الحج.. ترسيخ للتوحيد وتمتين للأمة
أسامة شحادة
ها نحن على أعتاب موسم الحج، ركن الإسلام الخامس، والذي تهوى إليه أفئدة ملايين المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات من كافة بقاع العالم استجابة لنداء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام: "وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كلّ فج عميق" (الحج: 27)، هذا النداء قام به إبراهيم في الصحراء وتعهّد له ربه سبحانه وتعالى بإبلاغه للعالمين، وصدق الله تعالى، فها هم البشر من مختلف اللغات والألوان والأقاليم يتسابقون زرافات ووحدانا ليحجوا إلى بيت الله سبحانه وتعالى.
وهذه الاستجابة لنداء إبراهيم في الصحراء هي من دلائل صحة وسلامة الإيمان بالله عز وجل لمن كان له عقل وقلب يبحث عن الحق والحقيقة، ففي عالم اليوم الذي طغت فيه المادية المفرطة على كثير من العقول والقلوب حتى تكاد لا تصدق بشيء من عالم الغيب، برغم أن زيادة العلم المادي لم تثبت إلا تأكيد وجود عالم الغيب! ويكفي للدلالة على ذلك أن مفهوم ومعنى الحياة لم يفهما بعد برغم كل هذه الاكتشافات المادية! فالحياة التي نحيا بها ما هي؟ من أين تأتي؟ أين تذهب؟ لماذا؟ وكيف؟ كلها أسئلة يعجز علم المادة عنها، ولا جواب لها إلا في عالم الغيب والإيمان به.
في صحراء جرداء ترك إبراهيم الخليل عليه السلام زوجته وطفله الرضيع استجابة لأمر الله عز وجل، وخلافاً للمادية الجوفاء فلم يُقضَ على الأم ورضيعها، ولكن الرحيم الرحمن الذي لا يضيع من آمن به وتوكل عليه أرسل لها جبريل عليه السلام، فضرب الأرض تحت أقدام رضيعها فنبع لها ماء زمزم الذي أحياها وأحيا الأرض من حولها، وجر لها من يطلب جوارها والسكن حولها، ولا زالت زمزم تنبع وتفيض على أهل مكة وزائريها وتحمل معهم لأهليهم في بلادهم البعيدة، كما أن التوحيد والإسلام ما يزالان يشعّان من مكة لهداية البشرية للحق والسعادة في الدنيا والآخرة.
أمر الله عز وجل خليله إبراهيم ببناء بيت له في تلك الصحراء الجرداء بعد أن كبر ابنه وشب، فقال تعالى: "وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والعاكفين والرّكّع السجود" (الحج: 36)، فعلى التوحيد بُني بيت الله، وعلى التوحيد يُحج لبيت الله عز وجل، ولذلك كانت التلبية في الحج ترسيخاً للتوحيد ونبذا للشرك والوثنية: لبّيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، لا شريك لك لبّيك.
وتوحيد الله عز وجل هو اعتقاد تفرد الله عز وجل بالخلق والرزق والملك والحكم والأسماء الحسنى والصفات العلى، ولذلك في الحج تسقط كل الآلهة الزائفة والوسائط المزعومة، فلا ولي ولا نبي ولا ملك يُدعى في الحج، كما قد يفعل بعض الجهال في بلادهم من الاستغاثة والتوسل والطواف والدعاء لوليٍّ أو قبر نبيٍّ أو شجرة أو مقام، فهذا كله من الشرك الذي يهدمه الحج بترسيخ التلبية لله عز وجل وحده، وبالطواف لله عز وجل وحده، وبالدعاء لله عز وجل وحده، والذبح والأضحية لله عز وجل وحده.
