أسمهان من الماء إلى الماء بصوت عانق السماء
في سرد تاريخي (مساحة زمنية)تروي سيرة الصوت الأوبرالي
تقرير - محمد السعد
كانت ولازالت من أجمل الطيور التي حلقت في سماء الفن تاريخا مضى وعمرا مضى ولازالت اسمهان الأطرش تذكر بكل اشتياق الى ذلك الصوت الطربي الرائع نستمع اليوم الى أغانيها ونحن نردد على شفاهنا كان يا فن زماناً مضى. دعونا نعود معا الى ذلك الماضي الجميل ونستعيد القليل من ذكريات وماضي تلك المطربة ونستلقي على ارض حملتها لنقرأ معا بعضا منها.
اسمها ونشأتها:
(عام 1912): يوم 24نوفمبر ولدت آمال فهد فرحان إسماعيل الأطرش ابنة الأمير السوري فهد الأطرش - مدير ناحية في قضاء ديمرجي في تركيا - والدتها علياء المنذر، درزية لبنانية، من بلدة برمانا، شقيقاها فؤاد، الذي قاست منه الأمرين في حياتها، وفريد الأطرش الموسيقار الذي كانت على وفاق تام معها وأخذ بيدها في عالم الفن وجعلها نجمة غناء لامعة إلى جانب شهيرات ذلك الوقت: أم كلثوم، نجاة علي، ليلى مراد وغيرهن. كان لها شقيق ثالث يدعى أنور وشقيقة تدعى وداد توفيا صغيرين.
ولدت آمال الصغيرة في عرض البحر على متن إحدى سفن الشحن اليونانية التي كانت متجهة إلى بيروت، وعند وصولها الى بيروت بلغها نبأ ان زوجها قاد ثورة ضد الفرنسيين فخشيت على ابنائها ان يؤخذوا كرهينة رغم طلب زوجها منها القدوم الى جبل الدروز وعندما تأكد من رفضها طلقها غير آسف عليها، انتقلت الأم على اثر ذلك بأبنائها متجهة نحو القاهرة، ولكن عند وصولها للقنطرة لم يسمح لها بدخول الأراضي المصرية لأنها لم تكن تحمل جواز سفر، إلا أنها استطاعت الوصول إلى الزعيم سعد باشا زغلول تليفونيا، الذي كان على علاقة طيبة بعائلة الأطرش، فتوسط لها وسمح لها بدخول القاهرة، في القاهرة أقامت العائلة في حي الفجالة وهي تعاني من البؤس والفاقة، الأمر الذي دفع بالأم إلى العمل في الأديرة والغناء في حفلات الأفراح الخاصة لإعالة وتعليم أولادها الخمسة الذين سرعان ما نقص عددهم بوفاة الصغيرين أنور ووداد.
بوادر الفن وبداياتها:
ظهرت مواهب آمال الغنائية والفنية باكرا، فكانت تغني في البيت والمدرسة مقلدة أم كلثوم ومرددة أغاني عبدالوهاب وشقيقها فريد،
في أحد الأيام استقبل فريد في المنزل (وهو المطرب الناشئ الواعد) أحد كبار الموسيقيين في مصر الملحّن داود حسني(19371871)، فسمع هذا آمال تغني في غرفتها، فطلب إحضارها وسألها أن تغني من جديد، غنت آمال فأعجب داود بصوتها وطرب، ولما إنتهت قال لها: كنت أتعهد تدريب فتاة تشبهك جمالا وصوتا، توفيت قبل أن تشهر، لذلك أحب أن أدعوك باسمها أسمهان، وهكذا أصبح اسم آمال الفني أسمهان.
أنطلاقتها الفنية:
أخذت أسمهان منذ 1931تشارك أخاها فريد في الغناء في صالة ماري منصور في شارع عماد الدين بعد تجربة كانت لها إلى جانب والدتها في حفلات الأفراح والإذاعة المحلية، وراح نجمها يسطع في سماء الأغنية العربية، وصوتها "السخي، الفيّاض بالشجو المرنان" على حد قول كرم ملحم كرم، يفتن الأسماع ويغزو القلوب. آثر عن عبدالوهاب قوله في أسمهان، وكانت في السادسة عشرة: إن أسمهان فتاة صغيرة لكن صوتها صوت امرأة ناضجة. عام ( 1933م) تزوجت أسمهان من الأمير حسن الأطرش وإنتقلت معه إلى جبل الدروز(السويدا) في سوريا لتمضي معه أميرة للجبل مدة ست سنوات رزقت في خلالها ابنة وحيدة هي كاميليا، لكن حياتها في الجبل إنتهت على خلاف مع زوجها، فعادت من سوريا إلى عالم الفن، لتمارس الغناء مستعيدة عرشها فيه، ولتدخل ميدان التمثيل السينمائي.
السينما والغناء في حياتها:
1939): م)تعرفت أسمهان على الكاتب محمد التابعي وذلك في منزل الموسيقار محمد عبدالوهاب، وقد كان هذا التعارف هو بداية علاقة صداقة قوية بينهما،فتحت الشهرة التي نالتها أسمهان كمطربة جميلة الصوت والصورة أمامها باب الدخول إلى عالم السينما فمثلت(1941م) أول أفلامها (إنتصار الشباب) إلى جانب شقيقها فريد، فشاركته أغاني الفيلم، وفي خلال تصويره تعرفت أسمهان إلى المخرج أحمد بدرخان، ثم تزوجته ولكن زواجهما إنهار سريعا وإنتهى بالطلاق دون أن تتمكن من نيل الجنسية المصرية التي فقدتها حين تزوجت الأمير حسن الأطرش، (1944م)مثلت في فيلم (غرام وإنتقام)يعتبر الثاني والأخير إلى جانب يوسف وهبي، وأنور وجدي، ومحمود المليجي، وبشارة واكيم، سجلت فيه مجموعة من أحلى أغانيها. وشهدت نهاية هذا الفيلم نهاية أسمهان، سبق لأسمهان أن شاركت بصوتها في بعض الأفلام كفيلم (يوم سعيد)، إذا شاركت محمد عبدالوهاب الغناء في أوبريت (قيس وليلى)، كما سجلت أغنية (محلاها عيشة الفلاح) في الفيلم نفسه، وهي من ألحان عبدالوهاب الذي سجلها بصوته في ما بعد، كذلك سجلت أغنية (ليت للبراق عينا) في فيلم (ليلى بنت الصحراء).
أغاني أسمهان:
عرف عن أسمهان أنها لم تحصر تعاملها مع ملحن واحد مهما كان شأنه فتعددت أسماء الملحنين الذين غنّت لهم ألحانا خالدة أمثال: محمد عبدالوهاب، رياض السنباطي، محمد القصبجي، شقيقها فريد الأطرش، زكريا أحمد، إضافة إلى مكتشفها ومتعهدها داود حسني، إلا أنه بالإمكان الإشارة إلى أن فريد الأطرش كانت له حصة كبيرة في تلحين أغاني أسمهان الأكثر شهرة، وكما تعددت أسماء الملحنين، تعددت كذلك أسماء الشعراء، نذكر منهم: أحمد رامي، يوسف بدروس، الأخطل الصغير، مأمون الشناوي، وبديع خيري.
التعامل الاستخباراتي:
أثيرت الكثير من القصص والأقاويل حول أسمهان وتعاونها مع الاستخبارات البريطانية وتقول إحداها انه في أيار(1941م) تم أول لقاء بين أسمهان وأحد السياسيين البريطانيين العاملين في منطقة الشرق الأوسط جرى خلاله الاتفاق على أن تساعد أسمهان بريطانيا والحلفاء في تحرير سوريا وفلسطين ولبنان من قوات فيشي الفرنسية وقوات ألمانيا النازية وذلك عن طريق إقناع زعماء جبل الدروز بعدم التعرض لزحف الجيوش البريطانية والفرنسية (الديغولية)، قامت أسمهان بمهمتها خير قيام بعد أن أعادها البريطانيون إلى زوجها الأسبق الأمير حسن الأطرش، فرجعت أميرة الجبل من جديد، وهي تتمتع بمال وفير أغدقه عليها الإنكليز، بهذا المال استطاعت أسمهان أن تحيي مرة أخرى حياة الترف والبذخ وتثبت مكانتها كسيدة لها شأنها في المجتمع وكذلك مد يد المساعدة لطالبيها، كما خصصت يوم الإثنين من كل أسبوع لتوزيع الطحين على الفقراء مجانا وفي منزلها الكائن في عمارة مجدلاني في حارة سرسق، ساءت الاحوال مرة اخرى مع زوجها الأمير حسن،كما أن الإنكليز تخلوا عنها وقطعوا نبع المال لتأكِدهم من أنها بدأت تعمل لمصلحة فرنسا (الديغولية)، وقد اعترف الجنرال إدوارد سبيرز ممثل بريطانيا في لبنان يومذاك بأنه يتعامل مع أسمهان لقاء أموال وفيرة دفعت نظرا لخدماتها وقال عنها أنها كانت كثيرة الكلام ومدمنة على الشراب وإنه قطع كل علاقة معها. في هذا الوضع الصعب حاولت أسمهان جاهدة لاستعادة الجنسية المصرية والعودة إلى القاهرة، بدأت تشعر بأنها على وشك الإفلاس وهي مقيمة في القدس. وكان أن فتح باب الأمل بوصول الممثل أحمد سالم الذي تزوجته شرعيا ومعه عادت إلى مصر.
