ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: جنون العظمة وشهوة السلطة: التحليل النفسي للطغاة والمستبدين! الخميس 31 يوليو 2014, 12:47 pm | |
| [rtl] جنون العظمة وشهوة السلطة: التحليل النفسي للطغاة والمستبدين![/rtl] ملف كتبه د. عزام محمد أمين[rtl] السؤال الذي يطرح نفسه لدى تأمل ظاهرة الطغيان: هل الطاغية هو من يدفع بمؤيديه لتأليهه؟ وهل يريد الطاغية أن يكون مؤلهاً بالضرورة؟ هل هو من يطلب من مواليه هذا المستوى الجنوني من الطاعة العمياء.. ولماذا؟ هل يدرك الطاغية أنه ظالم ومستبد؟ هذه الأسئلة التي تتصل بجوهر ظاهرة الاستبداد والمنحبكجية في آن معاً... سنحاول الإجابة عنها في هذا الملف وتقديم لمحة عن التركيبة والبنية النفسية لشخصية الطغاة التي طبعت التاريخ البشري بطابع دموي دفعت الشعوب وما تزال ثمناً باهظاً لانحرافاته النفسية!
الاستبداد الشمولي والاستبداد الديكتاتوري! يصح القول أن لكل طاغية عبر التاريخ شخصيتها المميزة وبصمتها المتفردة في الإجرام... ولكن هناك مجموعة من الطبائع والسمات مشتركة عند جميع الطغاة مهما اختلفوا في الزمان و المكان. وقبل الدخول في صلب الموضوع علينا أولاً التمييز بين أنظمة (الاستبداد الشمولية) و أنظمة (الاستبداد الديكتاتورية). فكل نظام شمولي هو حتماً ديكتاتوري ولكن ليس كل نظام ديكتاتوري هو بالضرورة شمولي. في الأنظمة الديكتاتورية (نظام حسني مبارك، ديكتاتوريات أمريكة اللاتينية...) يوجد نوعاً ما، هامش نسبي من الحرية النقابية والسياسية والاجتماعية (تعددية محدودة). في النظام الديكتاتوري لا يتغلغل الاستبداد في كل مفاصل الحياة وأدقّها بلا استثناء كما في النظام الشمولي الذي لا يترك مؤسسة من مؤسسات المجتمع سواء كانت مدنية او عسكرية خارج هيمنته المطلقة (تعددية معدومة) موظفاً بذلك قدرات هذه المؤسسات، الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و الأمنية والإعلامية بشكل خاص لما يخدم رأس النظام (الرئيس او الملك) الذي ينتقل من مرحلة "الديكتاتور" إلى مرحلة "الطاغية" و التي يمكننا اعتبارها أعلى مراحل الاستبداد.
السمات النفسية العامة للطاغية
1-البارانويا (ميغالومانيا) بشكل عام كل طاغية مصاب حتماً بمرض العظمة (ميغالومانيا)، فهو يختزل كل شيء في شخصيته و يرى العالم من خلالها فقط ، هو المركز و كل ما يدور حوله ينطلق من وجوده (سوريا الأسد، ليبيا الفاتح من أيلول، أسد العرب صدام حسين، بوكاسا، هتلر، ستالين، موسيليني...). جنون العظمة هذا (الميغالومانيا) يكون جزءاً من شخصيته "البارونوية" أو عرض من أعراضها, والبارانويا هي أحد أشكال ما يُسمى باللغة العربية "الذهان النفسي" وفي بعض الأحيان عقدة الاضطهاد والتآمر، من أعراضها الهذيان الثابت والمنتظم ولكن المصاب قد يبدو ظاهرياً سليماً من حيث القدرة العقلية والاستدلال غير أنه يبني استدلالاته على أوهام وحوادث غير واقعية، وتجدر الإشارة إلى أن أول من تكلم عن هذا المرض هو العالم الألماني ريشارد فون كرافيبينغ 1879.
بشكل عام يعيش الطغاة في عالمهم الخاص متقوقعين على مجدهم الذاتي منفصلين تماماً عن الواقع، فمثلاً في تصريح لنيقولاي تشاوشيسكو على سؤال لأحد الصحفيين عما إذا كانت المظاهرات التي عمت مدن رومانيا ستؤدي للتغيير وهل يخشى أن تتطور الأمور للأسوأ ، قال : لا يوجد شيء مما تقولونه، واستطرد بعنجهية مستهزئاً "لن يحدث تغيير في رومانيا إلا إذا تحولت أشجار البلوط إلى تين"، بعد أربعة أيام فقط من هذا التصريح تم القبض على الطاغية هارباً مع زوجته و تم إعدامهما رميا بالرصاص.
