حيرة «أبو مازن»
محمد كريشان
SEPTEMBER 22, 2015
إذا كان الرئيس محمود عباس لا يعتزم لا تفكيك السلطة الفلسطينية… ولا إلغاء اتفاق أوسلو.. ولا الوقف النهائي والواضح للتنسيق الأمني… ولا «إعادة المفاتيح» لإسرائيل حتى تتحمل مرة أخرى مسؤوليتها كقوة احتلال سافرة، إذا لم يكن «أبو مازن» يعتزم الإقدام على أي من هذه الخطوات، كما نقل عنه في جلسات تطمين لدبلوماسيين أوروبيين، فأي «قنبلة» هذه التي سيرمي بها في خطابه المنتظر في الجمعية العامة للأمم المتحدة كما قال هو بعظمة لسانه؟!!
إن كان أبو مازن يعتزم فعلا القيام بخطوة من هذا القبيل ثم تراجع فقد فكـّـك قنبلته قبل حتى أن يخرجها من جرابه، ونزع فتيلها قبل حتى أن يحاول إشعال عود ثقاب تفجيرها، أما إن لم يكن أصلا يعتزم ذلك منذ البداية فإن قنبلته المشار إليها لا تعدو أن تكون في أحسن الأحوال مجرد قنبلة صوتية. في الحالة الأولى تسرّع دون أن يقبض ثمن تهديده، وفي الحالة الثانية يكون قد أتاح مرة أخرى لخصومه وأعدائه على حد سواء، وهم ليسوا بقلة، لرميه بعدم الجدية في أحسن الأحوال وبالجبن عن اتخاذ القرارات التاريخية الكبرى في أسوئها.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يهدد فيها الرئيس الفلسطيني بأمر جلل، أو يوحي به على الأقل، دون أن يمضي قدما إلى الآخر مما أفقد للأسف هذا التوجه كل قيمة حتى لا نقول كل مصداقية.
الأسوأ أن «أبو مازن» يكرره مرة أخرى في وقت لم يبق فيه للفلسطيني ذرة واحدة من صبره التاريخي: لقد ضاق هذا الفلسطيني ذرعا من عدو ولا ألعن، ومن سلطة لم تحقق سوى النزر القليل مما كان معلقا عليها من آمال، ومن جوار عربي انصرف عنه لحروب أخرى، ومن مجتمع دولي نفض يده تقريبا من قضية لم يعد يراها سوى مستعصية تماما على الحل لذا تركها حتى تتحلل أو تعود الدماء فتفرض الخوض فيها من جديد.
ومهما يكن من تفاصيل ما جرى مؤخرا في بيت لحم حين خرج عشرات الشبان الفلسطينيين الغاضبين احتجاجا على اعتداء عناصر من الشرطة الفلسطينية على شاب كان يشارك في مسيرة نصرة المسجد الأقصى، فإن رفع شعارات غاضبة ضد الرئيس عباس وصلت حد المطالبة برحيله يجب ألا تمر دون أن تتوقف عندها القيادة الفلسطينية لأن ما حدث في أكثر من دولة عربية إنما بدأ بشرارات بسيطة لم يقدرها أصحاب القرار حق قدرها. ليس مستبعدا أن البعض استغل غضب الأهالي الشرعي ضد تجاوزات قوى الأمن الفلسطينية لرفع هذا النوع من الشعارات لكن ذلك ليس مدعاة على أية حال لتجاهل دلالات ما جرى حتى إن بدا محدودا أو ظرفيا.
تزداد خطورة ما سبق عندما تأتي استطلاعات رأي لتؤكد تراجعا كبيرا في شعبية عباس على غرار الاستطلاع الذي أجراه مؤخرا المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، وهو مؤسسة أبحاث بارزة في الأراضي الفلسطينية، حين أشار إلى أن قرابة ثلثي الفلسطينيين (65 في المئة) أعربوا عن رغبتهم في أن يستقيل عباس من منصبه، كما تراجع الرضا عن أدائه في منصب الرئاسة من 44 في المئة قبل ثلاثة أشهر إلى 38 في المئة حاليا. وعندما سئل المشاركون في الاستطلاع عن أكثر السبل فعالية لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل، قال 42 في المائة إنه العمل المسلح مقابل 29 في المائة رأوا أنه التفاوض، مما يعني أن النهج الذي اعتمدته القيادة لا يحظى بالدعم اللازم لاستمراره بزخم معقول.
مأساة الرئيس أبو مازن وحيرته المزمنة أنه بقي متأرجحا بين كرسيين غير مريحين فلا هو جلس على هذا ولا ذاك: هو ليس بذاك الزعيم الشعبي الميداني الملتحم بشعبه والملبي لرغباته الجامحة مهما كانت، ولا هو بذاك الزعيم القادر على إقناع شعبه بجدوى خياراته العقلانية التي بطبيعتها لا يمكن أن تأسر عواطف الناس الجياشة والمريرة. وهو بين هذا وذاك لا حاز إجماع قومه ولا تجاوب عدوه ولا تأييد المتفرجين من الأقربين والأبعدين على حد سواء فأمسى الرجل غريبا بينهم جميعا تقريبا.
صحيح أن الزعيم الحقيقي ليس ذاك الذي يساير رغبات شعبه الجامحة مهما بدت مغرقة في عدم عقلانيتها، ولكنه أيضا في المقابل ليس ذاك الذي يستمر في محاولة أخذهم إلى طريق اتضح عشرين مرة أنه طريق مسدود. الرجل ورغم إنجازاته على صعيد مكانة فلسطين في الأمم المتحدة، يشعر بذلك بالتأكيد، وأحيانا بنوع من القرف جراء إحباطه من الجميع، ولذلك يتحدث أحيانا عن استقالة وأحيانا عن عدم الترشح مرة أخرى…. ولكن المشكل أنه حتى في هذه يبدو مترددا.
٭ كاتب وإعلامي تونسي
محمد كريشان