المثقف والطبيب
يوسف شيخو
حين ذهب إلى الطبيب اثر إصابته بداء الجميع "ارتفاع ضغط الدم " سألته عن حالته وعما أفاده به الطبيب، أجاب بسخرية: ماذا تتصور أن يقول لي الطبيب.. الراحة والنوم وعدم الإرهاق..أعلم كل هذه الأمور".
مريضنا المثقف لم يقتنع بالسبب الذي دفعه لزيارة الطبيب. ولأني مداوم على رؤية المريض في اعتبارنا نعمل على حاسب واحد، حين "يرتفع ضغط" حاسب احدنا، بودي طرح ما يلي:
أفعلا أنت مريض أم انك تتمارض؟، أفعلا هو طبيب أم أنه يدعى ذلك؟..في المعادلة خلل ما..فان كنت مريضا وهو الطبيب لا بد من حل، بغض النظر عن النتائج..وحين أغض الطرف عن النتائج وأركز على الحلول، فاني أكون قد وصلت إلى نتيجة مفادها انك التزمت بزيارة الطبيب كـ"رغبة ودافع" بغية الشفاء، والطبيب أدى واجبه" كمهنة" ورغبة في المساعدة، فان كانت النتيجة إيجابا فان الأمور عندئذ تسير على ما يتوجب عليها، وان كانت سلبا فللحالة استنتاجين، فإما مرضك عضال لا أمل يرجى منه، وعندها لا بد من شطب أسمك وعنوانك من سجل المثقفين المعطاءين، أو أن الداء هو الطبيب ذاته نتيجة خطأ أو جهل أو شرود ذهن، فانه يتوجب على مجلس الحكماء البحث في محاسبته، لتجنب ما اقترفه طبيبك ذاك وعدم تكراره.
البحث عن الحل و- كما المثال السابق- لا يختلف عن حل واشنطن في إسقاط قنبلتيه على هيروشيما وناغازاكي، أقول الحل لأنه وببساطة مثلما لا تستطيع زوجتك تحمل "آهاتك" كل يوم، وأنت تشتكي فيه من الوجع دون زيارة الطبيب، لم يكن بمقدور البنتاغون تحمل "مجانين طوكيو الانتحاريين" وهي ترى أسطولها ينهار، ما أدى بهم الأمر إلى خلق الحل، والذي فتح لهم أبواب الحلول وانظر اليوم إلى سيدة الحلول، وهي توزع الحلول من "مانهاتن إلى برج العرب".
حقيقة المسائل معقدة وحلولها قد تكون قاسية غالباً، وتتطلب جرأة لا يجيد تنفيذها إلا الطبيب الذي سبق وان وصفناه بمن يؤديها كـ"مهنة".. كيف ذلك..؟
يُنصح عند الإقدام على أي عمل مؤسساتي بإتباع خطوات عمل الطبيب الذي يحاول في البدء معرفة المحيط العام والبيئة التي يعيش فيها هذا المريض، وأين يعمل..الخ، ومن ثم يهتم بالعوارض المحددة لهذا المريض لينتقل فيما بعد إلى التشخيص الذي سيسمح له بوصف علاج شافي. وهو ما نعنيه بالحل الشافي.
وحين البحث عن الحل لا بد لنا من التفريق بين الحل كعمل مؤسساتي والحلول الشخصية للفرد، التي لا يمكن أن تتغير إلا من داخله، ولتوضيح ذلك لا بد من الاستعانة بمثال الغرب "السعيد" كمؤسسة، وبين غيره "اليائس"من بقاع العالم.
وهنا ربما يقول أحدهم..ألا يعاني المجتمع الغربي مشاكل؟.. سأجيب نيابة عن أحدهم، عزيزي السائل.. لا تحّول عُقدك إلى مبادئ..ستعاني منها بعد مائتي أو ثلاثمائة سنة، لأنك لم ترتقي بعد إلى مستوى معايشة تلك المشاكل، ولست هنا بصدد عرض نتائج الدراسات التي قالت بأرقام سلبية عالية فيما يتعلق بكل ما ندعيه من الناحية الأخلاقية والاجتماعية، وفي هذا الجانب لن استشهد بما تقوله نوال السعداوي أو محمد شحرور أو نبيل فياض أو عبد الصمد الديالمي، - في اعتبار أن آرائهم لا ترضي البعض - بل سأنوه إلى فكرة اجتمع عليها "برتراند رسل" في كتابه (البحث عن السعادة) وايريك فروم" (الهروب من الحرية).. السعادة والحرية يرتبطان بمسائل الضمير والرقيب الداخلي "الأنا الأعلى"، وهنا علينا ملاحظة تأثير ذلك في خلق العقد الشخصية، التي تولد من رحم الظروف السياسية والاجتماعية والدينية، فان كان لدينا توأم..الأول تربى في سويسرا والآخر في مصر، بالطبع سيحمل كل واحد منهم قيم مختلفة، ومعارف متباينة، وان افترضنا أن كلاهما مجتهد – وان لدي تحفظ على أن المصري لن يكون كذلك في حال أودع غرائزه في إحدى البنوك (بحكم الرقيب) ليسحبها ليلة الزفاف مضاعفة الرصيد"..على أية حال في تساوي الطرفين "إنتاجا" ستكون النتائج مختلفة، إذ سينال السويسري ما زرعه حبة حبة، ليكون مصير التوأم المصري وإن نسبيا "مأساويا"، ما ينعكس تأثير النتائج إلى داخل كل منهما، وهذه النتيجة هي التي تدفعنا إلى البحث في العمل المؤسساتي المؤثر في شخصية الفرد كعنصر منتج ذات قيمة.
حقيقة عندما أشرت إلى موضوع الخلل في حالة المريض والطبيب، فإنني لم اقصد منها إلا المريض والطبيب فعلا (المواطن والصحفي – الصحفي والجريدة – الجريدة وقانون المطبوعات – القانون ووزارة الإعلام)، والمحبط في الأمر انه حين ننقد مسلكا خاطئ نفاجأ بمن يصد بقسوة، زاعما وجود نقاط بيضاء كثيرة في الدائرة السوداء، فان تحدثت عن النظام التعليمي الجامعي، سيرد عليك مدافع عن نظامنا التعليمي بان تلك الكلية تطبق النظام الفرنسي، والأخرى النظام البريطاني، ونظام الامتحان أمريكي، دون البحث في آلية التطبيق ومنهجية التدريس، مستوى الأساتذة وميول الطلاب، وفرة الدراسات والأبحاث، وجود البنية التحتية..وعند الحديث عن الفساد، سيقول من يدافع بان ألمانيا تعاني مسائل الفساد، ليتحدث عن شوكة هشة في بستان ذاك البلد الأوروبي، دون الإشارة إلى أن برلين لديها في المقابل محاسبة وقانون بكل ما عناه "مونتسكيو" من معنى، الفساد والقانون يذكرني باللوحة المبدعة التي رسمتها لندن..أليست خطوة ذكية حينما تعمل بريطانيا على نظام الراتب المفتوح للقاضي، راتب مفتوح يعني أن القاضي لن يرتشي، يعني أن القضاء بخير، يعني أن المملكة بألف خير..يعني أن تشرشل يبتسم في قبره.
بالطبع الأمر ليس بهذه البساطة، لأنني لا استطيع الكتابة بقلم فارغ، ولا ارتداء جوارب دون حذاء، باختصار ليس بمقدوري تربية أطفالي لأني لم أتعلم من التربية إلا كلمة "لو سمحت".