تختلف درجة الاصابة بمرض جنون العظمة من طاغية لآخر ، بعضهم يكون على الحد الفاصل بين الحالة المرضية و الحالة الطبيعية وبعضهم الآخر تشتد عنده الإصابة (صدام حسين، معمر القذافي، بوكاسا ...) ، فمثلا موت ربع أطفال جمهورية "أفريقيا الوسطى" في عام 1976 من سوء التغذية و المرض و الفقر لم يمنع حاكمها العسكري جان بيدل بوكاسا من إنفاق ثلث ميزانية الدولة بيوم واحد للاحتفال بتنصيبه إمبراطور عليها في الرابع من تشرين الثاني من العام نفسه. وفي العراق بينما كان الشعب العراقي جائعا ومريضا و الاقتصاد العراقي منهار تحت وطأة عقوبات الأمم المتحدة في منتصف التسعينات، كان صدام حسين يشرف على بناء أكبر مسجد في العالم. وكان من المقرر بناء المسجد وسط بحيرة صناعية في منطقة المنصور في بغداد ، وكان من المفروض أن يكون مؤلف من ثمانية منارات وقبة بارتفاع 150 مترا و يستطيع استيعاب 100 ألف مصل وبالطبع قرر صدام أنه سيحمل اسمه : مسجد صدام. و كان سيتم إنشاء جزر صناعية وطرق تشابه الدول العربية في البحيرة فيما تحمل إحداها شكل بصمة إبهامه وكأن الطاغية صدام يريد أن يقول "أنا في مركز العالم العربي وفي استطاعتي إعادة تشكيله". غزو العراق من قبل الولايات المتحدة و حلفاؤها عام 2003 وضع حدّ لهذا المشروع ومازال هيكله يلوح فوق بغداد (أليكس إدوارد ، 2012).
الشخص البارانوي يكون يشكل عام طموح وهو يُسخِر كل شيء في سبيل الوصول إلى غايته ، يعتقد أن الجميع يريد النيل منه عبر حياكة مؤامرات خفية ضده ، لديه شعور دائم بالتهديد من قبل أعداء وإن لم يكونوا موجودين في الواقع يقوم بإيجادهم في مخيلته ، لذلك يكون حذر جداً ، غير متسامح أبداً ، قلق حساس و سريع الاتهام للآخرين بالكذب وبالتآمر عليه وخصوصا لمن يخالفه الرأي.
2- الرأي و الرأي القاتل طبائع المستبد لا يمكن أن تتسع لأي خلاف من أي نوع كان، فهو لا يستمع لغيره و يعتقد انه دائما على حق و صواب ، أي اختلاف معه بالرأي هو جزء من المؤامرة عليه، هذا الخلاف حتى لو كان بسيط جداً يُشكل خطراً على سلطته وعلى وجوده لذلك يستوجب التخلص من مصدره وبدون أي تردد ، فغالبا ما يكون الطاغية "سايكوباتي" يميل إلى السادية وخصوصا في لحظات الغضب و الانفعال حيث يسقط قناع العقل و التهذيب الذي عادة ما يحاول الشخص السايكوباتي إظهار نفسه بهما (هيرفي كليكلي "قناع الصحة" 1941). و هكذا كانت تكفي كلمة واحدة مخالفة لرأي صدام حسين أو معمر القذافي كي تودي بصاحبها إلى العزل السياسي وربما التصفية الجسدية حتى لو كان من أقرب المقربين ومن أكثر الموالين المخلصين ، فالمستبد لا يعرف الرحمة و الشفقة، وانتقال الشخص من حيّز الصداقة معه إلى حيّز العدو الخطير يتم لأتفه الأسباب وربما تكون وهمية وهكذا قام ستالين وهتلر وموسيليني وجمال عبد الناصر وحافظ الأسد وغيرهم من الطغاة بتصفية كل من يمكن أن يختلف معهم أو يهدد سلطتهم.
الطاغية متكبر ومغرور ينفرد برأيه و يستقل به و يعتقد أنه المصدر الوحيد للرأي الصحيح و الفكر الصحيح وقراراته دائماً حكيمة ويعتقد أيضاً أنه مهم جداً على الصعيد العالمي وأن قراراته تشكل حجر الزاوية في السياسة العالمية وكما هو عرضة لمؤامرة داخلية من أعدائه "في" الوطن هو أيضاً عرضة لمؤامرة خارجية من أعداء الوطن الذي يمثله و لا يوجد غيره قادر على تمثيله. أي إختلاف معه بالرأي أو نقد له يُعتبر إعتراض على سلطته وتمرد عليه و يستفزه لأنه يضع صورة العظمة التي يرسمها لنفسه موضع الشك.
3- القدسية يذكر عبد الرحمن الكواكبي في (طبائع الاستبداد) أنه :" ما من مستبد إلا ويتخذ صفة قدسية يشارك بها الله" فالطاغية يعتقد أنه على تواصل مع قوى عُليا يستمد منها قدرات خارقة لحماية اتباعه ، فإرادته هي إرادة الشعب المنبثق عنه و ممثل له و مهمته الأولى هي انقاذ هذا الشعب من المخاطر التي تحيق به. إنه ملهم الشعب و مصدر الأمان بالنسبة له وهكذا فإن عبارة "سوريا الله حاميها" تعني ضمنياً أن الله يحمي سوريا لا لشيء عند السوريين كشعب و إنما بفضل وجود القائد الرمز الملهم المبارك من قِبل الله.
هذه القدرات الخارقة (قوة، شجاعة وإقدام، حزم، وعي وذكاء غير طبيعي، حنكة وحكمة سياسية، ...) تجعل منه شخصية تاريخية على مستوى العالم (تذكروا اللقاءات والخطابات التاريخية للقائد الخالد). هذا الاحساس بالعظمة والتفرّد يقود الطاغية المستبد أحياناً إلى تصرفات غريبة (اقتناء أسلحة مطلية بالذهب، اقتناء حيوانات معينة كالأسود و النمور التي وجدت مثلاً في قصور صدام حسين والقذافي...) وأحياناً يقوده إلى سلوك مضحك، فشخصية القذافي و لباسه و تصرفاته المدهشة كانت فكاهية، أما إرادة شرح المفردات والتفلسف في لقاءات الأسد كانت غالباً ما تظهره بمظهر الضائع المنفصل عن الواقع أو البلاهة، من جهته كان صدام حسين يُقدم نفسه من وقت لآخر وبطريقة مثيرة للسخرية كأديب وكشاعر عربي كبير! في الواقع كل طاغية يعاني من ضغوط نفسية كبيرة كونه المركز الوحيد و المطلق للسلطة في البلاد، تؤدي هذه الضغوط إلى اضطرابات في بنيته الشخصية غالبا ما يستطيع ضبطها والسيطرة عليها في الأوقات الطبيعية ولكنها تظهر إلى العلن بشكل مفضوح في لحظات الانفعال والتهيّج العاطفي: انجاز علمي أو تجاري ما، نصر عسكري، خوف وانكسار، تمرد عليه... في مثل هذه اللحظات يُكثر الطاغية الوعود بالإصلاحات و لكن علاقته مع الاصلاح كعلاقة المجرم مع القضاء الذي برأه، فأي تعديل حقيقي على هذا القضاء سيؤدي إلى محاكمته من جديد.
4- الشخصية المميزة المستبد يُقدم نفسه كشخصية مطلقة تجتمع فيها المتناقضات، فهو قوي جبار شجاع يضرب بيد من حديد بدون أي شفقة وبنفس الوقت لا يتردد عن ارتداء معطف الأب الحنون المحب العطوف الحكيم الذي لا يتوانى عن تقديم العطاءات والمكرمات لأتباعه، يمكننا أن نرى تعبير صارخ لهذا التناقض في الألقاب التي إختارها الطغاة لأنفسهم أو دفعوا من حولهم لإختيارها لهم، فبالرغم من قسوة جوزيف ستالين ومسؤوليته المباشرة عن قتل ملايين الناس أختار لنفسه لقب "أبو الفقراء" أو "الأب الصغير للشعوب"، أما لقب كاسترو هو القائد الأكبر "ليدر ماسيمو"، ومن جهته معمر القذافي لُقب بملك ملوك أفريقيا وبالأخ القائد ، ماوتسي تونغ بالموجه الأكبر، حافظ الأسد بالأب المناضل والقائد الخالد...
