| أزمة العرب ومعنى التخلف | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: أزمة العرب ومعنى التخلف الأحد 30 أغسطس 2015, 8:41 am | |
| لا أدري متى كانت اللحظة التي اكتشفت فيها حال أمتنا العربية الاسلامية المتردي؛ 1948؟ 1956؟ 1967؟ 1973؟ أو 1981؟ حين وافق العرب، من خلال مبادرة فاس، على تقسيم فلسطين، الأمر الذي ترفضه إسرائيل حتى اليوم؛ أم كان ذلك في العام 2003 وتدمير العراق؟ أم التدمير الجسدي والنفسي الذي صاحب وتلا فترة ما يسمى "الربيع العربي"، والجاري حتى هذه اللحظة، بحيث ينزف الدم العربي في فلسطين وليبيا والعراق وسورية واليمن، وقد تم تقسيم هذه البلاد، ووصلت الفتنة إلى مصر. كما تقسم السودان، فيما لبنان من دون رئيس، ومنطقة الخليج العربي مهددة. وتعلم القيادات العربية السياسية والفكرية أن ما يجري من تفتيت وشرذمة للدول العربية، وعملية الانهاك والمشاغلة المستمرة، كلها أمور مخطط لها. نسميها نحن مؤامرات، بينما هي في واقع الحال مخططات مدروسة بدقة من قبل إسرائيل وآخرين معها، تهدف إلى تحقيق مصالحهم. ونسمع بين لحظة وأخرى أحدهم من فلسطين أو العراق أو حتى مصر، يصرخ: وأين العرب؟ والسؤال حقاً وارد: أين هم العرب الذين يبدون وكأنهم انقلبوا إلى أعراب لا رابط بينهم سوى أحقاد قبلية دفينة، بعضها عنصري وآخر ديني وآخر اقتصادي.. لكن جميعها أناني. أين هم العرب يسأل أهل فلسطين والصومال والسودان وغيرهم من الشعوب العربية، وكيف وصلت الحال بنا إلى ما نحن فيه؟ وكيف عادت الجيوش الغربية إلى بلداننا، وبدعوة من بعضنا أحياناً؟ وكيف أصبحت إسرائيل الدولة المهيمنة في المنطقة تتفاوض مع غيرنا علينا، وكأن لا وجود لنا؛ لا عسكرياً ولا سياسياً ولا حتى اقتصادياً، بحيث أن أموال العرب المكدسة في بنوك الغرب أصبحت تستعمل سلاحاً ضدنا؟ طبعاً، للاستعمار، قديمه وحديثه، مصلحة في ما يحل بنا. وطبعاً، لإسرائيل، وحتى دول الجوار؛ تركيا وإيران والدولة الكردية التي برزت حديثاً، مصلحة فيما يجري كذلك. لكن يبقى السؤال قائماً: أين نحن من كل هذا؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تجول في خاطري منذ زمن بعيد. وكنت أطرحها على نفسي وعلى زملائي في الجامعة وطلبتي، فنتفاكر ونتذاكر، إنما من دون التوصل إلى نتيجة ولو شبه معقولة. وأذهب بذاكرتي وذاكرة التاريخ لأتساءل: وما الذي حدث في عالم الغرب ولم يحدث عندنا، حتى أصبحوا اليوم على ما هم عليه، وأصبحنا نحن على ما نحن فيه من حيرة وتخبط وهزال؛ نستهلك ونأكل ما لا ننتج، وبحيث أصبحت أرضنا وأجواؤنا وأنهارنا وبحورنا، وحتى أرواحنا مستباحة؟ حتى لحظة نهاية العصور الوسطى؛ ربما في القرن الخامس عشر أو السادس عشر، كنا وعالم الغرب على مستوى واحد تقريباً؛ ليس حضارياً فحسب، بل وتكنولوجياً وعسكرياً وغير ذلك. فما الذي حصل عندهم ولم يحصل عندنا، وكيف؟ وهل من مخرج لنا من الحال التي نحن فيها؟ جميع هذه الأسئلة والأفكار وغيرها، جعلتني أمعن التفكير، لا في سمات وصفات ومعاني التقدم، وإنما للبحث في المعنى أو المعاني الحقيقية للتخلف. إذ أعتقد أن اكتشافنا لسبب أو أسباب التخلف، قد يساعدني في التركيز على دراستها والتحوط ضدها. هناك أسباب عديدة للتركيز على مقارنة أنفسنا بعالم الغرب؛ أوروبا وبناتها الأميركتين وأستراليا. فأوروبا التي تقع على الشواطئ الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، لها منذ فجر التاريخ، وبالذات منذ لحظة ظهور الإسلام، مخططات وآراء ومصالح عسكرية وجغرافية وسياسية واقتصادية ودينية وفكرية في منطقة جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط، تعمل من أجلها. ويقول رئيس وزراء ألمانيا الأسبق أوتو فون بسمارك، إن الجغرافيا هي أهم عامل من عوامل السياسة. الأمر الذي يضيف إليه الفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو طاليس أن السياسة ملكة العلوم، لأنها علم الملوك؛ أي علم الدولة التي تضع جميع قواعد حياة مجتمعها؛ اجتماعياً واقتصادياً وغير ذلك، إذ إن كل قرار في الشأن العام هو قرار سياسي في نهاية الأمر. صحيح أن لدينا اهتماما وتقديرا للحضارات الأخرى؛ الأفريقية والآسيوية، ولإنتاجها الفكري والحضاري، لكن لا حضارة على وجه الأرض، لا تاريخياً ولا اليوم، تنافسنا وتحاورنا وتتفاعل معنا، وأحياناً تحاربنا وتقاتلنا، كحضارة الغرب؛ فهي بالإضافة إلى كل شيء، كانت وما تزال وستبقى على مدى المستقبل، الجارة التي طالما كانت دوماً مصدر الخطر علينا. فجدلية التاريخ والجغرافيا والتفاعل الحضاري، تحتم علينا دوماً أن نتحسب لها، وأن نُعمل الفكر في طبيعة وكيفية ونوعية العلاقة معها. منذ بداية التاريخ وجدلية علاقتنا بالغرب كانت هاجس الحاكم الشرقي؛ عربياً أم إيرانياً أم تركياً، تماماً كما هي اليوم. وأحسب أنها ستبقى كذلك على مدى المستقبل. وما النفوذ الصهيوني/ الإسرائيلي منذ بداية عصرنا الحديث، إلا فصل آخر من فصول هذه العلاقة والصراع المتجدد مع الغرب. والسؤال يبقى مطروحاً، ألا وهو: ما الذي حصل في عالم الغرب في أعقاب العصور المظلمة لديهم، بحيث انطلقوا منذ تلك اللحظة إلى ما هم عليه اليوم؛ لكنه لم يحصل عندنا؟ فالغرب اليوم هو الذي يضع القوانين، ويوزع الثروات والأدوار، ويفرض العقوبات، ويعطي ويمنع ويحاصر متى شاء. وهو الذي ما يزال مسيطراً على وسائل النقل والاتصالات الحديثة، وآلات الحرب التي تخطت أبعاد الكرة الأرضية إلى الفضاء الخارجي وحرب النجوم. كيف ولماذا حصل هذا؟ وما هو معنى التقدم؟ وفي المقابل، ما هو المعنى أو المعاني الحقيقية للتخلف، حتى وصلت بنا الحال إلى ما نحن فيه، حتى يكاد المرء يقول إننا نختفي يوما بعد آخر من الخريطة السياسية الدولية والإقليمية، فلا حول لنا لنحمي أرضنا وعرضنا وسماءنا ومياهنا من تسلط الآخرين. هذا ما ستركز عليه هذه الدراسة؛ لا بهدف جلد الذات، وإنما بهدف البحث عن الوسائل التي قد تعيد لنا الثقة بالنفس، والتطلع نحو المستقبل والأمل فيه.
*وزير سابق أ. د. كامل صالح أبو جابر
لا أدري متى كانت اللحظة التي اكتشفت فيها حال أمتنا العربية الاسلامية المتردي؛ 1948؟ 1956؟ 1967؟ 1973؟ أو 1981؟ حين وافق العرب، من خلال مبادرة فاس، على تقسيم فلسطين، الأمر الذي ترفضه إسرائيل حتى اليوم؛ أم كان ذلك في العام 2003 وتدمير العراق؟ أم التدمير الجسدي والنفسي الذي صاحب وتلا فترة ما يسمى "الربيع العربي"، والجاري حتى هذه اللحظة، بحيث ينزف الدم العربي في فلسطين وليبيا والعراق وسورية واليمن، وقد تم تقسيم هذه البلاد، ووصلت الفتنة إلى مصر. كما تقسم السودان، فيما لبنان من دون رئيس، ومنطقة الخليج العربي مهددة. وتعلم القيادات العربية السياسية والفكرية أن ما يجري من تفتيت وشرذمة للدول العربية، وعملية الانهاك والمشاغلة المستمرة، كلها أمور مخطط لها. نسميها نحن مؤامرات، بينما هي في واقع الحال مخططات مدروسة بدقة من قبل إسرائيل وآخرين معها، تهدف إلى تحقيق مصالحهم. ونسمع بين لحظة وأخرى أحدهم من فلسطين أو العراق أو حتى مصر، يصرخ: وأين العرب؟ والسؤال حقاً وارد: أين هم العرب الذين يبدون وكأنهم انقلبوا إلى أعراب لا رابط بينهم سوى أحقاد قبلية دفينة، بعضها عنصري وآخر ديني وآخر اقتصادي.. لكن جميعها أناني. أين هم العرب يسأل أهل فلسطين والصومال والسودان وغيرهم من الشعوب العربية، وكيف وصلت الحال بنا إلى ما نحن فيه؟ وكيف عادت الجيوش الغربية إلى بلداننا، وبدعوة من بعضنا أحياناً؟ وكيف أصبحت إسرائيل الدولة المهيمنة في المنطقة تتفاوض مع غيرنا علينا، وكأن لا وجود لنا؛ لا عسكرياً ولا سياسياً ولا حتى اقتصادياً، بحيث أن أموال العرب المكدسة في بنوك الغرب أصبحت تستعمل سلاحاً ضدنا؟ طبعاً، للاستعمار، قديمه وحديثه، مصلحة في ما يحل بنا. وطبعاً، لإسرائيل، وحتى دول الجوار؛ تركيا وإيران والدولة الكردية التي برزت حديثاً، مصلحة فيما يجري كذلك. لكن يبقى السؤال قائماً: أين نحن من كل هذا؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تجول في خاطري منذ زمن بعيد. وكنت أطرحها على نفسي وعلى زملائي في الجامعة وطلبتي، فنتفاكر ونتذاكر، إنما من دون التوصل إلى نتيجة ولو شبه معقولة. وأذهب بذاكرتي وذاكرة التاريخ لأتساءل: وما الذي حدث في عالم الغرب ولم يحدث عندنا، حتى أصبحوا اليوم على ما هم عليه، وأصبحنا نحن على ما نحن فيه من حيرة وتخبط وهزال؛ نستهلك ونأكل ما لا ننتج، وبحيث أصبحت أرضنا وأجواؤنا وأنهارنا وبحورنا، وحتى أرواحنا مستباحة؟ حتى لحظة نهاية العصور الوسطى؛ ربما في القرن الخامس عشر أو السادس عشر، كنا وعالم الغرب على مستوى واحد تقريباً؛ ليس حضارياً فحسب، بل وتكنولوجياً وعسكرياً وغير ذلك. فما الذي حصل عندهم ولم يحصل عندنا، وكيف؟ وهل من مخرج لنا من الحال التي نحن فيها؟ جميع هذه الأسئلة والأفكار وغيرها، جعلتني أمعن التفكير، لا في سمات وصفات ومعاني التقدم، وإنما للبحث في المعنى أو المعاني الحقيقية للتخلف. إذ أعتقد أن اكتشافنا لسبب أو أسباب التخلف، قد يساعدني في التركيز على دراستها والتحوط ضدها. هناك أسباب عديدة للتركيز على مقارنة أنفسنا بعالم الغرب؛ أوروبا وبناتها الأميركتين وأستراليا. فأوروبا التي تقع على الشواطئ الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، لها منذ فجر التاريخ، وبالذات منذ لحظة ظهور الإسلام، مخططات وآراء ومصالح عسكرية وجغرافية وسياسية واقتصادية ودينية وفكرية في منطقة جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط، تعمل من أجلها. ويقول رئيس وزراء ألمانيا الأسبق أوتو فون بسمارك، إن الجغرافيا هي أهم عامل من عوامل السياسة. الأمر الذي يضيف إليه الفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو طاليس أن السياسة ملكة العلوم، لأنها علم الملوك؛ أي علم الدولة التي تضع جميع قواعد حياة مجتمعها؛ اجتماعياً واقتصادياً وغير ذلك، إذ إن كل قرار في الشأن العام هو قرار سياسي في نهاية الأمر. صحيح أن لدينا اهتماما وتقديرا للحضارات الأخرى؛ الأفريقية والآسيوية، ولإنتاجها الفكري والحضاري، لكن لا حضارة على وجه الأرض، لا تاريخياً ولا اليوم، تنافسنا وتحاورنا وتتفاعل معنا، وأحياناً تحاربنا وتقاتلنا، كحضارة الغرب؛ فهي بالإضافة إلى كل شيء، كانت وما تزال وستبقى على مدى المستقبل، الجارة التي طالما كانت دوماً مصدر الخطر علينا. فجدلية التاريخ والجغرافيا والتفاعل الحضاري، تحتم علينا دوماً أن نتحسب لها، وأن نُعمل الفكر في طبيعة وكيفية ونوعية العلاقة معها. منذ بداية التاريخ وجدلية علاقتنا بالغرب كانت هاجس الحاكم الشرقي؛ عربياً أم إيرانياً أم تركياً، تماماً كما هي اليوم. وأحسب أنها ستبقى كذلك على مدى المستقبل. وما النفوذ الصهيوني/ الإسرائيلي منذ بداية عصرنا الحديث، إلا فصل آخر من فصول هذه العلاقة والصراع المتجدد مع الغرب. والسؤال يبقى مطروحاً، ألا وهو: ما الذي حصل في عالم الغرب في أعقاب العصور المظلمة لديهم، بحيث انطلقوا منذ تلك اللحظة إلى ما هم عليه اليوم؛ لكنه لم يحصل عندنا؟ فالغرب اليوم هو الذي يضع القوانين، ويوزع الثروات والأدوار، ويفرض العقوبات، ويعطي ويمنع ويحاصر متى شاء. وهو الذي ما يزال مسيطراً على وسائل النقل والاتصالات الحديثة، وآلات الحرب التي تخطت أبعاد الكرة الأرضية إلى الفضاء الخارجي وحرب النجوم. كيف ولماذا حصل هذا؟ وما هو معنى التقدم؟ وفي المقابل، ما هو المعنى أو المعاني الحقيقية للتخلف، حتى وصلت بنا الحال إلى ما نحن فيه، حتى يكاد المرء يقول إننا نختفي يوما بعد آخر من الخريطة السياسية الدولية والإقليمية، فلا حول لنا لنحمي أرضنا وعرضنا وسماءنا ومياهنا من تسلط الآخرين. هذا ما ستركز عليه هذه الدراسة؛ لا بهدف جلد الذات، وإنما بهدف البحث عن الوسائل التي قد تعيد لنا الثقة بالنفس، والتطلع نحو المستقبل والأمل فيه.
*وزير سابق |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأحد 30 أغسطس 2015, 8:42 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (2)
لا بد من الاعتراف بوجود مقاومة شرسة وقوية لمحاولات التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في معظم المجتمعات العربية، الأمر الذي يحدونا إلى البحث في الجذور الظاهرة والباطنة التي ما تزال تقف سدا منيعا في وجه هذه المحاولات. صحيح أن جميع المجتمعات العربية تمر في مرحلة انتقال من حال إلى حال، كما نشاهد ذلك بالعين المجردة؛ لا في اللباس وأسباب الحياة للإنسان، وإنما بالانتقال إلى المدن، والتي يبدو كأن بعضها دخل مادياً عصراً جديداً، إنما مع استمرار أنماط فكر وسلوك اجتماعي ما تزال مشدودة إلى فترة ما قبل الحداثة، بما في ذلك رفض الاحتكام لقواعد العقل والمنطق التي يستند إليها العصر الحديث برمته. ومما يعزز بقاء الحال على ما هي عليه، أن الأنظمة السياسية عموماً في الدول العربية الحديثة التي قامت في أعقاب انهيار الامبراطورية العثمانية العام 1917، لم تتمكن في أغلب الحالات لا من شرعنة نفسها أولاً، ولا من النجاح -ربما باستثناء الأردن- في إيجاد المعادلة المعقولة التي تجمع بين الاستقرار وأسبابه من جهة، والحريات -ولو النسبية- الضرورية لبناء الدولة الحديثة، من جهة أخرى. وفي كتابه "لبنان في نزاع" (Lebanon In Strife)، يؤكد حليم بركات؛ عالم الاجتماع في جامعة جورجتاون بواشنطن، على هذا الأمر بقوله: "... إن النظام السائد بهياكله ومؤسساته وتوجهاته الثقافية في لبنان والدول العربية في حقيقة الأمر، يقف في وجه تطور مواطنيه. فهو ضد تحسن أحوالهم ونموهم وتحقيق ذاتهم والتغلب على البؤس... كما أنه يقف ضد مشاركتهم الخلاقة مع أنفسهم ومحيطهم". ويضيف أن "نتيجة هذه الحال أن تجد أن... الناس لا حول ولا قوة لديهم، خانعين، مذعورين في حالة غربة عن ذاتهم"؛ لا يهمهم إلا رموز الاستهلاك التظاهري المادي ليتباهوا بها. لا شك في أن مثل هذا الحكم على حال العرب وأنظمتهم هو حكم قاس، ولاسيما أنه صادر عن عالم عربي، معروف عنه انتماؤه وحبه لأمته، وتعايشه مع قضاياها وآلامها. ولكنه حكم لا بد من البحث في أسباب صدوره، وهل هناك بالفعل أسباب داعية لصدوره عن عالم في حكمة وهيبة الاستاذ بركات. الحضارة العربية اليوم تمر في أزمة خانقة، إحدى سماتها الحالية أنها حضارة مجروحة حيرى، لا تدري إلى أي متجه تتجه. ومثل هذا الأمر يستدعي البحث بموضوعية وجرأه في أسباب هذه الحال الداخلية والخارجية معا. فهو أمر على جانب كبير من الأهمية، كون الحضارة العربية تشكل القلب والمحرك للحضارة الإسلامية برمتها، وهي حضارة وسيطة متوسطة على مستويين في آن واحد، من حيث الزمان والمكان. فهي جغرافيا، تقع وسيطة بين الحضارات الأفريقية والآسيوية والأوروبية. ومن حيث المكان أيضا، تتمحور حول البحر الأبيض المتوسط، بدءا من مضيق جبل طارق، مرورا بجنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط، فقناة السويس والبحر الأحمر ومضائقه تيران وباب المندب، ومن ثم بحر العرب فمضيق هرمز وخليج العرب. مثل هذه الأهمية المكانية الاستراتيجية أضاف إليها وجود ما يزيد على ثلثي احتياطي العالم من البترول، أهمية فوق أهمية. وهذه الحقيقة توضح الصعوبة التي تواجهها الدول الكبرى في ترك العرب وحالهم وعدم التدخل في شؤونهم، من جهة، وكذلك استحالة عدم تأثر حضارات البحر الأبيض المتوسط شمالا وجنوبا بعضها ببعض، حتى لو رغبت في ذلك. هنا، لا بد من الإشارة إلى أن آثار التمدد الغربي على مدى القرون الخمسة الأخيرة، ولاسيما منذ نهاية القرن السادس عشر، قد أدت إلى تغييرات كبيرة، وتدمير قطاعات واسعة في الحضارة العربية ونظامها التقليدي التليد، من دون إحلال قيم ومؤسسات بديلة تحل محلها. إن تدمير بعض الولاءات القديمة، مثل الولاء لمؤسسة الخلافة، لم يقد إلى فقدان الثقة بالذات وبالمؤسسة السياسية فحسب، بل وإلى فوضى سياسية تشوبها الحيرة حول اختيار النظام المناسب، وكيف السبيل إلى ذلك. ومن الواضح أن مسألة شرعية النظام وقيادته هي إحدى أهم القضايا التي ما تزال تواجه أغلب الأنظمة العربية؛ فمن أين وكيف ومتى تأتي هذه الشرعية يبقى محور التساؤل عن كنه الحياة السياسية في العالم العربي اليوم، بحيث أن نفرأ قليلا من القيادات العربية اليوم حاصلة على الولاء السياسي الحقيقي الذي كان الخليفة العثماني يتمتع به. أما على صعيد الزمان، فالحضارة العربية وسيطة بين الحضارات القديمة الشرق أوسطية وغيرها؛ فهي حضارة تفاعلت مع الحضارات القديمة الهندية والإغريقية والصينية، وحضارة الفراعنة وحضارات بلاد ما بين النهرين. وقد نقل العرب بثقة بالنفس ومن دون وجل أو تردد، عن هذه الحضارات جميعا؛ فترجموا الكثير عنها، وطوروا وأضافوا عليها، وأبدعوا وأجادوا في ذلك، إضافة إلى إبداعهم وإجادتهم في استنباط الوسائل والحلول المتعلقة بقضايا معرفية كثيرة في جميع العلوم البشرية. كل ذلك قاموا به من دون خوف مما أصبح يعرف اليوم لدينا بـ"الغزو الثقافي"؛ وهو الخوف الذي لا مبرر له في حقيقة الأمر؛ إذ لا بد من التأكيد على أن الفكرة الجيدة لا يمكن أن تقف عند حدود، ولا يمكن قمعها أو قهرها مهما حاول بعض الدول أو الشعوب ذلك، فهي تتسلل إلى قلوب وعقول البشر نظرا لاستحسانها من قبلهم. العرب اليوم، الذين يشعرون بالغربة والإحباط، وأنهم محاصرون ومستهدفون من قبل عالم غربي غاز لأرضهم وعقولهم معا، حري بهم التنبه لهذه الحقيقة، لاسيما أن حضارتهم كانت دوما مَصدرا ومُصدرا للأفكار العظيمة عبر التاريخ، والفترة التي يمرون فيها الآن لا بد أن تنتهي، لكن سرعة انتهائها مرهونة بمدى تجاوبهم العقلاني مع متطلبات ومستجدات العصر، من دون خوف أو تقوقع. |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأحد 30 أغسطس 2015, 8:48 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (3)حقيقة أننا ما نزال في فترة التلقي، هي أمر لا بد من الاعتراف به، بغرض الانطلاق من هذه الحقيقة للبحث عن المخرج منها. ويحلو للبعض أن يدعو الأمر "تبعية"، من منطلق جلد الذات. لكنها فترة لا بد وأن تكون عابرة، لاسيما أن منطقتنا وحضارتنا العربية شهدت فترات انحطاط مماثلة عبر تاريخها الطويل. ومثل هؤلاء البعض اتخذوا من هذا الأمر ذريعة لمقاومة حركة التاريخ وضرورات التطور. وقد صاحبت هذه المقاومة القوية لضرورة التغيير، هجرة كبيرة للعقول العربية منذ مطلع القرن العشرين، إلى دول العالم الغربي خصوصاً. أحد أهم أسباب هذه الهجرة هو الأنظمة الظلامية في بعض البلدان العربية، التي لا تدري أنه باستمرار طغيانها إنما تتعاون، عن وعي أو من دون وعي، مع قوى المحافظة الشديدة الموجودة أصلا في مجتمعاتها، والتي يأكلها الإحباط والقهر من الأحوال التي تزداد ترديا مع مرور الزمن. ولعل من أبرز سمات هذه الظاهرة اغتراب المثقف العربي؛ إما جسديا بالهجرة إلى الغرب، أو وجدانيا بالتقوقع على ذاته، فيكون همه الأكبر أن لا تلحظه السلطة. ومثل ذلك أيضا أن يضع "رأسه بين الرؤوس"، فيتحول مع مرور الزمن إلى إنتاج أدب السلطان المادح، بدلا من البحث الموضوعي في قضايا أمته، وتقديم الحلول لها. أما اغتراب بعض المثقفين إلى الماضي ورومانسيته، فما هو إلا دليل آخر على ما يسميه عالم الاجتماع دوركهايم بـ"حال الضياع" (Anomie). والتاريخ العربي، بمجده وعبقه وأصالته، جاذب قوي؛ إذ يشكل لدى البعض الثابت الذي يبدو وكأنه الثابت الوحيد في عالم من التغيير السريع والمتسارع، الأمر الذي يزيد من حدة الأزمة لا حلها، وبحيث يبدو وكأن أمة العرب لم تع بعد نصيحة "الغازي" كمال أتاتورك الذي حذر أمته بقوله "إما أن تتغيروا أو تنقرضوا" (Change or Perish).وكما فشل العرب، حتى اللحظة، في مواجهة التحديات الداخلية، فإنهم فشلوا كذلك في مواجهة التحديات الخارجية. إذ بالإضافه إلى التحدي الغربي التاريخي، جاء تحدي الصهيونية العالمية خلال القرنين الماضيين. ومن الجدير الإشارة إلى أن أحد أهم التطورات التي حصلت على مجرى العلاقات الدولية إبان هذه الفترة، تمثل في كيفية تغلغل النفوذ الصهيوني داخل السياسة الغربية، ولاسيما فما يتصل بعلاقات الدول الغربية ببلدان العالم العربي. فالوجود الحسي للمحور الأنجلو-أميركي في بلدان المشرق العربي، أصبح اليوم أكثر وضوحا من السابق. وهذا الوجود الذي أصبح كالسياستين الغربيتين اللتين تم إنتاجهما بعد الحرب العالمية الأولى، وهما وعد بلفور واتفاقية سايكس-بيكو، صار يشكل المحور الأساسي، بل والقاعدة التي تتشكل حولها مجمل علاقات العالم العربي مع دول الغرب، وبما يلقي بظلال سوداء عليها. ويزيد من حدة تعقيد هذه العلاقات كذلك، تعاظم نفوذ القوى اليمينية، وحتى سيطرتها على مجرى السياسة الداخلية في كل من إسرائيل من جهة، والولايات المتحده الأميركية من جهة أخرى. فالأولى أصبح اليمين الليكودي يسيطر على مجراها، فيما يبرز في الثانية نفوذ اليمين المسيحي المتصهين للمحافظين الجدد، بحيث يبدو وكأن الخيار داخل كل من البلدين هو بين اليمين المتشدد والآخر الأكثر تشددا.قد يستغرب الزائر من بلدان أخرى أحوال العرب في العصر الحديث؛ إذ يجد منطقة تتمتع بتاريخ مجيد، لا من الناحية السياسية والعسكرية فحسب، بل من جميع نواحي الحياة الإنتاجية، الفكرية والفنية والعلمية، وبحيث أنتجت إحدى أبهى الحضارات البشرية. إضافة لذلك، فهي منطقة تتمتع بموقع استراتيجي مهم، وتحتوي على موارد بشرية وطبيعية تؤهل شعوبها لأن تكون في طليعة شعوب العالم من حيث الرفاه والإنتاج. وفوق هذا، هي منطقة تضم شعوبا تتكلم لغة واحدة، وتنتمي غالبيتها إلى عقيدة واحدة وتاريخ مشترك، فيفترض منطقيا أن تكون لها مصالح مشتركة. فهكذا يبدو وكأن عوامل التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا، كلها لا بد أن تدفع باتجاه التوحد، أو على الأقل التضامن المعقول بين بلدانها وشعوبها.هذا ما يفترضه المنطق والعقل، لكن واقع جهود التنمية على صعيد بلدان المنطقة منفردة ومجتمعة، يشير الى عكس ذلك تماما. فالتنمية ليست متوازنة ولا عادلة داخل أي من بلدانها، ولا على صعيد المنطقة ككل. وتشير جهود التنمية ومعدلات النمو عبر العقود الخمسة الأخيرة، إلى هبوط متزايد في مستوياتهما.هكذا يحتار الزائر من الخارج، مثله مثل مواطن هذه البلدان، من هذا التضارب الكبير بين التوقعات من جهه والواقع من جهة أخرى. والبحث في هذا السؤال المحير لا يجيب عنه مجرد إلقاء اللوم على الاستعمار الغربي وإسرائيل والصهيونية العالمية. فحقيقة الأمر تقول إن هذه القوى الخارجية كانت وما تزال أحد أهم أسباب استمرار التخلف، وأنها بالقطع ليست بريئة من الأحوال السيئة للعالم العربي؛ إذ كانت وما تزال تمتص الكثير من القوى الفكرية والموارد، لا للمثقف والقائد العربي فحسب، بل ولرجل الشارع كذلك. فمنذ اللحظة الأولى لظهور الإسلام، والأمه منشغلة بالتحسب للهجمة والتحدي الغربيين اللذين ما انقطعا لحظة واحدة. كما أن الدهشة الغربية لانتشار الإسلام السريع، وخلال جيل واحد فقط بعد وفاة الرسول محمد صل الله عليه وسلم؛ من بلاد العرب إلى الصين شرقاً، وإسبانيا وجنوب فرنسا غربا، كان يلازمها (تلك الدهشة) دوما ضرورة التحسب للوقوف أمام التقدم السريع لهذه الحضارة.ومثل هذا الصراع الحضاري لازمته على الدوام علاقة محبة وكره وحب استطلاع مشتركه بين الحضارتين الغربية والعربية؛ صراع تعددت أوجهه عبر القرون الماضية، تارة على الصعيد الفكري، وأخرى على الصعيد السياسي أو الصدام العسكري، ودوما على الصعيد الاقتصادي. والاعتراف بوجود هذا الصراع التاريخي متعدد الأشكال، لا يعني الدعوة لاستمراره، بقدر ما يعني ضرورة الاعتراف به، ومن ثم البحث عن السبل والوسائل التي قد تعمل على تلافيه إن أمكن، أو احتوائه على الأقل. ومن أهم تجليات هذا الصدام الحضاري التاريخي، إنشاء دولة إسرائيل في قلب العالم العربي، وبالتالي تقطيع أوصاله الجغرافية، ما بين بلدان المشرق العربي والشمال الأفريقي. فإسرائيل ليست دولة غريبة عن المنطقة من الناحية الحضارية فحسب، وإنما كذلك من خلال كفاءتها العسكرية والتكنولوجية منقطعة النظير، والتي تستمر جميع دول الغرب، من دون استثناء، في تغذيتها بالسبل كافة، واعتبارها الشريك الوحيد المعتمد لديها في المنطقة.
