العشق بالحواس
*لؤي طه
<< الأحد، 21 يونيو / يونيه/حزيران، 2015
نظلم حواسنا حين نجردها من ماهيتها التي خُلقت من أجلها عندما نقصيها عن مدينة الحب، ونتركها خلف حدود العاطفة تعبث بها رياح المادة؛ ونلغي هويتها ونسحب منها جنسية العشق ونمنح الروح والقلب خاصية العشق المطلق؛ على اعتبار بأن الحواس تدور في فلك المحسوس المادي، وبأن الحب يحدث بتأثير الروح وما يتجلى في القلب من نبض. من يتأمل عظمة الخالق وإبداعه في نسج خيوط الإنسان سوف يجد بأن هذا الإله الكريم لم يخلق من ذرة في الإنسان إلا لدور يكمّل بها لوحة خلقه، فكل حاسة من حواسنا ما هي إلا جزء يتمم الكل الذي لا يتكامل إلا بهذا الجزء البسيط.
يُصعب على الإنسان أن يهتدي إلى عشق الله وتلمس أشكال الجمال وروعة الإبداع بلا حواس؛فالأعمى مهما بلغت درجة إحساسه بالجمال الروحي هو لن يدرك مشهد الغروب ولن تتذوق عدسة بصره ذاك اللون البرتقالي الممزوج بالأحمر المعتق بنبيذ البهاء وهو يتلاشى ببطء في حضن الغياب، ومن لا يملك حاسة السمع كيف له أن يُصغي لموسيقا الكون وهي تعزف شتى ألحان الرِقة على قيثارة ضبط الله دوزنة أوتارها بكامل العذوبة من حناجر البلابل ومن بين شفاه العنادل، وصوت شجي يرتل عذب الكلام.
الحرب وما فعلته بدولة الإنسان، وما أحدثته بعواصم الحب، شوهت أطراف الحواس وأحرقت مشاهد الجمال وبات كل شيءٍ من حولنا سحابة دخان أسود، كل منا يهرب بحواسه من بصر وسمع وشم بعيداً عن شاشات التلفزة ونشرات الأخبار؛ لينقذ آخر ما تبقى له من احاسيس جميلة بهذه الحياة. فصار يتوهم ويوهم عقله بأن الحب والسلام هما يحدثان في الداخل لأن العالم الخارجي ليس فيه ما يشجع للنظر ولا يدفع حاسة السمع أن تُصغي لمعزوفات البنادق ومقطوعات الموت الطويلة.
الحواس الخمس هي أدوات مهمة لصنع الحب ورسم خطوط الجمال، لكل إصبع من اصابعنا وظيفة مشبعة بالأحاسيس؛ إذ بإمكانها أن تضع لمسة الحنان وتمسد بالدفء على جسد متعب ومثقل بالهموم، لكن هذا الأصبع يصبح موجعاً وقاتلاً حين يضغط على زناد بندقية ليقتل وينهي حياة إنسان بريء. العين خُلقت لتنظر وتتمتع بمنظر الكون وهو يصحو يتمطى كأنثى تقوم من مخدعها تفتح نافذتها ترفع ستائرها تغتسل بالنور، لكن تلك العين التي ترى وتتأثر بجمال الوجود قد تتحول إلى عين قناص يرصد أنفاس إنسان لا حول ولا قوة له ولا ذنب له إلا أنه يعشق الحياة؛ فيجعل من قوة بصره وحاسة النظر وسيلة قتل ماهرة وماكرة تقتل ببرود دون أن يرف لها رمش.
خلقت الورود وكثير من الأوراق التي تفوح بالعطر الباذخ كلها لخدمة حاسة الشم لتتذوق طعم الحياة الرقيق من خلال هذا العطر المريح للإنسان. لكن عندما يعتقل الياسمين ويسجن عطره وراء قضبان الخوف والقتل ليحل محله رائحة البارود ورائحة الموتى حينها تصبح حاسة الشم لعنة تصيب الإنسان يود لو أنه يفقدها نهائياً هرباً من أن يشم رائحة وطن يحترق تتسرب من زجاج نافذته.
مسامات الكون وما نسجته أصابع الله من أثواب مطرزة بألوان الحياة المشرقة كلها جاءت لتتنعم بها حاسة اللمس، لكنها اليوم لا تتلمس إلا أجساد الأحبة وهي في وداعها الأخير؛ فبات كل من به نعمة اللمس يضم كفه ويجعلها خلف ظهره خشية من أن تلمس جسد حبيب أو صديقا يلبس لون الدم.
نعشق بالروح نعم، وندلل قلوبنا بالحب دون حاجة للحواس الخمس نعم، لكن الحب وأي شعور آخر لا يكتملان ما لم تكن حواسنا بكامل العافية لتقوم بدورها في صياغة أشكال أجمل وأعمق للحياة.
حين نوظف حواسنا في صناعة الموت وهدم أبنية الحب الشاهقة؛ فإننا بهذا ننكر عشقنا لله ونكفر بما أبدعته يده الكريمة من أنواع الجمال. بدل أن نحتضن أوطاننا بحواسنا ذهبنا وأحرقناها بكل حواسنا؛ فعطلنا حواسنا عن الاستمتاع بالوطن.
لو أننا نعتني بما وهبنا الله من حواس وتكون أداة خلق وبناء لعالم أجمل نغزل بها سجادة عشق يجلس عليها الوطن لنجلس في حضنه نطوقه بالحب ويطوقنا بالاحتواء حينها يكون العشق بالحواس كما هو العشق بالروح والاحساس.