المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير
سورة الزمر من الآية (73) إلى آخر السورة
الحمد لله رب العالمين، وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.
يقول الإمام الحافظ ابن كثير -يرحمه الله- في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [سورة الزمر:73-74].
وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفداً إلى الجنة {زُمَرًا} أي: جماعة بعد جماعة: المقربون، ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كل طائفة مع من يناسبهم: الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، كل زمرة تناسب بعضها بعضاً.
{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} أي: وصلوا إلى أبواب الجنة بعد مجاوزة الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتُص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجنة، وقد ورد في حديث الصُّور أن المؤمنين إذا انتهوا إلى أبواب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم بالدخول، فيقصدون آدم، ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمداً -صل الله عليه وعليهم أجمعين وسلم-، كما فعلوا في العرصات عند استشفاعهم إلى الله -عز وجل-، أن يأتي لفصل القضاء، ليظهر شرف محمد -صل الله عليه وسلم- على سائر البشر في المواطن كلها.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صل الله عليه وسلم-: ((أنا أول شفيع في الجنة))([1])، وفي لفظ لمسلم: ((وأنا أول من يقرع باب الجنة))(
[2]).
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صل الله عليه وسلم-: ((آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، قال: يقول: بك أُمِرْتُ ألا أفتح لأحد قبلك))([3])، رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صل الله عليه وسلم-: ((أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون فيها، ولا يتغوطون فيها، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الأَلُوَّة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد، يسبحون الله تعالى بكرة وعشياً))([4])، ورواه البخاري ومسلم.
وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صل الله عليه وسلم-: ((أول زُمْرَة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشدِّ كوكب دُرِّي في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتْفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك، ومجامرهم الأَلُوَّة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء))([5])،وأخرجاه أيضا من حديث جرير.
وعن أبي هريرة، -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صل الله عليه وسلم- قال: ((يدخل الجنة من أمتي زُمْرَة، هم سبعون ألفاً، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر))، فقام عُكاشة بن مِحْصَن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم: فقال: ((اللهم اجعله منهم))، ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال -صل الله عليه وسلم-: ((سبقك بها عُكاشة))([6])، أخرجاه، وقد روى هذا الحديث -في السبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب- البخاري ومسلم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وجابر بن عبد الله، وعمران بن حصين، وابن مسعود، ورفاعة بن عرابة الجهني، وأم قيس بنت محصن -رضي الله عنهم.
ولهما عن أبي حازم، عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صل الله عليه وسلم- قال(ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً أو: سبعمائة ألف آخذٌ بعضهم ببعض، حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر))([7]).
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} لم يذكر الجواب هاهنا، وتقديره: حتى إذا جاءوها وكانت هذه الأمور من فتح الأبواب لهم إكراماً وتعظيماً، وتلقتهم الملائكة الخزنة بالبشارة والسلام والثناء، لا كما تلقى الزبانية الكفرة بالتثريب والتأنيب، فتقديره: إذا كان هذا سَعِدوا وطابوا، وسُرّوا وفرحوا، بقدر ما يكون لهم فيه نعيم، وإذا حذف الجواب هاهنا ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والأمل.
ومن زعم أن "الواو" في قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} واو الثمانية، واستدل به على أن أبواب الجنة ثمانية فقد أبعد النّجْعَة وأغرق في النزع، وإنما يستفاد كون أبواب الجنة ثمانية من الأحاديث الصحيحة.
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صل الله عليه وسلم-: ((من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله تعالى دعي من أبواب الجنة، وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان))، فقال أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-: يا رسول الله، ما على أحد من ضرورة دُعي من أيها دعي، فهل يُدعَى منها كلِّها أحدٌ يا رسول الله؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم))([8]).
ورواه البخاري ومسلم بنحوه، وفيهما عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صل الله عليه وسلم- قال: ((إن في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون))([9]).
وفي صحيح مسلم، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صل الله عليه وسلم-: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيُبلِغ -أو فيسبغ- الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء))([10]).
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى-: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} الأحاديث التي أوردها المؤلف -رحمه الله-: قال -صل الله عليه وسلم-: ((ومجامرهم الأَلُوَّة)) يعني: العود الهندي.
وقوله -تبارك وتعالى-: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} يقول: لم يذكر الجواب هنا {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}، أين الجواب؟ {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} على كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا أن الجواب مقدر محذوف، وهو يقول هنا: لم يذكر الجواب هاهنا، وتقديره: حتى إذا جاءوها وكانت هذه الأمور من فتح الأبواب لهم إكراماً وتعظيماً، تلقتهم الملائكة الخزنة بالبشارة والسلام والثناء، لا كما تلقى الزبانية الكفرة بالتثريب والتأنيب، فتقديره: إذا كان هذا سعدوا، يعني هذا الجواب، {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} سعدوا وطابوا وسروا وفرحوا، فهذا باعتبار أنه مقدر، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، وإن اختلفت عباراتهم في المقدر، بعضهم يقول: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} دخلوها، ولا إشكال في ذلك ولا منافاة؛ لأن دخولهم يعني أنهم يسعدون فلا يشقون أبداً، أما على قول طائفة من النحاة وهم الكوفيون، وبه قال الأخفش، فإنهم يقولون: إن الواو زائدة، وليس في الآية حذف، فتكون هكذا: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}، هذا الجواب، باعتبار أن الواو زائدة، وهم حينما يقولون: إن الواو زائدة يقصدون بذلك أنها زائدة إعراباً، وإلا فهم يقرون بأن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، هم لا ينكرون هذا، ومن ثَمّ فإنه لا يوجد في القرآن حشو، ولكن كل حرف فيه وكلمة فإنها تكون لمعنى، والأصل خلاف ذلك، وأما مسألة التعبير بالزيادة فقد أنكره طائفة من أهل العلم تأدباً؛ ولهذا يعبرون أحياناً عن الزيادة يقولون: صلة، ونحو ذلك، ويقول في المراقي:
تواتر السبع عليه أجمعوا *** ولم يكن في الوحي حشو يقع.
ما في حشو، فإطلاق الزيادة غير مناسب، لكن إذا فهم مرادهم أنهم يقصدون إعراباً فالأمر في ذلك يكون أسهل، لكن يحسن تأدباً أن لا يذكر هذا اللفظ.
على قول الكوفيين أنه ليس هناك مقدر محذوف، وهذا يؤيده أن الأصل عدم التقدير، وأولائك يؤيد قولهم -إن الأصل عدم الزيادة- أن الأصل عدم التقدير.
فقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}، فتحت أبوابها، القراءة الأخرى المتواترة لأبي عمرو وابن عامر وابن كثير {وفتِّحت أبوابها}، وكما سبق أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، وأن ذلك -"فتِّحت"- إما باعتبار الكثرة، كثرة الأبواب أو الفتح، كما قال الله -عز وجل-: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} [سورة يوسف:23]، مبالغة في الإغلاق أو لكثرة الأبواب، {وفتِّحت أبوابها}.
قال الإمام الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا}: "وتأمل ما في سوق الفريقين إلى الدارين زمرا من فرحة هؤلاء بإخوانهم وسيرهم معهم كل زمرة على حدة، كل مشتركين في عمل متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم، مستبشرين أقوياء القلوب كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على الخير، كذلك يؤنس بعضهم بعضاً ويفرح بعضهم ببعض، وكذلك أصحاب الدار الأخرى يساقون إليها زمراً يلعن بعضهم بعضاً ويتأذى بعضهم ببعض، وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة والهتيكة من أن يساقوا واحداً واحداً، فلا تهمل تدبر قوله: {زُمَرًا} وقال خزنة أهل الجنة لأهلها: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} فبدءوهم بالسلام المتضمن للسلامة من كل شر ومكروه أي سلمتم فلا يلحقكم بعد اليوم ما تكرهون، ثم قال لهم: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}أي: سلامتكم ودخولها بطيبكم، فإن الله حرمها إلا على الطيبين، فبشروهم بالسلامة والطيب والدخول والخلود.