- احدى ساحات قصر الحمراء في الأندلس (اسبانيا حاليا) شاهدا على ما وصله المسلمون من حضارة في زمن مضى - (أرشيفية)
|
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأحد 30 أغسطس 2015, 8:49 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (4)إن مجمل السياسات للدول العربية عامة، ولدول المشرق العربي خاصة، ما تزال تتمحور حول كيفية التعامل مع إسرائيل وحليفاتها الغربية، ولاسيما الولايات المتحده الأميركية. بحيث يبدو أن كيفية التعامل المعقول أو شبه المعقول مع أميركا، قائدة التحالف الغربي، سيبقى التحدي الأكبر الماثل أمام الدول العربية على مدى المستقبل المنظور. وأميركا اليوم، وبالذات بعد حربيّ الخليج الأولى العام 1991 والثانية العام 2003، أضحت بحكم قواعدها العسكرية في المنطقة، دولة جارة لكل دولة عربية، ولا يجوز أن تغفل أي منها عن هذه الحقيقة. مثل هذا الوجود العسكري يبدو وكأنه سيستمر على مدى المستقبل، خصوصا في ضوء تعاظم اعتماد دول العالم الغربي على النفط العربي.ولا بد، كذلك، من الانتباه إلى أبعاد أخرى للخطر الصهيوني الإسرائيلي، الذي كان وما يزال يوفر الذريعة والغطاء لبعض الأنظمة العربية لاستمرار سلطويتها وقهرها لشعوبها، بحجة ضرورات المواجهة. فللوجود الإسرائيلي، إذن، أبعاد كثيرة، أجلى مظاهرها أنها أصبحت منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبعد حلفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة العام 1981، الدولة الكبرى المهيمنة على صعيد المنطقة. وهو أمر لا بد أن يدخل في حسبان كل قائد من قادتها العرب، أو الأتراك أو الإيرانيين، أو الأكراد.إن البحث في أسباب استمرار التخلف العربي، وإن أخذ بالحسبان العوامل الخارجية، بما في ذلك التحدي الإسرائيلي، لا بد وأن يركز على الأسباب الداخلية أيضا. فالأسباب الداخلية لهذا التخلف واستمرار وجودها، كانا أهم العوامل في تهيئة الأجواء المناسبة التي سهلت الاختراق الغربي/ الصهيوني للعالم العربي بسهولة. فثمة أمران مهمان لم يتنبه لهما لا صاحب القرار ولا المثقف العربي؛ أحدهما خارجي يتعلق بتزامن ظهور القومية العربية، منذ منتصف القرن التاسع عشر، مع تصاعد نفوذ الصهيونية، وآثارها المباشرة على مجرى السياسية الغربية. فيما الأمر الآخر الأكثر أهمية، فيتمثل في أبعاد انهيار الشرعية السياسية والدينية للإمبراطورية العثمانية، التي كانت المظلة والغطاء الواقي لفسيفسائية المجتمع وتعدديته الملية (من ملل) والإثنية.وربما من دون وعي، حاول المثقف وصانع القرار العربيان إبراز القومية كهوية جامعة، لتحل محل الهوية الملية التي استمرت فترة الإمبراطورية العثمانية. وكذا برز، ولو للحظة ما، شعار "الدين لله والوطن للجميع". فقد أصبح جليا أن القومية تجمع؛ إذ من الممكن للسُنّي والشيعي والزيدي والإباضي والدرزي والمسيحي وغيرهم، أن ينضووا تحت راية القومية، وأن يتفرقوا سرعان ما تقدمت الهوية الدينية على القومية. وهو أمر لم يخف لا على الصهيونية، ولا على من يقف خلفها ويتبناها.وقد سهل الاستعمار الغربي اقتحام الصهيونية للمنطقة، من خلال تلاقي مصالح الطرفين. إذ نجد رئيس وزراء بريطانيا هنري كامبل - بانرمان، العام 1907، يقوم بتشكيل لجنة من علماء التاريخ والسياسة والاجتماع، من عدد من الدول الغربية، للتدارس في كيفية استمرار هيمنة الاستعمار الغربي. وبعد دراسة معمقة لصعود وانهيار الحضارات، ونظرا لظروف القرنين التاسع عشر والعشرين، أوصت اللجنة بأن الخطر على مصالح الاستعمار الغربي يكمن في العالم العربي إذا تمكن من أن يوحد ويطور نفسه. وهكذا، أوصت هذه اللجنة السباعية بضرورة العمل على تجزئته وعدم السماح بتوحده، وضرورة إبقائه في حال من الجهل والتخلف والصراع. ولتحقيق ذلك، أوصت اللجنة ذاتها بضرورة خلق كيان قوي قريب من قناة السويس، صديق مقرب للغرب، ومعاد للعرب.وفي بحثها عن مكامن الضعف في جسد الأمة العربية، اكتشفت إسرائيل أن لا بقاء طويل الأمد لها إلا بالعمل على تمزيق وتفتيت المجتمع العربي؛ حيث كان ولاء الفرد والجماعة، حتى نهاية الدولة العثمانية، مليا دينيا بالدرجة الأولى، وفشلت الدولة العربية في إحلال قيم القومية والعروبة مكانه. الأمر الذي يفسر الجهود الحثيثة لإسرائيل لمحاربة القومية، من خلال إثارة النعرات والعصبيات الإثنية والدينية اليوم.فالعالم العربي؛ من المغرب غربا إلى العراق شرقا، ومن لبنان شمالا إلى السودان جنوبا، وعبر قارتيّ آسيا وأفريقيا، في حالة من الهلهلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا مثيل لها لا في التاريخ ولا اليوم. وهي حال أقرب إلى الحال الكارثية التي تزداد حلكة سوادها من يوم لآخر. ولعل أبلغ مثال على التهميش وفقدان الوزن اللذين وصل إليهما العالم العربي، يظهر في تقدم العرب بمبادرة السلام الصادرة عن قمة بيروت العربية العام 2003، لكن لم يعرها قادة العالم الغربي أي انتباه حقيقي يذكر، بينما تجاهلتها وازدرتها إسرائيل بشكل واضح. كما ويتضح فقدان الوزن الدولي هذا في عدم جدية قادة العالم الغربي في تعاملهم مع كثير من القادة العرب الذي يدأبون باستمرار على التزاور مع عواصم الغرب، حيث يستقبلهم "نظراؤهم" بالسجادة الحمراء، ويصدرون البيانات المشتركة الطنانة، بكن ينساها الغربيون حال مغادرة القائد العربي لبلادهم.واليوم، يقول واقع الحال إن حقيقة الأمر أكثر مرارة من ذلك. وبما يقود إلى طرح السؤال: هل حقا حصل العرب على استقلالهم الحقيقي في أعقاب الحربين الكونيتين الأولى والثانية؟ إن إعادة قراءة لتاريخ المنطقة، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، تشير إلى أن هذا الاستقلال ما كان في واقع الحال إلا استقلالا صوريا. فالجيوش الغربية التي انسحبت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، يبدو وكأنها كانت مستعدة دوما للعودة، حسب مقتضى الحال. كما ويبدو وكأن انسحابها ما كان في واقع الحال إلا مجرد عملية تموضع من قاعدة لأخرى، وأن عودتها للمنطفة أمر ممكن، وبالذات في حال فشل محاولات التحكم عن بعد، التي استمرت الدول الغربية في ممارستها على الأنظمة العربية. مثل هذه الحال، كانت أحد أهم أسباب استمرار إدانة المثقفين العرب لبعض الأنظمة، لتبعيتها للتحكم الغربي؛ بسياساتها الخارجية، وحتى الداخلية منها.واليوم، وقد عادت الجيوش الغربية إلى المنطقة، وأرست قواعدها فيها، فإنه لم يعد الوجود الغربي ولا نفوذه مجرد تحكم عن بعد، لا بل أصبح من داخل وجوف المنطقة، لاسيما وأن بعض الأنظمة هي التي قامت في هذه الحال بدعوة الجيوش الغربية لإعادة قواعدها إلى المنطقة. ومن المحزن أن القادة العرب غير قادرين، حتى اللحظة وبالرغم من تدهور أحوال الأمة إلى ما هي عليه الآن، حتى على مجرد الالتقاء للتباحث في شؤونها. |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأحد 30 أغسطس 2015, 8:50 am | |
| "أزمة العرب ومعنى التخلف" (5)للدول مصالح تعمل من وحي الحفاظ عليها. وهي في سبيل ذلك، لا تستحي ولا تخجل، ولا تشفق على الجار ولا على الضعيف. هذه كانت وما تزال القاعدة الرئيسة للتعامل بين الدول على مر التاريخ، بالرغم من إبداء حسن النوايا، أو ما يشابهه من شعارات إنسانية أو غير ذلك، من قبل هذه الدولة أو تلك. ويصاحب هذه القاعدة في التعامل بين الدول، أن الغلبة كانت دوما للقوة، وأن القوي هو من يكتب التاريخ، ويضع القواعد لقانون التعامل بين الدول والشعوب، فيما على الضعيف أن يتكيف مع هذه الأوضاع.وتزداد أهمية القواعد سالفة الذكر، كلما ازدادت أهمية المنطقة مدار البحث، مهما تعددت الأسباب الكامنة خلف هذه الأهمية؛ هل هي لأسباب استراتيجية، كاحتوائها على وسائل المواصلات البحرية والأرضية وحتى الجوية بين القارات، كما هي حال منطقتنا، أم لاحتوائها على غزارة في الموارد المائية أو المعادن أو النفظ، أو غير ذلك. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار قاعدة أن الطبيعة لا تقبل الفراغ (Vacuum)، فلا بد من قوة كامنة في المنطقة لحمايتها، وإلا سيقوم آخرون بملء هذا الفراغ لما فيه مصلحتهم لا مصلحة أهل المنطقة، فإنه يتبين لنا بعض أسباب معاناة منطقة المشرق العربي، ولاسيما منطقة الهلال الخصيب، على مدى التاريخ وإلى اليوم.في العام 1987، عقدت كلية الاقتصاد في جامعة بغداد، بالتعاون مع الجمعية العربية للعلوم السياسية، ندوة حول مستقبل العالم العربي، قدمتُ فيها بحثا بعنوان "المشرق العربي: نظرة استراتيجية". وقد استعرضت في البحث إضاءات على المجرى التاريخي للعلاقات العربية مع دول الجوار ومع العالم الغربي. وأشرت وقتها إلى أن لكل من دول الجوار وشعوبها؛ ايران وتركيا والأكراد، خططها وتطلعاتها وآراءها فيما يتعلق بالسيادة على المنطقة وإدارتها، وأن للعالم الغربي الأقرب جغرافيا للمنطقة بعد ذلك، آراءه وخططه كذلك. وأشرت إلى جهود العالم الغربي، وبموافقة ضمنية أو ظاهرة من بعض شعوب المنطقة غير العربية، للتمهيد لاقتحام دولة إسرائيل لها، وإضافة شعب آخر لشعوبها الرئيسة وأقلياتها.في ذلك البحث، أكدت على ضرورة تضافر جهود الدول والشعوب العربية لخلق وتأسيس قوة عربية تملأ الفراغ، وتعمل على حماية المنطقة، وإلا ستصل حال العرب إلى ما وصلت إليه اليوم فعلاً؛ من شرذمة وضعف. فالعراق اليوم ليس العراق الذي كنت أعرفه قبل عقد من الزمن. وكذلك الحال بشأن سورية وفلسطين واليمن ولبنان، وحتى مصر. ويبقى السؤال قائما: كيف انقلب الهلال الخصيب الذي كنت أعرفه سابقا، إلى الهلال "الغضيب" التي هي حاله اليوم؟ ومن المسؤول عن ذلك؟في الكتب والمجلدات التي تُدرّس كمراجع معتمدة في الجامعات الغربية تحديدا، والمتعلقة بتاريخ العلاقات الدولية، تعداد للمصالح الأساسية لهذه الدولة أو تلك من دول الغرب في المنطقة العربية. ويأتي على رأس هذا التعداد عادة رغبة الغرب في أمن واستقرار المنطقة، والحفاظ على "العلاقات الجيدة" مع أهلها ودولها. وهو أمر مغاير حقا لوقائع التاريخ وأحداث المنطقة على مدى العصر الحديث.منذ عصر النهضة الأوروبية؛ عصر الاكتشافات والتوسع الغربي الذي مهد له التفاف الغرب البحري حول المنطقة العربية، وكذا كسر الاحتكار العربي للممرات البرية للتجارة بين الشرق والغرب، وأوروبا في صعود فيما منطقتنا في حال آخر من الانزلاق، بما مهد لاختراقها وتمدد الاستعمار الذي تمكن فيما بعد من السيطره على الممرات البرية في عقود القرن العشرين وما تلاه. وللحفاظ على هذه المصالح، لا بد من التذكير بوثيقة "هنري كامبل-بانرمان"، التي أكدت على ضرورة زرع جسد غريب في المنطقة، يفصل مغربها عن مشرقها. وما يفسر السياسة الغربية، الظاهرة والخفية، إبقاء المنطقة في حال من عدم الاستقرار المنضبط (Controlled Instability)، هو خدمة المصالح الغربية.ليس التأكيد على أولوية إسرائيل على سلم المصالح الغربية في المنطقة، بغرض جلد الذات؛ وإنما هو للتأكيد على ضرورة التعامل مع هذا الأمر بأقصى درجات الحذر والحيطة، والابتعاد عن الارتجال وردود الفعل التي أوصلت العرب إلى ما هم عليه اليوم. ومن الضروري التذكير بالأساطيل الغربية التي تحيط بالمنطقة، لا في البحر الأبيض المتوسط فحسب، بل وفي البحر الأحمر وباب المندب وبحر العرب والخليج العربي.ومن البدهي كذلك ضرورة التذكير بأن العلاقة الحميمة ما بين إسرائيل والغرب اليوم بقيادة أميركا، لم تعد، بعد عقد الثمانينيات من القرن الماضي، علاقة طفيلية يتغذى فيها مخلوق مستقل كعصفور على مخلوق آخر مستقل كالجاموسة؛ بل أصبحت علاقة عضوية يستحيل فيها التعرف على جزء الجسد الذي يتسبب في تحريك أجزاء أخرى منه. هذه العلاقة الحميمة رسختها ووطدتها فئات المحافظين الجدد المتصهينة في الولايات المتحدة، والتي تعتقد أن مثل هذا الدعم اللامتناهي للصهيونية، سيعمل على استعجال عودة السيد المسيح المرتقبة بعد معركة "أرمغيدون" (Armageddon). فلا بد لنا من التحسب لعمق هذه العلاقة، وإمكانية تعاظمها على مدى المستقبل؛ وأن الصراع لم يعد مجرد صراع على أرض فلسطين، بل تعداه ليصبح صراع الوجود العربي الذي تعمل الصهيونية على اختزاله، بحيث يصير العرب مجرد أقلية أخرى من فئات المنطقة، فتفقد هذه الأخيرة روحها العربية وعروبتها، وكذا تسهل السيطرة عليها، واستبدال قيمها بقيم أخرى. |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأحد 30 أغسطس 2015, 8:51 am | |
| "أزمة العرب ومعنى التخلف" (6)لا يمكن لأحد أن يقدر الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها العرب جراء الصراع الحضاري المستمر مع العالم الغربي وحضارته الفتية الديناميكية الغازية، وعلى رأسها إسرائيل. ولا يعلم أحد بالفعل ما إذا كان من الممكن إنهاء هذا الصراع. وربما كنت من القلائل الذين رحبوا بالمصالحة المسيحية-اليهودية التي نجمت عن مؤتمر الفاتيكان الثاني العام 1962، "وتبرئة" اليهود من تبعات صلب السيد المسيح؛ ظنا مني أن مثل هذه المصالحة بين الديانتين المتناقضتين أصلا، قد تقود إلى مصالحة شاملة بين الأديان الإبراهيمية جميعها: اليهودية والمسيحية والإسلام.وهنا لا بد من إبداء بعض الملاحظات. أولاها، أن الإسلام أعلن، منذ بداية رسالته، عن اعترافه بالديانتين الأخريين، وأن النبي محمد ما جاء إلا كخاتم للنبوة. كما فرض الإسلام الاعتراف بأهل الكتاب كونهم أهل ذمة، وأن إيمان المسلم لا يستقيم فعلا إلا إذا اعترف إيمانا بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام. والحضارة الغربية التي كانت تعرف سابقا باسم الحضارة الإغريقية الرومانية، وبعد ذلك باسم الحضارة المسيحية الرومانية، أصبح اسمها اليوم الحضارة اليهودية المسيحية. ورغم أن اليهود الذين لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة في بلاد الغرب، فقد جاء اسمهم قبل المسيحيين. وقد اعتقدت لفترة أنه لا بد من المصالحة مع الديانة الإبراهيمية الأخرى، وهي الإسلام، بحيث تعرف حضارة اليوم باسم الحضارة اليهودية-المسيحية-الإسلامية.لكن حدث عكس ذلك. إذ منذ العام 1962 والصهيونية العالمية، والطيف السياسي الإسرائيلي، يزحفان بثبات نحو اليمين المتطرف، وبالذات منذ استلام حزب الليكود، في العام 1977، الحكم في اسرائيل. وقد صاحب هذا الأمر زحف مماثل نحو اليمين المتصهين داخل مجالات السياسات الغربية، نتيجة لصعود نفوذ الفئات المتصهينة للمحافظين الجدد في دول الغرب كافة، ولاسيما في الولايات المتحدة الأميركية.***ليس الغرض من البحث في جذور الصراع الحضاري الغربي العربي صب المزيد من الزيت على النار، وإنما التعرف على واقع هذا الصراع وآثاره على العرب، تاريخيا وفي العصر الحديث، وما لهذا الأمر من نتائج على مستقبلهم كذلك.فلا يدري أحد أبعاد حروب الفرنجة المدعوة "الحروب الصليبية" على العالم العربي، ولا الكم الهائل من الطاقات الفكرية والبشرية والمادية التي استهلكتها. لكن من الواضح أنها قادت إلى إضعاف، لا بل إنهاك المجتمع العربي، ما مهد لما أصبح يعرف بعصر الانحطاط الذي استمر منذ نهاية تلك الحروب وحتى اليوم. وإذ تتالت الأنظمة بمسمياتها المختلفة في العالم العربي، إلا أنها بمجملها كانت سلطوية متقوقعة على ذاتها، تركز على الجانب الأمني الآني كقيمة لا تعلوها أي قيمة أخرى. ومع مرور الزمن، فقد العرب حتى طاقة حكم أنفسهم بأنفسهم، كما فقدوا القدرة على الإبداع والإشعاع الحضاري بأبعاده كافة. فالسلطان يأتي ويذهب ليأتي غيره، فيما الأمه تسير أحوالها من سيئ إلى أسوأ. وحقيقة الأمر تقول إن العرب لم يحكموا أنفسهم بأنفسهم لفترة طويلة. هكذا، ما إن جاء القرن العشرون، حتى فقدوا خبرة ممارسة الحكم؛ وما تتالي تجارب أنظمة مختلفة من الحكم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وتخبط معظمها عقائديا وممارسة، إلا دليل على ذلك.والدولة العثمانية التي كان العرب أحد أهم عناصر قوتها، ما لبثت هي الأخرى أن فقدت عنفوانها فاسترخت وتتابع عليها السلاطين الذين ما كان لهم من همّ إلا الحفاظ على حياتهم وبعض مظاهر السلطة الجوفاء. إذ ما إن جاءت نهاية القرن الثامن عشر، حتى انزلقت إلى دولة شرقية سلطوية تقليدية، بما سهل اختراقها من قبل الحضارة الغربية الفتية بأشكال عدة. فالخليفة السلطان رمز الدولة، أصبح مجرد ألعوبة؛ لا بيد قيادات جيشه وحسب، بل ولمؤامرات الحريم في قصره كذلك. مثل هذه الحال سهلت أمر تدخل القوى الأوروبية في الدولة، فأخذت أجزاء منها تُقضم الفينة بعد الأخرى؛ كما تم السماح بنظام "حماية" الدول الأوروبية لبعض الفئات العثمانية داخليا، هذه الحماية التي بدأت في عهد أحد أعظم خلفاء الدولة العثمانية، سليمان القانوني، واستمرت حتى انهيار الامبراطورية في العام 1918.في الفترة التي كانت الحضارة الغربية تتوقد نشاطا وتتحفز؛ للانظلاق من خلف حدود بلدانها لاستعمار معظم مناطق العالم غير الأوروبية، في الأميركتين وأفريقيا وآسيا وأقيانوسيا، وداخليا في مجالات الاكتشافات العلمية والفكرية والفلسفية وغيرها، كان العالم العربي يغط في سبات العصور الوسطى، غير آبه يما يجري في عالم الغرب من نهضة وتنوير. والحقيقة أن الحضارتين عبر المتوسط؛ الغربية والعربية الإسلامية بقيادة عثمانية، كانتا على قدم المساواة عسكريا وحضاريا وغير ذلك، حتى لحظة ما غير معروفة في القرن السادس عشر أو السابع عشر. فالجيوش العثمانية توقفت على أبواب فيينا لآخر مرة العام 1863. لكن منذ ذلك التاريخ انقلبت الأمور؛ بحيث بقي الشرق على ما هو عليه، فيما انطلق الغرب إلى آفاق واسعة على كل الصعد، كما هو واضح اليوم.السؤال المحير هو: ما الذي حصل عندهم ليمهد لهذا الانطلاق، لكنه لم يحصل عندنا؟ كيف انطلقوا في الغرب ليقهروا الطبيعة ويسخروها لأغراضهم الدنيوية، وكذا أن يسيطروا على باقي العالم من خلال تمددهم الاستعماري، والذي وإن بدا وكأنه انحسر بعودة بعض جيوشهم، ولو لفترة وجيزة، إلى قواعدها في بلدان الغرب، إلا أن واقع الحال يحكي قصة غير ذلك؟لعل أبلغ دليل على ذلك قيام نابليون بونابرت صيف العام 1798 باحتلال مصر، الأمر الذي فتح الباب لمزيد من الاحتلالات التي لم تنته بعد. ويصف المؤرخ المصري المعاصر عبدالرحمن الجبرتي، في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، وكان يقطن مدينة القاهرة آنذاك، كيف أن قادة المماليك عندما سمعوا بنزول حملة نابليون في الاسكندرية لم يكترثوا بها، ظنا منهم أنهم سيكونون قادرين على سحق "الفرنجة" تحت سنابك خيولهم، لكن عكس ذلك حدث. وأهمية الحملة تكمن في أنها أول اختراق لجيش غربي لدولة عربية منذ الحملات الصليبية، إضافة إلى أنها شكلت صدمة نفسية ما تزال أصداؤها تترد إلى اليوم، ولعل من أهم تبعاتها لا فقدان الثقه بالنفس وحسب، بل وإدخال فكرة إلى ذهن القائد العربي، وإلى حد كبير كذلك ذهن المثقف العربي، بضرورة عملية تغيير اجتماعية كبيرة ترتكز إلى الدفاع عن النفس والقدرة العسكرية الضرورية لذلك قبل كل شيء. وهذا أمر ما يزال يشكل السمة العامة لمعظم جهود التنمية العربية منذ ذلك التاريخ.