ليل آذار الطويل -10: محاولة اغتيال تستهدف حافظ الأسد وتهز أمنه!
أورينت نت - محمد فاروق الإمام
نجا الرئيس حافظ الأسد بأعجوبة من محاولة اغتيال محبوكة بدقة وإتقان من قبل خلية زرعت في جهاز أمنه وحرسه الخاص، حين ألقى أحد أفراد حرسه الشخصي قنبلتان يدويتان استهدفته مباشرة.. أثناء وداعه لرئيسي أفريقي!
فقد زار الرئيس النيجيري (حسين كونتشي) سورية. وعند انتهاء الزيارة يوم 26 حزيران عام 1980م، كان الأسد في وداعه بقصر الضيافة في حي أبي رمانة، وعلى الدرج الضيق الخاص أمام قصر الضيافة، تقدم أحد الحراس لينفذ انفجاراً بالقرب منه... تمت عملية الانفجار بإلقاء قنبلتين يدويتين، فصّدت الأولى وتم إبعادها، واحتضن أحد أبرز مرافقيه الثانية.. وفي رواية ثانية دُفع فوقها، فلقي حتفه ونجا الرئيس!
أعلنت (الطليعة) أن الخلية التي حاولت اغتيال حافظ الأسد هي إحدى خلاياها.
كانت هذه الرسالة تشير بأن (الطليعة) قد تمكنت من التسلل إلى أكثر المناطق حساسية، وهذا دفع صقور "العنف الثوري" الذين حاولوا جاهدين أن ينتزعوا تفويضاً من الأسد بتصفية (العصابة) على طريقتهم، إلى أن يجدوا فرصتهم الذهبية... مع ملاحظة أن "ممانعة" حافظ الأسد، لم تكن مسألة مبدأ، وإنما مسألة وقت!
الإعداد لمجزرة تدمر
في تمام الساعة الثالثة والنصف من صباح يوم 27/6/1980 دُعيت مجموعتان من سرايا الدفاع للاجتماع بلباس الميدان الكامل، المجموعة الأولى من اللواء (40)، الذي يقوده الرائد معين ناصيف (زوج بنت رفعت الأسد)، والمجموعة الثانية من اللواء (138)، الذي يقوده المقدم علي ديب، وكل من المجموعتين يزيد تعداد عناصرهما على مائة عنصر.
أما مجموعة اللواء (40) فقد اجتمعوا في سينما اللواء، حيث ألقى فيهم معين ناصيف كلمة، قال فيها: (راح تقوموا بهجوم على أكبر وكر للإخوان المسلمين، وهو سجن تدمر .. مين ما بدو يقاتل؟)، وبالطبع، فلم يرفع أحد منهم يده، ثم انتقلت المجموعة الموجودة إلى مطار المزة القديم، حيث التقت المجموعتان، وكان بانتظارهم عشر طائرات هيلوكوبتر، وكل طيارة تتسع لـ 24 راكباً.
جميع قادة المجزرة من العلويين!
كان قائد العملية المقدم سليمان مصطفى، وهو قائد أركان اللواء (138)، وكان من جملة الضباط المشاركين: الملازم أول ياسر باكير، والملازم أول منير درويش، والملازم أول رئيف عبد الله.
أقلعت طائرات الهيلوكبتر حوالي الساعة الخامسة صباحاً، ووصلت إلى مطار تدمر حوالي الساعة السادسة، وعقد اجتماع لضباط العملية، تمّ فيه توزيع المهمات وتقسيم المجموعات، ثم أعطي العناصر استراحة لمدة ثلاث أرباع الساعة.
في هذه الأثناء كان سجن (تدمر) هادئاً، وقد اتخذت ترتيبات مُعينة؛ مثل: إجراء تفقد للمعتقلين وتسهيل مهمة مجموعات سرايا الدفاع، فلم تكن هناك عراقيل أو اعتراض، بل كانت الشرطة العسكرية المكلفة بالحراسة مستعدة على الباب الخارجي، كما كان رئيس الحرس وشرطته العسكرية مجتمعين في ساحة السجن، وقد أبعد العديد من أفراد الشرطة العسكرية ممن ينتسبون للسنة وأعطوا إجازات سريعة لقضائها في بلدانهم.
