أفضل، ولكن العالم يتغير والمسألة تتطلب تخطيطا جيدا وتحالفات اجتماعية قوية، تمكين المجتمع المدني ليؤدي أدواره، ولذلك لا يجب أن ننظر إلى الفقر على أساس أنه آفة لا يمكن التخلص منها، ذلك بداية الطريق إلى الفشل، والنظر إلى الفقراء وكأنهم فقط ينتظرون الهبات والمساعدات الموسمية بداية مشكلة أخرى عميقة وفادحة التكلفة، فالفقراء يمكنهم أن يؤدوا لمجتمعهم الكثير بشرط أن يؤمن المجتمع بهم.
شهر رمضان مناسبة لإعادة النظر في المفاهيم السائدة، فالجوع في حد ذاته يمكنه أن يحقق بعضا من صفاء الذهن للتفكير في حلول جديدة لمشاكل مستوطنة، ولتكن البداية مع البحث عن طريق وضع الصدقات والتبرعات في أماكنها الصحيحة والحض على توظيفها بصورة فاعلة، بدلا من تشتيتها بعشوائية وكأنها حمل ثقيل يسعى الناس للتخلص منه ليتفرغوا لنهمهم واندفاعهم نحو إشباع جنونهم الاستهلاكي.