وأهمية نداء نابليون الذي أصدره في السنة التالية لاحتلاله مصر، أي في العام 1799، تكمن في أنه كان أول قائد أوروبي يدعو اليهود الذين سماهم في الإعلان "ورثة فلسطين الشرعيين"، الأمر الذي مهد الدرب أمام جهود الصهيونية العالمية لا في فرنسا فقط، بل وفي جميع أرجاء العالم الغربي فيما بعد. وقد قامت فرنسا باحتلال الجزائر العام 1830، وقامت بريطانيا باحتلال مصر العام 1882، كما احتلت ايطاليا ليبيا في العام 1918. ومع إطلالة القرن العشرين، ازدادت الأحوال سوءا؛ إذ تقاسمت بريطانيا وفرنسا بلدان العالم العربي، وأسستا قواعد فيها، وإن عاد بعضها إلى بلدانه بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها كانت دوما على أهبة الاستعداد للعودة إلى المنطقة. وقد عادت بالفعل عدة مرات إليها تحت ذرائع مختلفة. |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأحد 30 أغسطس 2015, 8:52 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (7)لا بد من التذكير، المرة تلو الأخرى، أنه لا خيار للعرب إلا العلاقة مع أوروبا والغرب عموما. إذ إن عوامل الجغرافيا وتاريخ الصراع المتجدد والمشترك بيننا، يفرضان ذلك. بلادنا تقع على مفترق الطرق البرية والبحرية والجوية بين قارات العالم، الأمر الذي يجعل منها ساحة تنافس وصراع، ويفسر إلى حد كبير الصراع التاريخي على التحكم بمصيرها داخليا ما بين أقوامها المتعددة، وكذلك رغبة الغرب في السيطرة عليها. فلا أهل دول الجوار حولنا، ولا العالم الغربي، يريدون لنا أن نقرر مصيرنا ومصير المنطقة، بما يفسر إلى حد بعيد خروج القرار من أيدينا ومن منطقتنا، وبحيث أن غيرنا يفكر ويقرر نيابة عنا.مثل هذه الحقيقة التاريخية تفسر، إلى حد بعيد، لماذا لا يمكن لعالم الغرب أن يتركنا وشأننا. فالمسألة بالنسبة له أهم بكثير من مصلحة آنية، وأهم في واقع الحال حتى من دولة إسرائيل. صحيح أن حدة الصراع اشتدت منذ إطلالة العصر الحديث وبعد تمكن الصهيونية من التغلغل في جوف حضارة الغرب وتجييرها لخدمة أغراضها، لكن صحيح كذلك أننا فشلنا حتى اللحظة في حماية أرضنا وأرواحنا وقيمنا.يقول البعض إن الغرب بحاجة إلى عدو ليتمكن من تعريف نفسه، إذ ما إن انهار الاتحاد السوفيتي في بداية العقد الأخير من القرن الماضي، حتى تم استبدال الخطر الأحمر الشيوعي بالأخضر العربي الإسلامي، واختراع قصة الحرب على الإرهاب التي منذ تلك اللحظة تحاكي قصة ألف ليلة وليلة ببداية لا نهاية لها. فحتى تلك اللحظة، كنا نحسب أننا دول أعضاء في المنظمات الدولية، وأننا أصحاب قرار فيما يتعلق بحياتنا، لا بل ونحسب أننا دول مستقلة. وإذا بأحد قادة الغرب يتساءل زورا وبهتانا: "لماذا يكرهوننا؟"، بينما واقع الحال يتحدث عكس ذلك. وهكذا بدأ إنهاك، لا بل وتدمير عالمنا العربي الجاري حتى اليوم، وعادت الجيوش الأجنبية إلى المنطقة، وبدعوة رسمية من بعض دولنا. والأغرب والأعجب أنهم جعلونا نصدق قصة الإرهاب، لا بل الأدهى من ذلك أنهم تمكنوا من إعادة بعض شبابنا إلى حال من البدائية والعدمية والبربرية التي قل مثيلها في التاريخ. أما أنا، فأتمنى لو كانت لدينا الإرادة والقوة، لا لأن نرهبهم ونخيفهم وحسب، بل الأهم أن ندافع عن أنفسنا؛ إذ شتان ما بين بأسهم وهزالنا!على الرغم من إدانة القادة وأصحاب الرأي في الدول العربية للإرهاب الذي يستهدفهم أكثر مما يستهدف الغرب، يستمر هذا الغرب في إعلان الحرب عليه وكأنه إعلان حرب على العرب وحضارتهم، ولا يسأل أحد منهم عن الأسباب التي تقود إليه، ولماذا يتم السماح لإسرائيل أن تفعل بالعرب الفلسطينيين ما تفعل وكأنهم بشر من طينة أخرى، أو ليسوا بشرا على الإطلاق؟! لا بل ويتم تبرير ما تفعله بحجة ضرورة الدفاع عن نفسها. ولماذا لا يسألون عن الأسباب التي تدفع شابا أو فتاة عربيين إلى التحاف مختلف أنواع المتفجرات وأبشعها، والسير بها نحو موت محتم؟ مثل هذا التجاهل المستمر لما يقلق العرب، لا يضاهيه إلا حدة إصرارهم على عدم الفهم والتفهم المتعمد لقضايانا.أما "واو الجماعة" في عبارة الرئيس السابق للولايات المتحدة، وأحد زعماء المحافظين الجدد، في "لماذا يكرهوننا؟"، فتشير قطعا إلى شعوب المنطقة العربية، لا تفرق بين شعب وآخر. مثل هذا التساؤل من قائد غربي "زل لسانه"، كما يقولون، ليتحدث عن "حملة صليبية"، لا يرى الأمور إلا بمنظار الأبيض والأسود، فيقول إن "من ليس معنا فهو ضدنا"، وبما يمثل أمرا في غاية الخطورة والأهمية، يذكر بأطروحة إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" عن الذاكرة الجماعية لأهل الغرب، والتي ما تزال تنظر للحضارة العربية الإسلامية بعين العداء والخصومة.الإشكالية ليست في سؤال الرئيس جورج بوش الابن، فهو سؤال -ككل سؤال- مشروع، وبالذات في ضوء أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وموجة العنف التي تجتاح عالم العرب اليوم. بل الإشكالية أن بوش ومن خلفه معظم مفكري وصانعي القرار في العالم الغربي، لا يتبعون هذا التساؤل بالبحث عن الأسباب التي قادت بالأصل، وما تزال، إلى الارهاب. فبدلا من البحث الجاد عن الأسباب التي ما تزال تدفع العالمين العربي والاسلامي إلى تفريخ العنف، يتم تجنيد القوى العسكرية لإعلان "الحرب على الإرهاب" بالهجوم على دولتين إسلاميتين ضعيفتين؛ أفغانستان ومن ثم العراق، وبعد ذلك ما يجري في عالمنا العربي اليوم.وهنا، وقبل الاستمرار بالبحث المعمق في القضايا المعاصرة التي تشوب العلاقات العربية-الغربية، لا بد من العودة إلى الآثار التاريخية الناجمة عن تتالي الاختراقات الغربية للعالم العربي منذ حملة نابليون في نهاية القرن الثامن عشر.أول هذه الآثار، الصدمة النفسية الكبيرة التي كانت وما تزال أحد أهم أسباب استمرار الأزمة الحضارية التي تعاني منها المنطقة إلى اليوم؛ هذه الصدمة النفسية أو الحاجز النفسي التي اعتقد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، بسذاجة وبساطة متناهيتين، أنه تمكن من تخطيها. فالثقة بالنفس وبالقدرة على الدفاع عنها، تضعضعت إلى حد كبير. إذ إن احتلال مصر من قبل الجيش الفرنسي، وكانت قلب الدولة العثمانية آنذاك، لم يكن مجرد عمل عسكري وحسب، لا بل أيضا تصادم حضارة مع أخرى وجها لوجه. وهناك لا بد من العودة إلى ردة فعل المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي التي تمثل، إلى حد كبير، ردة فعل الإنسان العربي إلى يومنا هذا. فعلى الرغم من معارضة الجبرتي للاحتلال الفرنسي، إلا أننا نجده معجبا بالإنجازات العلمية وجدية العلماء الفرنسيين الذين اصطحبهم نابليون معه لدراسة جميع ما يتعلق بالحياة في مصر، فكريا واجتماعيا وطبيعيا. ولعل من أهم آثار هذا اللقاء الأول، هو التساؤل حول أسباب الانهيار العسكري المملوكي أمام الحملة الفرنسية الغازية، وكيف تمكن "الفرنجة" من الانتصار بهذه السهولة وهذه السرعة. فأبعاد هذا التساؤل ما تزال أصداؤها تتردد في الذات العربية على الصعيدين الشعبي والقيادي كذلك. فما إن انحسرت الحملة بعد ثلاث سنوات من الاحتلال، حتى ظهر القائد محمد علي الكبير الذي شكل السابقة الأهم في كيفية رد الفعل، كماً ونوعاً، على التحدي الغربي الذي ظنه محمد علي عسكريا فقط. فالحروب الصليبية تركت جروحا عميقة في الذاكرة الجماعية العربية. وهي وإن كانت دفينة، إلا أنها سرعان ما تنفتح وتتقيح مع كل غزوة احتلال لمنطقة أخرى من العالم العربي. والحملة النابليونية فتحت جروحا عميقة كانت دفينة في الوجدان العربي، ولاسيما أن نابليون هو صاحب نداء "مونتبلييه" سيئ الصيت، الذي دعا فيه إلى تجمع اليهود في فلسطين. إذن، لا شك في أن معالم السياسة الغربية تجاه المنطقة، تحددت بالفعل منذ بداية ونهاية هذه الحملة على مصر، إذ كشفت مدى الوهن الذي أصاب الدولة العثمانية، والفراغ العسكري الذي تعاني منه. |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| |
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأحد 30 أغسطس 2015, 8:55 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (9)حان الوقت لتقديم تعريف سهل ومبسط لعبارة "معنى التخلف"، وهو عجز الإنسان أو المجتمع عن التمكن من الاحتكام إلى العقل فيما يتعلق بأمور الدنيا ومعاملاتها؛ وكذلك فقدان المقدرة على التكيف مع تحديات ومستجدات العصر. الأمر الذي يعمق من حدته الخلط ما بين العبادات والمعاملات، بحيث يطغى أحيانا الأخروي على الدنيوي.لقد فشلت الدولة العربية الحديثة التي قامت إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية، في الإجابة عن عدد من القضايا المهمة التي كان لا بد من الإجابة عنها كضرورة أساسية لاستقرار الدولة وأمنها الاجتماعي. ويقع على رأس قائمة هذه القضايا مسألة الشرعية السياسية ومصدرها، كما مسألة الحريات السياسية والدينية والاجتماعية، هذا بالإضافة إلى عجز هذه الدولة عن التصدي لمسألة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ولعل من أهم هذه القضايا مسألة مكانة الدين في المجتمع، وكم من الدين نريد في الدولة، أو العكس؛ كم من الدولة نريد في الدين. الأمر الذي يزيد من حدة التحدي الصهيوني، وإصراره على ضرورة الاعتراف بيهودية إسرائيل.فمن أهم الأسباب لما يجري في عالمنا العربي اليوم، عدم الإجابة الصادقة، لا بل التهرب، في معظم الأحيان، من الإجابة عن سؤال مكانة الدين في مجتمعاتنا. ولإرضاء شعوبها، وحتى إسكاتهم، قامت معظم الدول العربية الحديثة بالإعلان في الماده الثانية (غالباً) من دساتيرها أن دين الدولة هو الإسلام، بينما كانت تتصرف في معظم الأحيان بغير ذلك. وهي حتى حين الإعلان عن ذلك لم تحدد، ولم تحاول أن تحدد أبعاد ومعنى هذه المادة، متجاهلة ما قد يخلقه هذا من التباس وتباين في الفتوى والرأي، الأمر الذي سهل على الآخرين مسألة إثارة الحزازات والنعرات والفتن التي كانت نائمة، كما نشاهد اليوم.كنت الأمين العام لجمعية الشؤون الدولية في العام 1978، حين ألقى فيها أحد الأساتذة من جامعة هارفارد الأميركية محاضرة عن الصراع العربي-الإسرائيلي، أشار فيها إلى نجاح حزب الليكود قبل عام من ذلك التاريخ، بتسلم قيادة دولة إسرائيل. وفي نهاية محاضرته، أشار أيضاً إلى أن إسرائيل لن تعقد مع العرب صلحا شيعيا، وهي ستصر دوما على صلح مع أهل السُنّة. وقد انتبهت فورا إلى هذه الاشارة التي بدت كأنها عابرة، فسألت عما يعنيه بهذا الأمر. وقد فوجئت بإجابته. إذ قال لي: "هل تأملت يوما يا أستاذ أبو جابر في خريطة منطقتكم من الناحية الدينية المذهبية الملّية؟". ثم رفع يديه عاليا وكأنه يتأمل في خريطة أمامه وأضاف: "أنا أشاهد 60 % من أهل العراق شيعة، وكذا الأمر بالنسبة لدولة البحرين. وهناك أقليات معتبرة من الشيعة في دول الخليج، بينما المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية شيعية. أما سورية، فتحكمها طائفة علوية من أهل الشيعة، والطائفة الأكثر عددا والبازغة في لبنان هي من الشيعة. وكذا حال الإباضية في عُمان، والزيدية في اليمن". وبعد ست سنوات، قام أستاذ أميركي آخر بتكرار العبارة نفسها، وكانت إجابته مماثله لإجابة الأستاذ الأول.فلا شك، إذن، أن قوىً معينة في الغرب، ومعها بالطبع إسرائيل، كانت متنبهة إلى إمكانية إيقاظ الفتن، قبل وبعد الثورة الخمينية في إيران، وأهمية القيام بذلك.وهنا لا بد من التأكيد أن لا حاجة لنا لأن ننقل إلى حياتنا ومجتمعاتنا تجارب الغرب، حيث قامت الحاجة هناك على فصل الدين عن الدولة، على نحو ما حدث في أعقاب حركة الإصلاح البروتستانتية؛ وذلك لأسباب مجتمعية وتاريخية خاصة بالغرب، لا تنطبق على مجتمعاتنا العربية الإسلامية.تتمحور شخصية إنساننا ومجتمعنا حول محورية الخالق في الكون (God Centered Society). فحياة كل إنسان في مجتمعنا العربي الإسلامي تتمحور حول الخالق. وانتماء كل فرد إلى ملته جعل ذلك أمراً بدهياً، إذ يشكل الدين جزءا أساسيا ورئيسا من هوية الإنسان لدينا، سياسيا واجتماعيا، وحتى اقتصاديا أحيانا. فالدين عندنا -بعكس واقعه في مجتمعات أخرى- أعمق وأبعد من مسألة انتماء روحي إلى عقيدة معينة، إذ من الضروري معرفة هذا الانتماء لتسهيل كيفية تعامل الخلق بعضها مع بعض، والجار مع الجار.والتعددية التي هي من أجمل وأبهى معالم الحضارة العربية الإسلامية، تعود جذورها إلى القرآن الكريم نفسه، حيث تأكيد الخالق على تكريم بني آدم، فجعلهم شعوبا وقبائل، وأعطاهم حرية الاختيار، حتى الكفر. والتعددية بهذه الصفة مكرمة من الخالق عز وجل، لا منة ولا منحة ولا حسنة من هذا الحاكم أو ذلك، أو بسبب تشريع أو دستور من وضع البشر.أسلوب حياتنا، وكيفية تعاملنا مع بعضنا بعضا، معطران بهذه التعددية، وبهذا الانتباه إلى أهمية الدين في حياتنا، لا بإلقاء التحية، بل وفي كل مناسبة من مناسبات يومنا وحياتنا. فالأعياد والمناسبات معظمها تعود إلى الجمع ما بين الروحي والاجتماعي، وفرحة هذه المناسبات تتم بعد الصلوات في دور العبادة، وبالتزاور والتراحم مع الجيران والأقارب والأهل. فأنت حين تعرف دين من تتحدث معه في مجتمعاتنا، تتمكن من التفاعل معه بشكل أعمق وأكثر إيجابية من ذي قبل.وفي تاريخنا الطويل، لم تقم الحاجة يوما إلى فصل الدين عن الدولة كما قامت في العالم الغربي، حيث استقل الدين هناك زمناً طويلاً عن الدولة، حتى سيطر عليها لحظات معينة في أوروبا. كما قامت الحاجة إلى فصلهما عن بعضهما بعضا ليتمكن البشر من تدبر أمور الدنيا. مع ضرورة الانتباه إلى أن الغرب حتى في لحظات الصراع المسلح الذي قاد إلى بعض من أشرس الحروب الدينية في التاريخ، وانتهى بما يسمى "صلح وستفاليا" العام 1648، لم يتخل عن الدين أبدا، وإنما تخلص من نير سيطرة رجال الدين، ليتدبر الخلق أمور الدنيا. ومن يسافر إلى عواصم الغرب في أوروبا والأميركتين، يشاهد الآلاف المؤلفة من الخلق يزورون دور العبادة بانتظام أيام الأحد.مرة أخرى، لا بد من التأكيد على أنه لم تقم الحاجه أبداً في تاريخ حضارتنا إلى فصل الدين عن الدولة؛ إذ لم يتمكن رجال الدين من السيطرة أبدا على الدولة كما حدث في أوروبا. وكذا، لا بد لنا من البحث عن أسلوب آخر أو معادلة أخرى لتحقيق التوازن المطلوب ما بين الدولة والدين. صحيح أنه كان وما يزال لرجال الدين عندنا مكانة ونفوذ، لكن ذلك يتم برضا الدولة والتعاون معها، لا التضارب، وحيث اليد العليا كانت دوما للدولة.والبحث المنشود عن هذه المعادلة لا يهدف إلى إلغاء هذا الجزء أو ذاك منها (المعادلة)، بقدر ما يهدف إلى إعادة النظر في ما هو قائم، والامتثال للمثل البدوي الأردني القائل "لا يموت الذيب ولا تفنى الغنم"؛ إذ لا غنى أبدا عن الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، لاستقامة حياة الإنسان على هذه الأرض. |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأحد 30 أغسطس 2015, 8:56 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (10) بسبب تعددية وفسيفسائية مجتمعنا العربي الإسلامي، تختلف طبيعة ومكانة الدين عندنا عن طبيعته ومكانته في الغرب، قبل وبعد إطلالة عصر التنوير الحديث. إذ لم يكن الدين مسيطراً على حياة وفكر المجتمع عندنا، كما كانت عليه الحال في بعض بلدان الغرب. فاليد العليا والطولى في مجتمعاتنا كانت دوماً للدولة، التي قالت عن نفسها إنها حامية للدين، إلا أن هذه الحماية كانت تسخّر دوما للحصول على الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي. إذن، ما تم في الغرب من فصل للدين عن الدولة، كان ممكنا في مجتمع لم يعرف (كما أنه لم يكن يسمح بأن يعرف) إلا مذهبا واحدا في الوجود. أما نحن، فلا حاجة لنا حتى للبحث في هذا الفصل في مجتمعنا المركب؛ متعدد الهويات والمذاهب والمشارب والقيم، والتي ساهمت في عيش مشترك على النحو الذي كان إلى ما قبل سنوات قليلة. ذهن الإنسان العربي، ومهما كان دينه، متوجه بسليقته نحو الدين؛ لا من حيث الارتباط الروحي فقط، ولكن حتى في طريقة اللباس والمأكل والمشرب، ومناسبات اليوم والفصل والسنة. ومن العبث استمرار البحث عن كيفية فصل الدين عن الدولة، والأجدى التوجه والبحث عن الوسائل التي تسمح بإعمال العقل والاحتكام إليه فيما يتعلق بأمور المعاملات، والابتعاد عن الخوض في المسائل العقائدية وأمور العبادات. وهنا لا بد من التذكير بأن أول كلمة في القرآن الكريم جاءت بصيغة الأمر "اقرأ". والقراءة لا تعني مجرد المطالعة أو حتى الاستزادة من العلم، وإنما هي أمر لبني آدم لإعمال العقل والاحتكام إليه، حسب ظرف الزمان والمكان. مع ضرورة التنويه إلى أنه لا ضرورة للاعتقاد مسبقا بوجود تضاد بين العقل والنقل. يقول ابن رشد: إن النور لا يمكن أن يطفئ النور، ونور العقل هو من خلقِ الله، وهبه للإنسان ليميز لا ببصره فحسب، وإنما ببصيرته كذلك. إذن، لا بد من البحث الجاد والاجتهاد في إيجاد المعادلة التي تحيي تراث العقل في إطار الإيمان؛ إذ هذا متمم ومكمل لذاك، وهو من التيارات الفكرية القوية في تاريخ حضارتنا، كما كان أحد أهم الأسباب التي قادت لا إلى عصر التنوير في العالم الغربي وحسب، بل وإلى التقدم التكنولوجي والحضاري في عالم اليوم. قامت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية بتخصيص عددها بمناسبة نهاية الألفية الثانية، لاستعراض أهم الأفكار التي أوصلتنا إلى الحضارة المعاصرة التي تقودها حضارة الغرب اليوم. وأكدت الصحيفة أن أحد أهم أسباب ذلك يعود إلى فكر وعمل الحسن بن الهيثم، عالم البصريات العربي الشهير في القرن العاشر الميلادي، من خلال تأكيده على إمكانية استنباط حقائق جديدة تضيف إلى الحقائق الأزلية؛ من خلال الاحتكام إلى العقل، والارتكاز إلى عملية التجربة والخطأ والاختبار، وكذا التوصل إلى النتائج المرجوة من دون أن يتناقض ذلك مع الإيمان. فالأصل أن على الإنسان استعمال عقله، فيجرب ويعيد التجربة، إلى أن يصل إلى ما يريد. مثل هذه القاعدة العلمية هي ما تلقفه فيما بعد روجر بيكون، وبعده كوبرنيكوس، ثم اسحق نيوتن عالم الفيزياء، بحيث سادت فكرة التجربة والخطأ لتصبح القاعدة لحضارة عالم الغرب اليوم. يعيد علماء الغرب أسباب النهضة في عالمهم إلى لحظة استقلال الدولة عن الدين، والذي كان أصبح مع مرور الزمن سلطة دنيوية أخرى تنافس الدولة وتزاحمها على إدارة شؤون البشر. فمثل هذا الاستقلال قاد إلى تحطيم نظرية الحق الإلهي في الحكم، والذي قاد بدوره إلى البحث عن مصادر أخرى لشرعية الدولة السياسية. ومن أهم الباحثين في هذا المجال، جان جاك روسو، وفولتير، وجون لوك، وتوماس هوبز، والآباء المؤسسون لدولة الولايات المتحدة الأميركية وعلى رأسهم توماس جفرسون وبنجامين فرانكلين، وغيرهم. التجربة الغربية جديرة بالدراسة والتمعن للاستفادة من خبرتها. لكن هذا الأمر لا يعني أن ننقلها بحذافيرها، أو حتى بعضا منها؛ فنحن لنا تاريخنا، كما مجتمعنا الذي يختلف لا من حيث الشكل وحسب، بل والمضمون كذلك. بحثنا، إذن، لا بد أن يتوجه نحو كيفية تحقيق المصالحة بين العقل والنقل والإيمان، وتدبر شؤون الخلق حسب ظرف الزمان والمكان. ولأن الخالق أمر بالمساواة بين البشر، فإنه يتوجب على العقل استيعاب ذلك، والبحث عن الوسائل الكفيلة بجعل الشرعية تعتمد على نهج الانتخاب، ضمن بناء دستوري عقلاني، يعيد الإيمان إلى مكانه الصحيح في ضمير الإنسان الفرد، ويخرجه من نير سلطة الدولة القادرة دوما على احتكار صناعة القرار متى شاءت، ووفق الذريعة التي تختلق. في حضارتنا من الرحابة والرخصة وسعة الصدر، ما يكفل لجميع هذه المفاهيم أن تتم من دون الحاجة إلى نقل التجربة الغربية. فالإسلام لم ينتشر في مختلف قارات العالم بجهود الدولة، ولا بالسيف، وإنما بقدرته على التطور والتكيف، وبالاجتهاد والحوار الحسن والقدوة الكريمة. وأعتقد أن لحظة المخاض التي نحن فيها، إضافة إلى هجمة الحضارة الغربية علينا؛ لا سياسيا واقتصاديا وعسكريا فحسب، بل وفكريا وثقافيا أيضا، تفرض علينا أن نقف مع أنفسنا لحظة زمنية، لنتدارك ما نحن فيه، ونعمل الفكر في البحث عن المعادلة المعقولة لإعادة الروح إلى جسدنا؛ إذ كرم الله الإنسان واستخلفه على الارض لعمارتها، ولا يمكن لهذه العمارة أن تتم إلا بالانتقائية العقلانية، واستحسان الأسلوب الأفضل لإعادة التوازن إلى مجتمعنا.
