الشباب والمسؤولية الاجتماعية
إنَّ المسؤولية – وإن كانت ملقاة على عاتق كل فرد – فهي منوطة على الشباب بالدرجة الأولى؛ لأنهم وقود عمليات التغيير في المجتمعات، وفي اتخاذهم قرار التنحي تراجعُ الأمة وسببُ تخلّفها... ونحن عندما نقول "شخص مسؤول" نعني بذلك مسؤوليته ذات الأبعاد المختلفة المتصلة به وببيئته وبمجتمعه ثم بأمته.
ولعل الثورات التي انطلقت وامتدت لا تنفكّ عن هذا المعنى: "المسؤولية الاجتماعية"، فلن يضحّي أي من الثائرين بوقته وجهده وماله وأمنه ومستقبله وروحه لو لم يستشعر الخطر المحدق وعِظم المسؤولية في مجابهته... فقد فَهمت شريحة واسعة من أبناء هذا الجيل أنهم مسؤولون عن تغيير الأوضاع القائمة، فانطلق كل منهم يعمل وفق طاقته لتحقيق المطلوب... وما زال الباب مفتوحاً أمام الذين لم يحسموا أمرهم بعد وينطلقوا للعمل كلٍّ من موقعه لسدّ الفجوات في بناء الأمة...
ولا ينبغي لشاب أو فتاة أن يرضيا العيش بسطحية دون أن يكون لحياة كل منهما بُعداً معنوياً يعمل لأجله؛ فيشعر بالإشباع الذاتي عندما يرى إنجازاته ذات القيمة العالية تُسهم في عملية النهوض... قال الله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾.
وما أروع النماذج التي قدّمها القرآن لتكون من تجليات المسؤولية الاجتماعية...
نموذج للرجل الساعي في الخير:
قال تعالى: ﴿ وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ﴾... ولنركّز معاً على كلمة (يسعى) وما تحمله من معاني بذل هذا الرجل من جهده لإدراك قومه من الهلاك، وما تَحَمّله في سبيل ذلك من عذابات بلغت به مرتبة الشهادة بعد جهره بالحق ومجابهته الباطل: (إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ . قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)... ولنتأمل شخصية هذا المؤمن الصالح الإيجابية الفاعلة وما تتحلى به من معاني الشعور بالمسؤولية والرحمة والإشفاق وإرادة الخير للناس.
نموذج آخر يقدّم للقضية بُعداً مختلفاً... مؤمن آل فرعون:
﴿ وقالَ رجلٌ مؤمنٌ منْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أتقتلونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وقد جاءكم بالبَيِّناتِ مِن رَبِّكُم وإن يَكُ كاذباً فعليهِ كَذِبُهُ وإن يَكُ صَادقاً يُصِبْكُمْ بعضُ الَّذي يَعِدُكُم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هو مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) ﴾ متوجِّهاً بخطابه العقلاني هذا لفرعون الذي كان يصادر الآراء ويحتكر الحكم لنفسه: ﴿ ... مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾، ويتابع مستشعراً عِظم مسؤوليته في نُصرة الحق وفي هداية قومه بكل حُجّة وبرهان: ﴿ وياقومِ ما لِيَ أَدعُوكُمُ إلى النَّجاةِ وتدْعُونَنيَ إلى النَّارِ... ﴾، ويختم خطابه محذِّراً: ﴿ فستذْكُرُونَ ما أقولُ لكمْ وأُفَوِّضُ أمري إلى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ ﴾.
صورة ثالثة للمسؤولية الاجتماعية قدّمها أصحاب الكهف:
﴿ إنهم فِتيةٌ آمنوا بربّهم وزْدناهم هدى ﴾؛ حيث قادوا عملية التغيير الاجتماعي وساروا عكس التيار، وتحمّلوا العذاب من الطغمة الحاكمة بسبب دعوتهم لدين التوحيد ونبذهم الوثنية التي كان قومهم عليها.
كلها صور خلّدها القرآن لأناس بعمر الشباب قادوا حركات التغيير في مجتمعاتهم إشفاقاً على أبناء أمتهم من العذاب في الدنيا والآخرة...
هكذا المؤمن فاعل إيجابيّ ينشر الخير أنّى حلّ أو ارتحل... كما وصفه رسول الله صل الله عليه وسلم: "إن مثَل المؤمن كمثل النحلة؛ إن صاحبتَه نفعك، وإن شاورتَه نفعك، وإن جالستَه نفعك، وكل شأنه منافع" رواه البيهقي.
ولو أنّ طائفة من ركّاب السفينة لم يتحملوا مسؤوليتهم في الإنقاذ ولم يأخذوا على أيدي شركائهم فيها لغرقوا جميعاً، قال صل الله عليه وسلم: "مَثَلُ القائِمِ على حُدُودِ الله والواقِعِ فيها كمَثَلِ قومٍ استهَمُوا على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهم أعْلاها وبعضُهم أسفَلَها، فكان الذين في أسفَلِها إذا استَقَوْا من الماء، مَرُّوا على مَن فوقَهُم، فقالوا: لو أنَّنا خرَقْنا في نصيبِنا خرقًا ولم نُؤذِ مَن فوقَنا! فإنْ ترَكُوهم وما أرادوا هلَكُوا جميعًا، وإنْ أخَذُوا على أيدِيهم نجَوْا ونجَوْا جميعًا".
