التطرف بين الحقيقة واﻻتهام
يقول علماء المنطق: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، إذ ﻻ يمكن الحكم على المجهول، كما ﻻ يمكن الحكم على شيء مختلف في تحديد ماهيته، وتصوير حقيقته: أي شيء هي؟
لهذا كان علينا بادئ ذي بدء أن نكشف عن معنى "التطرف الديني " وحقيقته وأبرز عﻼماته.
والتطرف في اللغة معناه: الوقوف في الطرف، بعيداً عن الوسط، وأصله في الحسيات، كالتطرف في الوقوف أو الجلوس أو المشي، ثم انتقل إلى المعنويات، كالتطرف في الدين أو الفكر أو السلوك.
ومن لوازم التطرف: أنه أقرب إلى المهلكة والخطر، وأبعد عن الحماية واﻷمان، وفي هذا قال الشاعر:
كانت هي الوسط المحمى فاكتنفت بها الحوادث، حتى أصبحت طرفاً!
دعوة اﻹسﻼم إلى الوسطية وتحذيره من التطرف
واﻹسﻼم منهج وسط في كل شيء: في التصور واﻻعتقاد، والتعبد والتنسك، واﻷخﻼق والسلوك، والمعاملة والتشريع.
وهذا المنهج هو الذي سماه الله "الصراط المستقيم " وهو منهج متميز عن طرق أصحاب الديانات والفلسفات اﻷخرى من "المغضوب عليهم " ومن "الضالين " الذين ﻻ تخلو مناهجهم من غلو أو تفريط.
و "الوسطية " إحدى الخصائص العامة لﻺسﻼم، وهي إحدى المعالم اﻷساسية التي ميز الله بها أمته عن غيرها ((كذلِك جعلناكم أمّةً وسطاً لِتكونوا شُهداء على الناس )) [البقرة:143 ]، فهي أمة العدل واﻻعتدال، التي تشهد في الدنيا واﻵخرة على كل انحراف يميناً أو شماﻻً عن خط الوسط المستقيم.
النصوص الشرعية تعبر عن التطرف بـ "الغلو "
والنصوص اﻹسﻼمية تدعو إلى اﻻعتدال، وتحذر من التطرف، الذي يعبر عنه في لسان الشرع بعدة ألفاظ منها: "الغلو " و"التنطع " و "التشديد ".
والواقع أن الذي ينظر في هذه النصوص يتبين بوضوح أن اﻹسﻼم ينفر أشد النفور من هذا الغلو، ويحذر منه أشد التحذير.
وحسبنا أن نقرأ هذه اﻷحاديث الكريمة، لنعلم إلى أي حد ينهى اﻹسﻼم عن الغلو، ويخوف من مغبته.
1- روى اﻹمام أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجه في سننهما، والحاكم في مستدركه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "إيّاكم والغلو في الدين، فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين " قال شاكر: إسناده صحيح، ونقل المناوي في الفيض: 3/126 عن ابن تيمية قوله: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم .
والمراد بمن قبلنا: أهل اﻷديان السابقة، وخاصة أهل الكتاب، وعلى اﻷخص: النصارى، وقد خاطبهم القرآن بقوله: ((قل يا أهْل الكتابِ ﻻ تغْلوا في دينكم غيْر الحقِّ وﻻ تتَّبِعوا أهواء قومٍ قدْ ضلُّوا مِنْ قبل وأضّلُّوا كثيراً وضلُّوا عن سواءٍ السّبيل )) [المائدة:77 ]، فنهانا أن نغلو كما غلوا، والسعيد من اتعظ بغيره.
وسبب ورود الحديث ينبهنا إلى أمر مهم، وهو أن الغلو قد يبدأ بشيء صغير، ثم تتسع دائرته، ويتطاير شرره، وذلك أن النبي صل الله عليه وسلم حين وصل المزدلفة في حجة الوداع قال: ﻻبن عباس: هلمّ القط لي ـ أي حصيات ليرمي بها في منى ـ قال: فلقطت له حصيات من حصى الخذف - يعني حصى صغاراً مما يخذف به - فلما وضعهن في يده، قال: نعم بأمثال هؤﻻء، وإيّاكم والغلو في الدين... الحديث يعني: ﻻ ينبغي أن يتنطعوا فيقولوا: الرمي بكبار الحصى أبلغ من الصغار، فيدخل عليهم الغلو شيئاً فشيئاً، فلهذا حذرهم.
وقال اﻹمام ابن تيمية: قوله "إيَّاكم والغلو في الدين " عام في جميع أنواع الغلو في اﻻعتقادات واﻷعمال، والغلو: مجاوزة الحد... والنصارى أكثر غلوًا في اﻻعتقاد والعمل من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن، بقوله تعالى: ((ﻻ تغْلوا في دينِكُم ْ)) [النساء:171 ].