ثمّ دُعي عناصر سرايا الدفاع إلى الاجتماع؛ حيث تمّ تقسيمهم ثلاث مجموعات:
ـ المجموعة الأولى: وهي مكوّنة من (80) عنصراً، وكلفت بدخول السجن، وسُميت "مجموعة الاقتحام".
ـ المجموعة الثانية: وهي مكونة من (20) عنصراً، وكُلّفت بحماية طائرات الهيلوكبتر.
ـ المجموعة الثالثة: وهي مكونة من بقية العناصر، وقد بقيت في المطار للاحتياط.
ركبت مجموعة الاقتحام سيارات (دوج تراك)، وحين وصلت إلى السجن؛ انقسمت المجموعات الموجودة إلى مجموعات صغيرة، كل منها بإمرة أحد الضباط، وقد سلّم مدير السجن مفاتيح المهاجع إلى ضباط سرايا الدفاع، كما زوّدوا بمرشدين لغرف السجن وباحاته.
كان في سجن تدمر العسكري (34) مهجعاً، في كل منها (20-70) معتقلاً؛ تبعاً لحجم المهجع، وقد تم تنظيم العملية بقتل المعتقلين على دفعتين: الدفعة الأولى شمل الغرف المطلّة على الباحات (1 و2 و3)، والدفعة الثانية تشمل الغرف المُطلّة على الباحات (4 و5 و6)؛ وبسبب انخفاض المهاجع وعتمتها في غرف الباحات (1 و2 و3)؛ تقرر إخراج المعتقلين إلى الباحات لتنفيذ الإعدام فيهم.
وتوزّعت مجموعات سرايا الدفاع على المهاجع والباحات، وفُتحت الأبواب، وبموجب نظام السجن؛ وقف المعتقلون عند فتح أبواب المهاجع مغمضي العيون ووجوههم إلى السقف، وقدم رئيس كل مهجع الصف (ويكون أحد السجناء، ويُطلب منه ترتيب السجناء وتنظيمهم، ويكون له نصيب أكبر من العذاب، انظر كتاب شاهد ومشهود).
ـ في الباحة رقم (1) تم إخراج نزلاء المهجعين (5 و6)، ونزلاء المهجع (4)، وجُمعوا في زاوية الباحة الشمالية الشرقية.
ـ في الباحة رقم (2) تمّ إخراج نزلاء المهاجع الثلاثة (8 و9 و10)، وجُمعوا في آخر الباحة الجنوبية الغربية، مقابل المهجع (
ذي الشرفة الواسعة من الأمام.
ـ في الباحة رقم (3) تمّ جمع المعتقلين من المهاجع (12 و13 و16 و17)، في الزاوية الشرقية الجنوبية من الباحة أمام المهجع (12).
إبادة جماعية متزامنة في ثلاث باحات!
وهكذا تمّ تجميع المعتقلين مع أغراضهم بشكل يجعل عملية القتل والإبادة تبدأ في الباحات الثلاثة في وقت واحد.
والجدير بالذكر أن المعتقلين جميعاً خضعوا في اليوم السابق لأنواع من التعذيب الشديد الذي لم يسبق له مثيل، فقد اندفعت عناصر الشرطة العسكرية تطوف بالمهاجع، وتضرب المعتقلين بالسياط والعصي، كما أخرجوا نزلاء بعض المهاجع إلى الباحات بالتسلسل، وانهالوا عليهم ضرباً بالعصي والسياط، فأصيب الكثيرون من المعتقلين بكسور وجروح مختلفة.
بعد الاطمئنان إلى الإعداد لبدء المذبحة البشعة أعطيت إشارة البدء لعناصر سرايا الدفاع، فانطلقت الآلات النارية تصبّ وابل الحمم على المعتقلين العزل الأبرياء، وألقيت عدة قنابل ـ لا سيما في الباحة رقم (2)، واستخدمت بعض قاذفات اللهب مع إطلاق النار الكثيف في كل من الباحات الثلاث، حيث تعالت أصوات المعتقلين بهتافات: الله أكبر.