أيها الشباب (فتياناً وفتيات): إن سفينة المجتمع سوف تغرق إن لم تأخذوا زمام المبادرة، فقد حملتْ فوق ما تطيق من: تنحية الدين جانباً، ونبذٍ للقيم، وتخلّف، وتشرذم، وضياع، وفساد يشمل كل جوانب الحياة الفردية والاجتماعية... فالعقاب لن يطال فقط عرّابي الإفساد وإنما الذين تركوهم وما أرادوا: (واتقوا فتنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).
أيها الشاب... إنّ من أهم متطلّبات قيامك بالمسؤولية الاجتماعية تجاه أمتك:
• التعرّف على مجموعة من الأسس والمبادئ والقيم التي تُسهم في صياغة شخصيتك وصَقلها وتجعل من فاعليّتك الاجتماعية أساس نهضة الأمة.
• العيش لهدفٍ أسمى وأرقى وأبعد من حدود "الدنيا" بعد أن فَهم الهدف الحقيقي من الحياة: (وما خلقتُ الجنَّ والإنس إلا ليعبدون)، ثم العمل على تحقيقه.
• القيام بواجب الاستخلاف في الأرض وعمارتها وحُكمها وفق شرعه تعالى الذي أتاح كل الوسائل التي تعينك على تحقيق ذلك، فلا تكوننّ سائر المخلوقات أكثر انسجاماً مع مراد الله منك.
• السعي لصَقل شخصيتك وتنمية قدراتك وتوظيف اختصاصك ومهاراتك في خدمة أمتك.
• استشعار هموم المسلمين، والسعي لتقديم كل أشكال الدعم المعنوي والمادي لهم ومعايشة قضاياهم، مع استحضار حديث رسول الله صل الله عليه وسلم الذي يعتبر (مدرسة) في المسؤولية الاجتماعية: "مثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".
• العمل في إطارٍ جماعيٍّ يعينك على طاعة الله، ويتيح لك فرص العمل للدعوة لدينه، وينمّي فيك الشخصية الاجتماعية ومهارة التعامل مع الآخرين والاستفادة منهم، كما يفتح أمامك مجالات تطوير قدراتك واكتساب المزيد من الخبرات في ميادين مختلفة.
• التحلي بروح المبادرة التي تُسهم في تطوير الأعمال داخل المجتمع.
• توطين النفس على أنّ كل ما تلقاه من تعبٍ ونَصبٍ هو لله ينبغي تحمّله والصبر عليه.
هذا وإن كان الشباب معنيون بالدرجة الأولى بتحمّل مسؤولياتهم تجاه مجتمعهم وأمتهم، إلا أن كل فرد مسلم "مسؤول" بحسب موقعه من المسؤولية...
ومؤسسات المجتمع مسؤولة عن: تربية هذا الجيل على تحمل مسؤولياته، وتعزيز ثقة أفراده بأنفسهم، وغرس الشعور بالانتماء لأمتهم والاعتزاز بهويتهم الإسلامية في نفوسهم، وإيجاد فرص العمل لهم حتى لا توظَّف طاقاتهم في خدمة مشاريع مضادة للمشروع الإسلامي، والعمل على دمجهم في الأعمال الجماعية، وتدريبهم على مختلف المهارات التي تحسّن من قدراتهم ومن أدائهم وتدفعهم لتجويد أعمالهم، والتعامل معهم بعقليات منفتحة تتناسب مع متطلبات هذا العصر، وإعطائهم مساحات واسعة من حرية التعبير عن آرائهم، والأخذ منها مما لا يتناقض مع الشرع؛ فهذا ينمّي لديهم ملكة التفكير الحر المنضبط بضوابط الشرع، والقدرة على طرح وجهات نظرهم بجرأة أدبية... وكل ذلك يسير بهم وفق مخطط محكم على درب تحمل مسؤولية نهضة الأمة... يصدر حُباً وطوعاً من ذواتهم دون أن يُفرض عليهم، فيستثقلونه...
إن المسؤولية الاجتماعية عملية شاملة ومتكاملة تُسهم في تماسك بنيان المجتمع وتحقيق التوازن فيه، وتعمل على توظيف جميع طاقات ومقدّرات المجتمع بما يضمن مشاركة جميع أفراده وما يُشعرهم بقيمتهم وبمكانتهم الاجتماعية؛ فيحرص الجميع على المصلحة العامة طالما أنهم يبذلون ويقدمون لتحقيقها، وتَسرّهم رؤية نتائج جهودهم تقدماً وازدهاراً لأمتهم.