نهاية أسمهان:
عادت أسمهان تعمل في الغناء والسينما في مصر رغم أن زواجها من أحمد سالم لم يكن سعيدا، حتى أن الزوج أضطر ذات يوم لإطلاق النار بسبب عصيان الزوجة، فأصيب برئته اليسرى كما أصيب أحد الضباط المصريين في صدره، وكان الضابط قد حضر لتسوية الخلاف بين الزوجين، وفي الوقت الذي كانت أسمهان تعمل فيه بفيلم (غرام وإنتقام) استأذنت من منتج الفيلم الممثل يوسف وهبي بالسفر إلى رأس البر لتمضية فترة من الراحة هناك فوافق، ذهبت أسمهان إلى رأس البر صباح الجمعة 14تموز 1944ترافقها صديقة لها تدعى ماري قلادة، وفي الطريق فقد السائق السيطرة على السيارة فانحرفت وسقطت في الترعة (ترعة الساحل الموجودة حاليا في مدينة طلخا)، حيث لاقت أسمهان وصديقتها حتفهما، أما السائق فلم يصب بأذى وبعد الحادثة اختفى، وبعد اختفائه ظل السؤال عمن وراء موت أسمهان دون جواب كما ظلت أصابع الإتهام موجهة نحو الاستخبارات البريطانية والملك فاروق الذي لم تستجب أسمهان لرغباته، وزوجها الثالث أحمد سالم وأم كلثوم التي ظلمها الإتهام كما يقول المدافعون عن أم كلثوم معتبرينها مجرد شائعة مغرضة مشيرين الى ان هذه الإشاعة لم تتردد إلا بعد وفاة أسمهان بأكثر من 20عاما، وأن أم كلثوم كانت تحب أسمهان وتقربها إليها وتشجعها على زيارتها، وكانت تطلب منها أن تغني لها فتجلس أسمهان تأدبا تحت قدمي أم كلثوم وتشدو لها وتطربها وتراقب بفرح إعجاب أم كلثوم وهي تغبط نفسها على أن أم كلثوم تسمعها وتعجب بها، بل هي التي تطالبها أن تغني وهذا وحده كان يسعد ويشرّف أسمهان.
ومن غريب المصادفات أن أسمهان قبل أربع سنوات من وفاتها، أي في أوائل أيلول 1940كانت تمر في المكان عينه فشعرت بالرعب لدى سماعها صوت آلة الضخّ البخارية العاملة في الترعة، ورمت قصيدة أبي العلاء المعري (غير مُجدٍ) التي لحنّها لها الشيخ زكريا أحمد، وكانت تتمرّن على أدائها حينذاك إستعدادا لتسجيلها في اليوم التالي للإذاعة. قالت أسمهان للصحافي محمد التابعي رئيس تحرير مجلة (آخر ساعة) والذي كان يرافقها: كلّما سمعت مثل هذه الدقات تخيلت أنها دفوف جنازة. وكان الفلكي الأسوطي قد تنبأ لها وهي في بداية حياتها الفنيّة بأنها ستكون ضحية حادث وستنتهي في الماء. ومنذ ذلك الحين لم يعوّض صوت أسمهان ولم يأت بديل عنه حتى الآن على حد قول سعيد الجزائري.