والتوحيد ونبذ الشرك هو أصل الدين الذي أمر الله عز وجل به كل أمم البشر "ولكلّ أمةٍ جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزَقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فلَهُ أسلِموا وبشّر المُخبِتين" (الحج: 34)، وقال تعالى : "وأتمّوا الحج والعمرة لله" (البقرة: 196)، فبالتوحيد تقوم الوحدة الإنسانية على عبادة إله واحد واتّباع شريعة واحدة ومساواة بين الشعوب والأمم ومعيار واحد للحق والباطل.
ولما كان التوحيد هو الأصل الذي متى خرم انهدم ما معه من أعمال عظيمة حتى لو كانت خدمة الحجيج، قال تعالى مبكتا لكفار قريش: "أجعلْتم سِقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين" (التوبة: 19)، فالتوحيد والإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر هي الأصل الذي يجب على كل مسلم الحرص على تمامه وكماله في قلبه وعقله وعمله حتى ينال رضى الله وثوابه.
واليوم للأسف خُرمت سلامة وكمال التوحيد عند بعض المسلمين، إما بجهلهم بحقيقة التوحيد وأن الله عز وجل هو الخالق المدبر الحكيم المتصرف والحاكم لهذا الكون وافتتانهم بالمادية المنفلتة وشبهات الملحدين.
أو بجهلهم بمعنى التوحيد الحقيقي الذي هو عبادة الله وحده "قل إن صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أُمرْتُ وأنا أول المسلمين" (الأنعام: 162-163)، فبعضهم يلجأ للمشعوذين والدجالين والقبور لعلاج الأمراض أو تحصيل الحاجات، وهذا شرك صريح باعتقاد أن غير الله عز وجل ينفع ويضر ويعلم الغيب، وتكون المصيبة أكبر والطامة أضخم حين يفعل ذلك بعض المتعلمين والمثقفين!
ومن المظاهر العصرية للشرك بالله عز وجل عودة اللجوء والاهتمام بكذب المنجمين والعرافين والسحرة وانتشار الخرزة الزرقاء والحجب والتمائم بين الساسة وخريجي الجامعات، في مؤشر على مدى شيوع الأميّة الدينية في أصل الدين والتوحيد في هذه الشريحة.
ومن مظاهر الشرك العصرية الإعراض عن شرع الله عز وجل وتفضيل أهواء البشر المتناقضة والمتعارضة، والتي نَشرت الفوضى والظلم في العالم.
ومن مظاهر الشرك العصرية كذلك محبة غير الله عز وجل واتّباع أمره أو عادته وتقديمها على أمر الله عز وجل من لاعب مشهور أو مطرب فاجر أو رمز معادٍ لله ورسوله.
فهذا الشرك يهدمه الحج ويبطله بإعلاء أمر الله عز وجل، فالحاج الموفّق هو من يفهم مقاصد الحج بترسيخ التوحيد في قلبه وعمله، فيغادر دنياه وملذاته لبيت الله المعظم، هذا البيت الذي هو متواضع وبسيط، فهو بناء مكعب لا زينة فيه وتعقيد لأن عظمته وتشريفه ليست من نفسه وزخرفته وعظم بنائه ودقة هندسته، بل عظمة هذا البيت ممّن أمر ببنائه وطلب زيارته والطواف به، وهو الله رب العالمين.
فالقلب الواعي يدرك أنه يأتي لهذا البيت انقيادا ومحبة لله عز وجل الذي أمر بذلك، وهذا أول التوحيد، ثم ينقاد ويطيع بمحبة ورغبة بالطواف به والتلبية بالتوحيد حتى تتسرب إلى أعماق نفسه وعقله وتتشرب روحه حلاوة الإيمان وعظمة التوحيد ولذة العبادة وينبذ عقله رجس الشرك وعفن الوثنية.
والقلب الحي واليقظ ينتبه لغاية جلوسه في منى وعرفة ومزدلفة بالتحرر من مشاغل الدنيا ومصارفها لعبادة الله عز وجل وذكره ودعائه وتذكر خاتمة الدنيا ويوم الحشر وزوال الرتب والمراتب ومساواة البشر ببعضهم، وأن الرفعة الحقيقية هي بتحقيق التوحيد علماً وعملاً بطاعة الله عز وجل في كل وقت وحين.
ومن رحمة الله عز وجل بعباده المؤمنين أن جعل أيام العشر الأوائل من ذي الحجة من مواسم الطاعات لمن لم يتشرف بالحج، فيمكنهم بالذكر والصيام والصدقة والصلاة وعمل الخير والبر أن ينالوا من رحمة الله وفضله ما لا يُنال في غير هذه الأيام، وذلك ليتقرر في قلب كل مؤمن ومؤمنة عظمة التوحيد والطاعة المخلصة لله عز وجل.
وإن من عظمة الحج وترسيخه للتوحيد في القلوب الطاهرة أن ذلك ينعكس على حالة الأمة المسلمة، حيث يكون للحج ومشاعر اجتماع المسلمين وتعاطفهم وتراحمهم وتعارفهم أثر كبير على تمتين روابطهم وقوتهم ومستقبلهم، خاصة مع فيض بركة التوحيد على قلوبهم وأعمالهم وأبدانهم.
لقد أدرك دورَ الحج أعداءُ الإسلام فحاولوا منع المسلمين منه، ولنستمع لشهادة المستشرق توماس أرنولد عن محاولة الاحتلال الهولندي منع مسلمي أندونيسيا من الحج في كتابه المشهور "الدعوة إلى الإسلام بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية"، فيقول:
"حاولت الحكومة الهولندية حتى منتصف القرن التاسع عشر أن تضع العراقيل في سبيل الحجاج، فأصدرت أمراً بأنه لا يجوز لأحد أن يؤدى فريضة الحج إلى المدينة المقدسة إلا إذا حصل على جواز سفر، وكان لا بد أن يدفع للحصول عليه 110 فلورين. وكل من يخالف هذا الأمر يلزم عند عودته بأن يدفع غرامة تساوي ضعفي هذا المبلغ، ومن ثم لا عجب أن نجد عدد الحجاج في سنة 1852 ينخفض".
والسبب الذي حدا بهم لذلك لِما للحج من آثار تقلق المحتل والغازي الذي جاء ليسرق خيرات بلادهم ويستعبدهم لمصالحه الخاصة، وينقل أرنولد عن أحد المبشرين المسيحيين أن: "الحجاج الذين نما عددهم بسرعة فائقة.. يوجد بينهم كثير من هؤلاء أكثر إلماما وأشمل معرفة بمبادئ الإسلام، وأشد تشربا بالتعصب الإسلامي وكراهية الكفار منهم قبل أن يؤدوا فريضة الحج"، فهو يهتم بالحفاظ على استقرار المحتلّين المعتدين ومنزعج من دور الحج في توعية المسلمين بحقوقهم وتوحيدهم ومصالحهم، فالهولنديون الذين جاؤوا من خلف البحار لنهب الخيرات منزعجون من كره الأندونيسيين لهم! بينما نهْب وسرقة واستعباد وقتل واضطهاد الهولنديين للأندونيسيين لا قيمة له، وهذا المنطق العلماني الظالم والجائر هو الذي ما يزال سائدا لليوم عند المحتلين من اليهود في فلسطين، أو الروس والأميركان في سورية والعراق!
إن فريضة الحج فريضة عظيمة بما تحتويه من معانٍ ومقاصد جليلة ترسخ في القلوب توحيد الله ذي الجلال، وبما تطلقه في الأمة من طاقة إيمانية إيجابية تسعى لنشر الهداية والسعادة والعدل في أرجاء العالم بالعلم الصحيح والعمل النافع المفيد وبالتعارف والتعاون بين مختلف أطياف البشرية لتكون منصة النجاة لهذه البشرية المعذبة تحت كوارث الشرك والوثنية والإلحاد.