وخلال دقائق قليلة انتهى الأمر، لكن بعض المعتقلين في الباحة رقم (1)؛ تمكنوا من الهروب، ودخول المهجع الكبير المزدوج (4 و5)، فتواروا فيه، فلحق بهم بعض عناصر سرايا الدفاع، فقتلوهم ومثّلوا بهم.
حين انتهت العملية في الساحات الثلاث، تجمع القتلة وانطلقوا إلى الباحات الثلاث الأخرى، ولكيلا تتكرر عملية هرب بعض الضحايا إلى المهاجع؛ قرر الضباط دخول المهاجع على المعتقلين، وقتلهم فيها.
اندفعت ست مجموعات من القتلة إلى الباحة رقم (4)، وفيها ثلاثة مهاجع مليئة بالمعتقلين، فتوجهت كل مجموعتين إلى مهجع، وفتح الباب، وقدم رئيس كل مهجع الصف، فدخلوا عليهم، وأمروهم بالابتعاد عن الباب، ثم ألقوا على المهجع قنبلتين دفاعيتين، ثم دخلوا عليهم، وأخذوا يُطلقون رصاصهم رشاً على الضحايا الذين ارتمى معظمهم على الأرض بين قتيل وجريح، واستمروا في ذلك إلى أن أتمّوا قتل من في المهجع.
ثم انطلقت المجموعات إلى الباحات رقم (5 و6)، حيث توزّعت على المهاجع الخمسة الباقية، وتم فتح الأبواب عليهم، وبُدئ بإطلاق النار على المعتقلين العُزّل.
معتقل يتمكن من نزع سلاح رقيب!
وفي أحد مهاجع الباحة رقم (5) اختبأ أحد المعتقلين في دورة المياه بالقرب من الباب، وحين دخلت العناصر المسلحة، وبدأت بإطلاق النار على المعتقلين العُزّل، انقضّ هذا المعتقل من دورة المياه، وتمكّن من انتزاع السلاح من أحد عناصر سرايا الدفاع، وهو الرقيب اسكندر أحمد، وأطلق عدة طلقات أدت إلى مقتل هذا الرقيب وجرح إثنين آخرين ، لكن بقية العناصر المسلحة بادرت إلى إطلاق النار على المعتقل البطل حتى استشهد.
قام بعض الضباط والعناصر بتقليب جُثث الضحايا، والتأكد من مقتلها أو الإجهاز على من فيه بقية رمق؛ حتى تلطّخت أيديهم وثيابهم وصدورهم بالدماء، مثل الملازم: رئيف عبد الله، والملازم منير درويش، والرقيب علي محمد موسى.
بقي دم الضحايا البريئة يغمر أرض السجن؛ وتجمد في كثير من الأماكن من الباحات والمهاجع، فتم تنظيف الساحات، وتم طلاء جدران السجن بسرعة لإخفاء معالم الجريمة، أما المجرمون منفذو العملية فقد عادوا إلى مطار المزة في الساعة 12.30 ظهراً، وانصرفت مجموعة اللواء 138 إلى لوائها، كما انصرفت مجموعة اللواء 40 إلى لوائها، وكان بانتظارهم الرائد معين ناصيف، حيث اجتمع بهم في السينما، وشكرهم على جهودهم، وعزاهم بوفاة الرقيب اسكندر، وقال لهم: أنتم قمتم بعمل بطولي، بعمل رجولي، ثم أمرهم بكتمان العملية، وقال لهم: ما لازم تطلع هالعملية خارج منا، يعني لازم تظل مكتومة وسرية.
وفي اليوم التالي وزعت السلطة مبلغ 200 ليرة سورية على كل عنصر من العناصر الذين اشتركوا في هذه الجريمة.
محاولة اغتيال "عَلَوية"والأردن تفضح المجزرة!
