اشتهرت بها مناطق الصحراء المغربية خلال مسامرات الزواج: «الكدرة» رقصة شعبية مركزها الجسد الأنثوي في بعده الجمالي والصوفي
الطاهر الطويل
الرباط ـ «القدس العربي»: تندرج رقصة «الكدرة» ضمن الفنون الشعبية الصحراوية المغربية ذات المنحى الحركي مثل الرقص الصوفي وفن سباق الهجن والألعاب الرجالية التي تعتمد توظيف الجسد داخل فضاء مستدير يسمى «القام» وغيرها من الفنون الإيقاعية التي تجسد العلاقة الحميمية لإنسان الصحراء مع المكان والزمان. وتعدّ هذه الرقصة اللون الغنائي والتعبير الحركي الأساسي الذي يضفي السمة الاحتفالية على الأمسيات والمسامرات الليلية أثناء أيام الزواج في مناطق الصحراء، بل إن هذه الرقصة الشعبية أضحت تمثل عاملا مساهما في نسج العلاقات الاجتماعية وتماسكها بين الرجال والنساء.
وفي كتاب بعنوان «رقصة الكدرة: الطقوس والجسد» يوضح الناقد والفنان التشكيلي إبراهيم الحَيْسَن أن هذه الرقصة من اختصاص الفتيات العازبات والنساء المطلقات (وفي حالات نادرة المتزوجات منهن، لكن دون أن يكشفن عن جوانب من أجسادهن) وتتكلف بإحضارهن وصيفة (خادم أو معلمة) بعد تهييئهن وتوصيتهن بعدم فتح الأعين إلا وفق القدر اللازم الذي يمكنهن من رؤية ما حولهن، فضلا عن تحريك الأصابع انسجاما مع حركات الأذرع والتلويح بالضفائر وغير ذلك.
يشيع عند الكثيرين أن رقصة «الكدرة» تستمد اسمها من طبل الإيقاع الذي تنقره إحدى النساء، فتزن به إيقاع الرقصة والجُمل الغنائية، ولا ضير أن يقوم بهذا العمل أحد الرجال الحاضرين. لكن الباحث إبراهيم الحيْسَن يوضح أن الحقيقة غير ذلك، فكلمة «الكدرة» أو بالأحرى «الكادرة» هي ـ في رأيه ـ المرأة «القادرة» ذات الشخصية القوية المؤثرة، ولا غرو في أن يكون هذا المفهوم مطابقا لمنزلة المرأة الصحراوية في المجتمع منذ أقدم العصور.
كما يورد تفسيرا آخر للكلمة، فيقول إن رقصة «الكدرة» التي تُنطق بكاف معقوف أو جيم حسب النطق المصري، مشتقة من «القدْر»، الآنية الخزفية، لأن آلة التزيين فيها عبارة عن قدر أو جرة من الطين مغلفة الفوهة بالجلد، وينقر عليها بقضيبين، بينما يصاحبها الحاضرون بالضرب الموزون على الأكف، وعلى مجموع هذه النقرات ترقص الراقصة، وتتشابك أصابعها، ويتمايل رأسها، والحاضرون يشاركونها نشوتها الفنية «الروحية»، إذ تعتبر «الكدرة» شكلا إبداعيا شعبيا ينحو فيه الأداء الغنائي/الحركي نحو ما يعرف بـ»العرض الجماعي» الذي يقوم على الاستجابة الجماعية للغناء والرقص، وهما من التعبيرات التي تجسد تعلق وحب الصحراويين للموسيقى والرقص أكثر من غيرهما من الفنون. وتختص النساء بالرقص الذي يقتصر على سيدة واحدة تقوم بالرقص وسط حلقة من الرجال يحيطون بها ويشجعونها بالتصفيق وترديد بعض اللوازم.
تستغرق رقصة «الكدرة» مجموعة من الجولات الإيقاعية، وكل جولة تتمثل في الأصل إنشاد ثلاث «حمّايات» وفق خط لحني يبدأ انفراديا ليصير متصاعدا، حيث ينخرط في أدائه أفراد المجموعة، وقد يطول إنشاد «الحمّاية» مثلما قد يقصر، تبعًا لقدرة الراقصة على الاستمرار في الرقص.
دلالات الفضاء الدائري
تجري الرقصة في فضاء دائري تتوسطه الراقصة، وهو فضاء يطلق عليه أهل الصحراء اسم «الكارة» الذي يعود الاشتقاق اللفظي فيه إلى المصطلح اللاتيني «أكورا» Agora الذي يعني الساحة ذات الشكل الدائري، وقد يضيق هذا الفضاء مثلما قد يتسع بحسب عدد المشاركين (من الرجال والنساء) في الأداء الجماعي المميز لهذه الرقصة الشعبية.
