منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الروائح منارات من حنين ، وجسور نعبرها إلى ضفاف التذكر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75477
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الروائح منارات من حنين ، وجسور نعبرها إلى ضفاف التذكر Empty
مُساهمةموضوع: الروائح منارات من حنين ، وجسور نعبرها إلى ضفاف التذكر   الروائح منارات من حنين ، وجسور نعبرها إلى ضفاف التذكر Emptyالأربعاء 10 سبتمبر 2014, 7:20 am

الروائح منارات من حنين ، وجسور نعبرها إلى ضفاف التذكر Ad87c8428919bcfb48f5b3167deb563d



الروائح منارات من حنين ، وجسور نعبرها إلى ضفاف التذكر
د. خلود جرادة 


مواسم الصيف والشتاء وما بينهما ، هي مواسم الروائح التي كنت أتعشقها في الشوارع وتحت الشبابيك وخلف الأبواب الموصدة والمواربة ، كل موسم له رائحته ، وكل شارع يفوح بعبقه ، فشوارع الفقراء تنتشر فيها رائحة الشاي والخبز ، ورائحة الكاز وأصوات البوابير ، وتفوح منها رائحة الخبز البائت ، والعدس والبصل المقلي ، وتملؤها روائح الزعتر والميرمية ، شوارع الفقراء تفوح من شبابيكها القديمة رائحة الصابون وهو يغلي على الغسيل في علب الحليب الكبيرة الفارغة ، وتنكات الزيت ، وتفوح منها رائحة الأصوات التي لا تعرف الهدوء ، شوارع الفقراء لها في الشتاء رائحة أخاذة – بالنسبة لي – هي رائحة كوانين الفحم التي يتدفأ عليها الناس ويطبخون على نارها –من منطلق صيد عصفورين بحجر واحد – ورائحة الخشب الذي يجمعه الأطفال من الشوارع وعن عتبات محلات النجارة ، ويعودون به ركضا إلى أهليهم ليطعمون به برد الشتاء فيتحول بهمتهم وهمة الكاز إلى نار مشتعلة ، تتصاعد من الكوانين وتنكات الزيت الفارغة ، لشوارع الفقراء رائحة أثواب النساء والأمهات اللواتي كنّ يجلسن على عتبات البيوت ، ويتجمعن لسرد قصص بيوتهن وأزواجهن وأولادهن ، وتتباهى كل منهن بقدرتها على التوفير والتدبير في نفقات البيت ، كم كنت أحب هذه الروائح ، وكم كانت تثير في نفسي مشاعر غامضة لا أقدر على تفسيرها أو فهمها ، مشاعر فيها التباس كبير ، حنين دافئ جعلني دائما أبحث في كل مكان عن شيء غير معروف بالنسبة إليّ ، ولكني كنت على ثقة أنني عندما أجده سوف أعرفه وأقول ها هو ، وعلى النقيض من ذلك ، فإن شوارع الأغنياء التي كانت تفوح منها رائحة المساحيق والصابون المعطر ، كانت تبعث في نفسي شعورا بالغربة واليتم ، ورغبة كبيرة بأن أركض بعيدا إلى أقرب حارة أو شارع تفوح منه رائحة الحطب والشاي .
هذه الروائح التي كانت تشكل في داخلي مزيجا غير واضح من الإحساس بأني أريد أن أدخل كل بيت من هذه البيوت ، وأن أسكن فيها ، أن أنام على فراشهم الممدود على الأرض ، وآكل من طعامهم ، وأمد يدي مع صغارهم وأنافسهم الفوز بحصتي من النار التي في تنكة الزيت ،لا أدري لماذا ؟ ربما لأنني لم أكن أعيش هذه الأجواء في بيتنا ، على الرغم من أننا لم نكن أغنياء ، فلم نكن ننام على فراش ممدود على الأرض ، وكم كنت أشتهي لو أننا نفعل ، فمنذ وعيت على الدنيا وأنا أنام على سرير ، كل واحد له سريره ، وكم كنت أكرهها ، لم أكن أحب لغة الأسرّة والفصل بين جسدي وجسد أخوتي ، كنت أتعشق روائحهم ، وأحب أن أشمها طوال الليل ، وكان السرير يحرمني فرصة التصاقي بهم ، خاصة أخي الذي مات غرقا ، يا الله ما أجمل رائحته ! كنت دائما أشبهها برائحة نوار الورد الأبيض ، لم تكن أمي تعطره ، ولكنه كان دائما يفوح بالعطر الأبيض ، هكذا كانت رائحته في خاطري ، العطر الأبيض ، وعندما مات وأحضره أبي إلى البيت ، ووضعته أمي أمامها وأخذت تحضنه وتبكيه ، لم أجرؤ أنا على الاقتراب منه ، كنت من مكاني البعيد في آخر الغرفة ، أشم رائحة النوار الأبيض تفوح منه ، وحتى هذه اللحظة كلما مررت من أمام مسبح النعيم حيث غرق ، تفوح من هناك رائحة النوار الأبيض ، وأعود أنا صغيرة أتنازع مع أخوتي على غرفة الملابس ، أينا أحق بتغيير ملابس السباحة قبل الآخر .