كان يمكن لهذه المجزرة الرهيبة التي أقدمت فيها الدولة / العصابة، على الغدر بسجناء عزل لديها، أن تبقى طي الكتمان، لولا أن نظام الأسد وقع في شر أعماله!
فالمجزرة التي راح ضحيتها أكثر من 900 سجين في مذبحة رهيبة بشعة نفذها المقدم (محمد ناصيف) بأمر من العقيد المجرم (رفعت الأسد) قائد سرايا الدفاع، كُشفِتْ كل تفاصيلها من خلال اعترافات الرقيب المجرم (عيسى إبراهيم فياض)، والعريف المجرم (أكرم علي جميل بيشاني)، وكلاهما علويان من سرايا الدفاع، اشتركا في محاولة فاشلة لاغتيال رئيس الوزراء الأردني السابق مضر بدران، وقبضت عليهما السلطات الأدرنية... وخلال التحقيق معهما أدليا باعترافاتهما كاملة عن مجزرة تدمر، على شاشة التلفزيون الأردني، ونشرت في كتاب الوثائق الأردنية – 1981، والذي طبعته وزارة الإعلام الأردنية بتاريخ 25/2/1981.
هذا وقد اطلعت لجنة حقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، التي انعقدت في جنيف في دورتها السابعة والثلاثين على وقائع مجزرة تدمر، خلال مناقشتها للبند 13 من جدول الأعمال الخاص بانتهاكات حقوق الإنسان في العالم، ووزعت على اللجنة الوثيقة رقم (E/CN/4/146 تاريخ 4/3/1981، والتي تضمّنت إفادات المشاركين في مجزرة تدمر، (عيسى إبراهيم الفياض وأكرم بيشاني). وناقشت اللجنة بجلستها رقم 1632 تاريخ 9/3/1981 مضمون المذكرة وشارك في النقاش مندوبو الأردن والعراق وسورية.
صدور القانون 49 والمجازر تتوالى!
وعادت المجابهة الدموية إلى نقطة الصفر، وانطلق العنف من جديد، ليشهد شهر تموز عام 1980م أعنف حملات العنف الرسمي. فقد ارتكب المقدم (هاشم معلا) قائد مجموعات الوحدات الخاصة في حلب مذبحة في حي المشارقة الشعبي صباح يوم عيد الفطر، راح ضحيتها نحو مئة مدني. في حين أقر مجلس الشعب في 7 تموز عام 1980م، وعلى إيقاع ما سماه كتاب حزبي بـ(الانتفاضة الشعبية العارمة ضد عصابة الإخوان المسلمين) القانون رقم (49) الذي ينص على إنزال عقوبة الإعدام بكل من ينتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين، وأعفى هذا القانون من العقوبة كل من يعلن خلال شهر خطياً انسحابه إذا كان داخل القطر وخلال شهرين إذا كان خارج القطر.
وبعد أن استحر القتل في سورية بمراسيم، طبقاً للقانون (49) الصادر عام 1980م، الذي يجرم كل منتم لجماعة الإخوان المسلمين ويحكم عليه بالإعدام، وإنشاء المحاكم الميدانية العسكرية التي خُولت بإصدار عقوبة الإعدام بحق عناصر الإخوان المسلمين وتنفيذها، الأمر الذي دفع الآلاف من جماعة الإخوان المسلمين وأقربائهم وأصدقائهم على الفرار إلى دول الجوار القريبة أو البلاد البعيدة.
فقد استقبلت تركيا والعراق ولبنان والأردن والسعودية ودول الخليج الآلاف ممن تمكنوا من الفرار، وكان نصيب الأردن الحظ الأوفر من هؤلاء الفارين والنازحين لسهولة الانتقال إليه، إذ لم يكن السوري بحاجة إلى تأشيرة دخول من جهة، ولطول الحدود بين البلدين وسهولة عبورها، فتجمع في الأردن أعداد كبيرة جداً طلباً للنجاة من الموت والقتل على الهوية.
(تمّت)