وأما أهل النار فإنهم لما انتهوا إليها على تلك الحال من الهم والغم والحزن وفتحت لهم أبوابها وقفوا عليها، وزيدوا على ما هم فيه من توبيخ خزنتها وتبكيتهم لهم بقولهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ}فاعترفوا وقالوا: بلى فبشروهم بدخولها والخلود فيها، وإنها بئس المثوى لهم.
وتأمل قول خزنة الجنة لأهلها: {فَادْخُلُوهَا} وقول خزنة النار لأهلها:
{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} تجد تحته سراً لطيفاً ومعنى بديعاً لا يخفى على المتأمل، وهو: أنها لما كانت دار العقوبة وأبوابها أفظع شيء وأشده حراً، وأعظمه غماً، يستقبل فيها الداخل من العذاب ما هو أشد منها، ويدنو من الغم والخزي والحزن والكرب بدخول الأبواب، فقيل: ادخلوا أبوابها؛ صغاراً لهم وإذلالاً وخزياً، ثم قيل لهم: لا يقتصر بكم على مجرد دخول الأبواب الفظيعة ولكن وراءها الخلود في النار، وأما الجنة فهي دار الكرامة والمنزل الذي أعده الله لأوليائه، فبشروا من أول وهلة بالدخول إلى المقاعد والمنازل والخلود فيها"
([11]).
مضى في المجلس الماضي الفرق في الموضعين، وقول من قال: لما كانت أبواب النار موصدة على أهلها، فهم حينما يأتون إليها تفتح أبوابها فيفجؤهم عذابها، ويساقون إليها، وأما الجنة فإنهم حينما يأتون تكون أبواب الجنة مفتحة، كما قال الله -عز وجل-: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ} [سورة ص:50]، يدخلون ويخرجون في نواحي الجنة، فيتقلبون حيث شاءوا.
قال ابن كثير -رحمه الله-: ذِكْر سعة أبواب الجنة -نسأل الله العظيم من فضله أن يجعلنا من أهلها-:
في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- في حديث الشفاعة الطويل: ((فيقول الله يا محمد، أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس في الأبواب الأخرى، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة -ما بين عضادتي الباب- لكما بين مكة وهجر، أو هجر ومكة))([12])، وفي رواية: ((مكة وبُصرى))(
[13]).
وفي صحيح مسلم، عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها: ((ولقد ذُكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام))([14])
. ابن القيم -رحمه الله- نظر إليها من جهتين، أو ذكر في الجواب عنه أمرين، الأول قال: يحتمل أن يكون الباب الذي يكون مسيرة أربعين سنة أنه الباب الأعظم، الباب الأيمن، وباقي الأبواب تكون متفاوتة، فتكون كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- هنا: ((ما بين مكة وهجر)) و((ما بين مكة وبُصرى))، وفي رواية أخرى ذكر حمير وهي اليمن صنعاء، فهذه المسافات متفاوتة وإن كان بينها شيء من التقارب غير حديث عتبة بن غزوان، غير الأربعين، يعني ما بين مكة وهجر يقرب من ألف ومائتي كيلو، وما بين مكة وصنعاء أيضاً قريب من هذا، وما بين مكة وبصرى أيضاً قريب من هذا، يعني في أطراف بلاد الشام، حوران، فهذه الحافظ ابن القيم يقول: لعله الباب الأيمن هو الذي يكون مسيرة أربعين، وذكر الاحتمال الثاني قال: أن يكون حديث عتبة بن غزوان موقوفاً، فيرجح المرفوع، المرفوع: هذه الأحاديث: ((ما بين مكة وبصرى)) إلى آخره، والواقع أن حديث عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- جاء مصرحاً برفعه عن جماعة من الصحابة، كعبد الله بن سلام -رضي الله تعالى عنه-، وغيره أنه بالتصريح بالرفع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فيمكن أن يكون هذا الباب هو الباب الأعظم من أبواب الجنة، مسيرة أربعين سنة، ومثل هذا عادة يحسب بسير الإبل القاصد، يعني الأشياء التي ذُكرت في النصوص، مسيرة كذا، مسيرة ثلاثة أيام، مسيرة يوم وليلة، ((نصرت بالرعب مسيرة شهر))([15])، فهم يفهمون مسيرة شهر، يعني إلى أي مدى، إلى أي حد يكون ذلك، فإذا حسب بهذا التقدير للتقريب فقط، للتقريب والتفكر والاعتبار، فإن هذا يحتاج في رحلة بالطائرة تسير ثمانمائة كيلو بلا توقف، حوالي تسعة وعشرين يوما ونصف حتى تقطع هذه المسافة، مسيرة أربعين عاماً، يعني أكثر من قطع الكرة الأرضية بكاملها، هذا الباب فكيف بالجنة!
