سامح المحاريق - تتراجع جودة الخط لدى الكثيرين، فتبدو الكتابة قريبة من الطلاسم، مموهة وغير منتظمة، وبحيث يجعل من يقرأ مراسلات قديمة يعيش حالة من الرثاء لتراجع جودة الخطوط اليدوية التي كانت سابقا، وأيضا الذوق الرفيع في الكتابة بتقاليد وطقوس متعارف عليها كانت تعتبر جزءا من أدبيات التعامل اليومية.
تراجعت جودة الكلمة المكتوبة من ناحية الخط لجملة من الأسباب، فالمدارس أصبحت مكتظة ولم يعد المدرسون يستطيعون متابعة مسألة تجويد الخط بالنسبة لطلبتهم، فالمسألة تحتاج متابعة وتوجيها لا تتيحه حالة الازدحام في الصفوف، ثم أن المعلمين أنفسهم، ممن تخرجوا من نفس المنظومة لا يمتلكون عادة القدرة على كتابة بخط واضح، فالخط الجميل بدأ يتحول إلى مسألة تراثية، ومن الأسباب الأخرى، تزايد الاعتماد على أجهزة الكمبيوتر الشخصية في المنازل وفي أماكن العمل، وأصبحت المراسلات الإلكترونية تمثل الأغلبية الطاغية من مجموع المراسلات التي تجري في العالم، وحتى المراسلات التي تجري بالبريد العادي فإنها تطبع على أجهزة الكمبيوتر من الأساس.
الخط العربي مسألة مختلفة عن الخط في أي لغة أخرى، فجمالية الحروف العربية متفردة في حد ذاتها، وطريقة الكلمات في تواصلها والقدرة على التعبير في داخل الكلمة الواحدة، كلها إمكانيات في الكلمة المكتوبة باللغة العربية بحيث تحول الخط العربي إلى لوحات فنية عاشت لعصور، واللغة التركية التي كانت تكتب بحروف عربية سجلت روائع ما زالت محفوظة في المساجد والمعالم المختلفة في المدن التركية، بينما تكتب هذه اللغة اليوم بعد تحولها إلى الحروف اللاتينية بطريقة ميكانيكية خالية من مسحة الجمال القديمة.
هذه ربما نقطة تصلح مدخلا لقضية أخرى تتعلق بالكلمة العربية المكتوبة، وهي ظاهرة الكتابة بالعربيزي، حيث تكتب العربية في كثير من المراسلات (الودية وغير الرسمية) والدردشة الإلكترونية بحروف إنجليزية، بينما تحل بعض الأرقام مكان الحروف العربية غير الموجودة في اللغة الإنجليزية، مثل الحاء والخاء والقاف، وهذه الظاهرة متفشية في الجيل الجديد الذي تعود التعامل مع أجهزة الكمبيوتر والهاتف النقال، وهي ظاهرة تهدد بالفعل القدرة على الصياغة باللغة العربية السليمة والواضحة، وستتزايد خطورة الجنوح بين الأجيال الجديدة لاعتماد هذه الطريقة بحيث تؤثر على اللغة العربية ككل.
البعض يمكن أن يدفع بحجة أن اللغة هي أداة للتواصل، وطالما أن الرسالة تصل إلى المتلقين فإن اللغة أدت وظيفتها بغض النظر عن الطريقة أو الشكل، وهذه حجة غير عملية وغير صحيحة، فاللغة هي جزء من الثقافة والشخصية والهوية، ولعل جزءا من التراجع الذي يلحق بقدرة الشعوب العربية على الإبداع والتميز يتعلق بتدريس العلوم بلغات غير عربية، وبالتالي، فإن المتلقي العربي للعلم يبقى دائما وراء نظرائه الغربيين بخطوة أو أكثر، فتفاعله مع اللغة يبقى عند مستوى الفهم الاعتيادي والضروري لعمله، وليس الفهم العميق والنقدي.
بالطبع يمكن للغة أن تتطور، ومشكلة اللغة العربية في أجيال كاملة من المختصين والنحاة والتقليديين الذين أعاقوا تطورها، وجعلوها غير قادرة على مجاراة العصر، ولكن الحل ليس في أن تترك هذه اللغة التي كانت لغة العلم والحضارة نهبا لتوجهات يصوغها المراهقين بحلولهم الثورية التي تسعى للحصول على النتائج السهلة، فمهما يكن من أمر، فالانضباط اللغوي مسألة مهمة من أجل التواصل الفاعل والمنتج والذي يكتسب الدقة والمعيارية، وهذه مهمة يجب أن يضطلع بها مختصون على قدر كبير من الوعي بالعصر ومتطلباته.
الحل ليس في اللجوء إلى اللهجات العامية والتي سيستغرق وصولها إلى مرتبة اللغة أجيالا طويلة، كما أنه ليس في الانتقال إلى الحروف اللاتينية كما كان يقترح البعض، وبالتأكيد ليس في الاستسلام لسلطة أجهزة الكمبيوتر وأنظمته على المستخدمين بوصفها تتولى صوغ الحياة للاجيال المقبلة، ولكنه في مراجعة شاملة لمشكلات اللغة العربية المكتوبة والمتداولة بين الناس، والعمل على ترسيخها في مراحل التعليم المختلفة ومن ثم الانتقال إلى وضع تعليمات وقوانين واضحة تؤكد ضرورة العمل على تعزيز اللغة العربية في أماكن العمل والأسواق، وتاليا يأتي العامل الذاتي والالتزام الشخصي بعدم التعامل بالرسائل القائمة على نمط (العربيزي)، وكذلك التأكيد على الأطفال والمبتدئين بتحسين الخط والكلمة المكتوبة وذلك من خلال مساعدتهم على التذوق الجمالي للحروف العربية وإدراك المستقبل الضروري من أجل توظيف اللغة العربية في مكانها الصحيح في حياة الناطقين بها والتي تعد جزءا من وعيهم وهويتهم وبدونها لا يمكن التحدث عن تقدم حقيقي أو نهضة ممكنة.