|
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأحد 30 أغسطس 2015, 8:58 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (11) لحظة العنف التي تحياها مجتمعاتنا اليوم، ليست السمة الأساسية لحضارتنا، وإنما تعود إلى الإحساس بالقهر والظلم. إذ يبدو وكأن العالم الغربي لا يجد غضاضة في التعامل معنا بمكيالين، بحيث يبدو بالتالي وكأن القيم الإنسانية وحتى القانون الدولي لا ينطبقان على إنساننا العربي عامة، والفلسطيني خاصة. شهد تاريخنا فترات من العنف، لكن سرعان ما كانت الأمور تعود إلى التوازن؛ إذ إن العربي، ومهما اشتد فقره، حضاري بكل ما في هذه الكلمة من معنى، يتمتع بإيمانه وقيمه، ويعرف الأدب والذوق وحسن الخطاب مع الآخر، وتتوق نفسه إلى الهدوء والقناعة. إذا كان الغرب متفوقا علينا تكنولوجيا منذ إطلالة العصر الحديث، فإن هذا لا يعني أنه متفوق علينا حضاريا؛ فتفوقه لا يعود إلى سمو قيمه أو أفكاره، بمقدار ما يعود إلى تفوقه العسكري والأسلحة المتطورة، وقدرته على إدارة العنف المنظم. يصر العلماء الغربيون، وفي مقدمتهم عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر (Max Weber) على أن عهد الإصلاح البروتستانتي الذي بدأ بمارتن لوثر، أطلق عقل الإنسان من عقاله الذي كان مرتبطا بالكهنوت، وسمح له بالتحرر ليتأمل ويجوب ويعمل الفكر في سبيل تحسين نوعية حياة الإنسان؛ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ويقول فيبر إنه لولا هذه العملية الإصلاحية، لما وصل الغرب إلى ما وصل إليه من تقدم ورقي. فانفلات عقل الإنسان من رباط العقيدة أفسح المجال لتطوير الفكر الليبرالي الحر؛ فإذا ما كان كل إنسان مساويا لكل إنسان آخر في نظر الخالق، فإنه من البدهي أن كل انسان لا بد وأن يكون مساويا لكل إنسان آخر، لا في نظر الحاكم فحسب، بل وفي نظر القانون كذلك، الأمر الذي تطور بدوره، ومع مرور الزمن، إلى مأسسة الحكم دستوريا، ووضع حدود على الحاكم والدولة لا يجوز التعدي عليها أو تخطيها. كان لإلغاء الحق الإلهي في الحكم أن أفسح المجال لتطور مفهوم المساواة، وانتقال هذا المفهوم من المجال الديني إلى السياسي فالاجتماعي اليوم، الأمر الذي قاد بدوره إلى تطور المفاهيم الديمقراطية، وضرورة شرعنة الحكم بالاحتكام إلى الخيار العقلاني، من خلال عملية الانتخاب. إذ كان من البدهي لبعض علماء الغرب أن صناعة القرار من قبل أكثر من رأس واحد هو أمر مستحب، يتجاوب مع مفاهيم المساواة والديمقراطية. وهنا لا بد من التأكيد مرة أخرى على أن مثل هذه التطورات، على مدى القرون الخمسة الماضية، لم تقد إلى إلغاء الدين، ولا إلى التقليل من أهميته، وأن كل ما حصل في واقع الحال هو إعادة تموضعه من شأن عام تشرف عليه المؤسسة الدينية أو السياسية، أو كلتاهما مجتمعتين أحيانا، إلى جعله شأنا خاصا بالإنسان وضميره وعلاقته بربه، بحيث أن أهميته وقيمته الحقيقية ازدادت وتعمقت؛ إذ لا يعود تعلق الإنسان بمذهبه إلى إرشادات وأوامر خارجة عن ذاته؛ من الدولة أو الكنيسة، بل هو يعود إلى إيمانه الخالص، وإرادته الشخصية وضميره. ننسى أحيانا أن مجتمعنا مركب ومعقد إذا ما تمت مقارنته بالمجتمعات الغربية ذات البعد الواحد. وبعد حروب الثلاثين عاما الدينية التي انتهت بصلح "وستفاليا" العام 1648، انقسمت أوروبا إلى بلدانها الغربية التي نعرفها اليوم. إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، كل واحدة بلغة وقومية، ومذهب ديني كاثوليكي واحد لم يكن مسموحا لغيره بالوجود؛ إذ تم القضاء في فرنسا، مثلا، على مذهب الهوجينوت البروتستانتي إثر مذبحة "سان بارثولوميو" العام 1572. أما في ألمانيا، حيث كان هناك شبه توازن للقوى ما بين الكاثوليك والبروتستانت، فقد انقسمت البلاد بحيث استقر الكاثوليك في جنوبها والبروتستانت في شمالها. وفي بلجيكا، تم تقسيم البلاد إلى شطرين؛ يقطن كل شطر إما إثينة الوالون أو الفلمنغ، بينما انقسمت سويسرا إلى إثنياتها الأربع؛ الفرنسيون والألمان والإيطاليون والرومانش. ولعل من الضروري التذكير أن نظام الملل والنحل الذي اعتمدته الإمبراطورية العثمانية حين قيامها، كان امتدادا للنظام الاجتماعي القائم، بحيث أنه حتى لحظة انهيار الامبراطورية بعد الحرب العالمية الأولى، كانت تحتضن ثماني عشرة ملة. وليس من قبيل الصدف أن في لبنان اليوم ثماني عشرة ملة يعترف بها النظام، وفي سورية والعراق وسواهما أعداد مشابهة من الملل والنحل. وفي الأردن، وبالإضافة إلى أهل السُنّة، هناك بعض الشيعة، والدروز، وهناك من المسيحية الأرثوذكس والكاثوليك واللاتين والكلدان والسريان والبروتستانت، وعندنا من الأقوام الكرد والشركس والشيشان والأرمن، وبعض من أهل بخارى، وبعض من التركمان والأتراك، وغيرهم من الملل والنحل. التعددية المذهبية والإثنية التي تعرفها مجتمعاتنا، وتعود جذورها إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الكريمة، لا تعرفها المجتمعات الغربية. وهذا الأمر يفسر اضطراب هذه المجتمعات وانزعاجها، وعدم تمكنها من استيعاب أو العيش المشترك مع الإسلام والمسلمين الذين تم استدراجهم في البدء للعمل في حقولهم ومصانعهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فعلى مدى القرون الخمسة الماضية، تجذرت النزعة القومية المستندة إلى مذهب ولغة وتاريخ مختلق واحد، حتى وصلت حد العنصرية والإحساس بسمو ورقي العنصر الأبيض الألماني أو الإنجليزي أو الفرنسي على غيره من الأوروبيين، ناهيك عن إحساس كل واحد منهم بسموه ورقيه وصفاء عنصره على الأقوام والأجناس الأخرى الحمراء أو الصفراء أو السوداء، وغيرها من شعوب وأقوام العالم. أما التمايز الذي تعرفه مجتمعاتنا، فيعود بالدرجة الأولى إلى عامل الانتماء الديني الذي تمكن المجتمع العربي الإسلامي من إفساح المجال له للعيش المشترك على قدر معين من السلام الاجتماعي، ولو على قدر من القلق والتوتر والتوجس أحيانا. وغني عن القول إن مثل هذه الأجواء وفرت الأرض الخصبة للصهيونية والغرب لاختراق مجتمعاتنا لإثارة النعرات المذهبية؛ لا بين الأديان، بل الأخطر والأهم ما بين المذاهب، حتى داخل الدين الواحد. مشكلتنا، إذن، ليست حضارية، وإنما تعود إلى عدم تمكننا من الاحتكام للعقل فيما يتعلق بشؤون الحياة، وتقوقعنا على ذاتنا، وهروبنا أحيانا إلى الماضي، أو إلى ما هو مألوف لدينا من العقيدة والأنماط التراثية والاجتماعية، للاحتماء بها من رياح وتيارات الغرب الجارفة. أما تقدم الغرب علينا تكنولوجيا، فأمر مستدرك، وبالذات في ضوء النهضة العلمية، ولو العرجاء أحيانا، التي تشهدها بلداننا. ولنتذكر أنه حتى عهد قريب من تاريخنا، لم يكن في عالمنا العربي ولو جامعة حديثة عربية واحدة.
|
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأحد 30 أغسطس 2015, 8:59 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (12)أ. د. كامل صالح أبو جابرجاءت حملة نابليون على مصر نهاية القرن الثامن عشر، وكأن صخرة ضخمة ألقيت وسط بحيرة راكدة؛ فقادت إلى التساؤل لا عن أسباب سهولة النصر الفرنسي وحسب، بل وإلى التساؤل العميق عن أسباب الاختراق السهل لمجتمعنا الذي كانت قطاعات منه تؤمن بسموه على أي مجتمع أو حضارة أخرى.وإذ كانت الحملة عسكرية بالدرجة الأولى، فقد جاء رد الخديوي محمد علي الكبير عسكريا كذلك. ومن ثم، فإن مثل هذا النموذج بالرد العسكري لم يأخذ بعين الحسبان لا الجهد ولا الفكر ولا المنطق الذي مكن أهل فرنسا من الوصول إلى هذا المستوى من التصنيع والمكننة والتكنولوجيا العسكرية، وغيرها.لا أدري كم من العرب اليوم؛ قيادات سياسية أو مثقفين، يدركون أبعاد ومدى أهمية هذا النموذج العسكري الذي اعتمده الخديوي لمصر، والذي أصبح نموذج التنمية لجميع الدول العربية وبعض الدول الإسلامية فيما بعد. فمثل هذا النموذج العسكري لم يبتعد كثيرا عن أنظمة الحكم على مدى تاريخنا، والتي شكلت قوامها وعمودها الفقري قواتها العسكرية والجيش.يذكر المفكر فهمي هويدي في بحثه "خطوط عريضه لمشروع إسلامي"، والذي صدر في مجلة "العربي"، عدد 295، حزيران (يونيو) 1983، أن السلطان سليم الثالث حاول الإصلاح في أواخر القرن الثامن عشر، فاستقدم خبراء من أنحاء أوروبا لإصلاح الجيش الذي اعتبره وسيلته الرئيسة لتغيير المجتمع، وشكل أول فرقة نظامية في الجيش التركي؛ الأمر الذي انتبه له الخديوي محمد علي فاقتدى به، وأضاف وحسّن عليه.حكم محمد علي مصر مدة تزيد على الأربعين عاما، كاد خلالها -ومن خلال تطويره للجيش وترسانته العسكرية- أن يسيطر على الدولة العثمانية. إذ قامت قواته العسكرية، بقيادة ابنه إبراهيم باشا، باحتلال سورية والتقدم نحو الأناضول، حيث انتصر على الجيش العثماني في معركة قونيا العام 1823، والتي تبعتها معاهدة كوتايا التي تنازلت له الإمبراطورية بموجبها عن ولاية سورية. وتجدد القتال للمرة الثانية في العام 1839، وانتصر الجيش المصري على العثماني في معركة نصيب، مما قاد إلى تدخل بريطانيا، بالتعاون مع الإمبراطورية النمساوية، لحماية "رجل أوروبا المريض"؛ أي تركيا، وأُجبر الجيش المصري على الانسحاب من سورية، وأصبحت الإمبراطورية العثمانية منذ تلك اللحظة عمليا تحت الحماية البريطانية حتى بداية الحرب العالمية الأولى.لنموذج التغيير العسكري الذي أدخله محمد علي أهمية خاصة؛ لا على تاريخ العرب فحسب، بل أيضا على تركيا نفسها، كما إيران. إذ سار على نهجه فيما بعد مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، ورضا بهلوي في إيران، وجمال عبدالناصر في مصر، وقيادات حزب البعث العربي الاشتراكي في كل من سورية والعراق.وهنا لا بد من الإشاره إلى أمرين: الأول، أن اللجوء إلى الجيش وما يتفرع عنه من أجهزة أمنية، يتماشى مع تاريخ المنطقة التي كانت دوما بحاجة إلى الحصول على الاستقرار، نظرا لمحاولات احتلالها تاريخيا؛ تارة من الشرق وأخرى ودوما من الغرب الذي لم تتوقف جهوده لاحتلالها، أو على الاقل السيطره عليها ولو عن بعد، نظرا لمكانتها الاستراتيجية التي أضاف إلى أهميتها اكتشاف النفط فيها منذ إطلالة القرن العشرين.أما الأمر الآخر، فيتعلق بطبيعة الدولة أو الدول التي نشأت تاريخيا في منطقة الشرق الأوسط. إذ صحيح أن هذه الدول لم تكن "تدخلية" (Interventionist) في حياة رعاياها من حيث التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية، ولم تُعنَ كثيرا على العموم، برفع مستويات المعيشة والصحة والتعليم، لكنها كانت في الوقت نفسه، كما هي اليوم، صاحبة التأثير الأكبر متى شاءت، على جميع مناحي حياة الإنسان والمجتمع، وذلك من خلال سيطرتها الأمنية اللامحدودة على رقاب البشر.وما حصل عندنا بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وبسبب الأفكار الليبرالية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً جراء رياح الغرب، هو أن أصبحت الدولة المحرك الأساسي القيادي في عملية التغيير الشاملة. فبعيد الحرب العالمية الأولى، أضافت الدولة في منطقتنا إلى سلطتها التاريخية الأمنية المطلقة، سلطة التدخل في جميع مناحي الحياة؛ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى عقائديا، حتى أصبحت سلطتها شبه شمولية، نظراً لغياب مؤسسات المجتمع المدني الحديثة، بخلاف ما كانت عليه الحال في دول الغرب، حيث كانت هذه المؤسسات قائمة، وعلى تضاد وصدام مع الدولة أحيانا. فعندنا نشاهد أن الدولة هي التي تبنت وتتبنى اليوم قيام الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، وتعمل على تمويلها أحياناً.الدولة إذن، وقوامها الجيش وتوابعه من الأجهزة الأمنية، كانت وما تزال الأداة الرئيسة لعملية التغيير. وهي مهمة أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها عملية معقدة وصعبة، حتى في أفضل الظروف. ناهيك عن أن دولتنا التاريخية التقليدية كانت بعيدة عن حياة مللها ونحلها وأقوامها، حتى تقلص حضورها مع مرور الزمن إلى مجرد حارس وجابي؛ همها الأساس هو الأمن الذي لم تكن هناك أي قيمة أخرى تعلوه.نموذج محمد علي العسكري، بإلقاء واجب التدخل على الدولة رغم انعدام خبرتها تاريخيا في هذه المجالات، جاء عكس تجربة العالم الغربي. ففي الغرب، كان تدخل الدولة محدودا وعلى دفعات، وبالذات في البلدان الرأسمالية التي تعتمد مبدأ التنافسية التي كانت ترفض، حتى عهد قريب، أن تقوم الدولة بأي جهد في مجال الصحة أو التعليم أو الضمان الاجتماعي أو حقوق العمال، وما بدأت بالتدخل الفعلي، ولو على مضض، كما في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية، إلا بسبب الأفكار الاشتراكية والماركسية، على مدى القرن العشرين.التغيير عندنا، إذن، عكس ذلك في دول الغرب؛ جاء فجأة، ودخل دفعة واحدة، إلى مجتمع تقليدي ساكن لا ترغب بعض فئاته حتى اليوم في اعتماده، وتحاول مقاومته. الأمر الذي يفسر، إلى حد بعيد، تعثر هذا التغيير وعدم اتزانه وتوازنه، وحتى انكفائه أحيانا.لم يرفض الحاكم العربي عموما، ولا التركي أو الايراني، تصدر مهمة التغيير الشامل هذه، على الرغم من عدم خبرته ولا حتى إدراكه لما يفعل أحيانا. واعتقد أن تصدر عملية التغيير الشامل تعزز وتعمل على تقوية المؤسسة العسكرية التي هو إما ابنها، أو خريجها، أو القادر على استغلال نفوذها من دون حرج. وهنا لا بد من التذكير بأن المؤسسة العسكرية كانت أول مؤسسة حصلت على قسط من التعليم والتدريب، وعلى استعمال الآلة الحديثة، والاطلاع على ما يجري خارج بلدانها من تطورات.الخديوي محمد علي كان مهتما بتعزيز قدرة الجيش وقبضة الأمن، للحفاظ على الاستقرار. فالعملية التربوية بالنسبة له، حتى حين أرسل العشرات من الشبان المصريين، ومنهم بعض أبنائه، للدراسة في فرنسا وألمانيا والدول الأوروبية الأخرى، لم تكن تهدف إلى انفتاح العقول أو الدخول في عصر التنوير، بمقدار ما كان يهدف إلى أن يجعلها إحدى أدوات الدولة للحفاظ على الأمن والاستقرار.الهاجس الأساسي كان هاجس الأمن، وتعزيز قدرات الجيش. فلم يخطر في بال الحاكم الشرق أوسطي، عموماً، أن تعليم وتدريب عنصر الجيش واطلاعه على بعض معالم الفكر الغربي والتكنولوجيا، لا بد أن يقود في نهاية المطاف إلى تغيير كامل في المجتمع ؛ إذ لا يمكن حصر التغيير في جزء من المجتمع من دون أن تتأثر بذلك أجزاؤه الأخرى. الأمر الذي تؤكده محاولات التنمية في منطقتنا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.*وزير سابق |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الجمعة 04 سبتمبر 2015, 5:31 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (13)
أ. د. كامل صالح أبو جابر*