لاحظ هنا: ((وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام))، جاء في بعض الروايات يعني تصوير ذلك الزحام في شدته بزحام الإبل ((وردتْ لخمسٍ ظمأ))([16]) يعني: خمسة أيام ما شربت، ووردت على الماء، لا شك أن هذا يكون في غاية الزحام والتدافع، وهو في هذه السعة.
قال: وقوله -تبارك وتعالى-: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} أي: طابت أعمالكم وأقوالكم، وطاب سعيكم وطاب جزاؤكم، كما أمر رسول الله -صل الله عليه وسلم- أن ينادى بين المسلمين في بعض الغزوات: ((إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة))([17])، وفي رواية: ((مؤمنة))(
[18]).
قوله: {طِبْتُمْ} قال: طابت أعمالكم وأقوالكم، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير -رحمه الله-، ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك يراد به ما يحصل لهم من التطهير والتنقية عند القنطرة قبل دخول الجنة، فيطيبون، فإن الجنة لا يدخلها إلا نفس طيبة، فيذهب ما في نفوسهم من الغل والحقد والحسد والتباغض والشحناء وما أشبه ذلك، فتكون نفوسهم طاهرة سليمة، وقلوبهم نقية، فالآية تحتمل هذا وهذا؛ لأنهم إذا دخلوها فلا شك أن أعمالهم طيبة، ونفوسهم زاكية من جهة ما كانوا عليه في الدنيا من العمل الصالح والإيمان، ومن جهة ما يحصل لهم من التنقية والتطهير قبل دخول الجنة، فهذا كله مما توصف به نفوس الداخلين فيها.
قال: وقوله: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أي: ماكثين فيها أبداً، لا يبغون عنها حولاً.
هذه المعاني لو يتأملها الإنسان، وإن كان في هذا المجلس نحن في الأصل لا نعرض لهذا، لكن هي تحتها هدايات ومعانٍ عظيمة، يعني حينما يحصل لهم مثل هذا التطهير فإن الإنسان يتنغص ويتكدر عيشه إذا كان في قلبه شيء من البغضاء والغل، فهو عذاب ينغص عليه النعيم، ويكدر عليه الحياة، إذا كان يبغض أحداً، ويذهب أثر هذه اللذات وما يجده الإنسان من النعيم بسبب ما يقع في هذا القلب من الشحناء، فيُطهّرون، ليس فيها تباغض أصلاً، ثم هذا الخلود في الجنة هو من أعظم النعيم، فحينما يقال لهم: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}هذا نعيم آخر؛ لأن الإنسان تتنغص لذّاته إذا تذكر أنه يفارقها، ولهذا قال الشاعر:
هو الموتُ ليس كالموتِ شيءٌ *** نغّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا
فإذا كان الإنسان في غاية النعيم، وعنده ما يحتاج إليه من الأموال والخدم، ونحو ذلك، ثم إذا تذكر أنه سيفارق هذا تكدر عليه وتنغص، وقل مثل ذلك أيضاً فما يحصل بسبب الافتراق بعد الاجتماع؛ ولهذا كان بعض الشعراء يذكر أنه يحب أيام الفراق؛ لأنه يؤمل بعدها الوصال، ويكره أيام الوصال؛ لأنه يعقبها الفراق، ولذلك تجد من الناس من قد لا يحب زيارة بعض أهله في ناحية أو بلد آخر والسبب في هذا أنه يتذكر اللحظة التي يفارقهم فيها، وما يحصل له من حسرة وألم، ويحصل لهؤلاء أيضاً، فيترك تعاهدهم بالزيارة لهذا السبب، يعني بعض الناس عندهم هذا الجانب، ولربما بعض الرقة، فيصرح بهذا أنه ما يترك الزيارة إلا لتلك اللحظة التي فعلا كل حال الجنة ليس فيها شيء من هذا، فهو نعيم غير مكدر بأي شيء من المكدرات، فلو نظرت إلى جميع المكدرات وجدت أنها منفية في القرآن.