2 - وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صل الله عليه وسلم : "هلك المتنطعون " قالها ثﻼثاً. (رواه مسلم، ونسبه السيوطي إلى أحمد وأبي داود أيضا ً).
قال اﻹمام النووي: أي المتعمقون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
ونﻼحظ أن هذا الحديث والذي قبله جعﻼ عاقبة "الغلو والتنطع " هي الهﻼك، وهو يشمل هﻼك الدين والدنيا، وأي خسارة أشد من الهﻼك، وكفى بهذا زجراً.
3 - وروى أبو يعلى في مسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صل الله عليه وسلم كان يقول: "ﻻ تشددوا على أنفسكم، فيشدّد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم، فشُدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: رهْبانِيّةً ابتدعُوها ما كتَبْناها عليهِمْ )) [ذكره ابن كثير تفسير سورة الحديد ].
ومن أجل ذلك قاوم النبي صل الله عليه وسلم كل اتجاه ينزع إلى الغلو في التدين، وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف، مبالغة تخرجه عن حد اﻻعتدال الذي جاء به اﻹسﻼم، ووازن به بين الروحية والمادية، ووفق بفضله بين الدين والدنيا، وبين حظ النفس من الحياة وحق الرب في العبادة، التي خلق لها اﻹنسان.
فقد شرع اﻹسﻼم من العبادات ما يزكي نفس الفرد، ويرقى به روحياً ومادياً، وما ينهض بالجماعة كلها، ويقيمها على أساس من اﻷخوة والتكافل، دون أن يعطل مهمة اﻹنسان في عمارة اﻷرض، فالصﻼة والزكاة والصيام والحج، عبادات فردية واجتماعية في نفس الوقت، فهي ﻻ تعزل المسلم عن الحياة وﻻ عن المجتمع، بل تزيده ارتباطاً به، شعورياً وعملياً، ومن هنا لم يشرع اﻹسﻼم "الرهبانية " التي تفرض على اﻹنسان العزلة عن الحياة وطيباتها، والعمل لتنميتها وترقيتها، بل يعتبر اﻷرض كلها محراباً كبيراً للمؤمن، ويعتبر العمل فيها عبادة وجهاداً، إذا صحت فيه النية، والتزمت حدود الله تعالى.
وﻻ يقر ما دعت إليه الديانات والفلسفات اﻷخرى من إهمال الحياة المادية ﻷجل الحياة الروحية، ومن حرمان البدن وتعذيبه حتى تصفو الروح وترقى، ومن إهدار شأن الدنيا من أجل اﻵخرة، فقد جاء بالتوازن في هذا كله ((ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي اﻵخرة حسنةً )) [البقرة:201 ]. "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي " [رواه مسلم في صحيحه ] "إنّ لبدنك عليك حقًّا " [متفق عليهٍ ].
لقد أنكر القرآن، بل شدد النكير، على أصحاب هذه النزعة في تحريم الطيبات والزينة التي أخرج الله لعباده، فقال تعالى في القرآن المكي: ((يا بني آدم خُذوا زينتكم عِند كلِّ مسجدٍ وكُلوا واشربوا وﻻ تُسرفوا إنّه ﻻ يُحبُّ المُسرفين. قُل مَنْ حرّم زينة اللهِ التي أخرج لِعبادهِ والطّيِّبات من الرِّزْق ِ)) [اﻷعراف:31 ].
وفي القرآن المدني يخاطب الجماعة المؤمنة بقوله: (( يا أيُّها الذين آمنوا ﻻ تُحرِّموا طيِّباتِ ما أحلّ الله لكم وﻻ تعتدوا إنّ الله ﻻ يُحبُّ المعتدين وكلوا ممَّا رزقكم الله حﻼﻻً طيِّباً واتّقوا الله الذي أنتم به مؤمنون )) [المائدة:87،88 ].
وهاتان اﻵيتان الكريمتان تبينان للجماعة المؤمنة حقيقة منهج اﻹسﻼم في التمتع بالطيبات، ومقاومة الغلو الذي وجد في بعض اﻷديان، فقد روي في سبب النزول أن رهطاً من الصحابة قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في اﻷرض كالرهبان! وروى أن رجاﻻً أرادوا أن يتبتلوا أو يخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح (مﻼبس الرهبان ) فنزلت..
وجاء عن ابن عبّاس: أن رجﻼً أتى النبي صل الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله إنّي إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت للنساء، وإني حرمت عليّ اللحم. فنزلت: ((يا أيُّها الذين آمنوا ﻻ تُحرِّموا )) [ذكر هذه الروايات ابن كثير في تفسيره ].
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فكأنهم تقالُّوها (أي عدّوها قليلة ) فقال بعضهم: ﻻ آكل اللحم.. وقال بعضهم: ﻻ أتزوج النساء، وقال بعضهم: ﻻ أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صل الله عليه وسلم ، فقال: "ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنتي فليس مِني ".
وسنته ـ عليه الصﻼة والسﻼم ـ تعني منهجه في فهم الدين وتطبيقه، وكيف يعامل ربه عز وجل، ويعامل نفسه وأهله والناس من حوله - معطياً كل ذي حقٍ حقَّه، في توازن واعتدال.
العيوب واﻵفات المﻼزمة للغلو في الدين
وما كان هذا التحذير من التطرف والغلو إﻻّ ﻷن فيه عيوباً وآفات أساسية تصاحبه وتﻼزمه. منها:
العيب اﻷول:
أنه منفِّر ﻻ تحتمله طبيعة البشر العادية، وﻻ تصبر عليه، ولو صبر عليه قليل منهم لم يصبر عليه جمهورهم، والشرائع إنما تخاطب الناس كافة، ﻻ فئة ذات مستوى خاص، ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبه الجليل "معاذ " حين صلى بالناس فأطال حتى شكاه أحدهم إلى النبي صل الله عليه وسلم ، فقال له: أفتان أنت يا معاذ؟! وكررها ثﻼثاً [رواه البخاري ].
وفي واقعة مماثلة قال لﻺمام في غضب شديد لم يغضب مثله: "إن منكم منفرين... من أَمَّ بالناس فليتجوز، فإن خلفه الكبير والضعيف وذا الحاجة " [رواه البخاري ].
ولهذا لما بعث النبي صل الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى إلى اليمن أوصاهما بقوله: "يسرا وﻻ تعسرا، وبشرا وﻻ تنفرا، وتطاوعا وﻻ تختلفا ... " [متفق عليه ].
وقال عمر رضي الله عنه: ﻻ تبغِّضوا لله إلى عباده، فيكون أحدكم إماماً فيطول على القوم الصﻼة حتى يبغِّض إليهم ما هم فيه .
والعيب الثاني:
أنه قصير العمر، واﻻستمرار عليه في العادة غير متيسر، فاﻹنسان ملول، وطاقته محدودة، فإن صبر يوماً على التشدد والتعسير، فسرعان ما تكل دابته أو تحرن عليه مطيته في السير. . وأعني بهما جهده البدني والنفسي ، فسيأم ويدع العمل حتى القليل منه. أو يأخذ طريقاً آخر، على عكس الطريق الذي كان عليه.. أي ينتقل من اﻹفراط إلى التفريط، ومن التشدد إلى التسيب، وﻻ حول وﻻ قوة إﻻّ بالله.
وكثيراً ما رأيت أناساً عرفوا بالتشدد والتطرف حيناً، ثم غبت عنهم أو غابوا عني زمناً فسألت عنهم بعد، فإما ساروا في خط آخر، وانقلبوا على أعقابهم، والعياذ بالله. . وإما قد فتروا وانقطعوا كالمنبت الذي جاء ذكره في الحديث "فﻼ أرضاً قطع وﻻ ظهراً أبقى " [رواه البزار عن جابر بإسناد ضعيف ] يريد بالمنبت الذي انقطع عنه رفقته بعد أن أجهد دابته.
ومن هنا كان التوجيه النبوي بقوله صل الله عليه وسلم : "اكلفوا من اﻷعمال ما تطيقون فإن الله ﻻ يمل حتى تملوا.. وإنّ أحبّ العمل إلى الله أدومه وإن قل " [رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها ].
وعن ابن عباس قال: كانت موﻻة للنبي صلى الله عليه وسلم تصوم النهار وتقوم الليل فقيل له: إنها تصوم النهار وتقوم الليل! فقال صل الله عليه وسلم: "إن لكل عمل شِرَّة (حدة ونشاطاً ) ولكل شرة فترة (استرخاء وفتوراً ) فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل " [رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ].
وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجال ينصبون في العبادة من أصحابه نصباً شديداً، فقال: رسول الله صل الله عليه وسلم : تلك ضراوة اﻹسﻼم وشرته، ولكل ضراوة شرّة، ولكل شرّة فترة.. فمن كانت فترته إلى الكتاب والسنة فﻶمّ ما هو.. ومن كانت فترته إلى معاصي الله فذلك الهالك" (قال شاكر: إسناده صحيح )، ومعنى "ﻷمّ ما هو " أي يرجع إلى أصل ثابت عظيم أشار إليه بكلمة "آم " وتنكيرها دﻻلة التعظيم، وعلى الفتح "أم " من القصد.. أي قصد الطريق المستقيم.