كان من الطبيعي لمؤسس مصر الحديثة الخديوي محمد علي الكبير، أن يعزو انتصار فرنسا إلى تفوق جيش نابليون العسكري وهو يشاهد جنود مصر البواسل تحصدهم المدافع الغربية المتطورة. وحتى اليوم، لا أحسب أن معظم الحكام العرب يدركون الأبعاد والمعنى الحقيقيين للتنمية، ولا ضرورة مشاركة شعوبهم في عملية صنع القرار. فمعظمهم ما يزال يعمل خلف أسوار قصره العالية، معتقدا أن الأمن هو الأمن العسكري البوليسي فحسب، وأن هدف أي جهد آخر هو تعزيز القدرة العسكرية والبوليسية. ويستمر بعضهم في التحايل، بمختلف الوسائل، على دساتير دوله وإحكام قبضته على عملية انتخاب المجالس التشريعية. قام بعض المثقفين بإقناع الخديوي محمد علي بضرورة ترجمة بعض المراجع الأساسية للفكر الغربي. وضمن ذلك ضرورة ترجمة كتاب "الأمير" للمفكر الكبير نيقولا مكيافيللي. لكن ما إن استمع محمد علي إلى قراءة بعض من صفحات هذا الكتاب، حتى طلب عدم الاستمرار في ذلك، مضيفا أن ليس بمقدور مكيافيللي تعليمه شيئا! ومن الضروري الإشارة كذلك إلى رد فعل السلطان العثماني في أوائل ستينيات القرن التاسع عشر، حين سمع باختراع التلغراف؛ إذ سارع إلى استيراده، لا لأن في ذلك وسيلة لنقل الأفكار أو التواصل مع العالم، وإنما لأنه رأى فيه وسيلة لإحكام القبضة العسكرية البوليسية على المجتمع. هنا لا بد من التذكير بأن معظم الجيوش في العالم الثالث، ومنها العربية، تختلف عن تلك في العالم الغربي، من حيث طبيعة أهدافها وتكوينها. إذ لعل على رأس أهداف جيوش العالم الثالث حماية الدولة وتعزيز قدراتها على قيادة عملية التغيير، وكثير من ضباطها وأفرادها انضموا إليها لا كمهنة عسكرية قتالية بحتة (Professional) كما هي الحال في الغرب، وإنما كوسيلة أو وظيفة للعيش، وإنْ بزي عسكري. جاء التغيير المجتمعي في الغرب بناء على رغبة مؤسسات المجتمع المدني. وكانت الدولة تحاربه أحيانا، وتسعى إذا كان لا بد منه، إلى أن يبقى في أضيق الحدود. فالتغيير هناك جاء على دفعات وبتطور، وأحيانا بعد عناء وصدام بين الدولة والأحزاب ونقابات العمال وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني التي كانت قائمة، ومنها اتحادات حقوق الإنسان وحقوق المرأه. جميع هذه المؤسسات نشأت هناك خارج إطار الدولة وعلى صدام معها أحيانا. أما النموذج العسكري المصري، فقد جاء فجأة، برغبة وقيادة الدولة التي كانت تعتقد أنها في سباق مع الزمن لتحقيق التطور وعملية التغيير المجتمعي. إذن، في منطقتنا الدولة هي رائدة التغيير الفوقية، بما يشمل جميع مناحي الحياة، حتى ليمكن القول إنها هي التي فرضت التغيير في غياب مؤسسات المجتمع المدني، كما كانت الحال حين البدء بعملية التنمية والتغيير. وهكذا نجد أنه حتى العملية التربوية لم تهدف إلى انفتاح العقول أو السماح لها بإجراء التجارب لاستنباط حقائق ووسائل جديدة لرفع مستويات المعيشة ونوعية الحياة، أو الدخول في عصر النور والعلم، وإنما جاءت هذه العملية لهدف معين، هو تعزيز قوة الدولة وإحكام سيطرتها على المجتمع. المؤسسات الثلاث الرئيسة الأهم في مجتمعاتنا الشرق أوسطية؛ السياسية والروحية والتربوية، في حلف غير مكتوب. ولا أحسب أنه حتى قياداتها وعلى أعلى المستويات واعية لوجود هذا الحلف أو التعاون الوثيق بينها للحفاظ على الوضع القائم (Status Quo)؛ المعني بالدرجة الأولى والأساسية بالأمن والاستقرار فوق أي قيمة أخرى. ومثل فلسفة التعليم هذه لا ترغب، بالضرورة، في إطلاق العقل من الأوتاد التي تشده إلى ما هو فيه، بل تسعى إلى تدجينه من خلال اقتصار العلم على الحفظ والبصم، بدلا من اللجوء إلى استنباط حقائق جديدة من خلال الوسائل التجريبية. فكثير من الحكام لا يريدون مواطنين مفكرين، وإنما رعايا سهلة القيادة. تؤكد الكاتبة الكبيرة كارين آرمسترونغ في كتابها "المعركة من أجل الله: تاريخ الأصولية"، والمنشور في العام 2001، أن اعتماد محمد علي على الدولة كأداة رئيسة للتغيير، كان بسبب حلمه ببناء جيش قوي عصري على الطراز الأوروبي. والدولة في عالمنا الشرق أوسطي كانت قائمة حين لم يكن هناك تجمعات مجتمع مدني بالمعنى الحديث. وبسبب تمدد صلاحياتها وسلطاتها (الدولة) لتشمل كل مناحي حياة الإنسان في المجتمع من المهد إلى اللحد، فقد كان من الطبيعي بالنسبة لها أن تركز سلطتها كاملة بيد الحاكم، وتسليط جميع أضواء الإعلام عليه، لدرجة أن بعض أجهزة الإعلام، وبمبالغة فاضحة أحيانا، كانت تلقبه بالملهم، مع العلم أن الإلهام هبة من الله وصفة من صفات النبوة. وتركيز السلطة بيد واحدة جاء في سياق التركة السياسية والاجتماعية التي وصلت إلى مجتمعاتنا عبر تركة الدولة العثمانية التدخلية. لم يدرك محمد علي، وهو معذور في ذلك، أن مناعة وقوة الجيش الفرنسي جاءت ضمن سياق مجتمع "الحرية والمساواة والأخوة"؛ شعار الثورة الفرنسية، لا مجتمع الراعي والرعية. وشتان ما بين مفهوم المواطنة المبني على المساواة واحترام عقل وحرية كل إنسان، وبين مفهوم الراعي الذي لا يتنازل، لا بل لا يخطر في باله أبدا أن يستشير أو يتفاكر مع رعيته. وقد جاءت رياح التغيير عاصفة في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية، تعززها طموحات وأحلام ورغبات شعوب المنطقة التي كانت تسمع وتقرأ عن أحوال العالم الغربي. لكن لا رضا بهلوي، ولا ابنه شاهنشاه أو ملك الملوك في إيران، ولا مصطفى كمال أتاتورك، شاركوا شعوبهم هذه الطموحات والأحلام. فالأصل عندهم كان الاستقرار، والتنمية وجميع ما تعنيه هي لتعزيز هذا الاستقرار. أما في العالم العربي، وبعد فترة من محاولات تأسيس حكم مدني دستوري، وبسبب الهجمة الصهيونية والغربية التي لا ترحم لاستعمار فلسطين، فإنه سرعان ما احترقت جهود الانفتاح والليبرالية في أتون القهر والظلم الغربي، وردة فعل الجماهير العربية الغاضبة. وباستثناء الأردن الذي تمتع بقيادة مختلفة وجادة في محاولات التنمية والمشاركة في التطور بالروية والابتعاد عن العنف، فقد عادت معظم الأنظمة المشرقية العربية إلى الاعتماد الأساسي والرئيس على الجيش وتوابعه من القوات الأمنية. وبعضها غلف نفسه أحيانا بمحاولات تشبه استخدام ورقة التوت، من خلال تأسيس الحزب الواحد وتجيير العقيدة، كحزب البعث وغيره، لتخفي هذه الأنظمة نفسها خلف عقيدته، وتبرير استبداد حكم الفرد المطلق الذي كان يتلاعب لا بأموال خزينة دولته فحسب، بل أيضا برقاب ابناء شعبه ودمائهم! ما يجري في وطننا العربي اليوم، يعود بالدرجة الأولى إلى استمرار محاولات اختراقنا والسيطرة علينا عن بعد أو عن قرب، من دول العالم الغربي وإسرائيل. لكن الأهم أن معظمه يعود إلى الحكام العرب الذين كانت تنقصهم الثقافة والخبرة، والذين بسبب أوضاعهم العائلية والمعيشية كانوا يفتقرون إلى حكمة فن القيادة والحكم. فلا شك بأن الرئيسين عبدالناصر وصدام حسين وغيرهما من المعروفين في الوطن العربي منذ خمسينيات القرن الماضي كانوا وطنيين، ولكنهم وبسبب انعدام خبرتهم في فن الحكم أوصلوا الأمور إلى ما وصلت إليه. حزنت كل الحزن لوفاة عبدالناصر العام 1970. وحزنت واستشطت غضبا حين شاهدت على التلفزيون طبيبا غربيا يفتح فم صدام حسين عنوة ليتفحص أسنانه وكأنه مخلوق آخر لا يمت للإنسانية بصلة. وكذلك كان شعوري إزاء البربرية التي تم التعامل بها مع جثمان معمر القذافي. وأحسب أنهم جميعهم كان لديهم حسن النية أو البعض منها، لكن الأهم أن يتعظ ويتعلم من يقودون عالمنا العربي اليوم، وأن ينهجوا منهجا جديدا؛ إذ تغيرت الأحوال، وتعلمت الشعوب أن وسائل الحكم السابقة بالتحايل على القانون وأساليب "فرق تسد" والضحك على اللحى أو تبويسها، ليست السبيل نحو مستقبل أفضل. يتم تدمير العالم العربي، المشرقي بالذات، بشكل منهجي مخطط له. وعلى القيادات السياسية مسؤولية تاريخية خطيرة، بأن تصارح شعوبها بشأن ما يجري، وأن يشاركوها حقا في عملية صنع القرار. |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الإثنين 02 نوفمبر 2015, 5:42 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (14)
يسأل الرئيس السابق للولايات المتحدة جورج بوش الابن: "لماذا يكرهوننا؟". ونون الجماعة هنا لا شك تعود علينا نحن العرب. ويجول هذا السؤال في صدر كل إنسان عربي حين يعكسه، فيتساءل: "ولماذا هم في الغرب يكرهوننا؟ ما الذي فعلناه حتى نستحق كل هذا الحقد الذي يبدو وكأنه لا ينضب، وينفجر بين الحين والآخر، وبالذات منذ لحظة ولادة الإسلام؟". واضح أن الغرب لا يريد لنا نحن العرب الخير والاستقرار، بخلاف ما تزعم بعض منشوراته ومراجعه التي تقول شيئا فيما تفعل حكوماته شيئا آخر. والدعوة هنا، مرة أخرى، لا لإذكاء العداوة أو مقاطعة الغرب؛ الأمر الذي سيزيد من حدة مصائبنا ومشاكلنا، وإنما يتمثل الأمر في اعتقادي الجازم بأن أهم قضايانا على مدى المستقبل المنظور والبعيد هو كيفية التأسيس لعلاقة، ولو شبه معقولة، مع الحضارة الغربية الديناميكية والعدوانية. مسألتنا مع الغرب مسألة وجود، تتعدى اهتمام الغرب ودعمه لقيام دولة إسرائيل، واستمرار الحفاظ عليها وتغذيتها. فالعداء قديم، سبق قيام إسرائيل بقرون، وما هي في واقع الحال إلا إحدى أدواته. في تحليل السياسة الغربية تجاه العرب على مدى العقود الماضية ومنذ انهيار الدولة العثمانية، لا بد من الانطلاق بإبداء ملاحظة مهمة تتعلق بطبيعة الحضارة الغربية برمتها، منذ صعودها على مدى القرون الخمسة الماضية. فهي حضارة ترتكز إلى قاعدة فلسفة التنافس والتضاد والتضارب، لا التعاون. وهي قاعدة أسس لها وكان من كبار دعاتها فيلسوف الداروينية الاجتماعية هربرت سبنسر، الذي نقل فكر داروين نفسه من المجال الطبيعي البيولوجي إلى المجال السياسي الاجتماعي والاقتصادي، بالتأكيد على أن البقاء للأصلح، وأن التنافس لا التعاون هو من طبيعة الأشياء. فالتنافس بحد ذاته قيمه لا تعلوها أي قيمة أخرى؛ إذ من خلاله فقط تتقدم المجتمعات. وهذا التنافس الذي لا بأس، لا بل من الضروري أن يصاحبه العنف أحيانا، لضرورة هذا العنف في بقاء الأصلح والأقوى لقهر قوى الطبيعة والسيطرة عليها. مثل هذه القواعد الفلسفية هي بعض ما تقوم عليه حضارة الغرب الاستهلاكية الرأسمالية اليوم، والتي دعاها البابا فرانسيس بـ"الرأسمالية المتوحشة". في المقابل، تتحدث الحضارة العربية الإسلامية عن عمارة الأرض لا قهرها؛ حضارة قواعدها الفلسفية تدعو إلى التكافل والتعاون وتقبل الأشياء، والتناغم ما بين البشر والطبيعة وما بين البشر والخالق. وهي تؤكد، من حيث المبدأ، أن لا ضروره لفصل العقل عن النقل؛ إذ تقول إن لنور النقل ونور العقل أن يكملا بعضهما لما فيه سلام الذات مع الذات، وسلام الجار مع الآخر، والسلام الاجتماعي داخل وبين المجتمعات. كان من الممكن لهذا التمايز بين الحضارتين العظيمتين؛ العربية الإسلامية والغربية، أن يجعل كلا منهما يكمل الآخر، لو كان الأمر مقصورا على النواحي الفلسفية والفكرية. وكان ممكنا للحديث عن هذا الأمر أن يتعدى الترف الفكري حتى تستفيد هذه الحضارة من تلك. لكن عوامل التاريخ والجغرافيا وحقائق السياسة، جعلت أمر الصدام؛ صدام الحضارات الذي تحدث عنه صمويل هنتنغتون، الأقرب إلى حقيقة الأمر. وقد عمق من حدة الصراع قيام حركة الاحتجاج البروتستانتية، بقيادة مارتن لوثر بدايات القرن السادس عشر، باعتماد التوراة (العهد القديم) مصدرا أساسيا ورئيسا للحضارة الغربية، بما مهد لإعادة تأهيل اليهود في المجتمعات الغربية التي كانوا قد طردوا أصلا من معظمها. وكان لإفساح المجال لإحياء التراث اليهودي أن سمح بعد ذلك لتغلغل الفكر الصهيوني وصوره وتخيلاته -التي يعود معظمها إلى أساطير وقصص التوراة- في جوف الحضارة الغربية، على النحو الذي نشاهده اليوم؛ وحتى التأثير على العقيدة الكاثوليكية، إذ قام المجمع البابوي المسكوني العام 1962 بتبرئة اليهود من تهمة صلب السيد المسيح، وإعادة تأهيل اليهودية كأحد أسس العقيدة المسيحية والحضارة الغربية. كان لتطور العلاقه اليهودية والصهيونية مع العالم الغربي أبلغ الأثر على مجرى وتوجه السياسات الغربية نحو العرب. وهنا لا بد من إبداء ملاحظتين مهمتين. الأولى، أن لا اعتراض للعرب إطلاقا على قرار المجمع المسكوني العام 1962 بتبرئة اليهود من ذنب صلب السيد المسيح، لا بل كنت أنا شخصيا من الذين كانوا يعتقدون أن هذا الأمر ربما يقود إلى مصالحة تاريخية لا بين الكاثوليكية واليهودية فحسب، لا بل وأيضا إلى مصالحة ما بين الديانات الإبراهيمية التوحيدية كافة؛ اليهودية والمسيحية والإسلام. أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بنظرة العالم الغربي إلى العرب، والتي تختلف شكلا ومضمونا عن علاقة الغرب بالشعوب والأقوام الإسلامية الأخرى. فلم تكن هناك مشكلة لدى العالم الغربي في التعاون مع إيران الشاه أو تركيا حين تم الاعتراف بدولة إسرائيل. ولا توجد مشكلة في تعاون دول الغرب مع أندونيسيا أو ماليزيا أو نيجيريا أو غيرها من الدول الإسلامية. إذ تبدو هذه العلاقات طبيعية للغاية، الأمر الذي يختلف حين الحديث عن العرب. ويعود السبب في ذلك بالطبع إلى العامل الصهيوني وجميع ما يتعلق بقضية فلسطين، حتى بعد قيام الدول العربية، بقيادة المملكة العربية السعودية، بالتقدم بمبادرة "بيروت للسلام" العام 2003. فحتى ما بعد "مبادرة بيروت" تبقى عقدة العلاقات العربية-الغربية موجودة، بسبب رفض إسرائيل لهذه المبادرة وجميع المبادرات السابقه لها. والمشكلة اليوم، على ما يبدو، كأن إسرائيل هي التي لا تعترف بالأنظمة العربية، ولا بضرورة التعامل الجدي معها، على الرغم من تبادل السفارات مع كل من مصر والأردن وموريتانيا، والتعاون والاعتراف الواقعي من قبل كثير من الدول العربية الأخرى. ومثل هذه الحال توكد ضرورة طرح السؤال التالي: ما الذي تريده إسرائيل؟ وإلى أين تقود لا القضية الفلسطينية فحسب، بل والمنطقة العربية برمتها؟ وما معنى صمت دول الجوار والغرب على ما تفعله وتخطط له إسرائيل؟ كيف السبيل إلى التوصل لتفاهم الحقيقي مع الغرب، وإسرائيل ماضية في سياستها الحديدية الرافضة لكل مبادرة سلام؛ لا مع الفلسطينيين فقط، بل والعالم العربي ككل؟ مره أخرى أذكّر بما ورد في كتاب نجيب عازوري العام 1904، بقوله إن مصير العرب مرتبط بما يجرى على أرض فلسطين. إسرائيل لا تعمل فقط على إضعاف وتفتيت وإنهاك الدول العربية، وإنما أحد أهم أهدافها القضاء على العروبة. ومن المؤسف أن معظم قادة الدول العربية اليوم يتصرفون وكأن الأمر لا يعنيهم. علاقة معقولة مع الغرب ضرورة أساسية لحياتنا وحتى بقائنا. الأمر الذي يفرض علينا أن نتعامل بكل جدية مع مسألة إسرائيل التي هي أكبر تحد لمستقبلنا. أما كيف؟ فهذا هو السؤال الأهم. |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الإثنين 02 نوفمبر 2015, 5:44 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (15)
ستبقى مسألة العلاقة مع الغرب القضية الأساسية التي تواجه العرب على مدى المستقبل. والعقدة الأساسية المستعصية على الحل لدى العرب حتى اليوم هي: كيف، وهل ممكن الاعتراف الحقيقي، فكريا وروحيا وواقعيا، بدولة إسرائيل؟ نظريا، وافق العرب على وجود هذه الدولة. لكن قرارة نفوس الشعوب تتحدث بعكس ذلك. ويقول البعض إن للزمن والتاريخ منطقهما، وهما كفيلان مع الوقت بأن يجعلا من وجود هذه الدولة أمرا طبيعيا، كما الاعتراف بوجود دولتي إيران وتركيا، وحتى الدولة الكردية البازغة أيضا. كما يقول آخرون إن الزمن والديمغرافيا يعملان على شرقنة إسرائيل، وبعد ذلك اختفاؤها من خريطة المنطقة. العرب لا يكرهون الغرب، لا بل ويطمحون إلى التعامل الطبيعي والمعقول معه. وفي الإجابة عن تساؤل الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن "لماذا يكرهوننا؟"، لا بد من التذكير بأن السبب الرئيس لهذا الكره هو السياسات الغربية، وعلى رأسها الإصرار العجيب على تبني جميع سياسات دولة إسرائيل، والتغاضي عن عنصريتها وقسوتها، لا بل وتبرير ذلك. حقيقة الأمر أن الإنسان العربي يتساءل بدوره "لماذا يكرهنا الغرب؟!". فنحن نعترف، مثلا، أننا غير قادرين على منافسته عسكريا وتكنولوجيا. أما النفط، وهو السلعة الوحيدة التي نبيعها له، فهو في حقيقة الأمر بين أيدي الدول الغربية، وحقوله محاطة بقواعدها العسكرية على الأرض، وأساطيلها في البحار، وصواريخها وطائراتها في السماء. صحيح أنه لبعض فئات من العرب آراء معينة بشأن العلاقة مع الغرب، لكن الواقع يقول إن جماهير غفيرة من الشعوب العربية مبهورة بحضارته ورقيه المادي، وتتطلع إلى إمكانية تحقيق ذلك في بلدانها. أما الكراهية إن وجدت، فهي غير موجهة إلى الأفراد أو الشعوب الغربية، بل إلى بعض سياسات هذه الدول المجحفة بحقنا، والاستمرار في تطبيقها علينا، مهما حاولت الأنظمة العربية وقياداتها إظهار حسن النية والتعاون الوثيق معها. جهود الأنظمة والقيادات العربية لتغيير آراء وسياسات بعض الأنظمة الغربية نحونا، ترتطم عادة بذاكرتنا الجماعية التي ما تزال تحتوي على صور لتاريخ العلاقات، منها حملات الفرنجة والاستعمار على مدى القرون الماضية، كما تتذكر الهوة الكبيرة بين ما يقوله الغرب وبين ما يفعله فيما يتعلق بحقوق الإنسان وكرامته ومجمل المبادئ الغربية الراقية التي يبدو أنها عصية على التطبيق علينا! يتذكر المواطن العربي الهوة السحيقة ما بين النظرية والواقع؛ كيف يفسر الكيل بمكيالين، وأن حياة إسرائيلي واحد تساوي حياة العشرات أو ما يفوق ذلك من العرب؟! حتى قبل تدمير العراق وتوابعه، كتهديد ليبيا وسورية واليمن وإنهاك الدولة المصرية في شوارع مصر وفي سيناء، والسعودية في حرب اليمن، تم الاعتراف العربي رسميا بدولة إسرائيل، مع وجود الأساطيل والجيوش الغربية للدفاع عنها. لكن العربي لا يفهم لمَ لا يتردد الغرب في اللجوء إلى القوة العسكرية معنا متى قرر، أو حين تُختلق الأسباب كما حدث بالعراق، فيما يتغاضى عن استمرار الاحتلال الإسرائيلي رغم جميع قرارات هيئة الأمم المتحدة، ورغم القانون الدولي. العرب لا يكنون حقدا أو كراهية للغرب وحضارته الفتية التي ما تزال تتوقد نشاطا وحيوية، لتضيف اليوم تلو الآخر إلى إنجازاته العلمية والتكنولوجية والحضارية الرائعة. ويعترف العرب اليوم أن أميركا أصبحت، بحكم قوتها وتفوقها، جارة فعلية لكل دولة عربية، لا بل حتى لكل دولة في العالم. ما يمقته العرب لا علاقه له بشعوب الغرب إو إنجازاته، بل السياسات العمياء المنحازة التي تتحكم بها الشركات الصناعية الكبرى، بسيطرتها على أدوات صنع القرار، وعلى الإعلام الذي يروج لإسرائيل، كما يروج للعنف والجنس والكراهية. ويتساءل العربي: هل حقا أن وسائل الإعلام في عالم الغرب مستقلة؟ وهل هي حقا منبر حر؟ ومن الذي يتحكم بها عن بعد وعن قرب، ولمصلحة من؟ ما يكرهه العرب هو تعامل الغرب معهم بنفس الأسلوب الذي تعامل به مع الشيوعية التي فشلت، بعد تجربة استمرت سبعين عاما، في أن تترك أثرا حضاريا واحدا. وإذا ما كان هناك خطر أحمر للحظة تاريخية معينة، فإن ما كان موجودا وما هو موجود اليوم، ليس أي خطر أخضر تحاول أبواق الإعلام المتصهينة إثباته لشعوب الغرب. لا أدري كيف يمكن لدول الغرب أن تتعامل مع العرب والإسلام بنفس أسلوب تعاملها مع الشيوعية. وهل حقا أنها لا تعلم أننا أمه حضارية؟ ألا تعلم أن الإسلام أصيل وأساسي في هوية الإنسان العربي؛ مسلما كان أم مسيحيا، وأن من المستحيل اجتثاثه على غرار اجتثاث الشيوعية؟ الإسلام جزء من النفس يعرفه العربي بداهة ويتحسسه، وليس عقيدة خارجية طارئة، عليه أن يتعلمها كما الشيوعية؛ كيف يمكن إيصال هذه الحقيقة إلى صانع القرار والمثقف والإنسان الغربيين؟ كيف يمكن إيصال حقيقة أنه كلما ازدادت حدة الهجمة الغربية والصهيونية، ازداد تعلق أهلنا بحضارتهم وعقائدهم؟ كان لانهيار المد القومي بعد حرب 1967 وما تبقى منه بعد سقوط بغداد وبعثها في العام 2003، وبينهما الفكر الاشتراكي نهاية القرن الماضي، أن أحدثا فراغا عقائديا وروحيا هائلا في المنطقة. هذا الفراغ لا علاقة له لا بالسياسة ولا بالاقتصاد، وإنما بوضوح حقيقة الأزمة العربية الخانقة التي لا يبدو وكأن هناك مخرجا منها، والتي من نتائجها أن انطوت قطاعات واسعه من شعوبنا على نفسها، تبحث عن الأسباب لكل ما يحدث، فكان الدين والمزيد من التعلق به، إسلاميا ومسيحيا، البلسم والرد. ظن الرئيس الراحل أنور السادات، وبسذاجة منقطعة النظير، نظرا لجهله بتركيبة مجتمعاتنا وتاريخها وعقائدها وارتباطاتها، أنه تمكن من تحطيم الحاجز النفسي بين العرب من جهة، وإسرائيل والغرب من جهه أخرى. ولا أدري ما إذا كان قد نسى أو تناسى جذور أمته وكبرياءها واعتزازها بنفسها. ومرة أخرى أقول: صحيح أننا متخلفون تكنولوجيا، لكننا متقدمون حضاريا، وإن اعتداد الإنسان العربي بنفسه وحضارته، وما يعتقده حقا وباطلا، أمر أعمق بكثير من تحليل الرئيس السادات السطحي والساذج. وإن إنساننا يرفض فكرة الهيمنة الصهيونية أو هيمنة الشمال الغني علينا، وإن كان عاجزا للحظة عن التصدي لذلك بكفاءة. النظرة العدائية لدى بعض الفئات في العالم العربي تجاه الغرب ليست وليدة الساعة، وإنما هي بسبب تراكم القضايا العالقة التي يرفض الغرب التعامل معها بجدية بهدف حلها. وحتى عداء الفئات الإرهابية لا ينجم عن كره طبيعي للحضارة الغربية، بمقدار كره هذه الفئات لبعض الممارسات والسياسات الغربية، إضافة إلى الأوضاع الدولية عامة. |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الإثنين 02 نوفمبر 2015, 5:45 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (16)
