فوتوغراف يوثّق لفلسطين التاريخية
يضعنا الفوتوغرافي الفلسطيني أحمد المحسيري تحت شمس الجرح، ليصطحبنا في رحلة في فلسطين، نرى بأعيننا ما وثّقته عين جرحه، فيؤلمنا الجرح مرتين..
بقصدٍ، وبألف قصد، تعمّدَ التوثيق أكثر لفلسطين التاريخية. وبقصدٍ، أو بغير قصد، انفلتتْ دموع حارة من أكثر من عين.. حيث وضعنتا عدسة المحسيري اللماحة و ذات البصيرة الموروثة من فلسطيني لفلسطيني في رحلةٍ تنبض فيها القلوب لبلادٍ حفظَ تضاريسَها الأجدادُ وما تزال مفعمة بطعم الجرح في جيل الشتات، جيل لم يرَ هذه المدن ولم يعش فيها أبداً، لكنه مسكون بها.
يجيد المحسيري اقتناص الضوء من فم العتمة، حيث يغدو التقاط الصورة لحظةً تتعانق فيها روح الفنان مع المكان. وهو لا يستطيع الإفلات من تأثير رحلاته لفلسطين، لذا يحملها معه لوناً و ضوءاً في محاولةٍ لنقل الواقع بكل ما فيه من وجع وحزن وألم ومرارة وحس إنساني يقول: كل ما في هذه المدن يشبهني، يشبه روحي.
فمذ اشتعلت حرب حزيران، كان يستمع لمذياع تحضنه جدته في بيت من الطين بمخيم اللاجئين الفلسطينيين في أريحا، حيث عاش سنوات عمره هناك. يستعيد ذاكرته التي لا تغيب عنها نكسة حزيران ورحلة عذاب الرحيل، التي شكلت بداية للوعي الوطني لطفل لم يكمل التاسعة آنذاك. يقول: وجع الذاكرة يأخذني إلى وجه جدي الحنطيّ بعمامته البيضاء وزيه التقليدي، رجل جليل في منتصف العقد الخامس كل من حوله يناديه: الحاج محمد أو أبو خليل.
جدي لم يعد بيننا، لكنه عاد بلا شك هناك.. ولا أعرف إن كان له ضريح في الثرى، ثم يواصل: صورة الجد الشهيد لم تفارق مخيلتي، حيث كنت حفيده الثاني الذي لم يكمل التاسعة فربطتني به محبة خاصة. وفي الذاكرة صورة أبي يبكي، وأمي تنوح وهي الحامل في شهرها الثامن بطفلها الخامس.
بعد أقل من عام وفي أول أيام الربيع استفاق المحسيري على معركة الثأر لجده، كانت معركة الكرامة، حيث تعانق الدم الأردني والفلسطيني هناك، وتعانقت البنادق في معركة الشرف والبطولة.
حين أنهى الثانوية وضع نصب عينيه الدراسة في العراق، وكانت بغداد في ذلك الوقت من أكثر العواصم العربية انشغالاً بالهم العروبي والقومي، وقد تحقق له ما أراد، حيث التحق بجامعة بغداد لدراسة الكيمياء في العام 1976، وهناك تأثر بسيرة المناضل السياسي والفنان المبدع غسان كنفاني، وبدأ اهتمامه بالفنون، وعشق فن الخط العربي، وما يزال يحتفظ بكراسة الخط العربي للخطاط الكبير محمد هاشم.
بعد هجرته إلى الولايات المتحدة الأميركية أوائل العام 1991مع زوجته المولودة هناك، تحقق حلمه بدراسة الفنون في إحدى الجامعات الأميركية بولاية كنتاكي، وهناك وجد ضالته بعد عقدَين من الزمن فَصَلا بين دراسته الكيمياءَ في جامعة بغداد وبين دراسته كيمياءَ الصورة في الولايات المتحدة.
ظل مهجوساً بحلمه في توثيق مدن وأماكن فلسطينية لم يتسنَّ لجيلٍ كامل من شعبه أن يراها. طاف لأيامٍ في شوارع القدس العتيقة، وأسواقها وحواريها، ومساجدها وكنائسها.. ثن اتجه إلى بيت لحم وكنيسة المهد، فرام الله ونابلس، ثم يافا وحيفا وعكا والناصرة وطبريا.
عشرات الصور التقطتها عدسته في القدس، لتكشف الانسجام الروحي بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، كما أظهرت صوره عراقة البيوت المقدسية، وبائعة الخضار بثوبها المطرز، وعيون الشباب الفلسطيني تحدق بالجنود دون أن تحكي..
نعم.. بقصد، وبألف قصد، تعمّدتُ التوثيق أكثر لفلسطين التاريخية، يقول المحسيري ويضيف: أنا الآن في فلسطين التي كثيراً ما حدثني جدي عنها، أقف الآن في حضرتها الجليلة المسربلة بالدم والدمع.. وتتواصل الرحلة حيث عكا بشموخها وأسوارها، ببحرها وبرها صامدة بمدافعها... ولن تنتهي رحلتي إلا بالعودة!.