(وفي رواية الطبراني لهذا الحديث:... فمن كانت فترته إلى اقتصاد، فنعم ما هو... ومن كانت فترته إلى المعاصي فأولئك هم الهالكون ).
وما أجمل الوصية النبوية العامة لكل المكلفين: الوصية بالقصد واﻻعتدال، وأن ﻻ يحاولوا أن يغالبوا الدين، فيغلبهم، وأن يقاوموه بشدة، فيقهرهم، فقال صل الله عليه وسلم: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إﻻّ غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا... " [رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة ].
وقال العﻼمة المناوي في شرحه: يعني ﻻ يتعمق أحد في العبادة ويترك الرفق كالرهبان، إﻻّ عجز، فيغلب.. "فسدِّدوا " أي: الزموا السداد، وهو الصواب بﻼ إفراط وﻻ تفريط.. "وقاربوا " أي: إن لم تستطيعوا اﻷخذ باﻷكمل فاعملوا بما يقرب منه "وأبشروا " أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قل. أهـ .
والعيب الثالث:
أنه ﻻ يخلو من جور على حقوق أخرى يجب أن تُرعى، وواجبات يجب أن تؤدى.. وما أصدق ما قاله أحد الحكماء: ما رأيت إسرافاً إﻻّ وبجانبه حق مضيع... وقال صل الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكا أنساه حق أهله عليه: ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟
قال عبد الله: فقلت بلى يا رسول الله.. فقال صل الله عليه وسلم: ﻻ تفعل، صم وأفطر، وقم ونم. فإن لجسدك عليك حقاً.. وإن لعينيك عليك حقاً.. وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك (زوَّارك ) عليك حقاً.. [رواه البخاري في كتاب الصوم ].
يعني: فأعط كل ذي حق حقه، وﻻ تغلّ في ناحية على حساب أخرى.*
وكذلك قال الصحابي الفقيه سلمان الفارسي ﻷخيه العابد الزاهد أبي الدرداء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهما، فزادت بينهما اﻷلفة، وسقطت الكلفة، فزار سلمان أبا الدرداء، فوجد أم الدرداء - زوجته - متبذلة (يعني: ﻻبسة ثياب البذلة والمهنة ﻻ ثياب الزينة والتجمل كما تفعل المرأة المتزوجة ) فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء فرحب بسلمان، وقرب إليه طعاماً فقال: كل، فإني صائم! فقال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل. وفي رواية البزار: أقسمت عليك لتفطرن... قال: فأكل... فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم... فقال سلمان: نم.. فنام. ثم ذهب ليقوم، فقال سلمان له: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم اﻵن... فصلَّيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، وﻷهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه... فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان. [رواه البخاري والترمذي ] وفي رواية ابن سعد أنه صل الله عليه وسلم قال: "لقد أشبع سلمان علماً... ".
ولكن ما معنى التطرف الديني؟ وما المقصود به اﻵن؟ وما معالمه؟ ومتى يعتبر المرء متطرفاً دينياً؟!
تحديد مفهوم التطرف الديني. وعلى أي أساس يقوم؟
إن بيان هذا التطرف وتحديد المراد به بعلم وبصيرة، هو الخطوة اﻷولى في طريق العﻼج، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة.
وﻻ قيمة ﻷي بيان أو حكم هنا ما لم يكن مستنداً إلى المفاهيم اﻹسﻼمية اﻷصيلة، وإلى النصوص والقواعد الشرعية الثابتة، ﻻ إلى اﻵراء المجردة، وقول فﻼن أو عﻼن من النّاس، فﻼ حجة في قول أحد دون الله ورسوله، قال تعالى: ((فإن تنازعتُم في شيءٍ فرُدُّوه إلى اللهِ والرسولِ إنْ كُنتم تُؤمِنون باللهِ واليومِ اﻵخِرِ )) [النساء:59 ]، وقد اتفقت اﻷمة، سلفها وخلفها، على أن الرد إلى الله تعالى يعني: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله صل الله عليه وسلم يعني: الرد إلى سنته عليه الصﻼة والسﻼم.
وبدون هذا التوثيق الشرعي لن يُعير الشباب المتهم بالتطرف التفاتاً إلى فتوى هذا أو مقال ذاك، وسيضربون عرض الحائط بهذا اﻻتهام الذي ينكرونه، ويتهمون موجهيه بالتزييف، وتسمية اﻷشياء بغير أسمائها. وقديماً قيل: إن اﻹمام محمد بن إدريس الشافعي، وهو من هو في أهل السنة، نسبت إليه تهمة "الرفض " فضاق بهذا اﻻتهام الرخيص، وقال متحدياً:
إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقﻼن أنِّي رافِضي
وحديثاً قال أحد الدعاة: اللهم إن كان المتمسك بالكتاب والسنة رجعياً، فأحيني اللهم رجعياً، وأمتني رجعياً، واحشرني في زمرة الرجعيين!
