مسجد «السيد هاشم بن مناف» في غزة حيث ترتبط بوابة الشام بمهد الإسلام
أشرف الهور
غزة ـ «القدس العربي»: لا تزال راحة التاريخ تنبعث من الاتجاهات كافة التي تحيط بمسجد «السيد هاشم بن مناف» أحد أقدم مساجد مدينة غزة، والذي يتوسط أيضاً أقدم أحياء المدينة، برغم الامتداد العمراني الحديث المتمثل بمبانٍ وعمارات سكنية صممت بأشكال هندسية بعيدة عن تلك التي شيد على أساسها هذا المسجد قبل أكثر من 550 سنة.
فليس بعيداً عن الساحة الرئيسة لمدينة غزة، ترتفع مئذنة هذا المسجد الكبير، التي ما اهتزت رغم ما أصابه من أضرار بالغة، جراء الحروب التي شهدتها المدينة، وبدايتها الحرب العالمية.
كتبة تاريخ غزة، ورواة التاريخ ومنهم كبار السن الذين يحرصون حتى اللحظة على أداء الصلاة في هذا مسجد «السيد هاشم بن مناف»، جد رسول الله محمد، يحملون في صدورهم آلاف القصص عن تاريخه، فهم يعتزون كثيراً بارتباط اسمه بعائلة النبي، وبكونه يمثل نقطة ربط بين غزة القديمة بوابة الشام، ومكة مهد الإسلام الأول، حيث سمي المسجد بهذا الاسم، نسبة إلى جد النبي، المدفون في أحد أركانه، والذي نسبت إليه مديــنة غــزة، حيث تكنى بـ «غزة هاشم».
وقد ذكر ذلك الشاعر الجاهلي مطرود بن كعب الخزاعي الذي ذكر مدينة غزة في قصيدة رثاء لهاشم بن عبد مناف بالقول:
وهاشم في ضريح وسط بلقعة … تسفي الرياح عليه عند غزّات (ويقصد غزة).
المسجد الأقدم
الدليل الإرشادي الذي زودتها به وزارة السياحة والآثار بعنوان «غزة بوابة الشام»، يوضح أن هذا المسجد يعد من أحد المساجد التاريخية في مدينة غزة، حيث يقع في حي الدرج، وتبلغ مساحته 2400 متر مربع، وأن التسمية تعود لكون جد الرسول هاشم بن عبد مناف، مدفون عند الزاوية الشمالية الغربية للمسجد، حيث تلا ذلك قيام السكان بدفن موتاهم في العصر الإسلامي في تلك المنطقة، تبركاً بجد الرسول.
ويوضح الدليل أن المسجد بني في العصر العثماني على الطراز المملوكي، ويضم باحة مركزية مكشوفة مربعة الشكل، محاطة بثلاثة أروقة خارجية للصلاة.
أما القاعة الرئيسية للمسجد، فهي شبه مربعة مسقوفة بعقود متقاطعة، وبها محراب يتجه نحو القبلة، ومنبر جدد في سنة (1266 هـ . 1850 م)، برعاية السلطان العثماني عبد المجيد، بناء على طلب أحمد بن محيي الدين الحسيني، مفتي الأحناف في غزة.
ويوضح الدليل أن المسجد بني من حجارة قديمة، تعود الى مبانٍ قديمة مندثرة، منها مسجد الجاولي وموقع البلاخية، إضافة إلى أبنية أخرى في غزة وعسقلان.