يتحدث صمويل هنتنغتون، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد، في مقالته "صراع الحضارات" التي نشرتها مجلة "فورين أفيرز" صيف العام 1993، أنه في أعقاب نهاية الحرب الباردة، سيأخذ الصراع بين الحضارات نمطا جديدا. ويقول: "... إن السبب الرئيس للصراع لن يكون بالدرجة الأولى عقائديا أو اقتصاديا. الانقسامات الكثيرة بين البشر، والتي ستكون السبب الأساس للصراع، هي ثقافية... مع نهاية الحرب الباردة، ستتحرك العلاقات الدولية من مرحلتها داخل الغرب، لتصبح بين الغرب واللاغرب". ويستطرد هنتنغتون ليؤكد على وجود ثماني حضارات في عالم اليوم: العربية، والكنفوشية، واليابانية، والإسلامية، والهندوسية، والسلافية الأرثوذكسية، والأميركية اللاتينية، والأفريقية. وفي تحليله، يقول هنتنغتون إن صراعات المستقبل ستتم على الحدود التي تقع ما بين هذه الثقافات. ويعطي لحتمية هذا الأمر ستة أسباب. أولا، أن الفروقات ما بين الثقافات حقيقية وأساسية، لأسباب تاريخية ولغوية وتراثية وثقافية. وثانيا، أن عالم اليوم يزداد انكماشا، ما يجعل الاحتكاك بين الحضارات يتعاظم وينمو. وثالثا، أن عملية التحديث الاقتصادية والاجتماعية الجارية على الصعيد العالمي تقود إلى عزل وتغريب البشر عن هوياتهم المحلية. ورابعا، أن الوعي الحضاري داخل بعض الحضارات، يجد دافعا قويا له بسبب الإحساس بتحدي العالم الغربي، الأمر الذي يقود إلى رد فعل للعودة إلى الجذور في الثقافات اللاغربية. فعملية التغريب تصاحبها بالضرورة محاولات العودة إلى الأصول. وخامسا، حقيقة أن السمات الحضارية أقل استعدادا للتغيير أو التكييف من العوامل السياسية أو الاقتصادية. وسادساً، وأخيرا، يشير هنتنغتون إلى تعاظم دور التكتلات الإقليمية الاقتصادية؛ كالاتحاد الأوروبي واتفاقيات التجارة الحرة في أميركا الشمالية... إلخ، والتي تباعد بين البشر بسبب التنافس على الموارد والثروة. وينتقل هنتنغتون بعد ذلك ليتحدث عن "الحدود الدامية" بين الإسلام والغرب، وعن الصراع المستمر على مدى 1300 سنة. فيقول إن الحرب بين العرب والغرب "وصلت ذروتها العام 1990 عندما أرسلت الولايات المتحدة جيشا عرمرما إلى منطقة الخليج الفارسي". وفي علاقة الغرب مع بقية العالم، يقول إن الغرب يسخر المؤسسات الدولية لحماية مصالحه والترويج لقيمه السياسية والاقتصادية. سبق أن قلت إنني كنت أحد الذين هاجموا وانتقدوا طروحات هنتنغتون، بسبب اعتقادي آنذاك أن المثل العليا الإنسانية لا بد أن تسمو. لكن حدة ردة الفعل الغربية بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 -لا على صعيد الشارع وحسب، بل وعلى صعيد القيادات السياسية والاجتماعية كذلك- قادتني إلى الاعتراف بوجود صراع ما بين حضارتي شمال وجنوب البحر الأبيض المتوسط: الغرب والعرب. فعلى الرغم من الإدانة الواسعة والصادقة من قبل القيادات السياسية والروحية والاجتماعية العربية لذلك العمل الإجرامي البشع، إلا أن تيارا جارفا من الحقد على العرب والإسلام انفجر بقوة تدل على ما في الصدور الغربية من مشاعر، لها جذور تاريخية أصبحت تعرف بـ"الإسلاموفوبيا". لقد كان لذاك الحدث وما تلاه أن جعلني أعيد النظر في علاقة الحضارتين ببعضهما منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي، وأن أتعمق وببعض الإسهاب في أطروحات هنتنغتون وموضوع نهاية التاريخ لفوكوياما، وذلك في محاولة لتحليل ما جرى ويجري اليوم في عالمنا العربي. ولا بأس من الاعتراف بوجود الصراع، لكن بهدف البحث عن وسائل معالجته، وأن يقود هذا البحث إلى دراسات متعمقة للتعرف على أسباب الضعف والقوة على طرفي المعادلة. ويضيف إلى أهمية هذه الدراسات ويجعلها أكثر إلحاحا، نجاح الصهيونية في التسلل إلى وجدان الإنسان الغربي عامة، وصانع القرار خاصة، في ضوء ما جرى في فلسطين والعراق وسورية واليمن وسيناء والسودان، وحال التشرذم والهلهلة العربية في كل مكان. ويضاف إلى كل ذلك المحاولات الجارية لإدخال ومن ثم إحلال، قيم سياسية واجتماعية غريبة على حضارتنا، وكذا الالتفاف حولها وترويضها. لقد قام العلامة إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق"، بتسجيل المشاعر الدفينة لدى الغربيين على مدى القرون الماضية، ضد العرب والمسلمين، من خلال اقتباسه وتحليله لما ورد في كتب بعض مؤرخيهم ورحالتهم جيلا بعد جيل، وذلك في محاوله للتعرف على الأسباب والدوافع خلفها. وحقيقة الأمر تقول إنه منذ ظهر العرب في مشرقهم وبقوة على مسرح التاريخ؛ لحظة ولادة الإسلام، والأقوام والأمم المحيطة بهم، وتلك الدول الكبرى العظمى بعد ذلك، تتفاكر وتتساءل كيف تم ذلك؟ فحتى تلك اللحظة، ما كان العرب سوى مجموعة من القبائل المتناحرة، الأشبه بأحجار شطرنج تتلاعب بهم القوتان الأعظم آنذاك؛ الإمبراطورية الساسانية من الشرق، والرومانية من الغرب، فكيف أصبحوا أصحاب عقيدة؟ وكيف تمكنوا أن يصبحوا قوة لا بد من التحسب لها ومهادنتها، أو حصارها أو محاربتها؟ كيف أصبح العرب أصحاب رسالة حضارية، تمكنت من غزو واحتلال عقول وأفئدة شعوب، كما أراض واسعة من العالم؟ وهل بالإمكان ردهم أو التغلب عليهم، أو على الأقل حصارهم واختزالهم بشكل أو بآخر؟ مثل هذه الأسئلة وغيرها لا بد أنها تدور في الذاكرة الجماعية لأهل الغرب وحضارته التي فرخت الاستعمار والصهيونية، ونابليون وبلفور وكيسنجر وبوش وغيرهم. علاقتنا مع الغرب أمر لا خيار لنا فيه، نظرا لعوامل التاريخ والجغرافيا والمصالح، وفوق ذلك كله قدرة الغرب اللامحدودة على إيذائنا متى أراد ذلك. وهي علاقة تطرح الكثير من الأسئلة المثيرة والمحيرة في آن واحد، نظرا لواقعنا الرديء، مما يتيح الفرصة للصهيونية الدولية أن تمحو من الذاكرة الإنسانية وجودنا كعرب، فتعيد كتابة التاريخ على ضوء الأساطير التلمودية التوراتية، وكأن عروبتنا لم تكن حقيقة ولو للحظة واحدة. صحيح أن الحوار مع الغرب على مختلف الصعد السياسية والدينية والاقتصادية وغير ذلك لم يعط أي نتائج ملموسة، ولكن علينا الاستمرار فيه. فهو حوار فريد في تاريخ العلاقات الدولية، حديث العهد، نشأ بعد الحرب العالمية الثانية فقط. إذ لن يسبق تاريخيا أن قامت حضارة ما وعن سبق عمد وإصرار وتخطيط، بالدعوة إلى حوار مع حضارة أخرى على النحو الذي يتم اليوم. والمرجو أن تتوسع دائرة هذا الحوار فتخرج من دائرة ندوات المثقفين لتصل إلى سمع رؤساء الدول وصنّاع القرار، وإلى الجماهير المسترخية والمتخمة في الغرب، كما الجماهير الجوعى والغاضبة في الشرق. وعلينا نحن أبناء الحضارة العربية الإسلامية تذكر أن حضارتنا ربما هي الوحيدة اليوم التي ما تزال مستعصية على اختراق العولمة الكامل، إضافة ألى أنها الوحيدة كذلك التي لا تقف مجرد الند للند للحضارة الغربية، بل وتصرح بتفوقها عليها. مثل هذه الندية تستشعر بها الحضارة الغربية، ولا تروق لها. |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الإثنين 02 نوفمبر 2015, 5:47 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (17)
ينطلق البحث في حوار الحضارات، من محاولة لتجميع الخيوط، بغية التعرف على ما يجري داخليا، كما التعرف على النسيج الذي يحاك حولنا خارجيا. إذ إن تسارع الأحداث يبقينا في حال من عدم التوازن، جعلنا بدوره غير قادرين على تبصر الأمور، كما ديمومة الارتجالية ورد الفعل. فكل حدث مفاجئ يقودنا للتأرجح ما بين العتب والغضب. فنريد للأمور أن تتغير من دون أن نغير ما في النفوس. وهكذا نستمر في النظر إلى بعضنا بعضا من منظار تراثي ملّي، لا يأخذ بعين الاعتبار تغير الظرف والزمان، ولا المقاييس العقلانية. مثل هذا التحليل لا ينطلق من فرضية وجود مؤامرة علينا، ولا من شعور هستيري بأننا مطاردون مستهدفون، بمقدار ما أنه محاولة لتلمس أبعاد ما يحل بنا وحولنا. فتسارع الأحداث وتواصلها، وتتالي المصائب وتراكمها، أفقدنا القدرة على التركيز، بحيث أصبحنا غير قادرين على ربط الأحداث بشكل يسهل مهمة، لا بل ونتعامل مع كل حدث وكأنه حدث أو مفاجأة جديدان لا علاقة لهما بما سبقها! إن النظرة التحليلية، من وجهة النظر التاريخية والمعاصرة كذلك، تشير إلى أن عالمنا العربي، وبالأخص مشرقه الذي يضم فلسطين ولبنان وسوريو والعراق والأردن ومنطقة الخليج، في خطر كبير، حتى قد يكون مرشحا للتغييب، وربما القضاء عليه سياسيا بشكله الحالي. والشق الآخر لهذا الأمر لربما كان نتيجة وقع عملية التفتيت السياسي هذه، الذي دفع قطاعات سكانية واسعة إلى هجرة معاكسة لنهج الهجرات التاريخية من جوف الجزيرة العربية إلى شمالها، وتحويلها للمرة الأولى في التاريخ، إلى هجرة نحو الجزيرة. وهو أمر مهد له اكتشاف النفط، الذي أدى إلى إحداث هجرات طوعية على مدى الخمسين عاما الماضية، أو هجرات قسرية كما يحدث منذ مطلع الألفية الثالثة. ما يعتمل في وجدان عالم الغرب من أحاسيس سلبية تجاه العرب والمسملين، تجدد في أعقاب سقوط بيزنطة بيد العثمانيين يوم 29 أيار (مايو) 1453. هذا الحدث الكبير تبعه بعد فترة أربعين عاما فقط، طرد العرب المسلمين من إسبانيا، وبداية عصر الاكتشافات الجغرافية في العالم الغربي، والتي تمثل هدفها الرئيس في الالتفاف حول العالم العربي الإسلامي الذي كان يسيطر على طرق التجارة الدولية التاريخية عبر وحول البحر الأبيض المتوسط. وتزامنت هذه الأمور مع استمرار التخلف التكنولوجي في العالم العربي والإسلامي، والذي كان من أسبابه الرئيسة نجاح الملاحة الغربية في الالتفاف حول البحر المتوسط الذي كان بمثابة بحيرة تركية في عهد الخليفة سليمان القانوني، للوصول إلى أسواق الشرق. وقد كان لهذا الحدث الأثر الكبير على أهمية الشرق الأوسط ومنطقة البحر المتوسط؛ إذ فقدت جراءه مكانتها المتوسطة على طرق التجارة العالمية، وقاد إلى إضعافها وإفقارها اقتصاديا، إذ تحول محور التجارة في العالم القديم وانتقل من منطقة الشرق الأوسط، إلى المركز التجاري/ الاستراتيجي السياسي والعسكري حول المحيط الأطلسي. ويؤكد الأستاذ الدكتور أنور عبدالملك في بحث له حول الأهمية التاريخية لمؤتمر باندونغ (الذي عقد في العام 1955، وكان النواة الأولى لنشأة حركة عدم الانحياز) أن للاكتشافات الجغرافية الغربية هذه أبعادا استراتيجية كثيرة على المنطقة العربية بالذات، ليس أقلها توسع الاستعمار الغربي. الأمر الذي تبعه تهميش وتبعية منطقة الشرق الأوسط بكاملها، وتحويلها إلى جرم يدور في فلك المحور الأطلسي الجديد، وبحيث كان من تبعاتها تسارع تخلف المحور القديم، بالإضافة إلى فقدانه زمام المبادرة منذ ذلك اليوم. فليس من قبيل الصدفة، إذن، احتدام المواجهة. كما لم يكن من قبيل الصدفة قيام نابليون بالدعوة إلى هجرة اليهود إلى فلسطين. ولا من قبيل الصدفة، كذلك، المحاولات المتكررة للحركة الصهيونية، منذ بداية القرن التاسع عشر، التحرك السريع لاختراق الحضارة الغربية، وتجيير إنجازاتها العلمية والعسكرية والسياسية لصالحها، إلى الحد الذي وصل إليه اليوم. والوعي بكون الصراع، ومن خلال المنظور التاريخي، هو صراع وجود حضاري، أمر في غاية الأهمية. وبالذات إذا ما أضيف إليه أن لدول الجوار للمشرق العربي أفكارها ومخططاتها واستراتيجياتها التي تتعارض في كثير من الأحيان مع الغرب. مثل هذا الأمر لم يغفله الساسة الإسرائيليون؛ إذ أكد رئيس وزراء إسرائيل الأسبق ديفيد بن غوريون على ضرورة تحالف إسرائيل مع الدول المحيطة بالصحن العربي المشرقي. وهي الفكرة التي طورها لتصبح نظرية رئيسة (Periphery Theory) وقاعدة مهمة من قواعد السياسة الإسرائيلية، الأمر الذي يفسر إلى حد بعيد كذلك العلاقة الجيدة التي قامت بين إسرائيل وإيران الشاه، وهيلاسيلاسي الحبشة، كما الدولة التركية. والإشارة إلى دول الجوار لا تعني بأي حال من الأحوال أخذ مواقف سلبية تجاهها، بمقدار ما تهدف إلى ضرورة التحوط لأمور نرجو ألا تقع. فمن الملاحظ مثلا أن تركيا وإيران وإسرائيل، دول تعتقد أن لها مهمة تاريخية (Manifest Destiny)، إضافة إلى أن تركيا وإيران، وعلى الرغم من الإسلام المشترك بينها وبين العرب، تعتمدان سياسات تحاول أن تعزز من طاقتها باتجاه المهمة التاريخية التي تعتقدان أنها من نصيبهما، وعلى حساب العرب الأكثر ضعفا. تقول ريجينا الشريف في كتابها "الصهيونية غير اليهودية" (Non-Jewish Zionism: Its Roots in Western Theology, London, Zed Press, 1983): إن تجيير إسرائيل لإنجازات الحضارة الغربية لصالحها، والاتحاد السوفياتي جزء منه، أهم عناصر قوتها. إذ ليس من قبيل الصدفة أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تسابقا العام 1948 للاعتراف بإسرائيل، وتقديم السلاح لها، كما الرجال من خلال فتح أبواب الهجره إليها. ويؤكد هالفورد مكندر، الذي كان من غلاة التوسع الاستعماري في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أن البحر الأبيض المتوسط أصبح منذ ظهور الإسلام "خندقا حدوديا" يفصل ما بين دار الإسلام من جهة والعالم الغربي من جهة أخرى. وإن هذا الخندق منع العالم الغربي على مدى قرون طويلة من التمدد والتوسع. ومثل هذا الخندق أشار إليه صمويل هنتنغتون بعد عقود، حين سماه بالحدود "الدامية" بين الغرب والإسلام. ويؤكد مكندر أنه على مدى ما يقارب الألف عام، بقي العالم الغربي "حبيس" العرب، إلى أن تم الالتفاف حول "المتوسط" بالاكتشافات الجغرافية. ويقول مكندر في أحد كتبه (Democratic Ideals And Democracy, New York, Norton Press, 1962, PP 38-53 and 172-174, Passim)، إن من يسيطر على أراضي العالم القلب (The Heartland)، والتي يسميها "الجزيرة العالمية" وتضم آسيا وأفريقيا وأوروبا، يسيطر بالتالي على العالم. وإذا ما كانت هذه "الجزيرة العالمية" مركز الإنسانية التاريخي على هذه الأرض، وإذا ما كانت بلاد العرب الممر من أوروبا إلى الشرق والجنوب هي وسط هذه الجزيرة العالمية، فإن مدينة القدس الجبلية هي المركز والوسط الاستراتيجي لهذه الجزيرة العالمية. وتوضح إحدى الخرائط الصليبية أن القدس هي الوسط الهندسي و"سرة" العالم. وهكذا يؤكد مكندر على ضرورة قيام أميركا وبريطانيا بالسيطره على العالم، واستخدام اليهود "المؤهلين" كما يقول، "للعمل الدولي" لهذا الغرض. ويضيف أن تأسيس دولة إسرائيل ربما هو أحد أهم نتائج الحرب العالمية الأولى، كونها تقوم على تقاطع الوسط التاريخي والجغرافي للجزيرة العالمية. إذن، ما يجري على ساحة العرب منذ بداية القرن التاسع عشر، ليس سلسلة من المصادفات أو الأحداث المتناثرة التي لا ارتباط بينها؛ بل هي أمور تسير في إطار رؤية استراتيجية تاريخية، قد تتبدل وسائلها وتكتيكاتها أو تتراجع أحيانا، لكنها تسير على الأمد الطويل في الاتجاه نفسه.
