رمضان.. تصحيح مفاهيم (5) .. شهر بناء القوة الروحية
بلال حسن التل
قلنا في المقال السابق: إن من معاني شهر رمضان أنه شهر الحرية بمفهومها الشامل، التي تبدأ بتحرير إرادة الإنسان أمام شهواته، التي شكلت عبر التاريخ البشري مدخلاً من مداخل الاستعباد للإنسان أفرادًا وجماعات، فكم من فرد فقد حريته ومعها كرامته واحترامه لذاته، واحترام الناس له، عندما استسلم لشهواته. فكان هذا الاستسلام مدخلاً لضياعه. وكم من مجتمع انهار بسبب سيطرة الشهوات على أبنائه، فكانت هذه الشهوات مدخل أعدائه إليه. لذلك شرع الله الصيام لتحرير إرادة الإنسان وليربي الفرد المسلم، ومن ثم المجتمع المسلم على معنى الحرية، ويزوده بأدواتها وأولها: بناء القوة الروحية التي تحصن الفرد والجماعة أمام إغراء الشهوات.
والقوة الروحية شرط أساس من شروط انتصار الإنسان في المجالين - المادي والمعنوي-. فبدون هذه القوة التي تُعرف عند الجيوش بالروح المعنوية، ويعبر عنها بالعقيدة القتالية، التي تُؤسس لبنائها الأجهزة، وتوفر لها الإمكانيات، والتي تتجلى في العقيدة القتالية للجيش، لا يمكن لجيش أن ينتصر مهما توفر له من عدد وعُدة، والشواهد على ذلك كثيرة على امتداد التاريخ البشري، ويكفي ان نستعرض عدد وعُدد جيوش المسلمين في كل المعارك الفاصلة في تاريخ أمتنا، ونقارنها مع جيوش الأعداء عددًا وعُدة، لنجد انه ما من مرة تفوق المسلمون على عدوهم بالعدد والعُدة، لكنهم كانوا ينتصرون في كل مرة بعقيدتهم القتالية التي تعكس قوتهم الروحية. وفي المرة الوحيدة التي فرح بها المسلمون بعددهم في معركة حُنين كادوا ان يهزموا لولا ثبات رسول الله، والقلة القليلة من أصحاب الروح المعنوية العالية، التي صمدت مع رسول الله ومنعت الهزيمة، وحققت الانتصار بفعل روحها المعنوية وعقيدتها القتالية.
وإذا كانت القوة الروحية شرطًا من شروط الانتصار العسكري، فإنها شرطٌ أكثر ضرورة لتحصين المجتمع وحمايته من الانهيار، فبدون القوة الروحية يصبح المجتمع كله هشًا خواء يسهل اختراقه. وكم من مجتمع انهار بفعل ضعف البناء النفسي لأبنائه، الذين صار اختراقهم ومن ثم هزيمتهم سهلاً، عبر الدخول إليهم من شهوات الجسد وحظوظ النفس. وكل الذين قرأوا قصص الجاسوسية، وكل ألوان الخيانة الأخرى، التي أودت بالمجتمعات يعرفون ان الشهوات كانت مدخل الأعداء للمجتمعات التي تفقد مناعتها وقوتها الروحية، التي شكل صيام رمضان على حقيقته أحد مكونات هذه القوة الروحية. ذلك ان أحد مقاصد صيام رمضان تعويد الصائم على الصبر، خاصة على شهوات الجسد كلها، ابتداءً من شهوة البطن، مرورًا بشهوة السمع والبصر، وصولاً إلى شهوة الفرج.. فمتى صبر الإنسان على شهوات جسده أغلق أبوابًا كثيرة من أبواب الضعف والاستسلام والهزيمة المادية والمعنوية.
ومثلما يدرب الصيام المسلم على الصبر، فانه يدربه على تحمل الشدائد، وأقلها شدة المواجهة مع الجيش المعادي ذلك أنه في كثير من الأحيان يكون الصبر على أذى ابن الملة والوطن أشد على النفس من مواجهة العدو في المعركة العسكرية، خاصة إذا كان هذا الأذى بابًا من أبواب الظلم؛ لذلك قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً
على النفس من وقع الحسام المهند
وحتى يجنب الإسلام المجتمع من عواقب ظلم ذوي القربى فانه لا يكتفي بتدريب المسلم من خلال الصوم على الصبر والتحمل، بل يرتفع به إلى درجة أسمى وأرفع، هي درجة الصفح والحلم، ومقابلة الأذى بالتسامح، بل والإحسان لمن أساء. وهذه درجة متقدمة من درجات إعداد وبناء القوة الروحية للفرد، ومن ثم للمجتمع، من خلال تعويده على الصفح الذي يصل في كثير من الأحيان حدَّ التنازل عن بعض الحقوق الشخصية، ما لم يكن في هذا التنازل مساس بحق من حقوق الله، أو إذلالٌ للمتنازل، بل لا بد من ان يشعر المتنازل بعظمة فعل العطاء الذي يمثله، دون ان يكون ذلك مصحوبًا بشيء من مشاعر الزهوّ والرياء. ذلك ان من أهداف صيام رمضان تطهير النفس البشرية وتحريرها من مظاهر الرياء. لهذا كان الصيام بين العبد وخالقه. ولذلك قال الله عز وجلّ عن الصيام: إنه لي وأنا أجزي به.
إن تحرير النفس البشرية من مظاهر الرياء، يقودها إلى التحرر من النفاق، وما يجره على المجتمع من مصائب، خاصة عندما يتعلق هذا النفاق بأولي الأمر، وأصحاب القرار، فيزين لهم المنافقون السيء من الأعمال، ولا يبادلونهم النصيحة. وكم من أمم هُزمت، ودول اختفت بسوء فعل المنافقين، الذين أعمى نفاقهم أولي الأمر عن الحقيقة. لذلك كان غضب الله على المنافقين كبيرًا، وكانت مدرسة رمضان من مدارس تدريب المسلم على التخلص من آفة النفاق. تحصينًا للفر والمجتمع، وبناء لقوته الروحية..
إن الصيام بسده لأبواب الرياء والنفاق، يدرب المسلم على الانتصار على شهوات النفس لتكتمل دائرة إغلاق أبواب الضعف والاستسلام للهزيمة المادية والمعنوية، بإغلاق أبواب شهوات الجسد والنفس التي تُشكل كل منهما مدخلاً لضعف الفرد والمجتمع، ومدخلاً من مداخل الأعداء للفتك بالأمة.
خلاصة القول: إن رمضان بمفاهيمه الصحيحة كما بينها رسول الله، هو مدرسة ليتعلم فيها المسلم فن بناء الإرادة، وفن بناء القوة الروحية، وفن الفوز في الحياة الدنيا والآخرة، فهل نعي هذه المفاهيم لرمضان فنتخلص من كل الانحرافات التي ألحقناها بشهر رمضان في حياتنا المعاصرة؟