ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: حكم تشريح جثث الموتى الثلاثاء 01 سبتمبر 2015, 10:10 pm | |
| د. بسام العف
تعتبر مسألة "تشريح الجثث" من القضايا التي استجدت نتيجة للطفرة العلمية الطبية الحديثة، وله عدة مسوغات وأسباب دعت إليه وتعتبر أعذاراً صحيحة يصل بعضها إلي مرتبة الضروريات، كما أن القول بجوازه ربما يتعارض مع القول بعدم جواز العبث بجثث الموتى والتمثيل بها، سيما في بعض الأنواع التي لا تتضح فيها وجه المصلحة المعتبرة شرعاً ورجحانها من عدمها، ومن هنا كان للفقهاء المعاصرين خلاف وتفصيل في حكم التشريح، ويختلف حكمه باختلاف أنواعه ودواعيه وأعراضه، وذلك على النحو التالي:
1- التشريح الذي يهدف إلى معرفة سبب الوفاة ومن هو مرتكب الجريمة بغية صيانة الدماء من عبث العابثين، في الحالات التي يشتبه فيها بوقوع جريمة القتل وتحديد الوسيلة أو الآلة التي تم بها القتل من خنق أو تسميم أو نحوه، وهو ما يطلق عليه الفقه المعاصر ب" التشريح الجنائي والشرعي"، و هذا النوع من التشريح لم يختلف الفقهاء في القول بجوازه، لأنه يترتب عليه جملة من المصالح المعتبرة شرعا، والتي منها:
- صون المجتمع من عبث العابثين والحد من الجريمة بمعرفة مرتكبها الذي غالباً ما يتفنن في إخفاء جنايته، ومن ثم إنزال العقوبة عليه.
- إزالة الشكوك وتبديد الظنون عن الأبرياء سواء في الحالات التي يعمد فيها الجاني إلى ترك بعض الآثار الموهمة وراءه لدفع التهمة عن نفسه ومحاولة إلصاقها بغيره، أو في الحالات ُيشك في كونها جريمة، ثم يتضح بطريق التشريح أن الأمر بخلافه.
ومثل هذه المصالح ترتقي إلى رتبة الضروري ويكون التشريح الجنائي وسيلة وطريقاً للوصول إليه وحفظه، والوسائل تأخذ حكم المقاصد، بالمقارنة مع مصلحة تكريم الميت بعدم امتهان جثته والتي تعتبر من المصالح الجزئية التحسينية، وإذا تعارض الضروري مع التحسيني يترجح الضروري قطعاً.
2- التشريح الذي يهدف إلي معرفة أنواع الأمراض الوبائية ومدى مضاعفتها وخطورتها على الأمة، حال اشتباه إصابة الشخص أو عدة أشخاص بها؛ بغية اتخاذ التدابير اللازمة للوقاية منه وللحد من انتشاره، ويطلق عليه في عرف المعاصرين ب" التشريح المرضي"، وهذا النوع كسابقه من حيث الحكم بالجواز؛ لما يترتب عليه من المصالح المعتبرة التي تترجح على المفاسد المترتبة عليه.
3- التشريح الذي يهدف إلى تعليم الأطباء وتدريبهم على الجراحة الطبية عملياً بمعرفة أجزاء الجسم وتركيباته وطرق إجراء العمليات الجراحية فيه بغية تنمية أداء الأطباء وقدراتهم مهنياً، وتلافي الأخطاء الطبية ما أمكن إلي ذلك سبيلاً، وهذا النوع يسميه الفقهاء المعاصرون ب"الجراحة التشريحية" أو " التشريح التعليمي"، وهو مثار اختلاف الفقهاء المعاصرين في القول بجوازه أو عدمه، والذي يترجح لي هو القول بجوازه – وهو اتجاه كثير من العلماء المعاصرين- للأسباب الآتية:
- تخريجاً على القول بجواز شق بطن الحامل الميتة لأجل استخراج الجنين الذي ترجى حياته، و القول بجواز تقطيع الجنين لأجل إنقاذ حياة أمه إذا غلب على الظن هلاكها بسببه، وكذلك على القول بجواز شق بطن الميت لأجل استخراج المال المغصوب الذي ابتلعه، فإذا أجازوا امتهان حرمة الميت لأجل إنقاذ الجنين الذي ترجى حياته أو لأجل إنقاذ الأم، وهي مصلحة خاصة، فيجوز بل أولى بالجواز التشريح التعليمي الذي يهدف إلى تحسين أداء الطبيب وهي مصلحة عامة ويترتب عليها إنقاذ الكثير من المرضى من الهلاك، وأيضاً لئن أجازوا شق البطن لأجل الحفاظ على مصلحة المال فالقول بجواز التشريح التعليمي أولى؛ إذ إنه يهدف إلى حفظ النفوس من الهلاك ورعايتها وتترجح على رعاية المال، وهذا كله تطبيقاً لقاعدة "إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفادياً لأشدهما".
- الاستدلال بقاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" ومعلوم أن تعلّم الطب من الفروض الواجبة على الأمة، فيجب أن تقوم به فئة لسد هذا الثغر، وتحقق هذا الواجب متوقف على طرق الوصول إليه ومن أهمها، التشريح الذي من خلاله يتمكن الأطباء من فهم العلوم النظرية عملياً فيعد مشروعا وواجباً من هذه الجهة.
- إن محصلة أدلة المانعين أن تشريح الجثة تتنافى مع تكريم الإسلام للإنسان وهو غير مسلّم لهم، لأنه من الممكن أن يقع التكريم على جسده إذا ما تحقق به النفع للمسلمين عامة، فإذا تحقق النفع بالمسلم حال حياته وعند مماته فهذا غاية في التكريم ولا يخفى مدى ثقل وزنه في الميزان يوم القيامة إذا رضي بتشريح جثته بعد موته.
- ثم إن القول بجواز هذا النوع من التشريح ليس على إطلاقه بل مقيد بالضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة؛ فالأصل عدم جواز العبث بجثة المسلم إلا لعذر صحيح مأذون به شرعاً، فوجب البقاء على الأصل وهو المنع حتى تثبت المصلحة المعتبرة شرعاً، سيما أن التشريح يترتب عليه تأخير بعض الأحكام المتعلقة بكرامة الميت كالمبادرة إلى تغسيله وتكفينه والصلاة عليه والإسراع إلى دفنه، ويمكن الاستعاضة عن جثة المسلم بجثث الكفار ما أمكن ذلك، سيما المحاربين فهم مهدورو الدماء وجثثهم في الحرمة دون حرمة جثة المسلم، فإذا لم يتمكن من الوصول إلى جثث الكفار أو كان ممكناً ولكن المتيسر دون المطلوب، فعندها يصار إلى جثة المسلم.
والله هو الموفق إلى سواء السبيل |
|