|
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الإثنين 02 نوفمبر 2015, 5:49 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (18)
لا بد من البحث في سمات المجتمع العربي، والتي منذ بدايات النهضة العربية قبل ما يقارب القرنين من الزمن، ما تزال تشكل المعوقات الرئيسة للتغلب على التخلف. وهنا لا بد من الإشارة السريعة إلى انعزالنا مدة تقارب الثمانية قرون عما يجري عند جيراننا في أوروبا من نهضة فنية وأدبية وعلمية، والذي من أهم أسبابه ربما الشراسة والدموية والتدمير الذي استمر على مدى ما يزيد على القرنين إبان حروب الفرنجة المعروفة بالحروب الصليبية، رغم عدم علاقتها بالصليب أو الدين، وإنما بإساءة استعمال الأخير لأغراض سياسية واقتصادية واستعمارية. إذ حتى حملة نابليون بونابرت على مصر بتاريخ 1 /7 /1798، كانت جميع المجتمعات الشرق أوسطية في حال من السكونية والانعزال عما يجري في العالم الغربي من تقدم وأحداث. وجاء اعتداء نابليون، وما تبعه من استعمار غربي، ولو بأشكال متعددة ومختلفة، كزلزال للمنطقة، ما تزال تردداته تشكل التحدي الداخلي والخارجي لمجمل أبعاد ومظاهر حضارتنا العربية الإسلامية. لقد استكانت المجتمعات العربية إلى حال من السكونية بعد أن انهكتها حروب الفرنجة الطاحنة. وباستثناءات معينة على مدى قرون الانحطاط، ساد النقل على العقل، حتى في التعامل مع أمور الدنيا، وسادت قيمة الاستقرار والسلام الاجتماعي لدى الدول المتعاقبة على أي قيمه أخرى. وهكذا، ابتعدت الدولة عن التدخل في شؤون الخلق، بحيث وصلتنا عبر الإمبراطورية العثمانية كمجرد حارس للأمن الداخلي، والدفاع عن التخوم، وجاب للضرائب، وغير معنية لا بالتربية ولا بالتعليم، ولا بالشوؤن الصحية والعمرانية، إلا ما ندر. أحد الأسئلة التي تشغل بالي على الدوام، يتعلق باللحظة التي انطلق فيها الغرب، فأفلت من ظلمات العصور الوسطى ليسيطر على ذاته أولا، وبعد ذلك يفرض سيطرته على العالم. والسؤال هو: كيف سيطر الغرب على ذاته، وهل بإمكان أجزاء أخرى من العالم أن تفعل ما فعل؟ هل بمقدور حضارات أخرى، على اختلاف ثقافاتها وتراثها الفكري والعقائدي، أن تقوم هي بدورها بكسر طوق التخلف والسير نحو آفاق جديدة من التنمية والتطور؟ كيف انفك الغرب من الأوتاد التي كانت تشده إلى التخلف، فانطلق على النحو الذي انطلق به ليسيطر على أجزاء واسعة من موارد وطاقات هذا الكون لخدمته، وبحيث يمكن التأكيد أن عالم اليوم منقسم إلى "عالم الغرب" وعالم اللاغرب أو الآخرين" (The West and the Rest). للإجابة عن هذه التساؤلات، لا بد من التعرف على أهم المعوقات والقضايا العالقة التي تواجهها جميع شعوب منطقة الشرق الأوسط، ولاسما العرب. أولى هذه القضايا، هي استمرار مراوحتنا مكاننا في حال المخاض والانتقال التي ما نزال نتخبط فيها منذ بدايات الهجمة الغربية علينا نهاية القرن الثامن عشر. إذ ما نزال نقف حيارى ما بين خياري النقل والعقل، غير قادرين على الحسم أيهما يتقدم على الآخر. هذا على الرغم من أن المسألة في الإسلام أسهل بكثير منها في المسيحية أو اليهودية؛ إذ تم وضع الحدود الضرورية ما بين العبادات التي تتعلق بحقائق الخلق الأزلية، وعلاقة الإنسان بإيمانه وربه، وهي أمور لا يجوز لمخلوق البحث فيها، وبين المعاملات التي تجيز الاجتهاد في أمورالدنيا، والأخذ بعين الاعتبار لضرورات الظرف والمكان. وأعتقد أن هذا ما أخذ به أهل الغرب حين اعتمدوا العلمانية والاحتكام إلى العقل وضرورة تطويره بأساليب التجربة والخطأ، فيما يتعلق بأمور الدنيا. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أهل الغرب حين اعتمدوا الاحتكام إلى العقلانية في التعامل مع أمور الدنيا، لم يتخلوا لا عن إيمانهم ولا عن طقوسهم، بدليل أن الزائر لمدن الغرب، حتى الكبرى منها اليوم، يعجب لهدوء باريس ولندن، وحتى نيويورك وأمستردام، أيام الأحد، نظرا لغياب الناس للصلاة في كنائسهم ودور عبادتهم. فالاحتكام إلى العقل، أي العلمانية، لا يعني الكفر ولا ابتعاد الناس عن دينهم وعبادتهم. أعي وأتحسس ما تمر به أمتنا من مصاعب ومتاعب، وحيرة وارتباك. وأتفهم احتماء الناس بدينهم ساعة الشدة والحيرة. الأمر الذي يضع على عاتق الدولة والمؤسسات الدينية عندنا واجب تثقيف الشعوب بهذه الأمور، وأن تذكر بالعدد الكبير من الآيات الكريمة في القرآن الكريم التي تدعو الخلق إلى التعقل والتفاكر والتشاور في أمور الدنيا، وبما لا يتناقض أو يتضارب مع قواعد وأسس الإيمان والدين. حين أحاضر أو أساهم في الندوات المعنية بحوار الثقافات والأديان، أشير دوما إلى أن أول كلمة في القرآن الكريم جاءت بصيغة الأمر "اقرأ". والقراءة بهذا المعنى تعني التفكر وحسن التدبر والتعقل، بما لا يتعارض مع الإيمان؛ لا مجرد القراءة لإضاعة الوقت أو التسلية. طالت فترة المخاض التي ما تزال السمة الغالبة لدى شعوبنا. ولعل ذلك يعود إلى عدم الحسم بشأن ما هو مقدس وما هو غير ذلك. ولعل من أبلغ الأمثلة على ذلك مقارنة تطور اليابان بحال مصر. إذ لم يبدأ تطورها إلا مع مجيء الإمبراطور ميجي العام 1870، أي بعد سبعين سنة من بدايات النهضة التي باشر بها محمد علي الكبير في مصر العام 1800. وهو الأمر الذي يجعل التساؤل عن هوة التطور وأسبابها بينهما؛ ما الذي حدث في اليابان، بحيث أنها دولة غنية عظمى اليوم، فيما مصر العزيزة على ما هي عليه اليوم؟ فلا أحد ينكر ذكاء أهل مصر، ولا عراقتهم منذ فجر التاريخ، ولا تقدمتهم الحضارية للعالم، ولكن يبقى السؤال قائما: لماذا؟ يزعم البعض أن سبب تقدم الغرب هو فصله للدين عن الدولة. وأنا لن أناقش هذا الأمر بالنسبة لحضارتنا، حيث الدين عند جميع مللنا ونحلنا، بما في ذلك الإسلام، جزء ومكون أساسي من هوية الإنسان. وليكون الأجدر أن نركز على ما يجعل من الدين نبراسا في ضمير الإنسان، يهديه إلى سواء السبيل، لا وظيفة من وظائف الدولة التي نعرف جميعا محدودية طاقاتها حتى في الأمور البسيطة المنظورة، ناهيك عن تدخلها في قضايا العقيدة والإيمان والأخلاق. وأحسب أن انفلات الدولة من سلطة الدين في عالم الغرب على مدى القرون الخمسة الماضية، قد قاد إلى ازدهاره كأمر خاص بالإنسان وعلاقته بربه طوعا، لا مسايرة للمجتمع ولا طاعة لسلطة سياسية، جعلت منه أداة من أدواتها للتوصل إلى الاستقرار والسلام الاجتماعي. فللغرب تجربة، ولنا تجربة مختلفة، إذ لم تقم العقيدة عندنا بالسيطرة على الدولة والمجتمع، كما كانت الحال في الغرب أحيانا. قام الدكتور حمزة حداد، وزير العدل الأردني الأسبق، بإهدائي نسخة من كتابه عن العقل العربي، وحمل عنوانا مثيرا "مغلق حتى إشعار آخر: (مرتع التراث الديني)"، والذي يهدف إلى "... فتح الباب لبيان الرأي والمناقشة والحوار بما ورد في العديد من كتابات التراث الديني". وأعتقد أن البحث في مثل هذه الأمور وارد اليوم أكثر من أي زمن مضى، ونحن نشاهد الذين اختطفوا الدين وجيروه لتبرير بربرية وهمجية أقل ما يقال فيهما إن الدين بريء منها. لا يجوز البقاء في حال المراوحة وعدم الحسم التي نحن فيها. وعلى قياداتنا الروحية والسياسية البدء بهذا الأمر، من خلال اعتماد عملية "نفض كامل" لمناهج التربية، لتكون مناهج تنمي عقل الإنسان ولا تدجنه كما هي الحال الآن.
أ. د. كامل صالح أبو جابر
|
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الثلاثاء 03 نوفمبر 2015, 7:46 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (19)
. د. كامل صالح أبو جابر*
كان أحد أهم أسباب استقواء الدولة على المجتمع، واستبدادها عبر تاريخنا الحافل، هو حاجتها الحقيقية أحيانا إلى حشد الجماهير وتعبئتها، بغرض الدفاع عن تخومها في مواجهة الضغط المستمر الذي كان يشتد في فترات، من قبل العالم الغربي. هنا لا بد من الإشارة إلى أن أحد الأسئلة التي تطرق إليها علماء الاجتماع والسياسة والتاريخ، يتعلق بالمفاضلة ما بين الحرية والعدالة من جهة، والاستقرار من جهة أخرى. والدولة -اليوم كما أي دولة في التاريخ- تميل دوما إلى رفع قيمة الاستقرار على أي قيمة أخرى، لتؤكد على قول: لا حرية ولا عدالة، لا بل لا وجود لمجتمع إنساني حقيقي، من دون الاستقرار. فكانت هذه دائما حجة الدولة، عبر تاريخنا، في تبريرها لضرورة الاستفراد بعملية صنع القرار، وحصرها بشخص الحاكم وحده، حتى وصل الأمر إلى مطالبة بعض علمائنا ومثقفينا أحيانا بـ"المستبد العادل"، على الرغم من التناقض المبدئي والمنطقي ما بين العدل والاستبداد الواردين في العبارة نفسها. اعتاد الناس سابقا على الطاعة؛ بدءا من العائلة حيث سيطرة الأب عليها، فالحَمولة أو القبيلة، أو الدولة فيما بعد. هذه الطاعة التي تقود، حسب الدكتور هشام شرابي في كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" إلى "أن تحل روح الخضوع محل روح الاقتحام، وروح المكر محل روح الشجاعة، وروح التراجع محل روح المبادرة..." (ص32 وص69). ويضيف الشرابي أن واقع العائله سلطوي "كنظام المجتمع في كل مؤسساته، نظام هرمي يقوم على السلطة والعنف، ويحتل الأب فيه المركز الرئيسي والأول" (ص95). سبقت الإشارة إلى أن أولى القضايا الرئيسة التي تواجه مجتمعاتنا، هي حالة الحيرة والمخاض والمراوحة التي نعاني منها. أما المسألة الأخرى وطيدة الارتباط بالأولى، فهي بلا شك مسألة شرعية الدولة، وإلى ماذا تستند، وما هي مصادرها. وتزامن اشتداد رياح التغيير الغربية مع انهيار امبراطورية الخلافة العثمانية. صحيح أن الحوار لم ينقطع أبدا بشأن شرعية الدولة في أدبياتنا، لكنه صحيح كذلك أن جل البحث في هذا الأمر كان يدور ضمن الإطار التقليدي، ومحوره مؤسسة الخلافة التي كان لها الرأي الأول، لا في الشؤون السياسية فحسب، بل والشرعية والعقدية كذلك. وما بين الضغط الخارجي المتواصل عبر القرون الماضية، وضرورات الأمن الداخلي، اشتدت قبضة الدولة، وتمركزت جميع السلطات بيد الحاكم. علينا تذكر أن الانتقال من دولة جذورها ومصدر شرعيتها في العقيدة وطاعة القانون الإلهي، إلى دولة تحكمها القوانين الوضعية من صنع الإنسان، هو أمر ما يزال غير مكتمل، وفي حالة انتقال. وفي الفترة ما بين انهيار دولة الخلافة العثمانية وحتى قيام ما سُمي "الربيع العربي"، كان من أهم المشاكل التي واجهت الدولة العربية الحديثة، اتهام غالبية المثقفين العرب لها بأنها "مصطنعة"؛ جاءت لخدمة أغراض دول الاستعمار، وضمن ذلك أن حدودها مصطنعة أيضا لا تعكس واقع الشعوب العربية، حتى وصل الأمر إلى تعريف "الوطني" بأنه ليس المنتمي إلى دولته الحديثة، بل المعارض لها والمجتهد في البحث عن السبل لتقويضها بهدف الوصول إلى حلم الوحدة العربية. لدي إحساس، لا أدري ما إذا كان من الممكن إثباته، أن أحد أهم نتائج فوضى "الربيع العربي" هي أنها، ربما، فرضت على قطاعات واسعة من جماهيرنا إعادة النظر في توجهاتها السابقة نحو الدولة، وبالذات أن هذه الفوضى، وبمساعدة من الصهيونية العالمية، قد قادت إلى المزيد من شرذمة وتفتيت الدول العربية الحديثة، كما حدث في العراق، ويحدث في فلسطين وسورية وليبيا واليمن وغيرها. فمثل هذه الشرذمة عززت قيمة الانتماء إلى الدولة الحديثة، وأصبح مألوفا قيام العراقي أو السوري أو الأردني أو الفلسطيني بالتعبير عن الاعتزاز بهوية دولته، من دون أن يتهم، كما كانت الحال في السابق، بالإقليمية. نسمع اليوم من يتحدث عن دستور دولته وضرورة الالتزام بنصوصه كأهم مصدر من مصادر الشرعية السياسية للدولة. وهنا لا بد من التأكيد على أننا ما نزال في فترة انتقال تاريخية، لم يحسم الأمر بشأنها بعد قطعا، ولكنها تؤشر نحو إمكانية قيام واقع جديد، يؤكد على ضرورة الحفاظ على الدولة الحديثة، وكذا شرعية الانتماء لها ولدستورها وقوانينها الوظيفية. لكن هذا الواقع الجديد ما يزال نفسه في حال الصيرورة؛ لم تكتمل معالمه بعد، لا في ذهن الفرد ولا في الوعي الاجتماعي. والعائلة والحَمولة والقبيلة، وكذلك ربما حال جميع الملل والنحل اليوم، هي في طور الانتقال من كينونة إلى أخرى. إذ إن جميع مؤسسات المجتمع هذه انتقلت جسديا من القرى والأرياف والبوادي إلى المدينة. وحال الانتقال هذه قطعا ليست مجرد تغيير في عنوان السكن، بل نقلة كمية ونوعية في كنه الحياة ونسيجها ومضمونها الحضاري. ولعل من أهم سماتها أنها بدأت تفرز قيادات جديدة تقف إلى جانب وتنافس القيادات القديمة؛ بدءا من رأس الحَمولة أو شيخ القبيلة أو مختار الملة أو النحلة، إلى المعلم والمهندس والطبيب وأستاذ الجامعة، أو موظف كبير في مؤسسة خاصة أو إحدى مؤسسات الدولة ووزاراتها. كما بدأ يبرز الانتماء إلى العائلة النووية الصغيرة وأولوياتها، إلى جانب الانتماء إلى التجمع الأكبر ممثلا بالعشيرة أو القبيلة. هكذا أصبح مفهوم الطاعة نفسه في موضع مساءلة، يعتمد بالدرجة الأولى على مقدار الخدمة الممكن أن يقدمها من تجب له الطاعة؛ أكان الدولة نفسها أم شيخ القبيلة التقليدي أم أحد أبنائها الذي تعلم وأصبح محاميا أو طبيبا أو موظفا كبيرا في مؤسسة ما. فلم تعد الطاعة تلقائية عمياء من دون مساءلة كما في السابق، بل لا بد من ثمن لها. مثل هذه الحال الجديدة، حصلت لمسألة شرعية الدولة مضمونا وشكلا جديدا، لا بد لها من التجاوب معهما. ربما كان وصف الدكتور شرابي حول الطاعة صحيحا في مجتمع ساكن راكد، لم يدخله فيروس عدوى التغيير الذي اقتحم مجتمعاتنا؛ حيث أصبح التغيير مطلبا ذاتيا، وضرورة من ضرورات الحياة، ولم يعد مجرد استجابه لتحد أو دافع خارجي. والمطالبة بإرساء قواعد الشرعية، شرعية الدولة، لم تعد كما كانت الحال سابقا، رد فعل أو تقليد، بل أصبحت مطلبا أساسيا ذاتيا نابعا من داخل المجتمع نفسه. لم تعد الشعوب العربية اليوم تقبل أن تكون شرعية الدولة مرتكزة ومركزة في شخص الحاكم، بل لا بد من أن ترتكز إلى دستور مدون، ومؤسسات لها صفة الديمومة. وحتى لو كانت صلاحيات هذه المؤسسات منقوصة أحيانا، لتصبح مجرد "ديكور" يخفي حقيقة استمرار أولوية الحاكم، فإن لها أهميتها؛ إذ تفرض على الحاكم ضرورة التظاهر بأهميتها، كمرحلة مهمة من مراحل التغيير التي لا بد أن تقود يوما ما إلى انتقال أو تشارك حقيقي للسلطة، وهنا تؤخذ القرارات بعد إعمال العقل والاحتكام إلى قواعد منطقية، ومن خلال مداولات ونقاشات علنية. ومثل هذه الحال تنطبق حتى على الدول العربية التي فشلت نظمها الحاكمة في التجاوب مع رغبات شعوبها، فآلت إلى ما آلت إليه من فوضى العنف والدمار التي هي حالها اليوم. وما حال العنف والدموية هذه إلا صنف آخر من أصناف البحث عن أسس شرعية جديدة، لولادة نظام سياسي اجتماعي جديد.
*وزير سابق |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأربعاء 04 نوفمبر 2015, 5:16 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (20)
أ. د. كامل صالح أبو جابر*
أحد أهم الأوتاد التي تشدنا إلى الماضي وتقف، بدورها، حائلا أمام متطلبات الحداثة، هو تبعية المجتمع المحافظ، ولبنته الأساسية تكوين الأسرة العربية وطبيعتها، والقيم والعادات والتقاليد التي تحرص على الحفاظ عليها جيلا بعد جيل. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حدة المحافظة تشتد كلما اشتد الضغط الخارجي المتمثل في اقتحام العصرنة والحداثة لمجتمعاتنا العربية، والتي من الواضح أن لا طاقة للأسرة العربية، ولا حتى المجتمعات بكاملها، للتصدي لها؛ الأمر الذي يحتم على هذه المجتمعات إعادة نظر كاملة وشاملة في مجمل عملية اختراق القيم الدخيلة هذه، لانتقاء المناسب منها لحياتنا. والمهمة شاقة؛ إذ إن تكنولوجيا الاتصال الحديثة أصبحت جزءا مهما وملازما لا غنى عنه في حياة العصر. ولم يعد الأمر مقصورا على دور السينما والصحف والمجلات والراديو، وما تقوم به من عملية تواصل؛ بل تطور الأمر إلى الهاتف الجوال المتطور، والذي أصبح جزءا لصيقاً من حياة العائلة وحتى الأطفال. وبسبب اعتقادي بعدم جدوى المقاومة في هذا المجال، فإنه يتوجب علينا البحث في الوسائل التعليمية والتربوية والإرشادية التي قد تساعدنا في الحفاظ ولو على الحد المقبول، ولا أقول الأدنى، من قيمنا. عملية التربية والتعليم القائمة في معظم مجتمعاتنا العربية، كانت صالحة لعصر مضى، ربما حتى لحظة ظهور الكمبيوتر الذي تطور على مدى العقود الأربعة الماضية، ليصل الى ما وصل إليه اليوم. ولا أدري متى ستقتنع وزارات التعليم لدينا بأن عصر حشو عقل الطالب بالمعلومات التي يتوجب عليه حفظها وبصمها عن ظهر قلب، قد ولّى، وأن عليها العمل على تنمية العقل من خلال التجربة والخطأ، لتطلق مخيلة الطالب من عقالها، ويجرؤ على أن يسأل كل سؤال يريد، في أي موضوع كان. اكتشف أهل الصين من قديم الزمان، ضرورة أن يتعلم الطفل كيف يصيد السمك، لا أن يعطيه المعلم سمكة. وهذا الأمر يفسر انطلاق الصين منذ منتصف السبعينيات لتصبح دولة عظمى، بكل ما في الكلمة من معنى؛ لا في المجالات العمرانية والاقتصادية والعسكرية فحسب، بل في جميع مجالات الحياة، وأهمها الإبداع والابتكار. كيف للطفل أو الطالب أن يبتكر ويبدع، وهو يقضي الساعات الطوال يبصم ويحفظ عن ظهر قلب؛ لا الأشعار فقط، والتي لا يفهم معظمها أصلا، بل وجداول الحساب التي من الممكن أن يجدها في كمبيوتر صغير في مكتبة حارته بعدد قليل من القروش؟! ما بين مؤسسة التعليم هذه وأسرتنا العربية التي تنزع إلى المحافظة وردع الطفل ليبقى في مكانه ويسكت حين يتحدث الكبار، ليس من متنفس أحيانا للطفل إلا أن يهرب إلى عالمه الخاص، حيث لا يجرؤ أن يسأل عن أمور السياسة أو الدين أو الجنس. ولا بد من الإسراع في القضاء على عملية التدجين هذه، والتي هي جزء من الماضي. هذه العملية التي تتكاتف أهم مؤسسات المجتمع في الحفاظ عليها، كل منها لأغراضها الخاصة؛ المؤسسة السياسية والتربوية والدينية والأسرة. فالأسرة تقول: "بدنا ولد نشوفه ولا نسمعه"، وأن يكون الولد مطيعا لا لوالده فحسب، بل ولمن هو أكبر منه سنا، بتلقينه أن "من هو أكبر منك بيوم أفهم منك بسنة". والتلقين -حسب تعريف الدكتور هشام شرابي في كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي"- هو الشكل الأكثر تنظيما من أشكال فرض السلطة وتثبيتها. ويضيف أن الطاعة "هي نتيجة الخوف أكثر مما هي نتيجة الحب والاحترام". وهكذا، ينشأ الطفل مطيعا لا لوالديه والأنماط التي يتعلمها في عائلته الصغيرة والممتدة، بل للسلطة التي عليه أن يكيف حياته وفكره وتصرفاته معها، من دون أن يتجرأ على طرح سؤال. لا شك في أن العلاقات داخل الأسرة، وسيطرة الأب عليها، في حال من الانتقال والتغيير. لكن لا شك كذلك في أن نظام حياتنا ما يزال أُسريا بالدرجة الأولى، فتبقى الأسرة المنهل الرئيس الذي يقود بالتالي إلى تكوين الشخصية حسب أنماط تهدف بالدرجة الأولى إلى الحفاظ على القيم المجتمعية المتوارثة. وهذا أمر يفسر إلى حد بعيد الحلف غير المرئي ولا حتى الوعي لوجوده، ما بين أهم مؤسسات المجتمع الأساسية، للحفاظ -ولو قدر المستطاع- على الأمور كما وصلتنا من السلف ومقاومة التغيير حتى الضروري منه كذلك. فالأسرة ما تزال المؤسسة التي تحافظ على الأنماط الحياتية جميعها، لا في الخضوع للسلطة وأولي الأمر فحسب، بل وفي استمرار طغيان فكر الجماعة على الفرد. وهي تفعل ذلك من خلال اللجوء إلى الأمثلة الدارجة التي تغني المرء عن التفكير، وتكرار بعض العبارات المألوفة في الحديث اليومي بين الأفراد. ولنتذكر أنه حتى عهد قريب، كان لكل بلدة أو قبيلة لباس خاص بها، وبالذات فيما يتعلق بالإناث، حتى إنه كان من الممكن التعرف على أن هذه السيدة من السلط أو الخليل، أو من قبيلة معينة، بمجرد النظر إلى ثوبها. وما تزال الأنماط دارجة في الشعر وقوافيه الرتيبة، والغناء والحداء، والموسيقى والرقص، أو الدبكة الخاصة بأهل كل مدينة، وكذلك في الرسم الذي يكرر أشكالا هندسية إلى ما لا نهاية، ليشجع بدوره على عدم الخروج عن النمط المألوف. فإذا ما أضيف إلى ذلك أن حياة مجتمعاتنا، حتى عهد قريب، كانت موسمية زراعية، خاضعة لقوى الطبيعة خارج مقدرة الإنسان بحيث أنه حتى مقياس الزمن والمكان غير دقيق، لخرجنا بصورة عن مجتمعاتنا أقرب إلى القدرية منها إلى مقدرة الإنسان على التحكم بشؤونه. كان مألوفا ومتوقعا أن ابن الحداد أو الصايغ أو صانع الأحذية، يتبع مهنة أبيه. ومثل هذا كان مستحبا، ويزيد من قيمة الصانع الذي يقول، مثلاً، إنه نحاس أبا عن جد. وكان مألوفا أن تسمع الأم تقول لابنها "ان شاء الله تطلع مثل أبوك"، رغم كون أبيه غبيا أحيانا! فالأصل هو الحفاظ على الراهن. أما الأب البطريركي، فما نزال ندعوه برب الأسرة، مع ما لهذه العبارة من معاني ظاهرة وخفية، تركز على سلطته شبه المطلقة، وتسلطه على رقاب أبنائه ذكورا وإناثا، الأمر الذي يعززه قول الأم "لا تجادلش أبوك يا ولد... روح بوس إيده بلكي الله يرضى عليك". لا شك في أن العائلة، كما السلطة السياسية أو الدينية أو التربوية، لا تحبذ الخروج عن المألوف، إذ الأصل المسايرة، وحتى المداهنة، لتسيير الأمور والتستر، حتى لا تلحظك الدولة أو أي من مؤسساتها التي قد تلحق بالفرد الضرر. ويقول أحد أمثلتنا الشعبية: "حط راسك بين هالروس.." و"كُل ما تريد ولكن البس كما يريد الآخرون.."، ولا حول لك "اذا كان القاضي غريمك". ليس الهدف من الإشارة إلى هذه السلبيات، وهي جزء من كل، الحط من قدر مجتمعاتنا أو التقليل من روعتها؛ إذ هناك في المقابل الكثير من الإيجابيات التي حصلت وتجعل لمجتمعنا وتعددية ملله ونحله ومشاربه هذا الوجه الرائع من الحضارة. إنما الهدف هو الوعي لها، وما قد ينجم عن هذا الوعي من ضرورة التصدي للقوى التي ترفض التغيير حتى ولو أدى ذلك إلى أضرار جسيمة، أو حتى الفناء.