عن روائح الأمهات
روائح الطعام الذي تطهوه الأمهات ، كانت تأخذني إلى عالم بعيد من الأجواء الدافئة والأليفة ، كانت أمي تطهو لنا أطيب الطعام ، وكان أبي سخيا في كل شيء ، بل كان يحرص دائما على أن يحضر أجود الأشياء وأفضلها ، وما زال كذلك حتى الآن ، لم نكن أثرياء ، ولكن طعامنا كان طيبًا وهنيئًا ، ولم تكن تلك المشكلة عندي ، المشكلة كانت في الحالة التي نأكل فيها الطعام ، النظام كان يغيظني من الداخل ، النظام الذي يبعثر روائح الأشياء من داخلي ، كنت أحب رائحة بيتنا ورائحة أمي وطعامها ، ولكن الركون إلى تلك الروائح كان يعني أن أظلّ حبيسة البيت.
كنت أحب عندما تتصاعد رائحة الطعام من بيتنا ، أن أتناول منه قطعة أو صحنا وآكله في الشارع أو في أي مكان أكون فيه ، وسرعان ما تختنق هذه الرغبة عندما تصرّ أمي على أن وقت الطعام لم يحن بعد ، وأن الأكل لا يجوز في الشارع ، وأنني يجب أن أنتظر لمّة العائلة حول المائدة ، حينها كنت أذهب إلى بيوت أصدقائي من الأولاد والبنات ، ألعب بعيدا عن الرائحة في بيتنا ، لأجد أمهاتهم وقد أعطت كل واحد منهم قطعة من الدجاج أو الخبز أو أي شيء ، ليأكلوها خارجا وهم يلعبون ، وكنت أفوز بقطعة من طعامهم ، بحكم أنني مع أولادهم ألعب ، كم كنت أحب رائحة أمي ، فساتينها الجميلة ، رائحة النظافة التي تفوح منها ، كان لها رائحة مميزة لا أدري كيف أصفها ، هي أقرب ما تكون إلى جلد حواء عندما تحركت فيها الروح لأول مرة ، رائحةٌ بكرٌ شهية ، ( ما زلت أحتفظ بهذه الرائحة على بعض أثوابها التي أخذتها بعد وفاتها ) ، كم كنت أتمنى لو أركن إلى هذه الرائحة متى أشاء وأخرج متى أشاء ، ولكن الركون إليها كان يعني ألا تدعني أمي أخرج من البيت لمواصلة اللعب ، كان يعني أن تحبسني في حضنها لأنام قيلولة الظهر ، تحيطني بيديها ، ثم تثبتني كالمقص ، هذا الحبس الأمومي ، كان ينسيني تلك الرائحة ويخيفني منها ، بل حاولت كثيرا أن أتخلص من سيطرتها عليّ ، بأن أشم روائح الأمهات وهن يطلقن صغارهن ، ليعودوا متى شاؤوا ويدخلوا البيت متى شاؤوا ، كتعويض عن رائحة أمي ، التي كنت أتمنى أن أشمها متى شئت ودون قيود .


