فبراير 9, 2009 – 2:16 ص
تحاول السطور التالية دحض صحة الاعتماد على ثنائية “المنسف والملوخية” كأساس لواحد من أهم الانقسامات الثقافية في المجتمع الأردني. أو قل إنها – أي هذه السطور- ستحاول إثبات ضحالة محتوى هذه الثنائية الشهيرة، وذلك بتتبع سريع لتاريخ طرفيها أي تاريخ كل من المنسف والملوخية.
يتعين أولاً الإشارة إلى دقة المهمة التي نحن بصددها هنا، فهي ليست نفي الانقسام على العموم، بل فقط نفي صحة وجدوى الاعتماد على المنسف، والملوخية كأساس لهذا الانقسام، وذلك دون الخوض في أفضلية أي منهما على الآخر لا على المستوى الغذائي ولا على المستوى الثقافي.
فتش عن الجميد
يعتبر الجميد العنصر المحدد الرئيسي للمنسف والمميز له عن باقي الوجبات، وكلمة “المميز” هنا لا تعني “الأهم”، لأن كثيرين سيجادلون وعن حق بأن اللحم يتفوق في الأهمية على ما سواه من مكونات المنسف بما فيها الجميد، لكن المقصود هنا أن غياب الجميد ينفي وجود المنسف من أساسه، فلا يمكن اعتبار اللحم مع الرز او البرغل منسفاً، أي لا يمكن أن نسمي هذا المزيج منسفاً حتى لو أضفنا عبارة “بلا جميد”، لأنه ببساطة لا وجود لمنسف بلا جميد. بينما يمكننا بوجود الجميد مع الرز أو البرغل الحديث عن “منسف بلا لحم”، بل إن محلول الجميد وحده بعد طبخه يمكن أن نسميه “شوربة منسف”. ولعل هذه الميزة، أو دور الجميد الخاص، هي التي مكنت الناس بعدئذ من تطوير المنسف “على جاج”، وهو التطوير الذي أثار في مرحلة لاحقة احتجاجاً اتخذ صيغة تقول: “منسف عجاج ما بنفع أردنية” بحسب مقطع الأغنية التي أصبحت شهيرة مؤخراً.
على هذا، فإن الإلمام بتاريخ المنسف يمكن أن يتم عن طريق تتبع مسار الجميد. وبالتدقيق في تاريخ بلاد الشام من زاوية لبنية/ جميدية، يتبين لنا أن الجميد عُرف في أكثر من منطقة، وعموما فهو معروف في مناطق البادية تحديداً، ثم أنه كعنصر ثقافي كان ينتشر بحسب طبيعة الصلات الاجتماعية والاقتصادية التي سادت في الماضي غير البعيد،عندما كانت المنطقة تنقسم بشكل أفقي وليس عمودياً كما هو الحال في المراحل اللاحقة، وهو ما يعني أن جزءا لا يستهان به من أنصار الملوخية تمكنوا من التعرف على الجميد وعلى المنسف أيضاً، في زمن يسبق بكثير نشوء تلك الثنائية مدار البحث.
خضراء “أم ريالة”
أما نقاش مسألة الملوخية فيتطلب مدخلاً آخر، باعتبارها وجبة أحادية العنصر وهو نبات الملوخية تحديداً. فصحيح أنها لم تكن معروفة هنا قبل قدوم أنصارها، وأن هؤلاء هم الذين نقلوها الى أنصار المنسف، لكن الدكتور عادل يحيى، الباحث الفلسطيني المختص بالتاريخ الشفوي،في كتابه “اللاجئون الفلسطينيون: تاريخ شفوي” أورد حقيقة من شأنها أن تنفي صحة الاعتماد على الملوخية كعنصر تفوق ثقافي، فقد أشار الى أن اللاجئين من منطقة الساحل الفلسطيني عندما قدموا الى مناطق الضفة الغربية التي كانت تسمى عندهم “منطقة الجبل”، عابوا أول الأمر على سكانها باعتبارهم “يا دوب كانوا يعرفوا الملوخية”،وأن أهل الساحل هم الذين عرّفوا أهل الجبل على باقي الأشياء وطوروا خبراتهم بالدنيا. استنادا الى ذلك يمكن وضع فرضية مفادها أنه لا يجوز لعنصر اعتبر في وقت من الأوقات مؤشرا على نقص ثقافي عند جماعة معينة، أن يستخدم في مرحلة لاحقة باعتباره عنصر تفوق ثقافي عند الجماعة نفسها.
فضلاً عن أن أنصار المنسف في حالتنا لم يقبلوا الملوخية بهذه الصفة كما سيأتي تفسيره لاحقاً.
أكثر من وجبة
على العموم، يمكن ملاحظة أن ثنائية “المنسف والملوخية” لم تكن شأنا ثابتاً أو دائماً في العلاقة بين أنصار كل منهما. زمن الالتقاء الجماهيري الأول بعد اللجوء، يثبت أنه لا أنصار المنسف ولا أنصار الملوخية استخدموهما في الدفاع الثقافي الذاتي. ففي بداية زمن الالتقاء ذاك، لم يكن ممكناً للمنسف أو الملوخية أن يتصدرا اهتمامات أنصارهما الثقافية أو السياسية، فقد كانا ينظران معاً وبانشغال شديد الى عدو واحد أجبر أنصار الملوخية على نقل زراعتها الى مكان آخر غير مكانها الطبيعي حيث يجوز الاعتزاز بها، مثلما أفرغ هذا العدو المنسفَ من لذته الخاصة عند أنصاره، وهي لذة مسنودة الى اعتبار أن المنسف ليس مجرد وجبة،بل هو شبكة كبيرة معقدة من العلاقات والمعاني والدلالات التي تتأثر في حالة الشعور بالهزيمة، وهو شعور شمل آنذاك وما زال، طرفي معادلة المنسف والملوخية.
في ذلك الزمن لم يكن يُنظَر الى اللجوء باعتباره عيباً يتطلب إشهار سلاح الملوخية بغية الرد عليه، كما لم يكن ينظر الى استقبال اللاجئين باعتباره كرماً سياسياً يتطلب تعزيزه بالمنسف.
لكن العلاقة بين المنسف والملوخية شهدت المزيد من التعقيد، فأنصار المنسف لم يعترفوا بأية صورة من الصور بالملوخية كعنصر تفوق، بل إن أوساطاً واسعة منهم أطلقت عليها تسميات مليئة بالدلالات السلبية مثل “ام ريالة” بعد أن حددوا موقفاً واضحاً وحاسماً من لزوجتها، وهو موقف كان في بدايته غذائيا بحتاً ولم يُحمّل بالدلالات الثقافية، إلا في مرحلة لاحقة.
ما بعد المنسف والملوخية
مع هذا فإن الملوخية أصبحت كثيفة الحضور عند أنصار المنسف بعد أن تحولت الى وجبة شعبية عابرة للأصول والمنابت، وأبسط دليل على ذلك الانتشار الجماهيري الواسع لجلسات تقطيع وفرم وتفريز الملوخية. (تنويه: ان التماس المباشر لكاتب هذه السطور باعتباره نسيباً لأنصار الملوخية، كشف له أن الجلسات الخاصة بالتقطيع والفرم والتفريز أقل إتقانا عند “مُحْدثي الملوخية” مقارنة بـ”أصيلي الملوخية”، مع انه أي كاتب هذه السطور له موقف تاريخي رافض لها، وربما كانت هي الوجبة الوحيدة التي لا يأكلها مطلقاً وذلك في موقف غذائي أصيل، خال من أية أبعاد ثقافية كما أنه سابق لوقوع حادثة النسب مع أنصارها).
المنسف بدوره اتخذ مسارا عابرا للانتماءات، وهو الآن ينقسم من حيث الإتقان على أسس لا علاقة لها بوجود الملوخية أو عدمها في لحظة القياس، وذلك رغم ما يقال أحياناً عن أن أنصار الملوخية “يعملون عزيمة على منسف وعينهم على الملوخية”، وهي عبارة تعتبر من آخر تجليات الدفاع عن تلك الثنائية العتيدة.
أخلص هنا الى تقديم الأطروحة التالية: إن استخدام المنسف والملوخية كأساس للانقسام الثقافي،مرده الى محاولة الطرفين تجاوز القضايا الكبرى التي واجهتهما، وبخاصة في العلاقة مع العدو المشار اليه أعلاه، وهذا السلوك هو صنف معروف من التمويه تجريه الشعوب لتلافي مآزقها الكبرى.
مثل هذه الخلاصة من شأنها إذا قُبلت، أن تشكل تبرئة لكل من المنسف والملوخية مما لحق بهما من تشويه على يد أنصارهما اللذَيْن كانا على هذا الصعيد أشبه بـ”طنجرة ضغط” وغطاها. نقول طنجرة ضغط لا مجرد طنجرة عادية، لأنه في هذه الأخيرة تختلف أهمية الطنجرة عن الغطاء، بينما في طنجرة الضغط يتساوى الطرفان في الأهمية أو ربما قلة الأهمية عند لحظة القياس
. السجل