ويبين الباحث إبراهيم الحيْسن أنه حتى «الكدرة»/ الإناء بشكلها المستدير تظل محمّلة بالعديد من الرموز والأدلة ذات المنحى الصوفي، ففكرة الدائرة (كصورة رمزية للخلود وكشكل هندسي تام لا بداية ولا نهاية له) تحيل على الحركة والحياة البشرية التي تعبّر عنها الراقصة في دورانها حول ذاتها. كما أن الغشاء الجلدي الذي يغلف فوهتها يرمز إلى الانتماء البيئي (جلد الغنم أو البقر أو وبر الإبل)، بالإضافة إلى أن الضربات التي تؤدى عليها بالقضيبين تختزل أصواتا إيقاعية متناغمة بالغة الاتصال بالأرض والجذور.
ويتضح من خلال حركات اليدين التي تقوم بها الراقصة في هذا المكون الفرجوي الشعبي الصحراوي أن رقصة «الكدرة» تنسجم في جوانب عديدة مع رقص «الناتيا» الهندي النابع من عبادة جماعية، وهو يقوم على حركة اليدين المسماة «الهاستا مود دراس» التي تؤدى أثناء ترتيل الكتب المقدسة عند الهندوس، مثلما يلاحظ مؤلف الدراسة. فإذا كان الجسد تشكيلا رمزيا نكوّنه عبر تمثلاتنا الثقافية والحضارية ـ كما بيّن ذلك جاك لاكان ـ فإن الراقصة مركز المشاهدة تستعمل جسدها كاملا كمادة لإثارة البهجة في نفوس المتفرجين باعتماد حركات جسمانية وإيماءات احتفالية بمحض تقاليد وأعراف راسخة.
على هذه القاعدة الرمزية، يتحرك الجسد في رقصة «الكدرة» متساميا عاليا راسما بذلك العديد من العلامات المتحركة، ويتم الرقص إبداعا وفنا حركيا من اختصاص النساء اللواتي يبدعن في تحريك الأذرع والأصابع وتقليب الأكف وهز الرأس يمينا ويسارا، مع تمايل نحو الفوق والتحت، لدرجة إيصال الجسد أحيانا إلى حد الغثيان والإغماء. أما الرجال فيقتصر دورهم على ترديد بعض الأذكار والأناشيد والأدعية التي يغلب عليها الطابع الديني والغزلي، وتسمى بـ»الحمّايات»، إذ ينشد البعض نصف «الحمّاية» الأولى، ليردد الباقون نصفها الثاني، وذلك ضمن أنساق وصنوف مقامية متواترة متنوعة الدرجات والإيقاعات، يقودها «نكار» (أي نقار) مهمته الضرب على «الكدرة» (القِدْر) بواسطة قضيبين دقيقين يطلق عليهما «لمغازل».
احتفالية الجسد
يقول المؤلف: في رقصة «الكدرة» يكون عرض الجسد مباحا في حدود شروط أخلاقية يحددها المجتمع، فيها ينكسر جدار الكبت على صخرة الرقص، ويتحول المشهد إلى احتفال الجسد بذاته ضمن طقوس جماعية مليئة بالحيوية والحماس.
أناشيد متعالية بالترديد، وكلمات متصاعدة تنتهي بالانتقال إلى عوالم أخرى، عوالم «الحضرة» و»الجدبة» والوجد الصوفي. وخلال الأداء/ الرقص وما يصاحبه من طقوس، تنسج وتتعاضد علاقات الحب بين المرأة والرجل، ويكشف الوجدان عن الطاقة الداخلية التي تملأه. رقص ولعب وحب وعشق وإعجاب متبادل يحظى باعتراف الجماعة. جسد راقص ومتحرك وباحث عن الاحتضان والسكونية والاستقرار الاجتماعي: الزواج.
ولأن الشرط الأساسي في رقصة «الكدرة» هو مفارقة الجسد لذاتيه والدخول في إهاب شخصية جسدية أخرى، فإن الجسد في هذه الرقصة الشعبية يتخذ صورا متعددة تبعا لوظائفه الأنثروبولوجية والثقافية؛ فهو لا يأخذ معناه إلا من خلال تأثيراته الرمزية والجمالية التي يمارسها على المتفرج. إنه هو من يعبّر عن هوية الراقص وموضوع الرقص في آن. لذلك، يمكن اعتبار الجسد في رقصة «الكدرة» صوفيا مندمجا في جسد الجماعة، وجسدا موسوما بالعديد من الإشارات والرموز التي تجسد الرغبة في التحرر من قيد التقاليد الاجتماعية الضيقة. بهذا الفهم، يكون خطاب الجسد بليونته وقصدية إيماءاته قد خلق حالة تلق بصري تنصهر فيها الاستعارات والمجازات التي تعمل الراقصة على تطويعها إبداعيا، لتحقيق التواصل غير الكلامي.
وهكذا، فرقصة «الكدرة» ـ كما يستنتج مؤلف الكتاب ـ شكل تعبيري يرسم العديد من القيم الجمالية والفنية الراسخة في الذاكرة الجماعية لمناطق الصحراء في ارتباطها بتحولات الزمان وشروط المكان وخصوصياته، لتظل تشكل إبداعا حركيا تتناقله الأجيال وتتوارثه جيلا بعد جيل.