فقد التمادي في الحلم 
روائح كثيرة في بيتنا كنت أحبها ،ولكنها كانت تعزز شعورا ملتبسًا بالفقد عندي ، عن أي فقد أنا أتحدث ؟ أعتقد جازمة بأنه فقد التمادي في الحلم ، والتمادي في القدرة على التخيل والتجسيد ، تجسيد الرائحة لتأخذ شكل الأحلام ، تلك الأحلام التي ربما أصبحت ممكنة التحقق لو أن التخيّل أخذ مداه وحقه في الامتداد في مساحات الذاكرة .
وعلى الرغم من ذلك فقد كنت أجد لنفسي ملاذًا آخر خارج القوانين والأنظمة المنزلية ، حين كنت أذهب إلى السوق ، حيث تسقط من العربات حبات البندورة مثلا ، فألتقط إحداها لآكلها في الشارع كما أحب أنا ، ولتمتد يدي في غفلة من صاحب أحد المحلات القريبة من( بن السرور) الآن ، لأستعير منه حبة جميد آكلها كما أريد ، ومن هناك حبة بطاطا ، أشعل لها حريقا في الشارع كي أشويها ، هذه الملاذات كلها ، تأخذ الآن في داخلي مساحة شاسعة من الذكريات الحاضرة ، ذكريات ممزوجة بروائح المكان ، برائحة بيتنا التي حرمني منها النظام الأمومي ، روائح تذهلني بذلك الحزن الذي يسكنني كلما فاح بها المكان ، هل هو حزن لأنني خسرت أشياء كثيرة وأحلاما أكثر ؟ أم حزن لأنه كان يمكنني أن أوفق بين أحلامي ورغباتي وبين رغبات أمي ؟ لا أدري ..
الروائح ، هي ذلك السرّ الذي يجعلني أفضّل السير على قدميّ في الشارع ، أمشي مسافات طويلة ، أمشي تحت الشبابيك ، لأشمّ رائحة الطعام الذي تنساب من خلفها ، رائحة الطعام تلك تجعل الماضي يقف كالمارد أمامي ويستفيق ، أعود صغيرة تحلم بجناح دجاجة مشوي تأكله في الشارع ، الروائح ،هي ذلك السرّ الذي يجعلني أزور حيّنا القديم دائما ، وأذهب إلى صديقات أمي ، وأدفن وجهي في الأثواب ، وآخذ نفسا عميقا من رائحة أمي المشتهاة ، رائحة الأثواب تلك ، تأخذ صورة مجسّدة عندي ، كما الصوت فيما بعد سيكون له صورة وهيأة ، وكما الحلم فيما بعد سيكون له بتأثير الرائحة صوتا وصورة وهيأة ، أكثر من تلك التي تمنحنا إياها الألوان والأشكال والصور .
مشاعر مختلفة ومتشابكة ومتناقضة ، من الحنين والتذكر والحزن ، والرغبة العارمة الشديدة بالخروج من هذا الإطار الذي أعيش فيه الآن بكل رفاهيته ، لأعود إلى صورة تركض دون إطار ، إلى رائحة تتحرك في كل مكان ، إلى صوت يغني متى شاء ويصمت متى شاء ، ويبكي متى شاء ويحلم متى شاء ، إلى لون كرنفالي فيه رخاوة ، ليس له حد أو صورة مؤطرة .


