وفي اعتقادي أن الفائدة من تعلم طرق تفكير جديدة ، ستظل محدودة ما لم نتمكن من تعرية الممارسات التفكيرية الخاطئة والتضييق عليها إلى أبعد حد ممكن . وهي في الحقيقة أشكال وألوان ؛ ويمكن أن نسلط الضوء على بعضها على وجه السرعة .
1- المسلَّمات الثقافية :
نحن إذ نفكر ننطلق من مبادئ ومسلّمات ثقافية ، وتلك المسلّمات ، لا تؤمّن تسايل عمليات التفكير فحسب ، وإنما تريح العقل من عناء البحث والتمحيص أيضاً ، أي تؤمّن له نوعاً من العطالة والسكون ، ومن هنا تنبع جاذبيتها وخطورتها في آن واحد . لو فتشنا في عقولنا لعثرنا على مخزون ضخم من المسلّمات المتعلقة بالناس والأفكار والأحداث . وتصنيفاتُ الأمم والشعوب بعضها لبعض نموذج حي على ذلك : فالشعب الفلاني محتال ، والشعب الفلاني كسول ، والشعب الفلاني ماهر.. ووسائل الإعلام في الغرب (العقلاني) تقترب من أن تصم كل مسلم بالتطرف والإرهاب ؛ مهما تكن درجة التزامه . أما العرب في نظرها فهم شعوب مهووسة بالتبذير والجنس ، تتخبط في الجهل ، وتعشق الفوضى ... وتلك الصور الذهنية ، تشكل مشاعر الناس ، وتوجه سلوكهم ، وتنظم ردود أفعالهم .
إنسان القرن الحادي والعشرين مع أنه يتحدث باستفاضة عن العولمة ، والقرية الكونية ، وتلاقح الثقافات إلا أنه غير قادر على الانعتاق من كثير من المسلّمات الثقافية المتخلّفة ، فهناك انجذاب شديد نحو الإقليمية والعنصرية والطائفية ، أي هناك انسحاب من عالمية الرؤية والثقافة والإحساس المشترك في الوقت الذي تتسع فيه عالمية التجارة ، ويتسايل انتقال المعلومات والأشياء !
2- إسقاط المعلومات غير الملائمة :
حين نكوّن اعتقاداً ما فإن القوى غير الواعية فينا تحشد على نحو غير مرئي كل الأدلة والبراهين التي تقوّيه ، وتجعله غير قابل للنقاش ؛ وحين تأتينا معلومات تناقض ما انتهينا إليه ، فإن أكثرنا يحاول الإفلات من التغييرات التي تقتضيها المعلومات الجديدة بأساليب شتى . وعلى سبيل المثال إذا بلغنا عن شخص نثق به ، ونحترمه احتراماً شديداً أنه كان في حياته عاقاً لوالديه ، فإننا عوضاً عن أن نحاول التحقق من تلك المعلومة والتغيير في نظرتنا عند ثبوتها ، فإننا نسلك مسالك عديدة حيالها ، كلها غير سويّ : فقد نقول : إن الذين رووا ذلك حاقدون عليه . وقد نقول : إن أبويه توفيا وهو صغير قبل أن يُكلّف . وقد نقول : إن أبويه كانا يعاملانه بقسوة ؛ فله نوع من العذر فيما فعله . وقد نقول : إن عقوقه لهما كان لمصلحتهما لأنهما لم يكونا على معرفة بها ... وهكذا فإن المعلومة المناقضة لما نعرفه عن فلان تُعامَل بإهمال شديد ، ومن ثَمّ فإنه لا يتم تخزينها ، ويصبح الأمر كما لو أن العقل ليس فيه ( خانة ) مستعدة لقبول المعلومة المشوّشة . وهذه الحالة بعيدة الأثر في تشويه المركّب العقلي لكثير من الناس . وأعتقد أن كثيراً من بطء تقدمنا في فهم التاريخ يعود إلى هذه المسألة .