الطاغية معصوم عن الخطأ فإذا حصل خلل ما وانتشرت الجريمة والفساد والرشوة فهذه مسؤولية الآخرين الذين لم يطبقوا جيداً نصائحه وتوجيهاته وهذا ما تلخصه مقولة "هو كويس بس اللي حواليه فاسدين"، أو مقولة الطاغية بشار الأسد حين وصف الشعب "بقلة التربية" فلقد اختاره القدر لأنه شخص مميز ليس كالآخرين ولا يوجد أي شخص آخر يمكنه امتلاك مقدراته فهو واحدٌ أحد لم يكن له كفؤٌاً أحد لذلك مكانه القيادة (فإما هو أو لا أحد)، هذا المكان لا يمكن أن يُصبح شاغر إلا بموته وعلى الأغلب سينتقل إلى أحد أبنائه فالشخصية المميزة الفريدة المباركة يتم توريثها لا اكتسابها.
المستبد يشعر دائما بنشوة سلطته و يتحسسها من وقت لآخر من خلال خطاباته الاستعراضية (هتلر، جمال عبد الناصر...) أو من خلال مظاهر التزلف التي يُجبر الشعب بشكل مباشر أو غير مباشر على القيام بها (مسيرات مؤيدة، احتفالات، شعر مديح، أغاني تمجّد قوته...) ولكنه بنفس الوقت يتمتع بنزعة تدميرية مكبوتة في اللاشعور لديه و لا تنتقل هذه النزعة إلى الحيّز الشعوري من شخصيته إلاّ حين يشعر بتهديد سلطته فيكون مبدأه على غرار ما فعله شمشون "عليّ وعلى أعدائي" (حرق روما من قِبل نيرون، ما قيل عن أوامر هتلر بتدمير ألمانيا قبل موته، إحراق آبار النفط بأوامر شخصية من صدام، تدمير المدن بالصواريخ والطيران في سوريا...)، فالطاغية يضع نفسه في صورة كائن لا حدود لإمكانياته ولا لإرادته، ولا يسمح لأحد بان يقف في طريق ممارستة سلطته المطلقة (أحمد ابراهيم الفقيه ، 2011) وهو يُفضل الموت على ترك كرسي الحكم (تشاوشيسكو، هتلر، بول بوت، صدام حسين، القذافي...) ليس لأنه شجاع كما يحاول أن يصفه ما تبقى من أتباعه بعد رحيله؛ وإنما لأنه لا يتصور وجوده وحياته ووجود غيره بدون كرسي السلطة.
الوسائل الرمزية أو غير المباشرة للاستبداد
الوسائل المباشرة للاستبداد في الأنظمة الشمولية هي الجيش وغالباً ما يتم السيطرة عليه بشكل مباشر من قِبل الطاغية وعائلته وهو مُسخر لخدمته وخدمة هذه العائلة (كوبا ، كوريا الشمالية، العراق، ليبيا، سوريا،...). هناك أيضاً المنظومة البوليسية (قوى الأمن) التي تعمل ليلاً نهاراً على مراقبة المواطنين و زرع الخوف والرعب في قلوبهم ، ففي نظام الاستبداد الشمولي كل مواطن هو عرضة للاتهام بالخيانة والتآمر على الوطن وإضعاف الشعور الوطني والقومي. أما الوسائل الرمزية والغير المباشرة للاستبداد فهي:
1- العقيدة يذكر ميشيل كورناتون في كتابه (التواصل الاجتماعي) - 1998 أن كل نظام شمولي يستمد شرعيته من عقيدة (قومية، أممية، دينية...) وهي وسيلة للسيطرة على جميع الفئات العمرية في المجتمع ( طلائع البعث، شبيبة الثورة، الشبيبة الهتلرية، الشبيبة الشيوعية ..) و تُعتبر هذه العقيدة المصدر الشرعي للسلطة، ولكن غالبا ما يتم تفريغها من محتواها و اختزالها بشخصية الطاغية فهو الوحيد القادر على فهمها بشكل صحيح وتطبيقها وحمايتها من الانحراف وتصحيح مسارها في حالة ابتعادها عن أهدافها (الحركة التصحيحية). حالة الفصام النفسي والبارانويا التي يعيشها الطاغية تنعكس على العقيدة نفسها فنجد الفرق الشاسع بين الأفكار التي تنادي بها هذه العقيدة وسلوك من يتحدث بإسمها. وهكذا تحولت ديكتاتورية البروليتارية في الدول الشيوعية إلى ديكتاتورية طبقة حاكمة مستفيدة اغتنت على حساب الفقراء التي أتت من أجل حمايتهم حسب مزاعمها، ولم يمنع البعث العربي الاشتراكي الذي ينادي بالحرية والاشتراكية وحماية الطبقة الكادحة من العمال والفلاحين عائلة وأقرباء الأسد وصدام حسين من نهب هذه الشعب وسحقه تحت سطوة الفقر والحرمان بينما هم يعيشون في قصور فخمة!
في الأنظمة الشمولية يسعى الطاغية دوما عبر وسائل إعلامه لأن يكون رمزاً للعقيدة من جهة وللوطن من جهة اخرى فلا يمكن الفصل بين الوطن والقائد والعقيدة وأي هجوم على شخص القائد هو انتقاص من قيمة الوطن و محاولة النيل منه، فكلما ذُكر الوطن ذُكر القائد وكلما ذُكر القائد ذُكر الوطن وهكذا على مدى سنوات حتى يصبح هناك خلط واضح بيت الاثنين في أذهان مؤيديه، فأي ثورة أو تمرد على النظام الشمولي وعلى القائد هي خيانة للوطن! يبقى السؤال المطروح هنا هو "هل كل عقيدة تؤدي حتماً لنظام شمولي؟"
2- الصورة للصورة الشخصية "بورتريه" مكانة مركزية خاصة في حياة الطاغية وحكمه، فهي تنتشر في كل مكان وزاوية من الوطن ولها وظيفتان:
- وظيفة رمزية: فوجود صورة الطاغية يُعبر عن قبول الطاعة والولاء له، لذلك يجب أن تكون موجودة في جميع الأماكن العامة والخاصة: الحارات والمؤسسات ومداخل المدن والقرى والأسواق والحدائق والشركات العامة والخاصة والجامعات والمدارس والمستشفيات والمساجد والأماكن الأثرية و الوزارات... ولا مانع من المبالغة في ذلك، ففي الأنظمة الشمولية نرى صورة القائد البطل المغوار منقذ الأمة معلقة في أكبر الشوارع كما في أصغرها وفي البيوت و على السيارات الحكومية والخاصة وعلى الكتب والدفاتر المدرسية وحتى في المحفظات الشخصية. يجب أن يكون للطاغية حضور دائم، فأنى وليت وجهك تجد أمامك نصبا كبيرا له أو جدارية عالية لرمز يرتبط به أو صور وملصقات تغطي الجدران يظهر فيها بمناسبة وبدون مناسبة. يذكر أحمد ناصر في مقاله عن (سيكولوجيا الطغاة و المستبدين) أن المصور الشخصي لهتلر "إينريش هوفمان" ألتقط له حوالي 2.5 مليون صورة!
- وظيفة نفسية: فالمستبد يعشق ذاته ونرجسيته هذه تصل حد الهوس فكلما كانت الصورة كبيرة وضخمة كلما شعر بوجوده وقوته و بالرضى الذاتي عن الأنا المتضخمة ، هذه الأنا المتضخمة حد التوّرم تنعكس على تماثيله التي تتوسط تقريبا جميع المدن و البلدات ، فالطاغية يسعى لتخليد شخصه من خلال الانتشار الهائل لصوره وتماثيله وهي تمنحه الثقة بالنفس و الشعور بالعظمة لذلك لا يتردد بأمر أتباعه بأن يقوموا بتنظيم مهرجانات أو نشاطات خاصة للاحتفال بالصورة ، ففي الصين الشعبية كانت تنظم سنويا مسابقات لرسم صور ماوتسي تونغ ، أما في العراق فكان هناك معرض سنوي لصور صدام حسين يُنظم في بغداد ويستمر لمدة أسبوع و يقوم صدام نفسه بافتتاحه !!
تختلف صورة الطاغية من فترة لأخرى بحسب المراد منها ، فتارة يكون الطاغية رجل علم مثقف حاملا معه كتاب و تارة رجل محارب حاملا سلاح أو لابساً الكاكي ، ولابد أن يكون هناك صورة حيث يظهر فيها باللباس الفلكلوري فهو رجل قادم من اغوار التراث الشعبي (صور صدام حسين و حافظ الأسد باللباس العربي...)، ليقول للناس انه رجل ينتمي لأعمق الطبقات الشعبية وأكثرها تعبيرا عن الاصالة والانتماء والالتصاق بالأرض.
