والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالميـن وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين,
موضوع عن المفهوم الغلط لتسامح :
ردد الكثير من الناس - والمنبطحين منهم خاصـة - أنّ الإسلامَ دينُ تسامح وعفو ومغفرة, لا يعرف الانتقام ولا القتل ولا الشدّة .. !
ثم يستشهدون بمواقف من السيرةِ تقوي كلامهم هذا, كعفو رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن كفار قريش في فتح مكـة, وأنه لم يأمر بقتل رأس المنافقين ابن سلول وغيره ممن عادى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وكأنهم نسوا - أو تناسوا - مواقف أخرى تظهر فيها عزّة الإسلام وأن الإسلام لا يعفو عن الخائنين المعتدين والذين يؤذون الله ورسوله صل الله عليه وسلم..
فلماذا يا تُرى هذا التظليل؟
نحن لا نُنكر أنّ الإسلامَ فيه التسامح والعفو وللهِ الحمد المنّـة .. ولكن .. لكل مقام مقال ولكل حادث حكم ..
أليس من العدلِ توضيح الأمور للعامـةِ ليعرفوا المواقف التي لم يرضَ رسول الله صل الله عليه وسلم فيها أن يعفوا عن الكفرة والمنافقين!
حتى ظهر بعض الجهلـة وقالوا! ما أمر رسول الله صل الله عليه وسلم أن يُقتلَ أحدٌ قط!
..
إنّ الدين الذي يأمرك ويقول لك (( من صفعك على خدّك الأيمن قدم له خدّك الأيسر)) هذا ليس بديننا!
بل ديننا هو دين العزّة والكرامـة الذي قال الله فيـه : (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ))
وسط .. بين الشدّة واللين ..
وسط بين العفو الانتقام والعقاب ..
من غير لا إفراط ولا تفريط ..
ولنا عبرة من
غزوة بني قريظة
بعد غزوة الأحزاب .. عندما رجع الرسول صل الله عليه وسلم للمدينـة .. جاءه جبريل عليه السلام عند الظهر، وهو يغتسل في بيت أم سلمة، فقال: أو قد وضعت السلاح؟ فإن الملائكة لم تضع أسلحتهم، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب، فسار جبريل في موكبه من الملائكة.
وأمر رسول الله صل الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصَلِّينَّ العصر إلا ببني قريظة، فتحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة أرسالاً ..فنازلوا حصون بني قريظة، وفرضوا عليهم الحصار.
ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال: إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد صل الله عليه وسلم في دينه، فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم ونسائهم ـ وقد قال لهم: والله، لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم ..وخيرهم ..
إما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم، ويخرجوا إلى النبي صل الله عليه وسلم بالسيوف مُصْلِِتِين، يناجزونه حتى يظفروا بهم..
أو يقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صل الله عليه وسلم وأصحابه، ويكبسوهم يوم السبت ؛ لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث، وحينئذ قال سيدهم كعب بن أسد ـ في انزعاج وغضب: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً.
ولم يبق لقريظة بعد رد هذه الخصال الثلاث إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صل الله عليه وسلم، ولكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين، لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه..
فبعثوا إلى رسول الله صل الله عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لُبَابة نستشيره، وكان حليفاً لهم، وكانت أمواله وولده في منطقتهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجَهَشَ النساء والصبيان يبكون في وجهه، فَرَقَّ لهم، وقالوا: يا أبا لبابة، أتري أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم ؛ وأشار بيده إلى حلقه، يقول: إنه الذبح!!...
وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النزول على حكم رسول الله صل الله عليه وسلم.. إلا أن حرب قريظة كانت حرب أعصاب، فقد قذف الله في قلوبهم الرعب، وأخذت معنوياتهم تنهار، وبلغ هذا الانهيار إلى نهايته أن تقدم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، وصاح علي: يا كتيبة الإيمان، والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم.
وحينئذ بادروا إلى النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتقال الرجال، فوضعت القيود في أيديهم تحت إشراف محمد بن مسلمة الأنصاري، وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية، وقامت الأوس إلى رسول الله صل الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فأحسن فيهم، فقال: (ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟) قالوا: بلي. قال: (فذاك إلى سعد بن معاذ). قالوا: قد رضينا.
فأرسل إلى سعد بن معاذ، وكان في المدينة لم يخرج معهم للجرح الذي كان قد أصاب أكْحُلَه في معركة الأحزاب. فأُركب حماراً، وجاء إلى رسول الله صل الله عليه وسلم، فجعلوا يقولون، وهم كَنَفَيْهِ: يا سعد، أجمل في مواليك، فأحسن فيهم، فإن رسول الله قد حكمك لتحسن فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئاً، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعي إليهم القوم.
ولما انتهى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة: (قوموا إلى سيدكم)، فلما أنزلوه قالوا: يا سعد، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك. قال: وحكمي نافذ عليهم؟ قالوا: نعم. قال: وعلى المسلمين؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من هاهنا؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له وتعظيمًا. قال: (نعم، وعلي). قال: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتسبي الذرية، وتقسم الأموال، فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات).
وأمر رسول الله صل الله عليه وسلم فحبست بنو قريظة في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة، ثم أمر بهم، فجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالاً أرسالاً، وتضرب في تلك الخنادق أعناقهم. فقال من كان بعد في الحبس لرئيسهم كعب بن أسد: ما تراه يصنع بنا؟ فقال: أفي كل موطن لا تعقلون؟ أما ترون الداعي لا ينزع؟ والذاهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل ـ وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة، فضربت أعناقهم.
وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة، الذين كانوا قد نقضوا الميثاق المؤكد، وعاونوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة كانوا يمرون بها في حياتهم، وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والإعدام.
وقتل من نسائهم امرأة واحدة كانت قد طرحت الرحى على خَلاَّد بن سُوَيْد فقتلته، فقتلت لأجل ذلك.
وكان قد أمر رسول الله بقتل من أنْبَتَ، وترك من لم ينبت ( أي قتل كل بالغ ) ، فكان ممن لم ينبت عطية القُرَظِي، فترك حياً فأسلم، وله صحبة.
واستوهب ثابت بن قيس، الزبير بن باطا وأهله وماله ـ وكانت للزبير يد عند ثابت ـ فوهبهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ثابت بن قيس: قد وهبك رسول الله صل الله عليه وسلم إلى ، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك. فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه: سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود..!
وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم.
وقعت هــذه الغــزوة فـي ذي القعدة سنـة 5 هـ، ودام الحصار خمساً وعشريـن ليلة.
وأنزل الله تعإلى في غزوة الأحزاب وبني قريظة آيات من سورة الأحزاب، ذكر فيها أهم جزئيات الوقعة، وبين حال المؤمنين والمنافقين، ثم تخذيل الأحزاب، ونتائج الغدر من أهل الكتاب.
خلاصة القول :
فكم مرة ذكرت قصـة بني قريظـة وقتل الرسول صل الله عليه وعلى آلـه وسلم لستمائة يهودي نحراً!
وقد أمر أن يُقتل جميع من نبت ولم يقل شارك بالقتل أو لأ!
فهل كان صل الله عليه وعلى آلـه وسلم متسامح مطلقاً كما يدّعي البعض!
بل كان الحكم في غاية العدل والإنصاف، فإن بني قريظة، بالإضافة إلى ما ارتكبوا من الغدر الشنيع، كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين ألفاً وخمسمائة سيف، وألفين من الرماح، وثلاثمائة درع، وخمسمائة ترس، وحَجَفَة ، حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم!!