3- الضلال في تفسير الظواهر :
لو تساءلنا : هل الضلال الذي ينشأ من اختراع أمور لا أصل لها أعظم ، أو الضلال الذي ينشأ من تفسير أمور موجودة تفسيراً خاطئاً ؟
لكان الجواب من غير تردد : أن الضلال الذي يجتاح حياتنا الفكرية من وراء التفسيرات الخاطئة أعظم بكثير من الضلال الذي ينشأ من الكذب الصراح . نجد في خبراتنا اليومية من يقول : إن فلاناً متفوق ؛ لأن أباه لا يكلّفه أي شيء ، فهو متفرغ للدراسة . وفلان منحرف ؛ لأنه نشأ يتيماً ، فلم يتلق التربية المناسبة . والبلد الفلاني ثري ؛ لأن فيه أنهاراً غزيرة . والشعوب الإسلامية متخلفة ؛ لأنها تقع تحت ضغوط مؤامرة كبرى ... ولو أجَلنا النظر في هذه التفسيرات لوجدنا أنها جميعاً محتملة ، وليست قطعية ، فهناك طلاب أثرياء ، ومفرّغون للدراسة ، ومع ذلك يرسبون . وهناك أعداد ضخمة من الأيتام ذوي السلوك الحسن والسيرة الحميدة ، وهناك وهناك ...
إن تفسير الظواهر الكبرى بعامل واحد من أكثر الأخطاء الفكرية انتشاراً ، وهو الذي يقبع خلف عدد ، لا ينتهي من التصورات والأحكام العوجاء والظالمة .
4- تأثير الهالة :
قدرة الناس على مناقشة الأفكار ومعرفة مزايا الأشياء على نحو دقيق محدودة ، ولذا فإنهم يتشبثون بأي شيء يمكن أن يساعدهم على استيعاب ما يرغبون في استيعابه . وحين يتفوق إنسان في مجال ما فإنه يكوّن لنفسه (هالة) ويترك انطباعاً بالجدارة والثقة لدى الآخرين . وبتأثير تلك الهالة ينسى الناس جوهرية (الاختصاص) ويسألون المعجبين بهم عن أشياء ليس هناك أي دليل على تفوقهم في معرفتها . وصار من المألوف اليوم أن يُقبل الناس على استخدام نوع من الصابون أو العطر أو معجون الأسنان ... لأن النجم الفلاني يستخدمه ، أو ظهر في إعلان عنه . وطالما سُئل رياضيون وفنانون عن قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية ، وطالما انفعل الناس بأجوبتهم أكثر من انفعالهم بأجوبة بعض المختصين !
وفي عصرنا الحاضر صار للحقيقة العلمية هالة كبيرة ؛ فنحن نحترمها أشد الاحترام ، ونحاول الاستفادة من مؤشراتها ، لكن كما أن من السهل على أي واحد أن يتاجر بعملة زائفة ، فمن السهل أيضاً أن يتاجر بعض الناس بالحقائق العلمية .
وقد وقع كثير من الناس ضحية لتناول أدوية وعقاقير تخلصهم من السمنة أو الصلع أو غير ذلك ... حيث بُهروا بالشرح العلمي لميزاتها وخصائصها . هذا كله يدعونا إلى أن نتعلم المزيد عن كيفية ( تقويم المعلومات ) الواردة إلينا ، وأن نسأل أهل الذكر في كل علم وفن .
5- المبالغة :
نحن لا ندرك الأشياء بطريقة مباشرة ، وإنما عبر وسيط ثقافي وفكري ونفسي أيضاً ، مما يجعل رؤيتنا لها قابلة للكثير من الخصوصية ، ومن ثَمّ للكثير من الانحراف . المبالغة مرض واسع الانتشار ؛ والبنية التحتية له بنية فكرية شعورية ؛ فالإدراك القاصر ، وضعف المحاكمة العقلية ، مما يدفع إلى المبالغة على النحو الذي تدفع إليه المصالح والأهواء والأمراض النفسية ، والانطباعات الخاصة والخاطئة .
وللمبالغة تجليات كثيرة ، نستعرض بعضها من أجل تسليط الوعي عليها :
بعض الناس يميلون إلى تضخيم كل الأشياء ، وكأنها (مجموعة كوارث) فهم يتوقعون الأسوأ دائماً ، فأي ألم مفاجئ يصيب الواحد منهم ، هو دليل على وجود مرض خطير ، وأي خطأ يقع فيه يمكن أن يحرمه من وظيفته !
- هناك من يميل إلى (تعميم الافتراض) فلأن شيئاً ما قد وقع فهذا يعني أنه سيقع دائماً ؛ فإذا نسي موظف عنده تنفيذ أحد طلباته ، قال له : إنك تنسى دائماً ما أطلبه منك . وإذا تبين له أن إحدى الإذاعات كذبت في خبر من الأخبار ، حكم بأن تلك الإذاعة لا تصدق أبداً !