قال: وقوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} أي: يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر، والعطاء العظيم، والنعيم المقيم، والملك الكبير، يقولون عند ذلك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} أي: الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام، كما دعوا في الدنيا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [سورة آل عمران: 194]، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [سورة الأعراف:43]، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [سورة فاطر:34-35].
ليس بعد هذا شيء، وصف لهم كل شيء حتى قِيلهم حينما يدخلون الجنة، ماذا يقولون، ليس بعد هذا شيء، ذكر دعاءهم أولاً، ثم ذكر قولهم حينما يدخلون الجنة، فإذا كان المؤمن يوقن بهذا ويصدقه حقاً فينبغي عليه أن يعمل من أجل تحصيل هذا النعيم المقيم، من أجل أن يكون من هؤلاء القائلين: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ}، وإذا أردت أن تدرك معنى لربما يحمل على مجاهدة النفس والصبر على طاعة الله -عز وجل-، فانظر إلى ما مضى من الأيام وما حصلت فيها من الآلام أو اللذات فكل ذلك قد مضى لا تشعر بشيء منه في ساعتك هذه، الطاعات والعبادات والقربات ونحو ذلك، لا يوجد من هذا شيء، فالذين جاهدوا أنفسهم وعبدوا الله كثيراً هم لا يجدون في هذه الساعة من تعب تلك الأيام الخالية شيئاً، ومضت تلك السنون كأنها ليلة، أو أقل من ذلك، وهكذا بقية العمر، هذه مختصرة تلخص لك حقيقة هذا الأمر، ويحتاج إلى شيء من الصبر والمجاهدة، ثم يمضي ذلك وينقشع دون أن يشعر به الإنسان، فتكون الحياة بكاملها كأنها ليلة بل كأنها ساعة، ولذلك فإن الناس حينما يقومون من قبورهم يقولون ما قد أخبر الله -تبارك وتعالى- عنه، بعضهم يقول: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [سورة طه:104]، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [سورة الروم:55]، وهذه حقيقة في الدنيا، الإنسان يعتبر ما مضى من أيامه وإن طالت كأنها ساعة، كأنها أحلام، فما سيأتي حينما يطوى ويكون وراء ظهرك هو سيكون بهذه المثابة.
قال: وقولهم: {وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} قال أبو العالية، وأبو صالح، وقتادة، والسدي، وابن زيد: أي أرض الجنة.
فهذه الآية كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [سورة الأنبياء:105]؛ ولهذا قالوا: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}.
هنا قوله -تبارك وتعالى-: {وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}، الأرض هنا هل هي أرض الدنيا أو أنها أرض الجنة؟، بعضهم قال: هي أرض الدنيا، وقالوا: إن "ال" هذه عهدية، {وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ} المعهودة، وإنها إذا أطلقت –الأرض- فإن المقصود بها الأرض المعروفة، {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} قالوا: يعني أن الله -تبارك وتعالى- قد أوجدنا في الأرض ويسر لنا الأسباب للأعمال الصالحة التي أورثتنا هذا النعيم المقيم في الجنة، هذا قول لبعض أهل العلم، والقول الآخر وهو قول الجماهير من السلف والخلف: إن المقصود بالأرض هي أرض الجنة، {وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ} يعني: كأنهم أُورثوها من قوم قبلهم، {وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ} يعني عبر بهذا يعني أنهم ملكوها كأنها صارت إليهم من غيرهم، فتصرفوا فيها، {وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ}، كما يرث الإنسان المال، فصارت الجنة إليهم فملكوها، تصرفوا فيها، تنعموا، ذاقوا اللذات وعافسوها.