لبيتها رائحة البحر وقواريب الصيادين 
كنت كلما ذهبت إلى حيّنا القديم ، أقف طويلا أمام بيت جارتنا أم توفيق اليافاوية ، كان لبيتها رائحة البحر وقواريب الصيادين ، أم توفيق التي أخذت تعلمني كيف أطبخ لأبي ما يشتهي من الأكلات الساحلية ، بعد وفاة أمي ، أم توفيق التي أخذ بيتها صورة البحر ورائحة الموج وطعم الشِّباك ، وصورة الذكرى عندي ، أتعمد أن أسير تحت شباكها كلما مررت من ذلك الشارع ، لأشم رائحة الماضي وأرى على شبابيكها الأحلام التي بقيت أحلاما ولم تخرج من المخيلة بعد ، ولم تتغير رائحة بيتها أبدا ، وعندما كنت أشعر أن الرائحة خفتت ، كان يتملكني الخوف من أن المرأة ربما ماتت ، فكنت أمارس شغبا طفوليا قديما ، لكي أطمئن عليها ، كنت أقف أمام الباب وأقرع الجرس وأنتظر ، فإذا سمعت صوتها الممطوط يقول( ميييين) ، أسرع الخطى هاربة من أمام الباب ، كنت أريد أن أطمئن بأنني لن أفقد الرائحة ، إلى أن جاء اليوم الذي لم أشمّ فيه شيئا يخرج من النافذة ، لم أدق الباب ، ولا أدري لماذا ؟ ولكني أسرعت إلى أبي وسألته عن أم توفيق ، غادرت المرأة هذه الحياة ، وأخذت معها رائحة الساحل وأكلات أمي ، واشتهاءات أبي .


إنها رائحة الصوت
أما أم كلثوم ( كوكب الشرق ) فرائحتها شيء مختلف تماما ، إنها رائحة الصوت ، أو الصوت الذي أخذ معنى الرائحة ، فلم أكن أسمع أم كلثوم إلا في متنزه بلدية الزرقاء ، الذي كان يأخذنا إليه أبي ، هذا المتنزه كان مخلصًا لصوت أم كلثوم حتى النخاع ، أغانيها التي كانت تأتيني متمازجة مع صوت نوافير الماء ورائحة الرذاذ المتطاير منها ، ورائحة الفحم في الأراجيل ، مع رائحة القهوة التي تدار في الفناجين ، يرافقها ألوان ملابس النساء والرجال والأطفال المبهجة في الصيف ، مع أزيز الدولاب الذي كان يدور حاملا معه الأطفال ، وأصوات زجاجات البيبسي التي كان يخرج منها الغازكنافورة من الضباب ، ومع سجائر أبي وكوب شاي أمي وقرقرة الأرجيلة بعد ذلك ، صوت أم كلثوم ( ودارت الأيام ) و( هل رأى الحب سكارى ) و ( هات عينيك تسرح في دنيتهم عينيّ ) كان يفوح بمزيج تلك الروائح كلها ، وبملامح الناس الذين كانوا يعيشون مع هذا الصوت كل على طريقته ، أصبحت روائح النوافير وقرقرة الأراجيل ورائحة الفحم بعد ذلك ، تأخذ عندي شكل صوت أم كلثوم ، وامتداد مساحات الحلم والماضي والذكريات الصيفية حتى هذا الوقت ، فأينما كنت ، وانبعثت رائحة الفحم المعدّ للأراجيل ، تبدأ أم كلثوم في داخلي تغني ، ويبدأ ضباب الرائحة الصيفية وأزيز الدولاب وهمسات الناس وأصواتهم تختلط في داخلي ، وأنتقل معها إليّ هناك ، على مقعد في ساحة مليئة بالأشجار والنوافير في متنزه الزرقاء ، وأجدني أعيش حالتين مختلفتين في كل شيء ، الحاضر بكل ما فيه ، والماضي بكل ما انبعث منه ، أشعر برغبة ملحة في الحماية والأمان ودفء الأماكن والبيوت ، وما يحيرني أنني لا أفتقد الشعور بالأمان والحماية والألفة ، ولكني أشتهي أمانا ما وحماية ما وألفة ما ، أنا لا أستطيع أن أحدد ما هي أو أرسم الصورة التي أريدها ، إنها كذلك الشيء الذي تبحث عنه ولا تعرف ماهو ، فإذا وجدته تقول هذا ما أريد .
هل تأخذ الأصوات رائحة ما ؟ هل للصوت رائحة تميزه كالبصمة ؟ هل لحالاتنا في الصحو رائحة وفي النوم رائحة أخرى ؟ 
لا أدري من الناحية العلمية إن كان لها رائحة أم لا ، ولكنني أعلم أنها عندي لها رائحة معينة ، الأصوات التي لم أرَ أصحابها ، يتشكل لها في داخلي رائحة معينة ، كلما سمعت الصوت شممت في داخلي تلك الرائحة ، منها ما يأخذ رائحة المطر عندما ينزل أول مرة على التراب ، ومنها ما يأخذ رائحة موانئ الصيد في عكا حيث رائحة السمك واضحة ، ومنها ما له رائحة الزعتر ، وهناك أصوات لها رائحة الفحم المشتعل ، وثمة أصوات لها رائحة البصل المقليّ ، أشم رائحة الصوت الخاصة به بمجرد أن اسمعه فتغشاني ألفة الصوت وحميميته ، ولكنها تختفي إذا ذهبت الصورة أو النبرة التي سمعت فيها الصوت لأول مرة ، بمعنى أن الصوت له رائحة الحالة والنبرة ، فإما أن أمدّ القلب لها ، وإما أن اجد قلبي قد استبدت به الوحشة ، فثمة أصوات أشعر عند سماعها بالحماية والأمان ، وبالذكرى والحلم ، أشعر عند سماعها أنني أهبط وديانًا برية وأصعد جبالا مزروعة بالصنوبر ، يا إلهي ، كم تجعل الروائح حياتي ملونة ، وداخلي دائما يموج بالحركة .


