الإحسان إلى الخلق وأبعاده الحضارية
د.عبدالرحمن الكيلاني
إن توحيد الخالق وعبادته ، والإحسان إلى الخلق والرحمة بهم ، هما القاعدتان الكبيرتان والركيزتان العظيمتان اللتان تقوم عليهما أكثر احكام الإسلام وتوجيهاته ، وقد قرن الله تعالى بين هاتين القاعدتين وهذين الأصلين العظيمين في آيات كثيرة من كتابه الكريم ، ومن هذا قوله سبحانه :”وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا “ النساء /(36)
وهذه الآية الكريمة من سورة النساء هي من جوامع الكلم وقواعد الشرع التي جمعت بين الدعوة إلى تعظيم الحق وبين الدعوة إلى الشفقة بالخلق : تعظيم الحق الذي تمثَّل في الأمر بعبادة الله وتوحيده سبحانه حتى يكون الإنسان كريما وعزيزا في هذه الحياة فلا يعبد إلا الله ولا يخضع لأحد سواه ، والشفقة بالخلق التي تمثلت بالأمر بالإحسان إلى الوالدين واليتامى والمساكين والأقارب والجيران وغيرهم من الأفراد الذي نتواصل معهم بمقتضى العلاقات والصلات الاجتماعية المتنوعة والمختلفة ، وذلك حتى يكون المجتمع قويا ومتماسكا وموحدا وعصيا على التجزئة والتفرق .
والمطلوب في هذه الآية الكريمة هو الإحسان إلى الغير لا مجرد العدل فقط ، وفي الإحسان لا يقف المؤمن عند حدود التعامل بالمثل وبالعدل ، وإنما يتعدى ذلك ويتجاوزه إلى التعامل بالزيادة بالفضل ، قد يكون من العدل أن تتعامل بالمثل فتصل من وصلك ، وتكرم من أكرمك ، وتبرُّ من برّك ، وتزور من زارك ، ولكنك في مرتبة الإحسان لا تنتظر سبق الخير من الآخرين لتكافئهم وتقابلهم بمثله ، وإنما تبادر بالعطاء دون انتظار مكافاة ولا عطاء من أحد ، ودون أن تترقب جزاء سابقا ولا لاحقا من أحد الخلق ، لأنك تعطي وتبذل لوجه الله وحده دون سواه ، ومرتبة الإحسان هي فوق مرتبة العدل ، ومن أتى بها فقد أتى بالعدل وزيادة ، لأن من أتى بالأعلى فقد أتى بالأدنى .
يخطئ كثير من الناس عندما يحصر مفهوم التدين والالتزام في بعض العبادات البدنية من الصلاة والصيام والحج وقيام الليل وحضور الجمع والجماعات ، ويغيب عن نشاطه وفاعليته وحركته واهتمامه ، العناية بالخلق والإحسان إليهم والشفقة بهم ، بالرغم من الله يأمر بالإحسان إلى الخلق مثلما يأمر بعبادة الخالق سواء بسواء .
إننا نشهد اليوم صورة من صور الأنانية والفردية والذاتية التي باتت تهيمن على حياة فئة كثيرة من المسلمين ، بحيث لا تعنيهم إلا مصالحهم ومنافعهم الشخصية ولا يلتفتون إلى مسؤوليتهم وواجبهم الاجتماعي تجاه أفراد المجتمع من الفقراء والمساكين ، والأرامل واليتامى ، والمدينين والمعسرين ، وطلبة العلم والمحتاجين ، والأقارب والجيران ، وغيرهم كثير ممن أمر الله سبحانه ببرهم والإحسان إليهم .
لقد نقل القرآن الكريم لنا بعض مقاطع الحوار الذي يجري مع أهل النار وذكر من جملة ذلك إجابة المشركين عن سبب استحقاقهم لعذاب الله وجاء هذا في سورة المدثر: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
فهم استحقوا نار سقر وعذابها ولهيبها ؛ لأنهم كانوا مضيعين لحقوق الله تعالى ولعبادة الله ، وهذا ما عبروا عنه في إجابتهم (لم نك من المصلين ) ، وكانوا مع ذلك أيضا مضيعين ا لحقوق الخلق فلا يطعمون المساكين ولا يشفقون عليهم ولا يؤدون واجبهم الاجتماعي تجاه المحرومين وأصحاب الحاجات .
ولقد أكد القرآن الكريم على هذا المعنى في ضرورة رعاية هذين الحقين وأداء هاتين المسؤوليتن معا ، دون تقصير في أي منهما في قوله تعالى في سورة الماعون :”أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
هذا ، ويوجهنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى أن الإحسان إلى الخلق هو من أعظم بوابات الوصول إلى الخالق ، وأن المحسن هو المستفيد الأول والمنتفع الأول من إحسانه وشفقته بخلق الله تعالى :ففي الحديث الذي أخرجه الطبراني في معجمه عن عمر أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله أي الناس أحب ألى الله ؟وأي الأعمال أحب إلى الله ؟فقال رسول الله صل الله عليه وسلم :” أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم ، أو تكشف عنه كربة ، أو تقضي عنه دينا ، أو تطرد عنه جوعا ، ولئن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا في مسجد المدينة ،ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام “
وإن هذا السرور الذي تدخله على قلب المسلم قد يكون في القسط الجامعي الذي عجز الطالب الفقير عن أدائه لجامعته ، قد يكون في أجرة المنزل التي تراكمت عليه حتى أصبحت دينا ثقيلا لا يقوى على الوفاء به ، قد يكون في فاتورة العلاج التي لا يستطيع تحملها ، قد يكون في إعانته على نفقة أولاده وعياله مع ارتفاع أعباء الحياة والتزاماتها ، قد يكون في أن تبذل من جاهك ومكانتك ومن وقتك وراحتك لتفرج عن المكروب ، أو تنتصر للمظلوم أو تعين المبتلى ، فهذه كلها من أسباب القرب إلى الله والفوز بمحبته ورضوانه .
لقد ذكر لنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن الإحسان للخلق قد يكون بعمل يسير ولكنه عند الله كبير ؛ ففي الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وسلم قال :” لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس “