يحتضنها عاشقها في صمت ، يضعها في فمه كطفل يلتقم ثدي أمه ، عيناه تنظران الى لا شيء في تأمل غريب وهدوء عجيب . يجتذب نفسا عميقا يحتفظ به قليلا ثم يخرجه قرنين من الدخان من فتحتي الأنف ، يعقبهما سحابة اخرى من الفم ، بجواره يجلس آخرون يفعلون نفس الشيء في صمت مقدس ، فيما ينتشر الجو الضبابي حول الجميع .. يتنادى عليها عشاقها بأسماء الفواكه .. تفاحة .. كنتالوب .. أناناس .. ومفردات لغتها الحجر .. النار .. الفحم .. المبسم .. المعسل ..
يعرفها بليونا من البشر في العالم ، ويرجع تاريخها لأربعمائة عام ، ولكنها تقابل بصمت غريب ، فمعظم الموسوعات تتجاهلها بالكامل ، بينما تناقشها وسائل الاعلام من حيث مشاكلها الاجتماعية التي تعتبر "خطيرة" ومؤثرة . لكن الذي لايمكن انكاره أن هذه الاداة تستعمل يوميا ولساعات طويلة بواسطة أكثير من مليون انسان من الرجال والنساء في آسيا وأفريقيا وأوربا أيضا ، على المقاهي وفي المنازل .. انها "الشيشة" ..
يعود أصل الشيشة إلى بلاد فارس ويقال أنه من وسط الهند، ثم انتقل استخدامها إلى شبه الجزيرة العربية لكنها انتشرت عالميا من خلال الدولة العثمانية.
ثم نشأت الشيشة في الشرق ، وانتشرت مع اكتشاف التبغ وانتشار المقاهي ، وصاحبت فنجال القهوة بانتظام ، كما دخنتها ربات الخدور في المنازل ، حتي لم يخل منها جهاز عروسة في الزمن البعيد وخصوصا في بلاد الشام . وهي ليست جهازا بسيطا ، فقد يبلغ طولها متران في الارتفاع ، وبها جهاز معقد لتبريد الدخان وتنقيته بواسطة الماء ، وتنتهي بخرطوم ملتو يشبه الحية يسحب منه المدخن الأنفاس ، وهو أيضا قد يبلغ عدة أمتار في الطول. ويتفنن صناعها في زركشتها وتزيينها برسومات مختلفة . ويزيد من تعقيد الحكاية نوع الدخان وطريقة حرقه وأخيرا الوقت الذي يقضيه المدخنون في سحب أنفاس دخانها في صمت وتأمل . وأية محاولة لتفهم خصائص الشيشة تقابل بحائط من الصمت ، والجهل ، والآراء التي تثير الغرابة في اختلافها .
والشيشة عادة مرتبطة بالمجتمع الذي تمارس فيه ، وهي ظاهرة اجتماعية تتركز في دول حوض البحر المتوسط ، ويمارسها المدخنون لساعات طويلة وهم من كل فئات المختمع . ومن الغريب أن تدخينالشيشة كان شيئا من الماضي ، وحتي وقت قريب كان ممارسته مرتبطا بفئات المجتمع الدنيا فقط ، من صناع وحرفيين وأولاد بلد من زبائن المقاهي البلدية . وكان يمارس أيضا في الغرز المنتشرة على الطرق السريعة ، والتي يركن اليها السائقون للراحة وتدخين الشيشةوقريبتها "الجوزة " مع شرب الشاي الأسود ، يجلسون اليها بكسل بعد ساعات العمل اليدوي المضني وينعمون بتدخينها بتراخ وعدم احساس بالوقت . لكن مما يستدعي العجب أن تبعث هذه الظاهرة من جديد في أواخرالقرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين بهذه القوة و هذا العنفوان ، ومع مختلف فئات المجتمع من مثقفين ومتعلمين وأميين ، وأيضا بتوقيت مختلف عما كان في الماضي ، اذ كان معظم مدخنوها يقضون معها وقت المغرب والليل ، بينما أصبحت الآن جزء من طقوس الافطار مع الشاي باللبن وشطيرة . بل ان بلادا مثل اليمن لم تكن تعرف المقاهي من قبل أصبحت تعج الآن بما يعرف بالاستراحة وهي مقابل المقهى الذي نعرفه حيث يتم تدخين الشيشة بلا انقطاع ، وحيث يمارسها الجميع وخصوصا صغار الشباب .
وانتقلت أماكن ممارسة تدخينالشيشة من المقاهي البلدية الى الكافتيريات الراقية في الفنادق الفاخرة والأماكن التي يقطنها أولاد الذوات .. وزبائنها الآن أصبحوا من كل فئات المجتمع ، وان كان أكثر المشاهد اثارة وغرابة هو هذا الكم الهائل من الشباب صغار السن بل والبنات أيضا بنسبة كبيرة ، مما كان يثير الاستهجان في الماضي ، ثم أصبح منظرا غير مثير للدهشة أو الاستغراب ناهيك عن الاستهجان .
ويرجع البعض تزايد عدد الكافتيريات والمقاهي التي يتم تدخينالشيشة فيها بصورة لم يسبق لها مثيل الى زيادة نسبة البطالة بين الشباب ، وأيضا عدم وجود أندية اجتماعية تمتص هذا العدد الهائل من الشباب قليل المال كثير الملل والذي يريد أن يقتل الوقت بأي شيء وأية وسيلة .
والمثير للعجب أيضا أن المدخنين غير المبالين يعتقدون أن مرور دخان الشيشة على الماء هو تنقية وتعقيم وتطهير للدخان ، مما يجعلهم يشعرون بأمان صحي زائف ، بينما يضيف ذلك الماء رطوبة الى تيار الدخان المار مما يعد – مع الدفء – وسطا مثاليا لنمو الفطريات والبكتيريا يساعد عليه اضافة ماء الورد وقطرات الليمون وغير ذلك من المواد المغذية .
ويعتقد البعض أن تدخين الشيئة أفضل من تدخين السجائر – والاثنان بلاء – حيث أن تدخين الشيشةالشيشة لا يكتفي بها ، بل أن جسمه يطلب النيكوتين في كل وقت فيتعلق من لم يدخن السجائر من قبل بها ، ويصبح مدمنا للتدخين وعبدا لمادة النيكوتين التي ما أن قل مستواها في الدم حتى يصرخ الجسم طلبا للمزيد .
وهكذا تظهر حقيقة الشيشة .. ادمانا للنيكوتين ، وتسمما بمواد محترقة من عسل وفاكهة عفنة يتم استنشاقها وتنفسها فيتم تشبع الدم بها ، مما يؤثر على الجسم كله والصحة كلها ، ولا نكتفي بهذا بل نضيف اليه بخار الألومنيوم المدمر للمخ .. وغير ذلك من المواد السامة ..