وبعض أهل العلم يقول: إن ذلك باعتبار أن كل واحد من أهل الجنة له مقعد في الجنة ومقعد في النار، فالتوارث حاصل فيها، فأهل الجنة يرثون مقاعد أهل النار في الجنة، كما أن أهل النار يرثون مقاعد أهل الجنة في النار، وهذا مضى الكلام عليه، وأنه من صور التغابن {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [سورة التغابن:9]، فمن هذا التغابن هذا التوارث، هذا الذي في الجنة يرث مقعد هذا الذي في النار، وذاك الذي في النار يرث مقعد ذاك الذي في الجنة، أي مقعده في النار، فيكون إضافة إلى مقاعدهم في الجنة ومنازلهم يرثون منازل شاغرة كانت لأهل النار، وهذا يدل على سعة الجنة جداً، أنها في غاية السعة، بمعنى أن كل واحد من الخلق له منزل في الجنة حتى أهل النار، فتبقى هذه فارغة فتصير إلى أهل الجنة، كما أن النار واسعة جداً، فكل الخلق لهم منازل فيها -أعاذنا الله وإياكم منها- كل الخلق لهم منازل في النار، فيكون التوارث بعد ذلك، فأهل النار يتوارثون المنازل الشاغرة في النار، التي كانت لأهل الجنة، فهذا قال به كثيرون، بل نسبه بعض أهل العلم للأكثر من العلماء، أن المقصود بـ {وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ} هذا المعنى، وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.
والقول الذي عليه عامة أهل العلم أن المقصود بالأرض أرض الجنة، لكن اختلفوا في معنى هذا التوارث أو الإرث ما المراد به؟ فالأولون يقولون: إن تمكينهم فيها وإفضاءهم إلى الجنة كأنها صارت إليهم من غيرهم، فحلوا بها ونزلوها، فقالوا: الحمد لله الذي أورثنا الأرض، والطائفة الأخرى باعتبار التوارث في المنازل.
قال: ولهذا قالوا: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} أي: أين شئنا حللنا، فنعم الأجر أجرنا على عملنا.
وفي الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- في قصة المعراج قال النبي -صل الله عليه وسلم-: ((أُدخلتُ الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك))([19]).
جنابذ تقال للقباب والأبنية المرتفعة.
{وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[سورة الزمر:75].
لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار، وأنه نزّل كُلًّا في المحل الذي يليق به ويصلح له وهو العادل في ذلك الذي لا يجور أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول عرشه المجيد، يسبحون بحمد ربهم، ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور، وقد فصل القضية، وقضى الأمر، وحكم بالعدل؛ ولهذا قال -عز وجل-: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: بين الخلائق {بِالْحَقِّ}.
وبعضهم يقول: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} يعني: بين النبيين والشهداء وأممهم، فإنه يؤتى بالأنبياء والشهداء كما أخبر الله -عز وجل-، {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء}، فيقضي الله -عز وجل- بين هؤلاء وأممهم، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-، وهو لا ينافي ما ذكره ابن كثير: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: بين الخلائق، وبعضهم يقول هنا: قال الله: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}، الكلام في الملائكة، قال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}، يعني قالوا: بين الملائكة بإنزالهم منازلهم، لكن هذا فيه بعد -والله أعلم-، وإنما هذه الآية يخبر الله -عز وجل- فيها ويصور ما يجري في ذلك المقام والموقف العظيم، فيكون هؤلاء يصيرون إلى الجنة بهذه الصفة، يدخلون مجموعات وزمراً، وأهل النار يساقون سوقاً إلى النار بجموع وزمر، ثم بعد ذلك ماذا يقول أهل الجنة إذا دخلوها، ويذكر الله -عز وجل- في ذلك اليوم عظمته وجلاله وتسبيح هؤلاء الملائكة العظام الذين يحتفون بالعرش، كما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى-: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [سورة غافر:7]، فهؤلاء كما قال بعض أهل العلم: هم الكروبيون، قاله جماعة من السلف، يعني: بمعنى الملائكة الذين يحملون العرش ومن حولهم أشراف الملائكة وسادة الملائكة، على قول الكثيرين، فهؤلاء هم الذين يسبحون، كل الملائكة تسبح، لكن يقولون: هؤلاء مهمتهم التسبيح حول العرش، {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
ثم قال: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: ونطق الكون أجمعه ناطقه وبهيمه لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله؛ ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه، فدل على أن جميع المخلوقات شَهِدَت له بالحمد.
قال قتادة: افتتح الخلق بالحمد في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ} [سورة الأنعام:1] واختتم بالحمد في قوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
يقول الإمام الحافظ ابن القيم في قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}: "فحذف فاعل القول لأنه غير معين، بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم فيه، فيحمده أهل السماوات وأهل الأرض، والأبرار والفجار، والإنس والجن، حتى أهل النار، قال الحسن أو غيره: قد دخلوا النار وإنّ حمْده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلاً، وهذا -والله أعلم- هو السر الذي حذف لأجله الفاعل في قوله: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}، وقوله:
{وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [سورة التحريم:10]
، كأن الكون كله نطق بذلك وقاله لهم، والله تعالى أعلم بالصواب"([20]).
القائل في قوله: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} على كلام ابن القيم يقول: كأن الكون ينطق بذلك، الجميع ينطق بذلك لما كانوا في هذا المقام من العدل الكامل، حيث تشهد على الإنسان جوارحه وينطق لسانه ويقر بما كان ينكر، ويجادل عن نفسه، ويكون في ذلك تمام العدل، فعندها ينطق الجميع: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ}، والسر في حذف الفاعل -فلم يقل: وقال الله، وقالت الملائكة ادخلوا، وقالت خزنة جهنم: ادخلوا- على كلام ابن القيم: حينما تظهر دلائل العدل هذه وبراهين العدل، وأجلى صور العدل، فيكون على الإنسان شاهد من نفسه ونحو ذلك، عندها الكل يقول: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} ولم يبق لكم عذر تعتذرون به، وهنا {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}الكل يحمد الله -تبارك وتعالى- على ذلك حتى أهل النار.
[1] - رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قول النبي -صل الله عليه وسلم-: "أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا"، برقم (196).
[2] - رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قول النبي -صل الله عليه وسلم-: "أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا"، برقم (196).
[3] - رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قول النبي -صل الله عليه وسلم-: "أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا"، برقم (197)، وأحمد في المسند، برقم (12397)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
[4] - رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3073)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا، برقم (2834)، وأحمد في المسند، برقم (8198).
[5] - رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم -صلوات الله عليه- وذريته، برقم (3327)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا، برقم (2834).
[6] - رواه البخاري، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو، برقم (5378)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، برقم (367).
[7] - رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، برقم (6177)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، برقم (219).
[8] - رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3044)، والنسائي، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، برقم (2439)، وأحمد في المسند واللفظ له، برقم (7633).
[9] - رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة أبواب الجنة، برقم (3084)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم (1152).
[10] - رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، برقم (234).
[11] - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن القيم (39).
[12] - رواه البخاري، كتاب التفسير، باب سورة بني إسرائيل الإسراء، برقم (4435)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها، برقم (194)، واللفظ لمسلم.
[13] - رواه البخاري، كتاب التفسير، باب سورة بني إسرائيل الإسراء، برقم (4435)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها، برقم (194).
[14] - رواه مسلم في أول كتاب الزهد والرقائق، برقم (2967).
[15] - رواه البخاري في أول كتاب التيمم، برقم (328)، ومسلم في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (521).
[16] - رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (153)، قال الشيخ الألباني تحت حديث رقم (1698): "الإسناد صحيح لأن كل رجاله ثقات".
[17] - رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف الحشر، برقم (6163)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة، برقم (221).
[18] - رواه النسائي، كتاب مناسك الحج، باب قوله -عز وجل-: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}، برقم (2958)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله -صل الله عليه وسلم-، باب ومن سورة التوبة، برقم (3092)، وأحمد في المسند، برقم (594)، وقال محققوه: حديث صحيح، والحاكم في المستدرك، برقم (4376)، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
[19] - رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، برقم (342)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله -صل الله عليه وسلم- إلى السماوات وفرض الصلوات، برقم (163).
[20] - روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن القيم (65).