سر المقعد؟
المقعد الذي كنت أجلس عليه في بيت أبي ، يختزن كل ذكرياتي وأيامي وأحلامي ، ساعات غضبي ورضاي ، عتابي وغفراني ، لحظات الفرح ولحظات الألم ، لم أكن أستطيع أن أسمع لأحد شيئا ، إذا كنت خارج المقعد ، يجب أن أجلس عليه أولا ، ثم نبدأ بكل شيء ، حتى هذه اللحظة ، عندما أذهب إلى هناك ، يجب أن أجلس عليه ، حتى لو كان هناك من يجلس عليه ، فإنني أنتظره كي يخليه لي ، حينها أستعيدني وأشعر أنني أنا ، أعود أنا التي كانت هنا ، وأشم من خلاله رائحة كل ما جرى تفوح من هذا المقعد ، إن تلك الرائحة تعيد صياغتي من جديد ، بل تحفظ لي حالة التوازن التي أحتاجها دائما لأستمر .
هل أنا متناقضة ؟ هل أعيش حالة التباس في مشاعري ؟ هل يحفظ داخلي توازنه أو أدنى حد من التوازن المطلوب لتكون الحياة مقبولة ومحتملة ؟ 
بصدق أقول : لولا تلك الروائح التي تشكل حياتي وتحكمها ، ربما ما استطعت أن أحقق شيئا من التعامل المعقول والهادئ مع كل ما يدور حولي ، ربما تلك الروائح هي الملاذ الذي أحتمي به وألجأ إليه في حالات التعب الكبير ، ومسؤولية ممارسة الحياة ، ربما هي ذلك الشيئ الذي يجعلني أشعر أن الحياة تمرّ أحيانا بخفّة محتملة .