المسجد في «إتحاف الأعزة»
من بين ما زودتنا به وزارة السياحة في غزة، خلال الكتابة عن مسجد «السيد هاشم»، كان الجزء الخاص بالمسجد، في كتاب «إتحاف الأعزة في تاريخ غزة»، والذي ألفه الشيخ عثمان مصطفى الصباغ، والذي يروي تاريخ غزة ويقول الطباع في «إتحاف الأعزة» وهو يتحدث عن المسجد أن السيد هاشم مدفون في مغارة بجانب قبر والده عبد مناف، وقبل عليه أو تحت رجليه قال ابن هشام، ومات عبد مناف بغزة، ويضيف بالقول إن هاشم اسمه «عمر العلي» لعلو رتبته في قومه، وكان سيد البطحاء يحمل ابن السبيل ويؤمن الخائف ويؤدي الحق، ويحض قريش على إكرام الحجاج وفعل الخيرات، حتى ساد قومه بذلك.
ويقول المؤرخ الفلسطيني الطباع وهو يتحدث عن «السيد هاشم» أنه كان أول من سن الرحلتين لقريش للتجارة، وكان في كل سنة يأتي لمدينة غزة ويقيم فيها مدة الصيف وتوفي في غزة في آخر رحلاته إليها، ودفن فيها بإجماع المؤرخين، ولذلك نسبت المدينة إليه فقيل لها منذ ذلك الوقت (غزة هاشم)، وكان مدفنه في موضعه المعروف.
ويؤكد وهو يشرح تاريخ مسجد «السيد هاشم» أنه في القرن الثالثة جدد ضريحه وبنى عليه مقصورة عظيمة بقبة شامخة، وأزيلت تلك المقبرة وبنى مكانها جامعاً ومدرسة ومأوى للغرباء بمنارة عالية، وبيتاً كبيراً للصلاة بمحراب ومنبر وصحن متسع (..) حتى سار من أعظم الجوامع وأعتقها وأنفس الآثار وأحسنها، وكان ذلك بمساعي مفتي غزة الكبير المرحوم الحاج أحمد محيي الدين عبد الحي الحسيني، حيث بذل الجهود وواصل السعي حتى كتب للسلطان عبد المجيد خان يطلب المعونة، فصرف الأخير مائة وخمسين ألفاً وقتها من الخزانة الأميرية.
ويضيف وهو يشرح تاريخ المسجد أنه بعد ذلك جعلت للمسجد كتيبة كبيرة، وجمعت فيها مكتبة عظيمة أكثرها من الكتب المخطوطة النفيسة، وصارت تقام فيه الصلوات الخمس والجمعة، وأقام بحجراته بعض أهل العلم والطلبة والقراء، وآوى إليه أبناء السبيل والغرباء وجعل له موسم في كل عام ثمانية أيام بلياليها، وينتهي ليلة الثاني عشر من شهر ربيع الأول، يزدحم فيها الناس ويؤمه الرجال والنساء من غزة وضواحيها، في سنة 1323 هجرية، نقضت منارته لخلل واعوجاج ظهر بها، وجدد بناؤها وعمر بجانبها من الجهة القبلية بيت آخر للصلاة محاذ للبيت الأول، وصدر الإذن السلطاني بإقامة صلاة الجمعة به وبالخطبة فيه.
ويوضح أنه بسبب الحرب العامة (العالمية) حدث فيه خراب كبير وضرر عظيم وفقدت تلك المكتبة القيمة بالسرقة والسلب والتمزيق حتى لم يبق لها أثر، وأنه بالسعي والإلحاح المتكرر جرت عمارته تدريجياً حتى عاد كما كان.
منارة علم
لم ننقطع حين دخلنا إلى المسجد، لنروي تاريخه القديم عن طرح الأسئلة، مرة على رواده الذين تواتروا تاريخه عبر الآباء والأجداد، ومرات على إمام المسجد، وهو رجل ملم بكل تفاصيله التاريخية منذ تشييده حتى يومنا الحاضر.
فلا يزال سحر البناء الأثري يأخذ الزوار إلى حقب زمنية مضت، فالساحة الخلفية التي تقابل المبنى الرئيس للمسجد، والمحاطة بغرف العلم، كما يطلق عليها، تحملك بسبب المساحة الجغرافية الواسعة للمسجد، إلى تلك الحقب التاريخية السابقة، وتخفي عن الأذهان تلك الضوضاء الصادرة من الازدحام السكاني خارج المسجد، حيث هناك منطقة تجارية ومركز مواصلات يعد الأكبر في قطاع غزة.
ويقول إمام المسجد ويدعى الشيخ يوسف أبو نجيلة، حيث استمعت إليه «القدس العربي» وهو يروي تاريخ المسجد، على مقربة من منبره القديم، أن هذا المسجد شيد قبل 550 عاماً، وأنه أسس في أواخر عهد المماليك، وأن المجلس الإسلامي الأعلى، أعاد ترميمه من جديد، بعد تعرضه للقصف في الحرب العالمية الأولى.
ومن داخل المسجد أشار أبو نجيله إلى الساحة الخارجية وبدت واضحة تماماً، بفضل التصميم المعماري القديم الذي يراعي عناصر التهوية والإضاءة، وقال إنها أصيبت بضرر بالغ في تلك الحرب العالمية، بعد إلقاء الألمان قنبلة عليها.
وتحدث إمام المسجد، عن تلك الحقبة الزمنية التي كانت قبل نحو مئة عام، حين كان المسجد منارة لتعلم العلوم الشرعية، فقال أن «طلاب الأزهر» ويقصد الدارسين في فرع غزة، كانوا يتلقون العلم في غرف المسجد الخمس عشرة، وكانوا يقيمون بها ليلاً، وأن المسجد كان يضم في السابق مكتبة كبيرة، ومدرسة لتعليم علوم الدين.
يضيف الشيخ أبو نجيلة أن تلك الغرف الآن تحولت إلى مكتبة للمسجد، وإلى أماكن لتحفيظ القرآن، وتعلم التلاوة، وأن المسجد يحافظ على تخريج حفظة للقرآن كل سنة، إضافة إلى استغلالها في تقديم دروس فقهية في الصلاة والحج وغيرها من أمور الدين.
وهناك من رواد المسجد من كبار السن، قالوا إن المسجد كان يؤوي طلبة العلم خلال رحلاتهم من بلاد الشام والعراق إلى مصر، وأنهم كانوا يضعون رحالهم في المسجد أياماً عدة في رحلات الذهاب لطلب العلم من مصر أو خلال رحلات العودة الى ديارهم.
تحفة معمارية
ويظهر التصميم المعماري للمسجد ولا زال قائماً كما شيد أول مرة، على أن العثمانيين الذين أمروا ببنائه، حرصوا على تقديمه بشكل يبهر الزوار كلما تقادم الزمن.
فلا يزال المنبر ذو الشكل التقليدي القديم، المبدوء ببوابة صغيره يعلوها ذلك القوس المعروف، ومن بعدها سلالم من الحجارة المحاطة بالرخام، تأخذ إلى سدة القبة المسقوفة على شكل قبة صغيرة، يقف الإمام أسفلها عند الخطابة، إلى جانب المحراب المشيد من حجارة متعددة الألوان، متداخلة مع قطع من الرخام تضفي جمالاً فائقاً، على هذه التحفة المعمارية التي تتقدم قبة المسجد الرئيسية من الجهة الشرقية.
وإلى جانب هذا المشهد الجمالي في التشييد، من جهة اليمين والشمال، المسجد شيد على شكل غرف كبيرة بها بوابات مرور إلى الركن الأوسط والذي يضم ساحة القبة والمنبر والمحراب، وتظهر الأقواس المشيدة بشكل هندسي مميز لتعطي إلى جانب مهمتها الرئيسية حمل سقف المسجد شكلاً معمارياً جميلاً.
وخارج المبنى الرئيسي للمسجد، هناك الساحة الرئيسة، التي تحاط بغرف العلم الـ 15، وجميعها مزينة من الأمام بقباب صغيرة، أضفت مشهداً آخر من الجمال، لتظهر عند بلوغ منتصف هذه الساحة تلك المئذنة تعانق سماء المدينة، حيث تظهر عليها تلك النقوش الهندسية التي تضفي مزيداً من مشاهد الجمال، لتجعل جميع هذه المكونات من مسجد «السيد هاشم» المسجد الأكثر إتقاناً من ناحية التشييد في قطاع غزة.
قبلة «البهرة» وطالبي الحاجة
ولم تكن الصلاة في المسجد تقتصر على المسلمين، قبل عقد ونصف عقد من الزمان، فشاركت طائفة «البهرة»، التي تعد هذا المسجد من الأماكن الخمسة المقدسة لها في العالم، في أداء طقوسها الدينية الخاصة، عبر زيارات منظمة للمسجد، وبالأخص ضريح «السيد هاشم بن مناف».
وروى لنا الشيخ أبو محمد، وهو رجل مسن غطى الشعر الأبيض شعر رأسه ولحيته، وكان يتكئ على حائط بجوار ضريح «السيد هاشم»، تلك الفترة التي كانت تزور فيها طائفة «البهرة» برجالها ونسائها المكان بهدف الحصول على البركة.
ويقول قبل اندلاع «انتفاضة الأقصى» أي قبل أكثر 15 عاماً، كان أبناء هذه الطائفة الذين يأتون من الهند، تزور الضريح بشكل منتظم، وكانت تقوم بطقوس دينية خاصة، ليست لها علاقة بصلوات المسلمين، ويضيف كانوا يذبحون «القرابين»، ويتحدثون بطقوس لا يفهمها أحد.
ويقول أيضاً إمام المسجد يوسف أبو نجيلة، إن هذه الطائفة رممت الضريح على نفقتها الخاصة، وإن كبيرهم حضر بعد الانتهاء من الترميم، وأقيمت طقوس خاصة لهم، غير أن الطائفة منعت من دخول غزة بعد اندلاع الانتفاضة.
ويشير أبو نجيلة الى أن «التبرك» بالضريح، كانت عادة قديمة أيضاً مارسها سكان من غزة، فكان يلجأ إليه كل محتاج أو عقيم أو مريض، ظناً منه أن البركة ستحل به، ويقبل دعاءه، ويشير الى أن هذه العادة اندثرت حالياً.
عمليات ترميم
بداية الحديث عن الدمار والخراب الذي لحق بهذا المسجد الأثري، تأخذنا إلى تلك الرواية التي تؤكد نجاته من الدمار الكلي على يد القوات الإسرائيلية في الحرب الأخيرة على غزة صيف العام 2014، فقد تعرض المسجد للإنذار بالتدمير والقصف كغيره من المساجد، وكان ذلك التحذير سبق التوصل لقرار بوقف إطلاق النار النهائي بساعات قليلة، ويقول إمام المسجد إن اتصالات سريعة أجريت مع المملكة الأردنية لمنع الأمر، حيث وعدت بالتدخل ووقف التهديد الإسرائيلي، خاصة في ظل ارتباط السلالة الملكية الأردنية ببني هاشم.
ورغم ذلك لم ينج هذا المسجد من الأعمال العسكرية الإسرائيلية خلال العدوان الأخير على غزة، فيذكر محمد خلة، وكيل وزارة السياحة والآثار، أن المسجد إلى جانب العديد من الأماكن التاريخية لحق به الضرر، لوقوع قصف إسرائيلي على مقربة منه.
وكانت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية افتتحت المسجد التاريخي «السيد هاشم بن عبد مناف» في أواخر شهر أيلول/سبتمبر 2009، وذلك بعد عمليات ترميم استغرقت ثلاث سنوات.
وسبق أن تعرض المسجد في عهد الاحتلال الإسرائيلي بعد عام 1967، للاعتداء ومنع سلطات الاحتلال المواطنين من الصلاة في المسجد وتلقي دروس العلم.