*وزير سابق |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأربعاء 11 نوفمبر 2015, 8:07 am | |
| أ. د. كامل صالح أبو جابر
في بحث ألقاه الأستاذ الدكتور جلال صادق العظم في مؤتمر حوار للأديان انعقد في الفترة 10-13/ 6/ 1995، أكد أن استمرار الغرب في الاعتقاد، ومن ثم الترويج، بأن الإسلام يشكل تهديدا حقيقيا له، هو أمر يدعو للسخرية. إذ لم تمر فترة في التاريخ كانت فيها تبعية الأنظمة والمجتمعات العربية واضحة للعيان كاللحظة التاريخية الراهنة، نظرا لأوضاع العقم والعجز والاعتماد الهيكلي والتخلف التنموي وانحطاط أحوال العالم الإسلامي. فهذا الغرب يتحدث ويتصرف وكأن إسرائيل هي حجر الزاوية الأصل في المنطقة، فيما العرب مجرد مزاحم دخيل عليها! من الذي يهدد من؟ ولمَ استمرار حال التخلف الذي نحن فيه، وكأن لا عقل ولا تاريخ ولا أمل في هذه الأمة؟ لا أدري كم من الصحة في قول الأستاذ الدكتور حليم بركات في كتابه الصادر في العام 1977، "Lebanon In Strife"، بأن نظام الحياة في المجتمعات العربية يحتوي على مقاومه شرسة للتغيير "... حيث الأنظمة المسيطرة وهياكلها ومؤسساتها ونزعاتها الثقافية في لبنان والبلدان العربية الأخرى جميعها تعمل ضد البشر ورفاهيتهم وتطورهم وتحقيقهم لذاتهم، ليتخطوا حاجز البؤس ويتفاعلوا مع أنفسهم وبيئتهم.. لا حول ولا قوة للبشر الذين يشعرون بالخنوع وعدم الأمان والاغتراب.."؟ لكن، حتى لو كان في ما سبق مبالغة، إلا أن سير أحداث وأحوال البلدان العربية منذ العام 1977 لا يبشر بالخير، الأمر الذي يفسر الهروب إلى الماضي والمألوف لدى قطاعات واسعة من شعوبنا. وفي خطاب للمرحوم الملك الحسين أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، بتاريخ 11/ 9/ 1991، حذر العرب من حالة الغيبوبة التي هم فيها، وما لاستمرارها من آثار سيئة على الأمة. مرة أخرى، لا بد من الإشارة إلى أن العبء الأساسي لا بد وأن يقع على عاتق الدولة، التي هي -شئنا أم أبينا- المحرك الرئيس والأساسي لتغيير المجتمع، والتصدي لقوى مقاومة التغيير الراسخة، من خلال برنامج استراتيجي لإقناع الهاربين نحو الماضي بأنه ليس في الهرب نجاة، وإنما في التكييف مع تحديات العصر والتطور معها. المطلوب ليس سهلا، ولا يمكن أن يتحقق بقانون أو تشريع، وإنما من خلال نهضة علمية سياسية مجتمعية دينية شاملة، تتضافر فيها القوى التي حافظت تاريخيا على إبقاء الأمور على ما هي عليه في الوضع الراهن؛ المؤسسات السياسية والدينية والتربوية والأسرة. فتقوم هذه المؤسسات بجهد تاريخي للاحتكام إلى العقل ونوره المكمل لنور الإيمان فيما يتعلق بشؤون الحياة الدنيا. ولا بد من إفلات الدين من سيطرة الدولة عليه، ليتعاون مع المؤسسة التربوية في إرساء القواعد الإنسانية والروحية والاجتماعية في حياتنا. كيف الخروج من الأنماط التي تشدنا إلى ما نحن فيه، لنُعمل الفكر في الإبداع والابتكار؟ كيف الخروج من الفكر الاتكالي إلى فكر الإنتاج والاعتماد على النفس، لا على العشيرة أو القبيلة أو العزوة؟ عزوة الإنسان في علمه وجهده وإنتاجه، وأن يقف على قدميه. أنا من المؤمنين بالله عز وجل الذي خلقنا وخلق معنا إرادة حرة لنختار ونعمل على عمارة الأرض التي هي مشيئته. الأمر الذي لا بد لنا من التفاكر فيه حين نتحدث عن القدرية والجبرية في مجتمعاتنا. ولا شك في وجود حقائق أزلية صالحة لكل زمان ومكان، ولكن لا شك كذلك في أنها أمور تتعلق بالعبادات، لا بأمور الدنيا التي تتغير بتغير الأزمان. واضح أن لا جواب لدى مثقفينا وساستنا، ولا حتى رجال الدين عندنا، عن كيف الخروج من أزمة التخلف التي نحن فيها؛ فغالبية إن لم يكن جميع هؤلاء يطرحون على أنفسهم وعلينا نفس الأسئلة المطروحة منذ بدايات "النهضة". والسبب في ذلك أن قوى الوضع الراهن المقاومة للتغيير أرسخ جذورا ومناعة من تلك التي ترغب فيه. صحيح أن المؤسسة الدينية عندنا ما كانت يوما مستقلة عن الدولة، كما كانت حالها في الغرب أحيانا؛ لكن صحيح كذلك أنها كانت تقف أحيانا لتواجه الدولة التي كانت دوما حريصة على عدم المساس أو التعرض لصلاحياتها. وفي استعراض المؤسسات الرئيسة الثلاث التي كانت وما تزال في حلف غير ظاهر حتى من وعي لدى الأطراف الداخلة فيه -وهي المؤسسات السياسية والدينية والتربوية- فإن همها الأول كان وما يزال الحفاظ على الوضع الراهن، نظرا لرقي قيمة الاستقرار على أي قيمة أخرى. لكن لا بد من التأكيد على أن أكثرها فاعلية والتصاقا بالجماهير هي المؤسسة الدينية التي أعتقد أنه يتوجب عليها أخذ زمام المبادرة في قيادة عملية التغيير الضرورية. والأمر في غاية من الأهمية، لأنها إن لم تقم بذلك، فلن تجرؤ المؤسسة السياسية ولا التربوية حتى على التفكير بالبدء في ذلك. على المؤسسة الدينية أن تبدأ بنفسها، فتفتح باب الاجتهاد على مصراعيه للتساؤل عن كنه الحياة وسُبلها. فتسأل وتسمح للطفل أن يسأل. وتعمل على اعتماد وسائل تعليمية تشجع الطفل أن يسأل، كما تشجع على إطلاق عقل ومخيلة الطالب، لا تدجينه وتطويعه وترويضه. المطلوب ثورة مجتمعية شاملة في جميع حقول الحياة، تقوم المؤسسة الدينية بتبنيها وقيادتها، ولاسيما في عملية التعلم، ملتزمة قوله تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". وما بالنفوس لن يتغير إلا إذا قام رجالات الدين، بما لهم من هيبة ونفوذ، بالتصدي لعملية التجهيل التي نسميها مجازاً عملية التربية والتعليم التي أكل الدهر عليها وشرب. |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأربعاء 18 نوفمبر 2015, 10:11 am | |
| أزمة العرب ومعنى التخلف (22)
أ. د. كامل صالح أبو جابر*
شيء عجيب وغريب حدث عندنا، جاءت نتائجه عكس ما حصل في عالم الغرب. ففي الغرب حين انتشر التعليم الإلزامي ليشمل جميع طبقات المجتمع، قاد هذا الأمر إلى انفتاح العقول، وإلى الليبرالية السياسية والاجتماعية، ومزيد من الاحتكام للعقل. وذلك بعكس ما حصل في معظم مجتمعاتنا العربية منذ خمسينيات القرن الماضي؛ حيث يبدو وكأن التعليم الإلزامي قد قاد إلى مزيد من المحافظة الاجتماعية، والهروب، لا بل والاغتراب في الماضي، وتزايد عوامل القدرية والاتكالية التي تعني فيما تعني استغناء الإنسان عن تدبر أموره بعقلانية. علينا أن نطرح على أنفسنا الأسئلة التالية، لما للأمر من علاقة ببقائنا ومستقبلنا: لماذا قاد التعليم في الغرب إلى عصر التنوير وما تلاه، فيما أدى عندنا إلى التقوقع والانغلاق، حتى يبدو وكأن التعليم عندنا قاد إلى نبش ذاكرة مللنا ونحلنا، فأيقظ أحقادا قديمة، وزاد من الاحساس بحدة الخطر؛ لا من الخارج فحسب، بل ومن الجماعات الأخرى، كما من التغيير؟ ولعل الأسوأ من ذلك كله أنه حتى الأغلبية قلقة، تشعر بأن ثقافتها وتراثها مهددان نتيجة لما ندعوه بالغزو الثقافي والفكر المستورد. عندما نروض الطفل من خلال الإصرار على الحفظ والبصم، وعلى التفكير والتقدير فقط ضمن أنماط وقنوات محددة، فإننا عمليا نمنع مخيلته من التجوال في روائع الكون والفكر، ليبتكر ويبدع، لا بل ونفرض عليه التقليد وتكرار التقليد للسلف؛ فكرا وقولا وعملا، وهذا في زمن تتغير الأمور فيه من لحظة لأخرى. يقول الفيلسوف الإغريقي أرسطو طاليس، والذي نعته الفارابي بـ"المعلم الأول"، إن في الحياة ثابتان فقط، هما الزمن والتغيير. إذ إن هناك دوما زمن، والتغيير هو الثابت الوحيد فيه. وقد تنبه مصطفى كمال أتاتورك لهذا الأمر، وحذر شعبه بالقول "إما أن تتغيروا أو تنقرضوا" (Change or Perish). إذن، على مؤسساتنا السياسية والدينية، وبمبادرة منها، العمل على تبني عملية التغيير الشاملة. إذ واضح أن قوى التغيير قادت إلى تحييد كل واحدة منها للأخرى، وبحيث أن معظم ما جاءنا من تغيير لم يتمكن من التصدي لجوهر التخلف. وهكذا ازدادت فجوة انفصامنا الفكري؛ بحيث نقبل ونرحب بوسائل حضارة العصر، إنما مع رفضنا التام لقواعد العقل والمنطق التي تكمن خلف هذه الوسائل. لا أدري كيف يمكننا أن نتصدى لمقولة أن هناك معارف مقبولة وأخرى غير ذلك، لاسيما وأن من الواضح أن لا حدود جغرافية ولا زمنية للفكر، الأمر الذي يجعل من الخطورة بمكان المبالغة بالخوف على ديننا وتراثنا، بما يوقعنا في حال من الخندقة الفكرية التي تمنع انسياب الأفكار والالتهاء، لا بل والانغماس في مجتمع الاستهلاك الاستعراضي. وهكذا تبقى الثنائيات والإشكاليات قائمة من دون حل ما بين العقل والنقل، والأصالة والمعاصرة، والدين والدنيا، والعلمانية والتكفير، والماضي والحاضر، والقديم والحديث... إلخ. مثل هذا الأمر يبقينا عمليا على ما نحن فيه، بحيث تصطدم أي نسمة فكرية بصخرة المجتمع المحافظ المنمط وتياراته التحتية القوية الرافضة لإخراج المؤسسة الدينية بالذات من تسلط الدولة عليها، واستعمالها لأغراض الاستقرار وإعتاق العقل وتحريره من تيارات رفض التثقيف والاجتهاد (Anti-Intellectualism) القوية والمتمترسة في مجتمعاتنا. ما نزال نناقش أمورا حياتية كما كنا نناقشها في بدايات عصر النهضة، من دون التوصل إلى نتيجة. وبحيث يحاول كل طرف لا أن يتوصل إلى حل وسط للإشكالية، بل إثبات أن الطرف الآخر على خطأ، وربما في حال من الكفر، بينما هو وحده من يمتلك الحقيقة. ليس من الضروري لأي طرف في هذه الثنائيات أن يصطدم مع نقيضه لو تم الاحتكام إلى قواعد عقلانية تسعى إلى إيجاد التوفيق وتعايش الاضداد. وشعوبنا بحاجة إلى قيادة، وهي على العموم قابلة للتطور، وقادرة على الصبر، ولا تطلب المستحيل، بل تستجيب وتتجاوب مع قواعد مؤسسات مجتمعها. ولا شك في حقيقة الأخطار الواردة إلينا من الخارج؛ سياسيا وعسكريا وقيميا، ولكني أحسب أن الخطر من الداخل يضاهيها، لا بل يفوقها أهمية، حيث تلجأ الجماهير إلى المألوف وإلى القوقعة على ذاتها، مما يضع عقبات مهمة أمام عملية التغيير وضرورتها الحياتية للخروج من حال التخلف. في مقال لها في صحيفة "الرأي" (12 /9 /2005)، تقول الكاتبة منى شقير أنه يتبين للمتأمل في أوضاع العالم الغربي "أن هناك انساقا سياسية واقتصادية وثقافية تتمتع بثبات نسبي وكأن كل الأحداث التي عادة ما تؤدي إلى التغيير لم تحدث في العالم العربي، إلا بعض أنماط التغيير الشكلي أو الجزئي. ذهب زعيم وجاء آخر، وظلت آليات الحكم على ما كانت عليه... صعقتنا بنى التخلف التي كمنت خلف هزيمة حزيران وأدت إليها. ومرت عقود وظلت بنى التخلف ماثلة قادرة على السير بنا من هزيمة الى أخرى بما يوحي أن العالم العربي يستعلي على أي تغيير ايجابي...". والثبات العنيد في مقاومة التغيير الذي تشير إليه الكاتبة، هو أمر في غاية الخطورة، لعله يضاهي هجمة الحضارة الغربية علينا، عسكريا وسياسيا وإسرائيليا وغير ذلك. حقيقة الأمر تقول إن الحياة لم تكن سهلة ولا لينة ولا آمنة مع العرب، منذ وعيهم على ذاتهم. لكن هذا لا يفسر المقاومة الشرسة للقوى المناهضة للتغيير في مجتمعاتنا، وبالذات في ضوء حياة الأمة في العصر الحديث، والتي تراوح مكانها ما بين حلم الماضي وكابوس الحاضر وبقائنا غرباء على العصر لا ندري إلى أي متجه نتجه. وفي ضوء فشل المؤسستين السياسية والتربوية، ومحاولات المثقفين الفاشلة وغير المجدية أيضا لتقديم الرؤى والبدائل على مدى القرنين الماضيين، فإنه لا بد من البحث عن المخرج مما نحن فيه باستنهاض همة المؤسسة الثالثة المهمة في حياة مجتمعنا، وهي المؤسسة الدينية؛ للبدء بنفسها الاعتماد والاحتكام إلى العقل في أمر عمارة الأرض، وبعد ذلك أن تقوم بدورها -وبالتعاون مع المؤسسة التربوية- في إدخال المفاهيم الضرورية لاستبدال حالنا بحال أخرى، وأخيرا تحفيز وتشجيع المؤسسة السياسية، أي الدولة على قيادة عملية التغيير الضرورية والحقيقية التي لم تجرؤ منذ بداية عصر النهضة على الاقتراب منها، تخوفا من ردود فعل المؤسسة الدينية.
*وزير سابق |
|
| |
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75822 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أزمة العرب ومعنى التخلف الأربعاء 09 ديسمبر 2015, 5:55 am | |
| »أزمة العرب ومعنى التخلف (23)
أ. د. كامل صالح أبو جابر
يعود الاستنجاد بالمؤسسة الدينية الرسمية، بأن تنبري لإخراج الأمة من مستنقع التخلف، إلى عدد من الأسباب التي لا بد من التفاكر حولها، في ضوء خبرة أمتنا على مدى القرنين الماضيين، وبالذات منذ انهيار الدولة العثمانية، وما نجم عن ذلك من تقسيم الاستعمار للمنطقة إلى الدول العربية الحديثة. هذه الدول التي فشلت جل جهودها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وعلى هذه المؤسسة الدينية الرسمية التي كانت تابعة للدولة وجزءا من جهازها الإداري، وحتى تتجاوب معها الجماهير التي هي قادرة على الوصول إلى عقول أفرادها وقلوبهم، البدء -أولاً- باصلاح نفسها (المؤسسة الدينية)، والعمل على الاستقلال النسبي عن السلطه التنفيذية، الأمر الذي قد يعيد لها المصداقية، ولتتمكن من المساهمة في قيادة عملية التغيير المطلوب؛ إذ هي متهمة اليوم من قبل بعض المثقفين بأنها شريكة في إبقاء حال التخلف. واضح جدا أن معظم الدول العربية الحديثة فشلت، وبالذات في أمرين أساسيين. الأول، الحفاظ على التعددية المذهبية والإثنية وما أصبح يعرف بمسألة الاقليات؛ والثاني، مسألة التنمية الاقتصادية التي كان من الممكن لو نجحت أن تدعم جهود تنمية هوية وطنية تتخطى، لا بل تسمو على الهويات التقليدية للملل والنحل. بالطبع، هناك أسباب وجيهة تفسر هذا الفشل، البعض منها يعود إلى التدخل الخارجي. لكن الأهم هو الأسباب الداخلية التي بسبب تراث المنطقة السياسي والاجتماعي قادت إلى تدهور الأمور إلى ما هي عليه اليوم. لا الدولة العربية الحديثة، ولا مثقفوها التي تمكنت من السيطرة على الغالبية المطلقة منهم، نجحا في التصدي الحقيقي والفعلي لتحديات العصر. وهذا الأمر، لا بد أن يقود إلى البحث عن المخرج في أماكن أخرى. وهو ما قادني إلى ضرورة طلب النجدة من المؤسسة الدينية التي يتوجب عليها، أولا، الخروج من تحت عباءة المؤسسة السياسية، وأن تساهم، لا بل تقود عملية التغيير الضرورية لبقاء الأمة. واضح أن الاستمرار في الإفتاء لصالح السلطة ليس في صالح هذه الاخيرة على الأمد الطويل، ولا هو في صالح الأمة كذلك. والدعوة هنا ليست إلى ثورة، بل إلى سعي نحو التوازن المطلوب، بحيث تقوم المؤسسة الدينية بتشجيع أو حتى قيادة المؤسسة السياسية نحو التغيير الحقيقي المطلوب، وبالذات في ضوء معرفتنا بتدين شعوبنا التي ما تزال تجد أنها غريبة على العصر الحديث. مثل هذا التدين يعزز ويدعم نفوذ المؤسسة الدينية، لكي تتعاون مع الحاكم وتأخذ بيده في الأمور التي قد تكون ثمة خشية من التدخل فيها بسبب تدين الجماهير العفوي والنقي. وعلينا تذكر أن الحاكم العربي نفسه هو نتاج بيئته ومجتمعه، وأن فكره هو كذلك نتاج هذه البيئة وهذا المجتمع الذي ما يزال محكوما بتربيته ونشأته وتراثه التقليدي الممنهج والمنمط. إعصار الحداثة والفكر الغربي أدخلا علينا مفاهيم ومشاكل وقضايا لم تكن معروفة ولا مألوفة لدينا من قبل. وهو أمر يحدونا أن نتساءل: كيف للعقل والفكر المنمط أن يتصدى لها؟ فالفكر الممنهج الذي يسير في مسارب وقنوات فرضها عليه المجتمع التقليدي وعمليته التربوية، غير قادر، في أغلب الأحوال، على الخروج عن المألوف أو الإفلات من القنوات المعروفة والمحفوظة لديه. ومثل هذه الحال تفسر عدم القدرة على ربط الأحداث حتى تتكامل صورة ما يمكن فهمها والتعامل معها، وبحيث لا يبدو كل حدث وكأنه مفاجأة لا رابط لها مع ما سبقها. وهذه الحال تفسر عدم قدرة مجتمعاتنا حتى اليوم على التخطيط الحقيقي؛ لا لواقع اليوم فحسب، بل وللمستقبل كذلك. من أهم وأروع سمات عصرنا الحديث، اكتشاف الإنسان أن لا حدود للمعرفة والفكر. والاستمرار في تقديم المعرفة لأجيالنا المقبلة بواسطة الحفظ عن ظهر قلب و"البصم"، أسوأ ما يمكن أن نقدمه لهذه الأجيال في مواجهة المستقبل وتحدياته. إن الاستمرار على هذا النحو سبيل للفناء، إذ حتى لو شئنا أن ننزوي وحدنا فلن تتركنا إسرائيل ولا الغرب لكي نفعل ذلك. والمعرفة المقننة معروفة سلفا، والمطلوب أن نعرف ما لا نعرفه، لنتمكن من التصدي لعالم المستقبل. فإذا ما كانت المعرفة مقننة ومعروفة سلفا بما حفظه الإنسان عن ظهر قلب سابقا، فإن من البدهي الفشل في التجاوب مع المستجدات التي تحدث كل لحظة، والتي لا جواب ولا رد عليها بالمخزون المعرفي المحفوظ سابقا. أفهم أن لإسرائيل وأخواتها مصلحة في ما يجري ضمن ما كنا نسميه وطننا العربي. لكني أقف عاجزا عن فهم لماذا لم نتمكن بعد من التصدي لما يجري ولو جزئيا! وليس الهدف إلقاء اللوم على هذه المؤسسة أو تلك، أو حتى معاتبة الحكام ومثقفيهم، بل الهدف هو البحث عن مخرج من أزمة التخلف المستعصية على الحل حتى اللحظة. لا بد من إطلاق العقل من الأوتاد التي تشده إلى ما هو فيه من المراوحة في مكانه، بينما تتقدم الأمم الأخرى. والمؤسسة الدينية قادرة على توجيه التدين إلى الحاضر والمستقبل، كما هي قادرة على البدء بنفسها بالاحتكام للعقل والعقلانية فيما يتعلق بشؤون الدنيا، من دون المساس طبعا بالعبادات. مرة أخرى، مجتمعنا متدين، ومؤسستنا الدينية ما سيطرت يوما من الأيام على السلطة كما كانت الحال في لحظات معينة في الغرب. لذا، أعتقد أن الخوض في التساؤل بشأن فصل الدين عن الدولة لا جدوى منه، لا لأن رجل الدين كان دوما تحت رحمة السلطان، بل الأهم من ذلك أن الدين عندنا جزء أصيل وأساسي من هوية الإنسان، في مختلف الطوائف والملل والنحل. هناك كتابات كثيرة تضع اللوم على المؤسسة الدينية، والاعتقاد أنها كانت أحد أهم أسباب الإبقاء على حال التخلف. بينما حقيقة الأمر تقول إن اللوم -إذا ما كان هناك حاجة لإلقائه- يقع على عاتق المؤسسة السياسية؛ أي الدولة التي تصدت -في كثير من الأحيان عن حسن نية- للتغيير نحو المستقبل والأفضل. ولكن علينا بالوقت ذاته تذكر أن قياداتنا الثورية وغيرها -على مدى القرن الماضي- لم تهبط علينا من السماء، بل هي نتاج أمتنا ومجتمعاتنا. فلا حسني الزعيم حتى بشار الاسد، أو محمد نجيب وجمال عبدالناصر حتى عبدالفتاح السيسي، ولا عبدالله السلال حتى علي عبدالله صالح، ولا قادة ثورات العراق حتى صدام حسن أو قدافي ليبيا وغيرهم في عالمنا العربي، تم استيرادهم من الخارج أو نزلوا علينا بـ"باراشوت" من السماء؛ بل هم أبناء جلدتنا وتاريخنا وتراثنا. نترحم على بعضهم، وإن كانت الشعوب قد نسيت معظمهم كما نسيت محاولاتهم السياسية؛ أكانت الحزب الواحد أو غيره، بينما من الملاحظ بقاء واستمرار الحركات السياسية الدينية التي تجد فيها الجماهير ملجأ تسكن إليه. |
|
| |
| أزمة العرب ومعنى التخلف | |
|