أَحنُّ الى قيم «كانون النار»
يوسف محمود
نعم، أحن الى قيم «كانون النار» أو ما درج أجدادنا وآباؤنا على تسميته بِـ «كانون الفحم». أحن إليه لأنه يعيدني إلى أيام أجمل وأبهى من هذه الأيام. أيام الصفاء والتوادّ والتمام شمل الأسرة الواحدة حول موقد الفحم في وئام! كم جميلة تلك الذكريات! التواصل الانساني كان أكثر حميمية من أيامنا هذه التي تشهد المزيد من الانفصام في العلاقات الانسانية. النفوس تغيرت! فارقها الطُّهر! الجشع تفاقم! ران على هذه العلاقات التكلف والكذب. لم تعد ثرية بالمحبة الحقيقية هذه العلاقات، شابها الميْنُ والتصنع، فارقها الصدق، غادرها الصفاء.
أحن الى «كانون النار» لأنه يذكرني بما نفتقده اليوم من دفء المشاعر، ونُبل العواطف ونقاء السرائر! قيم «كانون النار» إرث من ماضٍ بهيّ، من يستخف بها، فإنما يستخف بتقاليد جمعت الناس يوماً على الوُدّ والتآلف والخير. «الثقة» تجدها سائدة بينهم، يعيشون أو يعيش الكثيرون منهم «وحدة الحال» –اذا جاز التعبير-، تحكمهم خصالٌ نبيلة، تتم مخاصمتها في هذا العصر.
أيام «كانون النار» كان الحياء شيمةً يتم الاعتزاز بها! كان وسا نُبل! لم تعد هذه «الشيمة» حاضرةً، كما الماضي. حل محلها الكيد والاحتيال والتذاكي وصولاً الى استلاب حقوق النُبلاء الطيبين من الناس اتذكر ان بيت أسرتي كان يعمر بزيارات الأقارب والاصدقاء في المناسبات والاعياد. من يتخلف منهم يُسارع والداي –رحمهما الله – الى الاستفسار عنه حرصاً منهما على الاطمئنان عليه! غاب هذا «التقليد» أو كاد في هذه الأيام وحل محله الجفاء!
روى لي صديق متقدم في السن موقف صديق له كان في الماضي يحرص على زيارته في كل عيد، ومع الأيام زال هذا الحرص، فاكتفى بالاتصال الهاتفي. أما المفارقة فكانت انقطاع هذا الاتصال فيما بعد! الحجة أو العذر ان الوقت كله مكرس للعمل! عُذرٌ فاقد لمصداقيته، حتى «الاعياد» يا هذا!
نعم! أحن إلى زمن «كانون النار» لا لأنني رومانسي او متخلف، أمقت وسائل الحضارة المتقدمة، بل لإحساسي ان حبل الوُدّ كان موصولاً بين الناس اكثر من هذا الزمن! زمننا زمن آخر غادره البهاء! حتى «صلة الرحم» لم يعد الكثيرون يأبهون بها، بحجة شواغلهم كثيرة! يُبررون عقوقها! ما اكثر المبررين اليوم! لست رومانسياً حين استذكر هاتيك الايام البهية، داعياً الى احياء تقاليدها من جديد! إحياء مفرداتها وطقوسها الجليلة! أجمِلُ بها من طقوس!
كم احن الى قيم الماضي بالرغم من بساطة الحياة آنذاك، بساطتها احتفت بالخير. يا قوم! للدنيا –كما يقول ابن المقفع- «زخرف يغلب الجوارح ما لم تغلبه الالباب والحكيم من لم يغضّ عليه طرفه». دعونا نستحضر محاسن أيام زمان، دعونا نفاخر بها. إنها «المحاسن» التي تقربنا الى الله دعونا نوظفها في سلوكنا! دعونا نحييها مرة اخرى. دعونا نستأنس بها كما أستانس من سبقونا من الراحلين!
قيم عصر «كانون النار» –كما تروق لي تسميته- قيم ماضٍ سادت فيه صُحبة المروءة بما تشتمل عليه من وقار وجلال وهيبة. تراجعت «المروءة» في هذا الزمن الذي نعيش، تم التفريط بها! ما أمرْ الفريط بالمروءة! كم نفتقر الى استحضارها من جديد، استحضارها يُثري الحياة. أما تكلفها فمهين للمتكلف، فما استرع ما يفتضح امره، لأن ثوب النفاق يشفّ عما تحته مهما بولِغ في ستره! ثوب النفاق كريه كريه.
فلنسترجع مروءة ايام زمان، ففي استرجاعها صِقالٌ للقلوب وتنقية لها من الأدران التي تجلبها الشهوات!
كم أحن إليك يا قيم «كانون النار» ليتك تعودين فتلمي شملاً بددته الأهواء شملاً مهيض الجناح. كم بتنا أو بات الكثيرون منا قُساةً على القيم النبيلة. يا زمن «كانون النار»، ما أطهرك! كم تحمل من تقاليد ومزايا عقها عصرنا! ما أجمل استذكارك! نُبلك، أمسينا نفتقده في هذا الزمن! نُبلك غدا «حُلماً» ليت الأيام تجود به ثانيةً، ليتها!