1- *** بﻼل بن رباح المؤذن يكنى أبا عبد الله ، وقيل : أبا عبد الكريم ، وقيل : أبا عبد الرحمن ، وقال بعضهم يكنى : أبا عمرو .
وهو مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، اشتراه بخمس أواق ، وقيل بسبع أواق ، وقيل بتسع أواق ، وقيل اشتراه بعبد مكانه ، أعطاه أمية بن خلف مقابل بﻼل ، ثم أعتقه ، وكان له خازناً ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً ، شهد بدراً ، وأحداً ، وسائر المشاهد مع رسول الله صل الله عليه وسلم .
2- *** وكان أول من أظهر اﻹسﻼم سبعة : رسول الله صل الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمار وأمه سمية ، وصهيب ، وبﻼل ، والمقداد وقيل : خباب .
فأما رسول الله صل الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب .
وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه .
وأما سائرهم فأخذهم المشركون ، فألبسوهم أدرع الحديد ، وصهروهم في الشمس ، فما منهم إنسان إﻻ وقد أتاهم على ما أرادوا ، إﻻ بﻼﻻً فإنه هانت عليه نفسه في الله ، وهان على قومه ، فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة ، وهو يقول أحد أحد .
3- *** وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة بمكة المكرمة ، واشتد حرها ، وعظم لهبها ، فيطرحه على ظهره ، ثم يأمر بصخرة عظيمة ، فتوضع على صدره ثم يقول له : " ﻻ تزال هكذا حتى تموت ، أو تكفر بمحمد وتعبد الﻼت والعزى " ، وبﻼل في ذلك البﻼء والكرب الشديد يقول : " أحد ، أحد " .
وكان صادق اﻹسﻼم ، طاهر القلب .
قال سعيد بن المسيب : كان بﻼل شحيحاً على دينه ، وكان يعذب على دينه ، فإذا أراد المشركون أن يوافقه على كفرهم قال : الله ، الله .
4- *** أين نحن من بﻼل ، بﻼل يتعرض للعذاب والقتل حتى يترك اﻹسﻼم ، وله في ذلك دليل من كتاب الله لكنه يصبر على اﻷذى والعذاب في سبيل الله تعالى ، نعم يتقرب إلى الله بالصبر على العذاب ، وﻻ يترك دينه .
ومنا اليوم من يفسد ويفسق ويفعل المعاصي ، ويقترف اﻹثم ، ويأتي الذنوب ، وهو يتنعم بنعم الله عليه ، فشتان بين اﻻثنين .
الرعيل اﻷول يتقربون إلى الله بفعل الطاعات ، والخير والبر والقربات ، ومنا اليوم من يتقرب إلى الله بالمعاصي ، ﻷنه واقع فيها ﻻ محالة ، فﻼ حول وﻻ قوة إﻻ بالله .*
5- *** وتمضي اﻷيام ويعتقد بﻼل ، ويهاجر إلى المدينة ، ويخرج مع المسلمين إلى غزوة بدر ، ويرى من بين جموع المشركين أمية ابن خلف ، فيهتف بﻼل قائﻼً : " ﻻ نجوت إن نجا " ، ويهجم عليه هجوم اﻷسد الجريح المنتقم ، ويمكنه الله منه ، فيقتله بيده التي كان يوثقها أمية ، ويهتف المسلمون ببدر : " أحد ، أحد " .
فقال فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أبياتاً :
هنيئاً زادك الرحمن خيراً ... فقد أدركت ثأرك يا بﻼل .
6- *** عن جابر بن عبد الله أن عمر رضي الله عنه كان يقول : أبو بكر سيدنا ، وأعتق سيدنا ، يعني بﻼﻻً .
7- *** ونزل في بﻼل وغيره قوله تعالى : " ما لنا ﻻ نرى رجاﻻ كنا نعدهم من اﻷشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم اﻷبصار " ، كان يقول أبو جهل : أين بﻼل أين فﻼن كنا نعدهم في الدنيا من اﻷشرار فﻼ نراهم في النار أم هم في مكان ﻻ نراهم فيه أم هم في النار ﻻ نرى مكانهم ؟
8- *** وكان بﻼل إذا فرغ من اﻷذان فأراد أن يعلم النبي صل الله عليه وسلم أنه قد أذن ، وقف على الباب وقال : حي على الصﻼة ، حي على الفﻼح ، الصﻼة يا رسول الله .
فإذا خرج رسول الله صل الله عليه وسلم ، فرآه بﻼل ابتدأ في اﻹقامة .
9- *** وكان لرسول الله صل الله عليه وسلم أربعة مؤذنين :*
بﻼل بن رباح ، وابن أم مكتوم [ بالمدينة ] ، وسعد القرظ [ بقباء ] ، وأبو محذورة [ بمكة ] .
10- *** حكم وصفات اﻷذان :
أوﻻً : حكم اﻷذان واﻹقامة : أنهما فرض كفاية ، وهو ما يلزم جميع المسلمين إقامته ، فإذا قام به من يكفي ، سقط اﻹثم عن الباقين .*
وهما مشروعان في حق الرجال حضراً وسفراً للصلوات الخمس ، وإن تركهما أهل بلد فإن على اﻹمام أن يقاتلهم ، ﻷنهما من شعائر اﻹسﻼم الظاهرة ، فﻼ يجوز تعطيلهما .
ثانياً : صفات اﻷذان :
إذا جاءت السنة بتنوع مشروع صحيح في ذكر معين ، فينبغي أن يؤتى بهذا مرة ، وهذا مرة ، والفائدة من ذلك ، أن السنن ﻻ تُنسى ، ﻷننا لو أهملنا إحدى الصفات ، نُسيت اﻷخريات .
ولهذا أكثر الناس اليوم ﻻ يعرفون إﻻ أذان بﻼل رضي الله ، بينما يجهلون أذان وإقامة أبو محذورة وهو أذان مشهور عمل به الشافعي وغيره .
قال شيخ اﻹسﻼم رحمه الله : " فإذا اتبع الرجل المشروع المسنون ، واستعمل اﻷنواع المشروعة ، هذا تارة ، وهذا تارة ، كان ممن حفظ السنة علماً وعمﻼً " [ مجموع الفتاوى 24/250 ] .
وقال الشيخ محمد العثيمين رحمه الله في الشرح الممتع على زاد المستقنع 2 / 45 : " كلُّ ما جاءت به السُّنَّة من صفات اﻷذان فإنه جائز، بل الذي ينبغي: أنْ يؤذِّنَ بهذا تارة، وبهذا تارة إن لم يحصُل تشويش وفتنةٌ.
فعند مالك سبعَ عَشْرةَ جملة، بالتكبير مرتين في أوَّله مع الترجيع _ وهو أن يقول الشهادتين سِرًّا في نفسه ثم يقولها جهراً _ .
وعند الشافعي تسعَ عَشْرَة جملة ، بالتكبير في أوَّله أربعاً مع الترجيع ، وكلُّ هذا مما جاءت به السُّنَّة ، فإذا أذَّنت بهذا مرَّة ، وبهذا مرَّة كان أولى .*
والقاعدة : " أن العبادات الواردة على وجوه متنوِّعة، ينبغي لﻺنسان أن يفعلها على هذه الوجوه " ، وتنويعها فيه فوائد :
أوﻻً : حفظ السُّنَّة، ونشر أنواعها بين النَّاس.
ثانياً : التيسير على المكلَّف، فإن بعضها قد يكون أخفَّ من بعض فيحتاج للعمل.
ثالثاً : حضور القلب، وعدم مَلَله وسآمته.
رابعاً : العمل بالشَّريعة على جميع وجوهها. فإذا علمنا هذا فإنه قد ثبت لﻸذان ثﻼث صفات ، ولﻺقامة صفتان :
الصفة اﻷولى :*
اﻷذان : خمس عشرة كلمة :
جاءت في حديث عبد الله بن زيد في الرؤيا التي رآها وهي :
الصفة المعروفة اليوم ، وعدد كلماتها ، خمس عشرة كلمة .
واﻹقامة : إحدى عشرة كلمة ، وهي اﻹقامة المعروفة اليوم ، وهي التي كانت على عهد رسول الله صل الله عليه وسلم حتى وفاته .
الصفة الثانية :*
اﻷذان : تسع عشرة كلمة :
وهي مثل اﻷذان اﻷول ، مع ترجيع الشهادتين ، والترجيع : أن يذكر الشهادتين مرتين مرتين يذكرهما في نفسه ، ثم يعيدهما رافعاً بهما صوته .
واﻹقامة : سبع عشرة كلمة ، التكبير أربعاً ، وعدم الترجيع في الشهادتين .
الصفة الثالثة :
اﻷذان : سبع عشرة كلمة :
كالصفة الثانية ، لكن مع اﻻقتصار على تكبيرتين في أوله .
واﻹقامة : سبع عشرة كلمة ، كما سبق في الصفة الثانية .
11- *** عن الشعبي قال: خطب بﻼل وأخوه إلى أهل بيت من اليمن فقال: أنا بﻼل وهذا أخي ، عبدان من الحبشة كنا ضالين فهدانا الله ، وكنا عبدين فأعتقنا الله ، إن تنكحونا فالحمد لله ، وإن تمنعونا فﻼ حول وﻻ قوة إﻻ بالله ، فزوجهما والحمد لله .
12- *** البشرى بالجنة :
عن أَبي هريرة رضي الله عنه : أنَّ رسول الله صل الله عليه وسلم قَالَ لِبِﻼَلٍ : " يَا بِﻼَلُ ، حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي اﻹسْﻼَمِ ، فَإنِّي سَمِعْتُ دَفَّ _ حركة النعل وصوته على اﻷرض _ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ في الجَنَّةِ " قَالَ : مَا عَمِلْتُ عَمَﻼً أرْجَى عِنْدي مِنْ أَنِّي لَمْ أتَطَهَّرْ طُهُوراً فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ، إِﻻَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أنْ أُصَلِّي " [ متفقٌ عَلَيْهِ ، وهذا لفظ البخاري ] .
عن بريدة رضي الله عنه قال : : أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم يوماً فدعا بﻼﻻً فقال : " يا بﻼل ! بم سبقتني إلى الجنة البارحة ، سمعت خشخشتك _ الصوت والحركو _ أمامي ، فأتيت على قصر من ذهب مربع مشرف فقلت : لمن هذا القصر ؟ فقالوا : لرجل من قريش ، فقلت : أنا قرشي ؟ لمن هذا القصر ؟ قالوا : لعمر بن الخطاب ، فقال بﻼل : يا رسول الله ، ما أذنت قط ، إﻻ صليت ركعتين ، وما أصابني حدث إﻻ توضأت ، عندها قال رسول الله صل الله عليه وسلم : " بهذا " [ رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وكذا قال الذهبي في التلخيص ] .
13- *** قال بﻼل رضي الله عنه : قال رسول الله صل الله عليه وسلم: " أصبحوا بالصبح ، فإنه أعظم لﻸجر " [ رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والطحاوي والبيهقي بسند صحيح ] ، ومعنى الحديث كما قال الطحاوي : أن يدخل في الفجر وقت التغليس _ في الليل _ ويطول القراءة ، حتى ينصرف عنها مسفراً .
14- *** عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : قال : كُنَّا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ نفرٍ ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : اطْرُدْ هؤﻻءِ ﻻ يَجْتَرئون علينا ، قال : وكنتُ أَنا وابُن مسعودٍ ، ورجل من هُذَيْل ، وبﻼلٌ ورَجُﻼَن _ لستُ أَسمِّيهمِا _ فوَقَعَ في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقعَ ، فحدَّثَ نفسَه _ ﻷنه صل الله عليه وسلم كان يطمع في إسﻼم صناديد قريش _ فأنزل اللّه تعالى : { وَﻻَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ }[ اﻷنعام52 ] [ أخرجه مسلم ] .
15- *** وأمر رسول الله صل الله عليه وسلم بﻼﻻً وقت الفتح ، فأذن فوق الكعبة ، وحطم اﻷصنام وعدده ثﻼثمائة وستين صنماً ، فأخرج الناس من عبادة العباد ، إلى عبادة رب العباد .
16- *** وقيل : أن النجاشي بعث بثﻼث عنزات _ عصا قصيرة ، تستخدم كسترة في الصﻼة _ إلى رسول الله صل الله عليه وسلم ، فأعطى علياً واحدة ، وعمر واحدة ، وأمسك واحدة ، فكان بﻼل يمشي بها بين يديه في العيدين حتى يأتي المصلى ، فيركزها بين يديه ، فيصلي إليها ، ثم كان يمشي بها بين يدي أبي بكر ، ثم كان سعد القُرَظَ يمشي بها بين يدي عمر وعثمان .
خﻼف العلماء في حكم السترة .
17- *** فضل اﻷذان .
18- *** الجهاد في سبيل الله وأنواعه :
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاء بﻼل يريد الجهاد إلى أبي بكر الصديق ، فقال له : يا خليفة رسول الله ! إني سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم وهو يقول : " أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله ".
فقال أبو بكر : فما تشاء يا بﻼل ؟
قال : أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت .
قال أبو بكر : أنشدك بالله يا بﻼل ! وحرمتي وحقي ، فقد كبرت ، وضعفت ، واقترب أجلي ، فأقام معه حتى توفي رضي الله عنه ، ثم أتى عمر ، فرد عليه ، فأبى بﻼل ، فقال : إلى من ترى أن أجعل النداء ؟ قال : إلى سعد ، فقد أذن لرسول الله صل الله عليه وسلم ، فجعله عمر إلى سعد وعقبه .
19- *** رؤيا بﻼل وهو بالشام :
رأى بﻼل النبي صلى الله عليه وسلم ، في منامه وهو يدعوه لزيارة المدينة ، وزيارة المسجد النبوي ، والسﻼم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانتبه حزيناً ، وركب راحلته ، وقصد المدينة ، فأتى قبر النبي صل الله عليه وسلم ، فجعل يبكي عنده ، ويمرغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن والحسين ، فجعل يضمهما ويقبلهما ، فقاﻻ له : يا بﻼل ! نريد أن نسمع أذانك .
ففعل وعﻼ السطح ، ووقف ، فلما أن قال : الله أكبر ، الله أكبر ، ارتجت المدينة ، فلما أن قال : أشهد أن ﻻ إله إﻻ الله ، ازداد رجتها ، فلما قال : أشهد أن محمداً رسول الله ، خرجالناس رجاﻻً ونساءً ، صغاراً وكباراً ، وقالوا : بعث رسول الله ، فما رؤي يوم أكثر باكياً وﻻ باكية بالمدينة بعد رسول الله صل الله عليه وسلم ، من ذلك اليوم .
20- *** بعد تلك الليلة الباكية المشهودة ، شد بﻼل رحاله عائداً إلى الشام مرابطاً فيها ، متفائﻼً ببشرى رسول الله صل الله عليه وسلم بسماعه لدف نعليه في الجنة .
ولما احتضر بﻼل رضي الله عنه قال : غدا نلقى اﻷحبة محمداً وحزبه .
فقالت امرأته : واويﻼه ! فقال : وافرحاه !.
وتأتي لحظة الرحيل التي ﻻبد لكل حي منها ، مصداقاً لقوله تعالى : " إنك ميت وغنهم ميتون " ، " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجﻼل واﻹكرام " ، " كل شيء هالك إﻻ وجهه له الحكم وإليه ترجعون " ويموت بﻼل رضي الله عنه ، ويدفن في الشام ، سنة عشرين بدمشق ، وهو ابن بضع وستين سنة .
ويلحق بالرفيق اﻷعلى ، ليتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة ، كما كان يتقدم بين يديه في الدنيا يفسح له الطريق ، ويسمع رسول الله صل الله عليه وسلم خشخشة نعليه في الجنة ، فرضي الله عن بﻼل ، وعن سائر الصحب واﻵل ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل .
*
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك*