فهم التخلف لتحقيق النهضة
يقدم د.إبراهيم بدران في كتابه الصادر مؤخرا "النهضة وصراع البقاء: من مأزق التخلف إلى آفاق التقدم" مفاهيم ومعايير عملية للتخلف تصلح أساسا للتفكير في برامج التنمية والإصلاح. فقد تعرضت الدول العربية إلى سلسلة من العمليات والأحداث شكلت خطوات تراجعية إلى الوراء، ساعدت على تفاقم أزمة التخلف. وقد تمثل ذلك في عدة ظواهر منها: خلخلة في الأنظمة السياسية - بسبب عدم تكوين رؤية واضحة أو علمية لإدارة الدول الحديثة، وبسبب حركات مدفوعة من الخارج لإعادة السيطرة الاستعمارية بأدوات جديدة-، تعمق الانزلاق التدريجي المطرد نحو الاعتماد على الخارج، وعدم الاعتراف بمبدأ تداول السلطة.
التخلف مصطلح يعبر عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإنسانية للمجتمعات ساد بعد الحرب العالمية الثانية، وله مفردات محددة قابلة للقياس بالأرقام للمقارنة بين الدول، كما تطور مؤشر عام للتخلف لما يسمى بالتنمية البشرية، وقد حدد كثير من الباحثين مؤشرات التخلف أهمها:
تدني الإنتاج السلعي والخدمي والمعرفي.
اقتصاد يقوم على أنماط إنتاج مركبة وبدائية، بسبب ضعف القاعدة العلمية والتكنولوجية وغياب البحث العلمي.
تفتقد إلى المؤسسية، ومؤسساتها هزيلة وتفتقر إلى آليات العمل المتطورة، وتخضع لرغبة السلطة الحاكمة.
ضعف العلم والتكنولوجيا.
غياب الديمقراطية في الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وانتهاك حقوق الإنسان.
سوء الحاكمية، وعدم سيادة القانون. (الفساد المالي والإداري).
وتعاني جميع الأقطار العربية من التخلف بدرجات متفاوتة، يجب أن ينظر إليها بقلق شديد. فالدول العربية تعتمد على الدعم الأجنبي، وغير قادرة على مواجهة التحديات التي تفرضها طبيعة المرحلة والموقع أو أطماع القوى الأخرى في السيطرة عليها، أو التحكم في مصيرها ومستقبلها.
هناك نظريات مختلفة ومتضاربة، بسبب تعقيد الظاهرة واختلاف ظروفها، ويمكن تقسيم النظريات التي تحاول تفسير ظاهرة التخلف إلى أربع مجموعات:
مجموعة نهب الثروات: إرجاع التخلف إلى أسباب تاريخية أساسها النهب الاقتصادي الذي عانت منه المجتمعات المتخلفة، نتيجة الاستعمار الأوروبي منذ القرن الخامس عشر، ويركز الباحثون في هذه النظريات على التطور التاريخي للرأسمالية الغربية.
مجموعة الحلقة المفرغة: إن المجتمعات المتخلفة تدور في حلقة مفرغة اقتصادية واجتماعية وسياسية، وتبقى فقيرة بسبب زيادة الاستهلاك على الإنتاج. وتركز هذه النظرية على ديناميكية التخلف وليس على كيفية نشوئه.
مجموعة النمو المتوازن: تشبه المجموعة الثانية؛ إذ ترجع حالة التخلف إلى نشوء نوع من الركود بسبب توازن العناصر الاقتصادية والاجتماعية، فقصور التركيبة الاقتصادية- الاجتماعية يجعلها غير قادرة على تخطي ذاتها.
المجموعة الرابعة: الحتمية الجغرافية: تعطي أهمية كبيرة للموقع الجغرافي الذي يعيش فيه المجتمع ويعبر عن ذاته وإمكاناته، فالمجتمعات المتخلفة في الجنوب والمتقدمة في الشمال، وهذه النظرية غير كافية فهي تقوم على الحتمية، وتصادر المستقبل، وتم الترويج لها خلال الاستعمار.
وقد ظهرت نظرية البيئة التاريخية للتغلب على نقاط الضعف التي تضمنتها النظريات السابقة التي تأخذ الجانب البيئي باعتباره جزءا أساسيا من حركة التاريخ الإنساني، والبعد البيئي بمعناه العام الجغرافي والمناخي الطبوغرافي، وكل معطيات البيئة من مياه وتربة وموارد طبيعية. فالمفهوم الجبري الذي توحي به الحتمية الجغرافية تنفيه هذه النظرية كجبرية ميكانيكية، ليتحول إلى حركة تاريخية يمكن التحكم بمعطياتها، فتكون البيئة هي الوسط الذي يتفاعل فيه التاريخي المادي والاجتماعي والعقلي والروحي للإنسان. والاهتمام بالعامل البيئي يعود الى أمور عملية واقعية، فقد استطاعت دول الخليج التغلب على معوقات البيئة واستفادت من التقدم العلمي والتكنولوجي في تغيير البيئة وتطويعها.
القضية الأساسية في فهم التخلف والتقدم والتعامل معهما أنهما شبكة متفاعلة من الظروف والتداعيات، والمشكلة في الإصلاح أنه منظومة تحتاج إلى تركيب ومتابعة، فلا يكفي الإصلاح السياسي مثلا أو التعليمي أو الاقتصادي بمعزل عن الأهداف العامة للإصلاح التي يحب تحقيقها، فقد يحدث بالفعل إصلاح سياسي وحكم ديمقراطي أو تقدم تعليمي ولكن التقدم قد لا يتحقق بالضرورة.