هذه النرجسية المتضخمة يختبئ خلفها إحساساً بالضآلة والخوف ، يحاول الطاغية دائما كبتهما وكلما اشتد ضغط المكبوت يأمر أعوانه بتنظيم الفعاليات التي تمجده. يقول فرويد في كتابه "قلق في الحضارة" بأنه كلما زاد الخوف عند الطغاة من فنائه كلما ازدادت دوافعه التدميرية ظهوراً وزاد معها التدابير والاجراءات الوقائية للحيلولة دونها.
3- البروباغندا واللغة بشكل عام في الأنظمة الشمولية لا يوجد شيء إسمه "إعلام" وإنما نوع من الدعاية الاعلامية الموجهة "بروباغندا" ، فجميع وسائل التواصل الجماهيري من صحف وراديو وتلفزيون تخضع بشكل مباشر ومُحكم للطاغية أو أحد أفراد عائلته وتُعتبر البروباغندا الحامل اللغوي للعقيدة. صحيح أن لكل نظام شمولي، منظومة لغوية خاصة به ولكن مهما اختلفت هذه المنظومة من نظام لآخر حسب الزمان و المكان، فإنه يمكننا أن نلاحظ ثلاثة قواسم مشتركة:
- مصدر إلهام الشعب: في زمن السلم والاستقرار تتركز الدعاية الاعلامية على تمجيد الطاغية والتغنّي بمنجزاته العظيمة في مجال بناء الوطن والاقتصاد وغالبا ما يحاول الطغاة ربط أسمائهم بالحداثة والتحديث للتأكيد على أن الوطن قبل وصولهم المبارك للسلطة كانت في عهد الظلمات!! فنجد هناك (باني سوريا الحديثة) و(باني العراق العظيم) و(باني ليبيا المستقبل)... وتكون المهمة الأساسية لوسائل الإعلام هي صناعة صورة استثنائية للطاغية ولنظامه لوضعه فوق مواقع الآخرين من حيث القدرات الفكرية وتميّز الأداء، وابتكار أو توظيف قصص بطولات خرافية عن بعض الخوارق التي ترتبط ببعض سلوكيات القائد؛ إلى درجة اعتباره مصدر إلهام الشعب في العلوم والآداب والفنون!!! فالطاغية هو الراعي الأول للعلم والعلماء وهو (المعلم الأول) لأن "المعلمون هم بناة الأجيال" وهو الطبيب الأول و المهندس الأول والفنان الأول والجندي الأول والفدائي الأول والفلاح الأول... في جميع وسائل الدعاية (صحف، تلفزيون، راديو) يتم التركيز على الوحدة الوطنية والتلاحم بين القيادة والقاعدة الشعبية والصمود والتصدي، وقد ترفدها مفاهيم تتقدم أو تتراجع حسب السياق التاريخي، كالاشتراكية والتقدمية والازدهار الاقتصادي والعلمي التي تعيشه البلاد بفضل حكمة وذكاء الطاغية. طبعاً لا يخفي على أحد أن الإعلام في الأنظمة الشمولية لن يكون إلا إعلاماً منفصلاً عن الواقع على شاكلة الطاغية، فغالبا ما تكون الحالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطن مزرية وبعيدة كل البعد عن ما تصوره بروباغندا النظام، فمثلاً بينما كان تلفزيون ألمانيا الشرقية يتغنى بالرفاهية والازدهار الاقتصادي الذي يتمتع به مواطنوها كان المئات من الألمان الشرقيين يحاولون يومياً الهرب عبر الجدار الفاصل بين الألمانيتين معرضين حياتهم للخطر.