والواقع أن تحديد مفاهيم مثل هذه الكلمات الشائعة "الرجعية " "الجمود " "التطرف " "التعصب " ونحوها، أمر في غاية اﻷهمية، حتى ﻻ تترك مادة هﻼمية رجراجة، يستخدمها كل فريق كما يحلو له، وتتناولها القوى الفكرية واﻻجتماعية المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فيفسرها كل بما شاء وكيف شاء. .
وهنا نجد أننا لو تركنا تحديد مفهوم "التطرف الديني " ﻵراء الناس وأهوائهم لتفرقت بنا السبل، تبعاً لﻸهواء التي ﻻ تتناهى ((ولوْ اتّبع الحقُّ أهواءهُم لفَسدتِ السماوات واﻷرض ومَنْ فيهن َّ)) [المؤمنون:71 ].
مﻼحظتان مهمتان
وأود أن أنبه هنا إلى مﻼحظتين جديرتين باﻻهتمام في موضوعنا:
المﻼحظة اﻷولى:
أن مقدار تدين المرء، وتدين المحيط الذي يعيش فيه، من حيث القوة والضعف، له أثره في الحكم على اﻵخرين، بالتطرف أو التوسط أو التسيب.
فمن المشاهد أن من كانت جرعته من التدين قوية، وكان الوسط الذي نشأ فيه شديد اﻻلتزام بالدين، يكون مرهف الحس ﻷي مخالفة أو تقصير يراه، حتى إنه ليعجب أن يوجد مسلم ﻻ حظّ له من قيام الليل، أو صيام النهار، وفي هذا ورد القول المأثور:
"حسنات اﻷبرار، سيئات المقربين ".
ويحضرني هنا ما قاله أنس بن مالك لمعاصريه من التابعين: إنكم لتعملون أعماﻻً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدّها على عهد رسول الله صل الله عليه وسلم من الموبقات!
وكانت عائشة رضي الله عنها تنشد بيت لبيد بن ربيعة:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد اﻷجرب!
وتقول: رحم الله لبيداً، كيف لو عاش إلى زماننا هذا؟ وكان ابن أختها عروة بن الزبير، وقد عاش بعدها زمناً، ينشد البيت، ويقول: رحم الله لبيداً وعائشة، كيف لو عاشا إلى زماننا هذا؟!
وفي مقابل هذا نجد الشخص الذي قل زاده من التدين علماً وعمﻼً، أوعاش في محيط تجرأ على محارم الله وتنكر لشرائعه، يعتبر التمسك بالحد اﻷدنى من الدين ضرباً من التعصب أو التشدد.
وكلما زادت مسافة البعد بينه وبين الدين، زاد استغرابه بل إنكاره، بل اتهامه لكل من يستمسك بعروة الدين، ويلجم نفسه بلجام التقوى، ويسأل في كل شيء يعرض له أو يعرض عليه: حﻼل هو أم حرام؟
وكثير من أولئك الذين يعيشون في أوطاننا بأسماء إسﻼمية، وعقول غربية، يعتبرون مجرد اﻻلتزام بأوامر الله ونواهيه تطرفاً دينياً!
وكثير ممن غزته اﻷفكار والتقاليد اﻷجنبية يعتبر الذين يتمسكون بآداب اﻹسﻼم في المأكل والمشرب والملبس والزينة ونحوها، غاية في التطرف والتعصب!
لقد رأينا من يعد إطﻼق اللحية من الفتى، أو التزام الحجاب من الفتاة، تطرفاً في الدين!
ورأينا من يعتبر الدعوة إلى تحكيم شريعة الله، وإقامة دولة اﻹسﻼم في أرض اﻹسﻼم، تطرفاً في الدين!
ورأينا من يرى الغيرة على الدين وحرماته، واﻷمر بالمعروف إذا ضُيِّع ،والنهي عن المنكر إذا وقع، تطرفاً في الدين، وتدخﻼً في الحرية الشخصية لﻶخرين!
ورأينا من يرى أن اعتبار اﻵخرين من غير المؤمنين بدينه كفاراً، تعصب وتطرف، مع أن أساس اﻹيمان الديني أن يعتقد المؤمن أنه على حق، وأن مخالفه على باطل، وﻻ مجاملة في هذه الحقيقة.
والمﻼحظة الثانية:
أنه ليس من اﻹنصاف أن نتهم إنساناً بالتطرف في دينه لمجرد أنه اختار رأياً من اﻵراء الفقهية المتشددة، ما دام يعتقد أنه اﻷصوب واﻷرجح، ويرى أنه ملزم به شرعاً، ومحاسب عليه ديناً، وإن كان غيره يرى رأيه مرجوحاً أو ضعيفاً، ﻷنه ليس مسؤوﻻً إﻻّ عما يراه ويعتقده هو، وإن شدد بذلك على نفسه، بل حسبه أن يرى أن ذلك هو اﻷفضل واﻷورع، وإن لم يكن فرضاً وﻻ واجباً، إذ كانت همته ﻻ تقف عند حد الفرائض، وإنما يتقرب إلى الله تعالى بالنوافل حتى يحبه.
ومن حقائق الحياة، أن الناس يتفاوتون في هذه القضية، فمنهم المتساهل الميسر، ومنهم المتشدد المعسر، وقد كان في الصحابة المترخص كابن عبّاس، والمتشدد كابن عمر رضي الله عنهم.
ويكفي المسلم في هذا المقام أن يستند رأيه الذي تبناه إلى مذهب من المذاهب المعتبرة عند المسلمين، أو يعتمد على اجتهاد صحيح قائم على استدﻻل شرعي سليم؛ فإذا كان هناك من أئمة المذاهب المتبوعة من يقول بوجوب إعفاء اللحية وتركها وحرمة حلقها، فهل يوصف بالتطرف من اقتنع بهذا المذهب وأخذ به، وطبقه على نفسه ﻷنه خالف رأيي ورأيك ورأي زيد وعمر من العلماء، وﻻ سيما المعاصرين؟ وهل من حقنا أن نصادر حق امرئ في ترجيح رأي على آخر، وخاصة أنه يتصل بحياته وسلوكه هو، ﻻ بحياة غيره.
إن جماً غفيراً من علماء السلف والخلف، رأوا أن على المرأة المسلمة أن تستر جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها، فقد اعتبروهما مما استثني في قوله تعالى: ((وﻻ يُبْدين زينتهُنّ إﻻّ ما ظهر مِنْها )) [النور: 31 ]، وأكدوا ذلك بأحاديث ووقائع وآثار.. ورجح ذلك كثيرون من علماء عصرنا، وأنا منهم.
ولكن عدداً آخر من العلماء المرموقين، ذهبوا إلى أن الوجه والكفين عورة يجب سترها، واستدلوا على ذلك بنصوص من القرآن والحديث واﻵثار، وأخذ بقولهم كثيرون من علماء هذا العصر، وخصوصاً في باكستان والهند والسعودية وأقطار الخليج، وأرسلوا نداءاتهم إلى كل فتاة تؤمن بالله وباليوم اﻵخر، أن تلبس النقاب، ليستر وجهها، والقفاز ليستر يديها.
فهل تدمغ بالتطرف فتاة أو سيدة آمنت بهذا المذهب، واعتبرته جزءاً من دينها؟ أو يدمغ به رجل دعا إلى ذلك ابنته أو زوجته فاستجابت؟ وهل يحق لنا أن نجبر هذا أو ذاك أو تلك على التنازل عما يعتقده شرع الله، ونلزمه أن يبيع الجنة ويشتري النار إرضاءاً لخاطرنا، وفراراً من تهمة التطرف؟
ومثل ذلك يقال فيمن يتبنى اﻵراء المتشددة في الغناء والموسيقي والرسم والتصوير وغيرها، مما يخالف اجتهادي شخصياً في هذه اﻷمور، واجتهاد عدد من علماء العصر البارزين، ولكنه يتفق مع العديد من علماء المسلمين، متقدمين ومتأخرين ومعاصرين.
والواقع أن كثيراً مما ينكر على من نسميهم "المتطرفين " مما قد يعتبر من التشدد والتنطع، له أصل شرعي في فقهنا وتراثنا، تبناه بعض العلماء المعاصرين، ودافعوا عنه ودعوا إليه، فاستجاب لهم من الشباب المخلص من استجاب، رجاء في رحمة الله تعالى وخوفاً من عذابه، وذلك كلبس الثوب (الجلباب ) بدل القميص والبنطلون، وتقصيره إلى ما فوق الكعبين، واﻻمتناع عن مصافحة النساء، وغيرها.
ومن هنا ﻻ نستطيع أن ننكر على مسلم، أو نتهمه بالتطرف، لمجرد أنه شدد على نفسه، وأخذ من اﻵراء الفقهية بما يراه أرضى لربه، وأسلم لدينه، وأحوط ﻵخرته.
وليس من حقنا أن نجبره على التنازل عن رأيه ونطالبه بسلوك يخالف معتقده. كل ما نملكه أن ندعوه بالحكمة، ونحاوره بالحسنى، ونقنعه بالدليل، عسى أن يدخل فيما نراه أهدى سبيﻼً، وأقوم قيﻼً.
مظاهر التطــــرف
فما التطرف إذن، وما دﻻئله ومظاهره؟
التعصب للرأي وعدم اﻻعتراف بالرأي اﻵخر:
1- إن أولى دﻻئل التطرف: هي التعصب للرأي تعصباً ﻻ يعترف معه لﻶخرين بوجود، وجمود الشخص على فهمه جموداً ﻻ يسمح له برؤية واضحة لمصالح الخلق، وﻻ مقاصد الشرع، وﻻ ظروف العصر، وﻻ يفتح نافذة للحوار مع اﻵخرين، وموازنة ما عنده بما عندهم، واﻷخذ بما يراه بعد ذلك أنصع برهاناً، وأرجح ميزاناً.
ونحن هنا ننكر على صاحب هذا اﻻتجاه ما أنكرناه على خصومه ومتهميه، وهو محاولة الحجر على آراء المخالفين وإلغائها.
أجل، إنما ننكر عليه حقاً، إذا أنكر اﻵراء المخالفة ووجهات النظر اﻷخرى، وزعم أنه وحده على الحق، ومن عداه على الضﻼل، واتهم من خالفه في الرأي بالجهل واتباع الهوى، ومن خالفه في السلوك بالفسوق والعصيان، كأنه جعل من نفسه نبياً معصوماً، ومن قوله وحياً يوحى! مع أن سلف اﻷمة وخلفها قد أجمعوا على أن كل أحد يؤخذ من كﻼمه ويترك، إﻻّ النبي صل الله عليه وسلم .
والعجيب أن من هؤﻻء من يجيز لنفسه أن يجتهد في أعوص المسائل، وأغمض القضايا، ويفتي فيها بما يلوح له من رأي، وافق فيه أو خالف، ولكنه ﻻ يجيز لعلماء العصر المتخصصين، منفردين أو مجتمعين، أن يجتهدوا في رأي يخالف ما ذهب إليه.
ومنهم من يخرج بآراء وتفسيرات لدين الله، هي غاية في العجب، ﻻ يبالي أن يشذ فيها عن كافة السابقين والﻼحقين، والمحدثين والمعاصرين، ﻷن رأسه برأس أبي بكر، وعمر، وعليّ، وابن عبَّاس رضي الله عنهم ، فهو رجل وهم رجال! وليته يعدي هذه الرجولة والفحولة إلى غيره من معاصريه، من ﻻ يرى رأيه، وﻻ يتبع نهجه من أهل العلم، بيد أنه ﻻ يتعدى نفسه، وكل الصيد في جوف الفرا!
فهذا التعصب المقيت الذي يثبت المرء فيه نفسه، وينفي كل من عداه، هو الذي نراه من دﻻئل التطرف حقاً، فالمتطرف كأنما يقول لك: من حقي أن أتكلم.. ومن واجبك أن تسمع.. ومن حقي أن أقود.. ومن واجبك أن تتبع.. رأيي صواب ﻻ يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ ﻻ يحتمل الصواب.. وبهذا ﻻ يمكن أن يلتقي بغيره أبداً، ﻷن اللقاء يمكن ويسهل في منتصف الطريق ووسطه، وهو ﻻ يعرف الوسط وﻻ يعترف به، فهو مع الناس كالمشرق والمغرب، ﻻ تقترب من أحدهما إﻻ بمقدار ما تبتعد من اﻵخر.
ويزداد اﻷمر خطورة حين يراد فرض الرأي على اﻵخرين بالعصا الغليظة، والعصا الغليظة هنا قد ﻻ تكون من حديد وﻻ خشب، فهناك اﻻتهام باﻻبتداع أو باﻻستهتار بالدين، أو بالكفر والمروق - والعياذ بالله - فهذا اﻹرهاب الفكري أشد تخويفاً وتهديداً من اﻹرهاب الحسي.
إلزام جمهور النَّاس ، بما لم يلزمهم الله به
2- ومن مظاهر التطرف الديني: التزام التشديد دائماً، مع قيام موجبات التيسير، وإلزام اﻵخرين به، حيث لم يلزمهم الله به، إذ ﻻ مانع أن يأخذ المرء لنفسه باﻷشد في بعض المسائل، وباﻷثقل في بعض اﻷحوال، تورعاً واحتياطاً، ولكن ﻻ ينبغي أن يكون هذا ديدنه دائماً وفي كل حال، بحيث يحتاج إلى التيسير فيأباه، وتأتيه الرخصة فيرفضها، مع قوله صلى الله عليه وسلم : "يسروا وﻻ تعسروا، وبشروا وﻻ تنفروا " وقوله: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته " وقوله تعالى: ((يُريد الله بِكُم اليُسْر وﻻ يُريدُ بِكُم العُسْر )) [البقرة: 158 ]، و "ما خير رسول الله صل الله عليه وسلم بين أمرين إﻻّ اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما ً".
وقد يقبل من المسلم أن يشدد على نفسه، ويعمل بالعزائم، ويدع الرخص والتيسيرات في الدين، ولكن الذي ﻻ يقبل منه بحال أن يلزم بذلك جمهور الناس، وإن جلب عليهم الحرج في دينهم،والعنت في دنياهم، مع أن أبرز أوصاف الرسول الكريم صل الله عليه وسلم في كتب اﻷقدمين، أنه ((يُحِلّ لهم الطيبات ويُحرِّم عليهم الخبائث ويَضعُ عنهم إصرهم واﻷغﻼل التي كانت عليهم )) [اﻷعراف:156 ].
ولهذا كان النبي صل الله عليه وسلم أطول الناس صﻼة إذا صلى لنفسه، حتى إنه كان يقوم بالليل فيطيل القيام حتى تتفطر أو تتورم قدماه عليه الصﻼة والسﻼم، ولكنه كان أخف الناس صﻼة إذا صلى بالناس، مراعياً ظروفهم وتفاوتهم في اﻻحتمال، وقال: "إذا صلى أحدكم بالنّاس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما يشاء " [رواه البخاري ].
وعن أبي مسعود اﻷنصاري قال: قال رجل: يا رسول الله، إني ﻷتأخر عن الصﻼة في الفجر مما يطيل بنا فﻼن فيها، فغضب رسول الله صل الله عليه وسلم، ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضباً منه يومئذ ثم قال: "يا أيها الناس إن منكم منفرين، فمن أمّ بالنّاس فليتجوز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة ".
وقال لمعاذ لما أطال الصﻼة بالقوم: "أفتَّان أنت يا معاذ؟! وكررها ثﻼثا ً".
وعن أنس أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "إني ﻷدخل في الصﻼة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صﻼتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه " [رواه البخاري ].
ومن التشديد على الناس محاسبتهم على النوافل والسنن كأنها فرائض، وعلى المكروهات كأنها محرمات، والمفروض أﻻّ نلزم الناس إﻻّ بما ألزمهم الله تعالى به جزماً، وما زاد على ذلك فهم مخيرون فيه، إن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا تركوا.
وحسبنا هنا حديث طلحة بن عبيد الله في الصحيح، في قصة ذلك اﻷعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عما عليه من فرائض، فأخبره بالصلوات الخمس وبالزكاة ، وبصوم رمضان، فقال: هل عليّ غيرها؟ فقال ﻻ، إﻻّ أن تطوع، فلما أدبر الرجل قال: والله ﻻ أزيد على هذا وﻻ أنقص. فقال النبي صل الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق ".
ولطالما قلت: إن بحسبنا من المسلم في هذا العصر أن يؤدي الفرائض، ويجتنب الكبائر، لنعتبره في صف اﻹسﻼم وأنصاره، ما دام وﻻؤه لله ولرسوله صل الله عليه وسلم وإن ألمّ ببعض الصغائر من المحرمات، فعنده من الحسنات مثل: الصلوات الخمس، وصﻼة الجمعة، وصيام رمضان وغيرها، ما يكفر عنه هذه الصغائر ((إنّ الحسناتِ يُذْهِبن السيِّئات )) [هود:114]، ((إنْ تجتنبوا كبائِر ما تُنهون عنْه نُكفِّر عنكم سيئاتِكم ونُدخلكم مدخﻼً كريماً )) [النساء:31 ].
فكيف نسقط اعتبار المسلم بمجرد الوقوع فيما اختلف فيه من اﻷمور: أهو حرام أم حﻼل؟ ولم يعلم تحريماً يقيناً من دين الله؟ أو ترك ما اختلف فيه: أهو واجب أم سنة؟ ولم نعلم فرضيته جزماً في شرع الله؟ ومن هنا أنكرت على بعض المتدينين تبنيهم بصفة دائمة ومطلقة لخط التشدد والتزمت، والتزام أشد اﻵراء تضييقاً، وأقربها إلى التعسير، وأبعدها عن السعة والتيسير، ولم يكفهم أن يلتزموا ذلك في أنفسهم، وإن أعنتهم وأحرجهم، بل أرادوا أن يلزموا بذلك سائر الناس، وأي عالم خرج عن هذا الخط، داعياً إلى التيسير، أو مفتياً بما هو أرفق لهم وبما يرفع الحرج عنهم، في ضوء مقاصد الشريعة وأحكامها، وضع عندهم في قفص اﻻتهام!