ابن خلدون قارئ التاريخ ..بناء الدول وسقوطها
اعلم حساسية البعض من ابن خلدون ولكني في كل يوم اصدقه اكثر واكثر واكثر وليكذبه من يشاء ..
اليوم حديثي مع ابن خلدون عن عوامل سقوط الدول ..وكيف ينشأ الخلل ..
رحمه الله رحمة واسعة لقد نصح للامة بعلمه فأستفاد منه الغرب ولم يقرأ له بنو جلدته وربما نسوه ولكن علمه لم ينسهم
السبب الأول: الظلم
بدأ ابن خلدون نظريته بفصل خاص تحت عنوان (الظلم مؤذن بخراب العمران) مستعرضاً صوراً لانواع الظلم مؤكداً أن الفسق –ارتكاب المعاصي الكبيرة –بصورة فردية لا تؤدي إلى خراب العمران بصورة سريعة كما هو حال الظلم.. نعم قد يكون ارتكاب المعاصي الكبيرة مؤذناً بخراب العمران، ولكن في حالة واحدة وهي إذا ارتكبت المعاصي من قبل النافذين في الدولة ولم تستطع يد القانون أن تطالهم، كونهم محميين بمكانتهم ونفوذهم، وبالتالي فهذه الحالة تكون الدولة ساعية في طريقها إلى السقوط.. وضرب مثلاً بقصة رمزية قدمها المويذان مستشار الملك بهرام الفارسي.. وذلك عندما سمع الملك بهرام صوت البوم.. فسأل مستشاره: هل لي أن أفهم كلامهما؟! أجابه قائلا: (إن ذكر البوم رام نكاح انثى فشرطت عليه عشرين قرية خاربة في أيام بهرام، فقبل شرطها وقال لها إذا دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية، وهذه سهل مرام.. وهنا تنبه الملك.. ثم خلا بالمويذانا المستشار فقال له: أيها الملك: لا عز للملك إلا بالشريعة والرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة ولا عمارة إلا بالعدل.. أيها الملك: عمدت إلى المزارع والأرض فانتزعتها من أصحابها الذين يؤدون الخراج، وأعطيتها لحاشيتك فتركوا عمارتها وسومحوا بالخراج لقربهم من الملك.. فاشتد المكس/ الضرائب على الباقين.. فتركوا البلاد وهاجروا فقلت الأموال فهلك الجند جوعاً فطمع بك الخصم المتربص). وهنا سارع الملك إلى رد الحقوق فانتعش اقتصاد البلد وعادت إليه هيبته..
السبب الثاني: الشيخوخة
أوضح أن الدول تشبه الإنسان في مشوار حياته.. طفولة، شباب وفتوة، كهولة، شيخوخة، وهذه الأخيرة.. مصطلح الهرم، مؤكداً أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع.. وقد يأتي البعض من الأبناء أو حاشية الملك فيسعى جاهداً لتلافي السقوط، ظناً منه أنه يعالج الداء.. وهيهات فإن الهرم لا علاج له أبداً ولكن كيف تكون بداية الهرم بالدولة؟
يجيب ابن خلدون قائلاً: من المعلوم أن التغلب على الدولة يكون باليد أو العصبية القبلية، وهنا تكون الدولة أقرب إلى البساطة عموماً.. فلقاء الناس بها سهل والتعامل معهم يغلب عليه الصدق والعفاف.. وهذه البساطة تؤدي إلى تخفيف الضرائب إذ لا حاجة لها.. ومع مرور الزمن تتجه الدولة نحو الملك/ الترف والدعة، وهذا يعني ظهور الحجّاب إلا من الخاصة.. ثم يستبد في الأمر فتحّرم/ يحتجب الملك عن الخاصة تاركاً أمر الخاصة للأبناء، فيستبد الأبناء بصورة أشد، لأنهم تربوا في حضيرة ترف ودعة، وهيهات أن يخالفوا سيرة البلاط التي تربوا عليها.. ولدوا والمعلقة الذهبية في أفواههم.. وعندما يستبد الأبناء بالحاشية المقربين من الملك ممن شاركوا في قيام الدولة، يلجأ كبار الحاشية والمقربين إلى نفس الترف والدعة كما يسعون إلى جمع المال بطرق شتى.. وهنا تقل العصبية الحامية للدولة، فيلجأ الملك إلى جدع أنوف العشيرة والأقارب.. بمصادرة ممتلكاتهم وإلى القتل والإهانة وسلب المناصب.. فيقلون فتضعف هيبة الدولة فيلجأ الملك إلى تجميع (موالي) جدد/ موالي النعمة، لكنهم أقل شكيمة من سابقيهم، كونهم (مرتزقة) غير أن هؤلاء البطانة الجدد سرعان ما يتلقون الإهانة من الأعياص/ وجهاء القبائل ومشائخها.. فتسقط أبهة الدولة!! فيقوم صاحب الدولة بضرب الأعياص وتدميرهم دفاعاً عن موالي النعمة، لكن سرعان ما تأتي الإهانة من الأبناء لموالي النعمة/ البطانة والحاشية الجديدة، وهنا تقل الحماية في الأطراف والثغور، فيتجاسر الرعايا والأعياص على الأطراف بسبب غياب الدولة الحامية.. وكثيراً ما يتدرج الأمر إلى أن يصل الأعياص إلى مركز الدولة والنتيجة: إن لم يكن استيلاء مطلق، فإن تقسيم الدولة إلى دولتين فأكثر هو سيد الموقف. على أن ابن خلدون لم يأت بما سبق من الاستقراء ككلام نظري وإنما استشهد بوقائع تاريخية منها موقف لسليمان بن عبدالملك الذي أمر بقتل عبدالعزيز بن موسى بن نصير في الأندلس وكانت النتيجة سقوط الأندلس وأفريقيا.. إلى أن يقول: ويصل الضعف إلى مركز الدولة فتضعف البطانة نظراً للترف، فتضعف الدولة وتضمحل.. ويستدرك ابن خلدون قائلاً: قد يطول أمد الدولة/ المركز نظراً لانصياع النفوس بالانقياد والتسليم بعد السنين الطويلة، حيث لا يعقل الجيل الجديد في المجتمع مبدأها ولا أوليتها، وإنما يعقلون التسليم لصاحب الدولة، وهذه الدينونة تجعل صاحب الدولة يستعيض عن العصبية والبطانة بهذه الدينونة التي استحكم فيها التسليم، كونه لا يرى عصيانا وخروجاً بل إن الجمهور يقف ضد الخارج، لكن أمر الدولة يبقى شأنه شأن حرارة البدن العادم للغداء إلى أن ينتهي، ولكل أجلٍ كتاب.
السبب الثالث: هرم الدولة
كلما ظهر تمرد يتم تسكينه بالعطاء، فتفقد الدولة الأبهة وبالتالي يكون الوهن هنا قد لحق بالشوكة/ الجند والجيش فيظل صاحب الدولة يداري بالمال فيزيد الهرم فيسطوا أهل النواحي/ الأطراف نظراً للفشل، وهنا تكثر الجبايات في المركز والمكوس/ الضرائب ويمتد الظلم إلى حقوق الضعفاء تحت أي مبرر.. كما أن الجند يطالبون بزيادة العطاء/ الرواتب أسوة ببطانة الدعة والترف/ الحاشية المقربين فيكثر الإنفاق فلا تكفي الجبايات وهنا يتجاسر الجند على الدولة.. فتتلاشى إلى أن يضمحل الذبال في السراج إذا ذهب زيته.
صورة أخرى
المنافسة بين أهل الدولة/ المقربين، وذلك عندما يرون استبداد صاحب الدولة بالمجد ورفض المشاركة بل يأنفها فيسعى إلى قطع أسباب المشاركة ما استطاع ولو بإهلاك من شك فيه ولو من ذوي قرابته.. وربما أحس القرابة بهذا الشك فينزعوا إلى الأطراف فيلحق بهم أمثالهم فيبدأ سقوط الأطراف بهدف التضييق على بطانة الدولة.. حتى تسقط أو تنقسم، لأن الانقسام هو من أكبر مظاهر الدولة الهرمة. ويستدرك ابن خلدون: قد يحصل أن الدولة تأخذ بمظاهر القوة والبطش لكنها أفاقة / قريبة الخمود أشبه بالسراج عند انتهاء الزيت منه فإنه يتوهج لكن سرعان ما ينطفئ.