- ضامن استقرار الأمة: في زمن الاضطرابات السياسية و الثورات ومع أول هزة سياسية تختفي عبارات الوحدة الوطنية والكبرياء الوطني وعظمة الشعب الحضاري العريق الذي يرأسه القائد العظيم لتحل مكانها عبارات تجسد حالة الانقسام والفتنة والطائفية وتتحول البروباغندا إلى نوع من التجييش والتخويف من المستقبل والتهديد والمقايضة "إما القبول بواقع الاستبداد والعبودية وإما الفوضى والخراب". ابتزاز الشعب بالأمن، مقابل تخليه عن مطلب الحرية هو المحرك الأساسي لإعلام الأنظمة المستبدة حين تثور عليها شعوبها. وتحاول بروباغندا الأنظمة الشمولية تصوير شعوبها على أنها قاصرة ومتخلفة همجية غير قادرة على قيادة نفسها (شعوب لا تعرف ما هي الحرية ولا تستحقها) وهي بحاجة دائماً لحكم الطاغية القوي لضبطها ووضعها على الطريق الصحيح (التغنّي بالبوط العسكري) وإلا سيكون مصيرها الضياع. وهكذا تنتشر قصص العصابات المسلحة والخطف والاغتصاب، والخبز المسموم، والمشروبات المسمومة، ليس فقط من أجل إثارة البلبلة وتضييع الحقيقة وحسب، بل من أجل تأجيج المخاوف من المجهول، واستنفار الهويات العرقية أو الطائفية المضمرة. فالخوف والهلع يحرك غريزة البقاء، ويستنفر الشعور الجمعي القطيعي للدفاع عن «نحن» ضد «هم» ومن أفضل من النظام الذي نعرفه للدفاع عن هذه ال "نحن" المهددة بالإبادة في حالة رحيله
- عدو، مؤامرة خيانة: سواء في زمن الاستقرار أو الاضطرابات السياسية هناك ثلاثة مصطلحات مستخدمة بشكل يومي في وسائل اعلام الأنظمة الشمولية: عدو، مؤامرة، خيانة. فمن خصائص الأنظمة الشمولية أنها تفتعل الأزمات وتخلق أجواء متوترة ملائمة لإثارة الحروب مع أعداء خارجيين، فلكل نظام شمولي عدوه الخارجي والمهمة الأولى له هي مقاومة هذا العدو وأي مطالبة بحقوق الانسان والعدالة وتحسين الأوضاع المعيشية هي مؤامرة المقصود منها إضاعة الوقت والجهد. في مثل هذه الأجواء يجد الطاغية مجالاً مناسبا لممارسة عنفه والقتل دون حسيب أو رقيب (ميول سايكوباتية) ولإرضاء عقده الاستعراضية القيادية والخطابية. تاريخ الطغاة من جنكيزخان وهولاكو ونيرون إلى هتلر وموسيلني وماوتسي تونغ وستالين وصولا إلى جمال عبد الناصر وصدام والقذافي والأسد يشهد بحقيقة هذه الحالة الحربية التي يضع فيها الطاغية شعبه. بروباغندا الأنظمة الشمولية لا يتم فرضها دائما بالقوة، فاللغة الحاملة للعقيدة ومصطلحاتها تدخل في الاستعمال الشعبي والجماهيري حتى لو لم تتبنى هذه الجماهير عقيدة النظام. المواطن الذي يشقى من أجل الحفاظ على نفسه وتحسين حالته يتبنى بشكل لا إرادي لغة النظام ويستخدمها من أجل نجاحه وحماية نفسه.
التشويه الأخلاقي للشعوب! إن ما عرضناه في هذا الملف من تحليلٍ لشخصة الطاغية بـ "سمات نفسية ووسائل استبداد رمزية" لا يعدو كونه محاولة أولية لا تدَّعي الشمول في عرضها للواقع، ولا تدَّعي العلمية البحتة. هي محاولة أولية لفهم شخصية المستبد وآلية عمل أنظمة الاستبداد الشمولي. إن الخطورة الأكبر لهذه الأنظمة لا تكمن فقط في أنها تمنع شعوبها من التمتع بحقوقهم المستحقة فحسب، (رغم أهمية ذلك ومركزيته) بل في أنها - كما يقول فولتير- تؤسس لأنساق من السلوك السلبي (نفاق) الذي يؤسس بدوره لمرحلة أخلاقية هابطة، مهما كان الشعب (عربي، أوربي، أمريكي، أسيوي...) وبالتالي تساهم في صياغة شعوب مشوهة بنيوياً وتفتقد لصفتها الإنسانية!
فالمجتمعات التي عاشت فترة طويلة في ظل الاستبداد والقهر غالبا ما تنتمي إلى منظومة من أنماط السلوك الغريزي الذي يعتمد أساساً على خصائص الإنتهازية والإنتقام والوصولية فالتزلف والتذلل وانسداد الأفق والانتماءات الضيقة وجلد الذات وتبخيسها والأنانية والفردية تصبح المعيار الأساسي للوصول إلى النجاح في هذه الأنظمة. من المؤكد أن إسقاط آثار حكم الطاغية يكون أصعب بكثير من إسقاط الطاغية نفسه.[/rtl] |
|