متى أشعر أنني أفور 
بالعاطفة والرغبة واشتهاءات القلب ؟
يحصل هذا عندما أشم رائحتين : رائحة الشتاء ، المطر الذي يبلل ملابسي ، يغسلها ويغمرها حتى أرى الماء ينقط منها ، رائحة الملابس المبتلة بالمطر تصيبني بفوران الدهشة ،واشتعال القلب ، وتخرجني عن هدوئي ، وتجعل لي أطوارا غريبة ، أصاب بحالة من الرغبة العارمة في البقاء خارج البيت والسير في الشوارع ، أرفع وجهي إلى السماء ، أعود طفلة تدفئ يديها بحبة ساخنة من بائع الذرة ، وأصبح امرأة معجونة بحكاية من الحب تبدأ ولا تنتهي ، أحلى وأصفى حالات اشتعال القلب أعيشها عندما أشم رائحة المطر وملابسي المبلولة بمائه ، عندما أسمع صوت القطرات على نافذتي ، أشم رائحة الرغبة من مكان ما في الخارج تناديني ، فأخرج مسرعة ، أمشي وأبتلّ وأتنفس الرائحة بعمق ، بعمق ، وأشتعل ، أشتعل ، أغتسل بالمطر ، ولا يهدأ اشتعالي ، أمر من أمام المقاهي لتصطاد أذني صوت الأغاني ، أشم رائحة الفحم المعدّ للأراجيل ، وتفوح رائحة ثيابي المبلولة ، وأنصهر أنا برغبتي ، رغبتي التي أعمدها أمام موقد الحطب في بيتنا ، أجلس أمامه بذلك الكرنفال المتصاعد في داخلي من الرغبات التي يشعلها الماء ويطفئها لهب الموقد وتوهجات الجمر فيه ، الملابس المبلولة في الشتاء ورائحتها هي من يعيد تشكيلي مرة أخرى .


رائحة أول الربيع
والرائحة الثانية هي رائحة أول الربيع ، هذه الرائحة لا أستطيع أن أحدد ماهيتها ، ولكنها مزيج مختلف من العواطف ، أشعر بها عندما تتسلل أليّ من الشجر والزهر والعشب وهدوء السماء ووداعة الطير ، أشعر أن هذه الرائحة الضبابية الرخوة ، تجعلني أتقبّل كل شيء ، عندما تنساب في داخلي هذه الرائحة الغامضة ، أمسك بزمام المبادرة في كل شيء ، لا أنتظر ، فليس في القلب صبر على الانتظار ، أشعر أنني أزهر بالخصوبة كما أشجار حديقتي ، وربما هو أكثر الفصول وداعة وسلاما لي ولمن يحيطون بي ، حتى الماضي الذي كان يؤلمني عندما لم يكن ماضيا ، يأتيني أليفا وادعا وحنونا ، يأتيني برائحة الأشخاص الذين كانوا ، برائحة الأحاديث ، الحجارة التي جلسنا عليها ، الأرصفة التي انسكبت عليها القهوة ، بخار الشاي المتصاعد برائحة الأعشاب ، العطور الخفيفة التي كانت تفوح من الأجساد ، رائحة القصائد والحكايا والهموم التي أخذت شكل البوح وجسور التواصل ، يا الله ، لو أنني أستطيع أن أمسك بهذا السرّ الذي يعيد تشكيلي وصياغتي بشكل مختلف في كل مرة ، لو أستطيع أن أمسك بهذا السر الذي يجعلني دائما في حالة من الصخب الداخلي ، وهو صخب يلون الحياة ويزيدها سكينة ووداعة ورضا ، لو أنني أستطيع .

الروائح منارات من حنين ، وجسور نعبرها إلى ضفاف التذكر 5f21fe1a6fa275e0bf725ee74410d2b9
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
الروائح منارات من حنين ، وجسور نعبرها إلى ضفاف التذكر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» ذاكرة الروائح
» ذاكرة الروائح 
» حنين الزعبي
» حوار على ضفاف الحاوية!
» حنين محمد عبدالكريم البطوش

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث متنوعه-
انتقل الى: